الأصحاح 32
في هذا الأصحاح نرى شعب الله وقد كان قريباً جداً من مقاصد الله من نحوهم، ولكنهم تحولوا عنها لأن أرض كنعان تشير إلى دائرة البركات السماوية التي قصد الله ان يمتعنا بها الآن ونحن هنا على الأرض، وفي خدمة الرسول بولس لا سيما في رسالة كولوسي نرى الحق الخاص بموتنا مع المسيح وقيامتنا معه، الأمر الذي يرمز إليه عبور الأردن. وقد اختفى هذا الحق بالأسف عن أنظار المؤمنين خلال القرون التي مرت بها الكنيسة.
ولم يكن في الإمكان إدراك هذا الحق من كنيسة منغمسة في الأرضيات لأن كنعان تعني روحياً أننا موجودون في السماويات في المسيح، ونحن مرتبطون به باعتبارنا أعضاء جسدنا، وهو جالس في السماء في عرش الله.
كانت كتابات الرسول بولس سبباً في إحياء هذا الحق مرة أخرى أمام المؤمنين حين بدأوا يدرسون ويتأملون في هذه الرسائل في أيامنا الأخيرة هذه إذ جذبت كتاباته نظرهم إلى المعنى الرمزي لعبور الأردن. لقد فتح الله أذهان المؤمنين لفهم الحق وكان هذا من مطلق نعمته. ووضع هذا الحق أمام عيونهم، وكان هذا ليس امتيازاً فقط لهم بل اختباراً لقلوبهم هل يتجهون إلى المسيح الممجد في السماء، وحين يكون هذا الامتياز محل تمتعنا الحاضر لن تكون السماء غريبة علينا حين نصل إليها.
وعلى قدر تمتعنا بهذه الحقائق المباركة على قدر نشاط عدو الخير بمكايده لإبعادنا عنها وعن التمتع بها، وهو يعمل ذلك مستخدماً إحسانات الله إلينا، وهي ليست أموراً رديئة لأنها من كرم الله علينا وجوده من نحونا، وبدلاً من أن تفيض قلوبنا بالشكر إليه تتحول عن دائرة البركات السماوية إلى هذه الإحسانات الزمنية.
طلب بنو رأوبين وبنو جاد أن لا يعبروا الأردن ويظلوا في شرق الأردن، لم يرغبوا في الوصول إلى الأرض التي قصد الرب في محبته ونعمته أن يصلوا إليها، تلك الأرض التي قال عنها الرب لموسى من العليقة "نزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأصعدهم.. إلى أرض جيدة واسعة. إلى أرض تفيض لبناً وعسلاً" (خر 3: 8). ولكن بني جاد وبني رأوبين لك يعبروا هذا الأمر التفاتاً إذ كانت أعينهم مثبتة على أرض أخرى تناسب طعام مواشيهم، وطلبوا كإحسان من الله أن لا يرثوا مع إخوتهم أرض الموعد.
وينبغي أن نعرف أن اختيارنا في وقت امتحاننا يعتمد على خط سيرنا الماضي إذ لم يكن لهذين السبطين على ما يبدو روح تقديم الذبائح اليومية أو ذبائح المواسم الأخرى التي ألزمهم بها الناموس وإلا ما كانت تكثر قطعانهم وهكذا كانت قطعانهم الكثيرة سبباً في أن لا يصلوا إلى قصد الله من جهتهم.
وفي هذا تحذير لنا إذ يجب أن نعتبر أنفسنا وكلاء على هذه الإحسانات ونتصرف فيها بحسب الفكر الإلهي الواضح في كلمته وعندئذ لا نتحول عن قصد الله من جهتنا.
كان امتيازاً أن جاد ورأبين ينزلون في ناحية الجنوب بالنسبة لخيمة الاجتماع لأن الشر كان دائماً يأتي لهم من جهة الشمال. والجنوب يشير إلى الامتياز عن طريق الشهادة ولكنهم قالوا "لا تعبرنا الأردن" ورأى موسى في عملهم هذا تكراراً لما عمله الجواسيس العشرة منذ حوالي أربعين سنة وقال الرب عنهم أنهم "لم يتبعوني تماماً" في الوقت الذي قال فيه عن كالب ويشوع أنهما "اتبعا الرب تماماً". كانت الأرض أمام الرب، وكان يقود شعبه إليها، ولم يحسب كالب ويشوع حساب الصعوبات التي قد تعترض طريقهم إليها، كان كل اهتمامهم أن يتبعوا الرب على نفس الطريق الذي وضعهم عليه، وهذا يرينا أننا إذ أردنا أن نسير وراء ربنا يسوع له المجد لا يجب أن نتوقف في أرض جلعاد بل يجب أن نستمع إلى قوله "خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها وأنا أعطيها حياة أبدية" (يو 10: 27). إن التمتع بالحياة الأبدية لا يأتي إلا عن طريق عبور الأردن، وهناك نصبح وراء دائرة الموت.
