الأصحاح التاسع
"وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بِنْيَامِينَ اسْمُهُ قَيْسُ بْنُ أَبِيئِيلَ بْنِ صَرُورَ بْنِ بَكُورَةَ بْنِ أَفِيحَ ابْنُ رَجُلٍ بِنْيَامِينِيٍّ جَبَّارَ بَأْسٍ. وَكَانَ لَهُ ابْنٌ اسْمُهُ شَاوُلُ..." (9: 1- 2).
ولأن شاول, الملك الأول, يصور لنا الإنسان الأول الذي رفضه الله فيمكننا تفسير الأسماء هنا في هذا الاتجاه, "شاول" معناه سؤال, وكان كل ما فيه بحسب ما يسأله أو يطلبه الشعب. كل ما فيه حسن أي شكله حسن وأطول من كل الشعب, وهو رجل بنياميني أي ابن يدي اليمين. تبدو القوة ظاهرة فيه, ابن "قيس" والكلمة معناها قوس, أي هو الرجل القوي الذي يُمسك بالقوس, ابن "أبيئيل" أي أن الله هو أبي وهو الذي يعطيني القوة, ابن "صرور" التي معناها صرة أو مغلق وتشير إلى الدائرة الضيقة في الخليقة العتيقة التي يحصر الإنسان نفسه فيها وهي المحصورة بين الولادة الإنسانية والموت والتي فيها ما يتعلق بالأمور الزمنية الوقتية, أما "بكورة" أي البكر, والابن البكر يفقد دائماً من الطبيعة بكوريته مثل اسماعيا وعيسو ورأوبين ومنسي, الأول من الطبيعة ثم يأتي الروحي, و"أفيح" معناها مجاهد الذي يجاهد في الأمور الأرضية الفانية.
وفي هذه الدائرة كم هو متاح للذات أن تظهر ومع ذلك فقد كان لشاول صفات جذابة للنظر, أظهر تواضعاً وحكمة في البداءة ولكن سرعان ما تدهور, كان يعجب الإنسان الطبيعي وبحسب الظاهر لم يكن فيه ما يلوم. لكن حين تذهب الفقاقيع لا يبقى منها شيء. عند الامتحان لم يوجد فيه شيء ثمين لله.
ها الآن على المسرح يظهر رجل اختيار الشعب, الرجل الذي تمثلت فيه أذواقهم الجسدية وعجيب أن يطالعنا في المشهد أيضاً قطيع من الأتن, في مفارقة عجيبة مع رجل اختيار الرب الذي كان موكلاً إليه رعاية الغنم (مز 78: 70- 72), لقد وُجدت اتن أبيه الضالة, وليس شاول هو الذي وجدها, أما داود من الجهة الأخرى خاطر بحياته ليسترد شاة من فم غنم أعتى أعدائها الأسد والدب.
دروس حافلة بالمعاني فالأتان رمز للجسد المشاغب لأن الرجل الفارغ يتمنى أن يكون حكيماً ولو أنه "كجحش الفرا يولد الإنسان" (أي 11: 12). كما أن فاتح الحم في إسرائيل كانت فديته شاة أسوة بفدية بكر الحمار (خر 13). أما الغنم والحملان فهي على الضد من ذلك, يشبه بها الشعب الله وهكذا نرى شاول لم يكن له القلب أو الأهلية لرعاية هذا الشعب, وحتى لو صلح كرئيس لجيش فإنه لا يصلح راعياً.
نشأ شاول في بنيامين السنط المعروف بعناده في الشر وكنتيجة لهذا كان أصغر أسباط إسرائيل ولقد أعطى شاول للشعب كجواب على مطلبهم الجسداني وعليه فهو يمثل الجسد, لكن هل شخص كهذا كفؤ لأن يلجّم فورة الشر في شعب ثائر؟ إن الجسد لا يمكن أن يقهر جسداً, غير أن إرادة الجسد الشرسة تكسرها قوة الروح القدس.
