الأصحاح الحادي عشر
كان ناحاش ملك العمونيين من نسل بني عمى بن لوط من ابنته الصغرى (تك 19: 38) وكان العمونيون يسكنون في الناحية الشرقية من الأردن. وصعد ناحاش العموني على يابيش جلعاد، وسبق أن ضربهم يفتاح الجلعادي ضربة عظيمة (قض 11). أخذت غزوة ناحاش هذه قبل أن يصبح شاول ملكاً لما رأوا ناحاش العموني آتياً عليهم، والاسم ناحاش يختلف عن الاسم نحشون أحد رؤساء إسرائيل في البرية، وتعني كلمة "نحشون" إلهي أو وحي ولكن تعني كلمة "ناحاش" هنا حية أو عرافة أو سحر، وكانت كلمات العمونيين هي التعبير عن التعاليم الضالة لأن المتكلم بها هو الشيطان. ويدين الحق التعاليم الضالة لأنها السم الذي يقتل الناس. وهي تقترن بنور كاذب يستحضره الشيطان لكي يعمي أذهان غير المؤمنين.
لم تكن غزوة ناحاش على الجزء الأقوى في إسرائيل على الأضعف لأن يابيش جلعاد وهي مدينة كانت قريبة من نهر الأردن على الجانب الشرقي منه خلت من المحاربين بسبب الحرب بين بنيامين وكل إسرائيل، وكانت يابيش قد استعادت في ذلك الوقت بعض قوتها ولكن كان إيمانهم ضعيفاً. وكلمة يابيش تعني جفاف حيث لا يوجد إظهار للحق وتبعاً لذلك الانحدار في النفس وعندئذ تكون الضلالات أكثر تأثيراً.
وحين هددهم ناحاش لم تكن الأسباط الأخرى على استعداد لمساعدة يابيش جلعاد ولذلك كان عليهم أن يخضعوا لناحاش، ولكن أرسلوا لشاول بما يتضمنه تهديد ناحاش لهم بتقوير كل عين يمنى لهم واستعبادهم له. ويحسب هذا عاراً في إسرائيل. والعين اليمنى رمز للإيمان والعقل وهي الشاهدة في الإنسان حين يكون مستقيماً مع الله.
اجتمع الشعب في بازق تحت التهديد والخوف وأرسلوا يخبرون شاول. ولا نقرأ عن صلاة شاول او طلبه محضر الرب، ومع ذلك حلّ روح الرب عليه ولذلك حصل شاول على القوة، والغضب الذي أظهره كان الطريقة التي أراد بها إثارة الشعب.
جمع شاول الشعب في بازق وهي مدينة صغيرة على الجانب الغربي من الأردن وتبعد حوالي 16كيلو متراً من يابيش- ونلاحظ الفرق بين جدعون وشاول فجدعون كان حزيناً بسبب مذلة إسرائيل ولما حلّ عليه روح الرب ضرب بالبوق حسب شريعة الله (عد 10) وأما شاول فعمل حسب إحساساته البشرية وأخذ فدان بقر وقطعه وأرسل أمراً مشدداً أن يجتمعوا إليه. ورأى الشعب فيه في ذلك الوقت أنه رجل شجاع وقائد حكيم. لأنه قسم جيشه الكبير إلى ثلاث فرق وهاجم العمونيين في الظلام وضربهم وشتتهم.
لقد واتت الفرصة شاول لإبراز نفسه يوم أحاطت المخاطر بأهل يابيش جلعاد وهنا يحضرنا عدد 32 والطلب الغريب الذي ألتمسه السبطان والنصف من موسى. ولم يكن الشعب قد عبر الأردن بعد وكان هذان السبطان يلتمسان لهما نصيباً حيث هم مقيمون حيث كانت أرض يعزير وأرض جلعاد في أعينهم أرض ماشية طيبة أي أن رخاءهم المادي وليس مجد الله هو الباعث الذي سيطر عليهم في ذلك الطلب. وحزن موسى حزناً ثقيلاً لأنه هو شخصياً كان يتوق أن يعبر ويشارك في الميراث الجيد الذي كان يطلبه لشعبه إله كريم. ومع ذلك فقد أجاب السبطين والنصف إلى ما طلبوه.
إن الأردن رمز مألوف للموت- لا موتنا الطبيعي كما يحسب البعض أي موت الجسد بل موت المسيح في تطبيقه اختبارياً علينا ونحن في الجسد. وهكذا يقول الرسول في كولوسي 2: 20 "متم مع المسيح" وفي كولوسي 3: 1 "قمتم مع المسيح" فهل قبلنا هذا المركز فعلاً؟ إن كنا قد قبلناه فنحن الآن عبر الأردن، تحقق اتحادنا مع المسيح في السماويات ونعرف بعضاً من قول الرسول في أفسس 1: 3 "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح".