يمثل جاد ورأبين أشخاصاً عرفوا أنهم تبرروا ويقيمون في دائرة نعمة الله، ولهم رجاء مجيد، ومع ذلك يقولون في قلوبهم "لاَ تُعَبِّرْنَا الأُرْدُنَّ" (ع 5)، يقنعون بالدائرة التي وصلوا إليها، محبتهم للمسيح ليست كافية لدفعهم للوصول إلى حيث يوجد المسيح المقام والممجد في السماء. لقد حدث عندما كان الرب يسوع له المجد هنا أن تبعه الكثيرين وعندما اجتاز الموت وقام تبعوه أيضاً إلى تلك الدائرة الروحية الجديدة، وأصبحت أنظارهم مركزة عليه كالمقام والممجد في السماء، أقيم بجسد روحي وعرفوا أن أجسادهم الطبيعية لا يمكن أن تصل كما هي إلى تلك الدائرة الروحية التي صعد إليها المسيح، لا بد أن يغيرها لتكون على صورة جسد مجده، لكن أعطاهم أن يعرفوا أن شخصه هو الرابطة التي تربط بين وضعهم الحالي ووضعهم عندما يصلون إلى السماء، وأعطاهم أن يعرفوا أيضاً أنه مع بقائهم في اللحم والدم في الإمكان أن يقاوما فيه ويصبحوا معه في الدائرة السماوية.
وكم بالحري يجدر بنا نحن الذين لم نعرفه حسب الجسد ومن مجده يدعونا لكي نتبعه قائلاً على فم رسوله بولس "فإن كنتم قد متم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض لأنكم قد منم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أظهر المسيح حياتنا فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد" (كو 3: 1- 4).
في إمكاننا أن نتمتع بهذا من الآن إن كنا نحيا بالمقامين من الأموات. في ع 16- 19 نجد شيئاً غير عادي وهو يمثل ما قد يكون عليه البعض منا إذ كان بنو رأوبين وبنو جاد مجهزين أن يذهبوا بنشاط مسلمين أمام بني إسرائيل ليستحضرهم إلى مكانهم في أرض كنعان، ولكن لم يكن لهم رغبة في أن يرثوا معهم. وهذا يرينا بعض المؤمنين قد يكونون على استعداد أن يجاهدوا من أجل الحق الخاص بالبركات السماوية ويعملوا على تمتع الآخرين بها من عدم أخذها لأنفسهم، وإذا كان هذا هو حال البعض منا فهذا يعني أنهم لا يتبعون المسيح تماماً بكل قلوبهم إلى تلك الدائرة الروحية والتي يشار إليها بعبر الأردن.
اقتنع موسى باقتراح رأوبين وجاد. وإذ أردنا أن نبقى في شرق الأردن ولا نعبره فيجب علينا ألا نتوقع أن يلزمنا الرب بذلك، هو يسمح لنا بأشياء كثيرة قاصرة عن أن توصلنا إلى مقاصد نعمته ومحبته، يتركنا في جلعاد، ولكن يجب أن نتأكد أننا سوف نحصد خسارة كبيرة.
والآن لنتأمل في النتائج التي نتجت عن هذا التصرف من السبطين وهذا واضح في ص 22 من سفر يشوع إذ بنوا مذبحاً عظيم المنظر وعملوا ذلك لئلا يأتي وقت يقع فيه نزاع بينهم وبين بني إسرائيل فيكون المذبح الذي بنوه شاهداً على ذلك. وحين رأى بنو إسرائيل هذا المذبح شرق الأردن انزعجوا وكادت الحرب أن تقع بين كل الجماعة والسبطين والنصف، وأرسل إليهم بنو إسرائيل فينحاس الكاهن وعشرة رؤساء معه وقالوا لهم "ما هذه الخيانة التي خنتم بها إله إسرائيل بالرجوع اليوم عن الرب بنيانكم لأنفسكم مذبحاً لتتمردوا اليوم على الرب. أقليل لنا إثم فغور الذي لم نتطهر منه إلى اليوم وكان الوبأ في جماعة الرب حتى ترجعوا أنتم اليوم عن الرب.... وتملكوا بيننا" (يش 22: 12- 19).
استطاع السبطان والنصف أن يبدوا المعاذير لتصرفهم هنا وتمكنوا إقناع باقي إخوتهم به، وكانت النتيجة النهائية كما جاء في (1 مل 22: 1) أنهم كانوا أول من وقع في قبضة ملك أرام.
إن هذا التصرف يحذرنا من الاكتفاء بالأشياء المنظورة الموجودة في هذا العالم إذ ينبغي أن نضع قلوبنا على ما لنا في السماويات ولا نقصر في التمتع به. هذا هو مركزنا الذي أوصلتنا إليه نعمة الله والذي توضحه لنا بكل جلاء رسالة أفسس.
- عدد الزيارات: 1745