يبدو على شاول أنه لم يسمع عن صموئيل ولا عن طرق اله العجيبة بشأنه, وهذا يذكرنا ببيلشاصر الذي كان وثنياً وفي لحظة ضيقة أبدى جهله بوجود دانيال رغم أن أباه نبوخذنصر كان له معه اختبار عجيب, مع هذا الفارق أن شاول كان من شعب له صلة بالرب وهذا يرينا أن الجسد في كل أحواله لا يعنى بأمور الله ولا بالأداة التي يستخدمها. قد يسمع عنها الجسد بصورة باهتة, ولكن دون أثر لها في القلب.
ولما كانت الصعوبة تواجه شاول لم يطرأ على باله أبداً أن يسأل الله, ويبهجنا أن إلهنا يعنى بأصغر أمورنا كما بأكبرها. فإن الإيمان الحقيقي اليوم- لا يظنه شيئاً تافهاً إن أضاع أتنه بحيث لا يكون موضوع الملاحظة الإلهية, وإلا أفلسنا مدعوين أن نُعلِم طلباتنا لله في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر؟ على أن شاول كان محظوظاً بغلام ذكي أخبره بوجود رجل الله في المدينة التي كانا مقبلين ليها فاقترح استشارته بشأن الرحلة. لكن شاول كان أمام مشكلة- أفلا يلزم لصموئيل مقابل لخدماته؟ "هوذا نذهب فماذا نقدم للرجل. لأن الخبز قد نفذ من أوعيتنا وليس من هدية نقدمها لرجل الله . ماذا معنا؟" كانت مواردهما تكاد أن تنفذ لأنهما كانا بعيدين عن البيت بعض الوقت, لكن عاد الغلام وأجاب شاول "هوذا يوجد بيدي ربع شاقل فضة فأعطيه لرجل الله فيخبرنا عن طريقنا" إنه من الصعب على الجسد المسكين أن يرتفع عن مستوى فكر الأجر. فالنعمة غريبة على ذهنه. إنه لا يتصور الله كمن يعطي. على أنه بهذه الصفة المباركة يعرفه جميع من هم موضوع رضاه وإحسانه. لقد بذل ابنه الوحيد ومعه يهبنا أيضاً كل شيء. ومن ذات النعمة السخية أتت إلينا عطية الروح القدس. والحياة الأبدية "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أع 20: 35).
ولو كانت لشاول أقل فكرة عن عظمة الله, وعن الكرامة الأدبية للرجل الذي كان يمثل الله, ربما رأى أنه من الأوفق أن يحصل على غرضه بصفة إحسان من أن يحاول شراء المعلومات التي تعوزه مقابل "ربع شاقل فضة" لكن الجسد لا يشعر باللياقة الأدبية فيما يتصل بالله كما لا يشعر بالنعمة! عن مسلك شاول وغلامه يوحي بأن واحداً منهما لم يكن لديه الإحساس بأنه يتعامل مع الله, وأن أمرهما معه. وتلك لم تكن فاتحة خير لشخص يوشك أن يكون ملكاً.
ونرى شاول في خمسة أماكن:
1- "جبل أفرايم" وتعني الثمر الذي يبحث عنه الله فينا.
2- "شليشة" وتعني المنقسم إلى ثلاثة- يبحث الله في الإنسان المنقسم إلى ثلاثة نفس وروح وجسد.
3- "شعليم" وتعني أودية عميقة- يريد الله منا ثمراً فائضاً يملأ الأودية العميقة.
4- "بنيامين" وتعني ابن يدي اليمين. وحين نعترف أن الثمر من الله فحينئذ يتنازل إلينا الله بالقوة لأنه حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي.
5- "صوف" وأخيراً وصل شاول إلى أرض صوف التي تعني قرص الشهد، أي يكون ثمرنا في نذاق الله كقرص الشهد.