على أنها حقيقة مؤلمة أن شعب الله في كل العصور يرغب في أن يساكن ما هو دون دعوة الله أي أقل مما تعنيه تلك الدعوة. فهوذا رأوبين وجاد ونصف سبط منسى يرغبون في أن يستوطنوا أرض جلعاد. وهكذا نرى كثيراً من قديسي الله الحقيقيين يقنعون بتبعيتهم لترتيب بشري. ولو أنهم في ذات الوقت يعترفون بأنهم مدينون للرب يسوع ودمه الثمين في خلاصهم من الهلاك الأبدي.
لكن الحياة على الجانب الشرقي من الأردن أمر خطير ولقد طالما اختبر السبطان والنصف هذه الخطورة. إذ هم في اوقات حرجة كانوا أول من واجه هجوم الغزاة وكانوا أول من أسرهم ملك أشور (2 مل 15: 29).
إن مجاورة العالم حافلة بالخطر لنفوسنا ذلك أنها تعرضنا للغزو من غير داع، ولن نكون آمنين إلا إذا أخذنا مكاننا بعيداً عن هذه الدائرة كأموات بالنسبة لها، وأن نهتم فعلاً بما هو فوق أي بالمسيح كهدفنا الوحيد فإننا نكون في أمان في خداع العالم وإغراءات إبليس. أما المركز الذي تحيطه الشبهات فإنه يعرضنا متى قبلناه مرة إلى المتاعب من كل جانب.
لقد كان ناحاش العموني يضمر احتقاره عميقاً لشعب الله، وحينما اقترح تقوير عين أهل يابيش جلعاد اليمني فقد استمهلهم سبعة أيام لعلهم يجدون خلالها معونة. كان واضحاً أنه اعتبر الأمة كلها عاجزة. وإلى هذا الحد أوصل عدم الأمانة شعب الرب حيث أنحطوا في أعين جيرانهم. وما أبرك أن نقرأ هذه المقارنة المدونة عن الكنيسة في بكور تاريخها "وَأَمَّا الآخَرُونَ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَجْسُرُ أَنْ يَلْتَصِقَ بِهِمْ لَكِنْ كَانَ الشَّعْبُ يُعَظِّمُهُمْ" (أع 5: 13) وهي نتيجة ترجع إلى حضور الله وقوته عاملاً بين قديسيه.
على أن الله رحيم دائماً مهما تكن الأوجاع التي نجلبها على أنفسنا بغباوتنا فقد استخدم شاول للخلاص. بالصلاح إلهنا بالرغم من شر وتردد شعبه، لن يساهم في ساعة الحاجة.
لقد تصرف شاول حسناً في ساعة الانتصار. إذ حين اقترح الشعب على صموئيل أن الذين قالوا "هل شاول يملك علينا" أن يقتلوا، أجاب الملك في صفحه " لا يُقتل أحد في هذا اليوم لأنه في هذا اليوم صنع الرب خلاصاً في إسرائيل" في الأصحاح العاشر أظهر الصبر على جانب من بني بليعال وفي أصحاح 11 أبدى الصفح واعترف بفضل الرب في الخلاص العظيم الذي حصلته الأمة. تلك بداية طيبة لملك اختيار إسرائيل، ولمن آه من الجسد! من يثق به فإنه بعد وقت ليس بطويل تجلى شره وامتد الخراب والفشل إلى المملكة الجديدة.
دعا صموئيل الشعب أن يذهبوا معه إلى الجلجال وهناك يُجدون للملكة وذهب كل الشعب إلى الجلجال فبعد أن انتصر شاول على العمونيين إذاّ بالذين كانوا يحتقرونه بالأمس يكرمونه اليوم وهكذا فإن المخلص المحتقر اليوم سيعترِف به الجميع رباً ومسيحاً. إنه اليوم وهو على كرسي الرحمة يقبل رجوع الشاردين لكنه بعد قليل ومن فوق كرسي القضاء سيدين كل الذين أصروا على رفضه.
ثم ذبحوا هناك ذبائح سلامة أمام الرب "وفرح هناك شاول وجميع رجال إسرائيل جداً" لقد كان الجلجال هو موضع أو معسكر للشعب يوم دخلوا الأرض بقيادة يشوع، وإليه طالما عادوا وترددوا في أيامه، وهناك استُخدمت سكاكين الختان الحادة رمزاً للتطبيق العملي للموت على كل حركة من حركات الجسد. لذلك كان من المناسب أن يلجأ إسرائيل إلى ذلك الموضع بعد نصرتهم العظيمة على العمونيين. ولو أن شاول والشعب استطاعوا أن يدخلوا في دلالة ذلك الموضع الروحية وسلكوا بموجب ذلك أمام الله لتغير وجه تاريخهم التالي تغيراً عظيماً؟
وبينما كان شاول وكل الشعب فرحين جداً فإننا لا نقرأ شيئاً عن فرح صموئيل فقد كان رجل الله ينظر بعمق نظرة نافذة إلى ما هو تحت هذه الأفراح السطحية. لقد كان يعلم أن الرب الذي رفضوه من أن يملك عليهم لا يمكن أن يسر بهذه المظاهر الخارجية.
- عدد الزيارات: 2983