لم يكن في شاول الذي اقتيد بيد الله إلى صموئيل شيء من هذا. وهنا نجد كلمتين تشيران إلى صموئيل "النبي" و"الرائي" لكن ما الفرق بينهما؟ إن المعرفة تتوفر في النبي يستمدها من الله ويتكلم بأقواله. أما الرائي فهو يعرف المعرفة التي يعرفها النبي، وكان اهتمام الناس بالمعرفة وليس بالنبي ولذلك كانوا يتكلمون عن صموئيل كالرائي، وهكذا كان شاول الذي لم يكن يطلب الله ممثلاً في النبي ولكن المعرفة التي يعرفها الرائي لمعرفة ما خفى عنه.
وتقابل شاول وصموئيل للمرة الأولى، ولكن قبل ذلك كانت هناك مقابلة بين شاول والخدام من ناحية وبعض الفتيات الذاهبات لاستحضار الماء من الناحية الأخرى، وأشارت الفتيات عليهما بالذهاب إلى المرتفعة حيث كانت تُقدَّم ذبيحة السلامة.
وكان الرب قد تكلم في أذن صموئيل عن شاول في اليوم السابق. تكلم معه عنه كالرجل الذي من بنيامين، ولذلك احتفظ صموئيل بالكتف من ذبيحة السلامة ليعطيه لشاول وكان الله بذلك يظهر المحبة نحو شاول وأنه على استعداد أن يعمل معه ليخلص الشعب.
وأخبر صموئيل شاول أن الأتن قد وُجدت وقال له أيضاً أن كل شيء في إسرائيل أصبح من نصيبه واعترف شاول بتفاهته إذ قال أن عشيرته أصغر كل عشائر أسباط بنيامين وأن السبط الذي ينتسب إليه هو الأصغر في إسرائيل، وكان سبط بنيامين قد تعرض للفناء والإبادة في أيام القضاة (قض 20: 46)، وكانت أقواله مصدرها الدهشة وليس الحكم على الذات.
نرى بعد ذلك أن صموئيل وشاول في شركة حيث أذه صموئيل للجلوس على مائدة ذبيحة السلامة حيث يتعلم شيئاً من الأمور التي يجب على الملك أن يتعلمها وهي أن ذبيحة السلامة هي المكان الذي يجلس فيه الله والإنسان في شركة حيث يُستحضر الإنسان إلى محبة الله، وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمحرقة ولكنها تختلف عنها لا سيما في الجزء المتاح أكله، وهي ذبيحة شكر (لا 7: 11- 13) وهي تقدم على المذبح على المحرقة وبذلك لا يمكن فصلها عن المسيح كالمحرقة (لا 3: 4، 5) حيث نجد شريعتها أيضاً ونجد فيها النتائج المباركة التي للمؤمن بموت المسيح إذ يُرش الدم على المذبح الذي هو للكفارة ويوجد هناك وقتئذ التسبيحات والتشكرات الأمر المقترن بأكل الصدر والساق، كما نجد هناك أهمية شحم الذبيحة الذي يشير إلى رغبة المسيح وحرصه على إتمام إرادة الله حتى الموت. وهذا هو ما يسمى طعام يهوه حيث يجد سروره. وهناك نجد المنظر السعيد المشتمل على الكهنة ومقدم الذبيحة وأصدقائه وهو يشتركون فيما يسر الله بفرح.
والساق الذي اعطي لشاول من ذبيحة السلامة كرمز يتحدث عن قوة المسيح التي يستطيع الإيمان أن يستند إليها ويتغذى بها، ويا له من درس لنفس شاول لو أنه استطاع أن يقرأه، وكان بولس في حقيقة هذا الدرس يوم قال "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في 4: 13) كانت امام شاول فيما بعد مسئوليات ضخمة موضوعة على كاهله. وكان يعوزه أكثر من مجرد القوة البشرية لكي يقوم بها على الوجه الصحيح لمجد الله وبركة شعبه، على أنه ما من إنسان يطلب مساندة النعمة الإلهية ما لم يتعلم أولاً خواره وعدم نفعه وعجزه. أما شاول التعس فلم يصل في أية لحظة إلى هذه الحالة.
- عدد الزيارات: 2227