Skip to main content

الأصحاح السادس عشر

إن قول صمؤئيل الشهير"الاستماع أفضل من الذبيحة والإصغاء أفضل من شحم الكباش" لن ينسى، لأن أبى شاول أن يتعلم شيئاً من كلمات النبي هذه فإن جماهير القديسين أفادو منها منذ قيلت حتى يومنا هذا- إن الاستماع والإصغاء هما جوهر الحياة المقدسة، والعيشة لله، والذبائح الغالية لن تكون بديلاً عن استماع صوت الرب.

أما والملك العنيد رجل اختيار الشعب قد رُفض الآن رفضاً إلهياً فها هو الرب يقدم رجلاً بحسب قلبه. أما كم يختلف داود عن شاول فذلك نراه في مزمور 119 الذي لكونه توسعاً لمزمور 19 فهو في الغالب مكتوب بيد داود، ففي أحد أعداده يقول "دربني في سبيل وصاياك لأني به سررت" (ع 35) وفي عدد آخر يقول "وأتلذذ بوصاياك التي أحببت" (ع 47) ثم "لأجل ذلك أحببت وصاياك أكثر من الشعب والإبريز" (ع 127) ثم "فغرت فمي ولهثت لأني إلى وصاياك اشتقت" (ع 131).

وليس معنى ذلك أن صاحب المزمور كان كاملاً لأن الكامل واحد فقط هو الرب يسوع المسيح له المجد، بل كل ما في الأمر أنه مهما تكن عثراته وفشله فقد كان قلبه نحو الله لكي يرضيه، ومن هنا نراه يختم مزموره الطويل بقوله "ضللت كشاة ضالة. اطلب عبدك لأني لم أنس وصايلك" (ع 176).

حزن صموئيل حزناً عميقاً من أجل شاول، ولا عجب إذ لم يسعه إلا أن يهتم بالملك الذي مسحه، فكانت خيبة الأمل عظيمة ولكن في الوقت المناسب أيقظه الرب من حزنه وأمره أن يملأ قرنه دهناً ويذهب إلى بيت يسى البيتلحمي "لأني قد رأيت لي في بنيه ملكاً".

ولما سأل صموئيل الرب كيف يذهب إلى بيت لحم آمناً في مثل هذه المهمة. قال له الرب أن يأخذ عِجلة من البقر ويدعو عائلة يسى إلى الذبيحة. وهنا تذكرنا الأحداث مرة أخرى بالمسيح إذ هو الذي ترمز إليه الذبيحة. فكل ما يتعلق بمجد الله وبركة الناس قائم على ما هو شخصه الكريم وما قد فعله. فإن عظمة شخصه وما لذبيحته من قيمة لا حد له ويضمن كل شيء ويثبته إلى الأبد.

على أن الشيوخ ارتابوا في زيارة صموئيل إلى بيت لحم، فسألوه في ارتعاب "أسلام مجيئك" ما سلام مع الله فإن مجرد زيارة رجل الله يرعبهم. وهذا يذكرنا بكنيسة كورنثوس التي كانت تنظر في شيء من الرعب إلى دعوة غير منتظرة من الرسول بولس بينما كانت تتسامح مع الشر العظيم في وسطها فربما كان يأتي بعصا (1 كو 4: 21).

حين وصل النبي إلى بيت يسى كاد يوشك أن يقلع في خطأ عظيم، غذ حين دخل أولاد يسى تأثر صموئيل بمنظر أليآب اللطيف وقال "إن أمام الرب مسيحه" على أن "الرجل الأطول من كل الشعب من كتفه فما فوق" كان في تلك اللحظة متربعاً على عرش إسرائيل وهو مجموعة من الفشل المحزن. وكان الجواب الإلهي على فكرة النبي حافلاً بالتعليم لما هو أبعد من ظروف ذلك اليوم "لا تنظر إلى منظره وطول قامته لأن الإنسان ينظر على العينين وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب".

كان أليآب هو البكر ليسى لكن متَى كان الله يختار البكر من البشر؟ إن الشخص الذي كان له بسبب مولده مظهر المطالبة بالأحقية نراه في كل الكتاب المقدس مطروحاً، وذلك لكي يتعلم الجميع أن البركة هي من النعمة المطلقة، فلم يتبارك قايين بل هابيل، لا إسماعيل بل اسحق، لا عيسو بل يعقوب، لا رأوبين بل يوسف، لا منسى بل افرايم، لا هرون بل موسى وهكذا في طرق الله بلا منازع أو تغيير.

وقد دل الواقع أن مسيح الرب كان شخصاً بلا قيمة. لأن الصبي داود لم يكن قد دُعي حتى مجرد دعوة لمقابلة النبي. فيا لها صورة لذلك الذي كان مرذولاً، مرفوضاً من الناس! ولا ننسى العمل الذي كان يقوم به "هوذا يرعى الغنم" وهو في ذلك أيضاً صورة لسيدنا المبارك، وعلى مباينة ملحوظة مع شاول الذي كان اهتمامه بالأتن وحتى الأتن لم يحفظها بل أضاعها.

فلما سمع صموئيل بوجود الفتى الراعي قال ليسى "أرسل وأت به. لأننا لا نجلس حتى يأتي إلى  هنا". وكلمة "يجلس" تعني في العبرية "يجلس حول" أي أن الدائرة لا تكتمل بغير داود. ولا بد من وجوده في الوسط.

إن المسيح هو مركز كل شيء عند الله، ومكانه الحاضر هو في وسط الجماعة، هناك يقود أغاني التسبيح لله، والإحساس بحضوره يجلب البركة للمجتمعين. وحضوره هو الذي يضفي على تصرفاتهم قوة وشرعيه "حيثما اجتمع ثلاثة أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم" وفي دهر الملكوت القادم سيأخذ مكانه في الوسط، وسط الجماعة العظيمة. وهذا يعني أن الأمم وملوكهم يُسلمون لسلطانه فرحين. الكل يتباركون بحسب مشورات الإله الكريم ببركاته الأرضية "يَحْمَدُكَ يَا رَبُّ كُلُّ مُلُوكِ الأَرْضِ إِذَا سَمِعُوا كَلِمَاتِ فَمِكَ وَيُرَنِّمُونَ فِي طُرُقِ الرَّبِّ لأَنَّ مَجْدَ الرَّبِّ عَظِيمٌ" (مز 138: 4، 5) وفي مكان أسمى سيُرى كالحمل في وسط العرش والشيوخ والحيوانات (الكائنات الحية) يتفرسون في المنظر البهيج مأخوذين منشدين أنشودة الفداء الجديدة بدمه الكريم (رؤ5) وهكذا تكون مكافأة الإله البار سواء فوق أو تحت، لذاك الذي ارتضى في نعمته التي لا حد لها أن يُعلّق بين لصين على خشبة الصليب. ذاك الذي كان الهدف الرئيسي في يوم الهوان، سيكون الهدف الرئيسي في الأمجاد السماوية والأرضية للدهور الآتية.

"فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه في وسط إخوته، وحلّ روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعداً". مُسح داود ثلاث مرات (المسحة هي اختيار وتعيين شخص لمهمة) حيث مسحه صموئيل للمرة الأولى في هذا الأصحاح، ثم مسحه رجال يهوذا في حبرون (2 صم 2: 4)، وأخيراً جاء جميع شيوخ إسرائيل إلى الملك في حبرون ومسحوه ملكاً على إسرائيل (2 صم 5: 3). وهو في ذلك رمز للرب يسوع المسيح الذي يسجل عنه الوحي ثلاث مسحات حيث مُسح من الأزل للخلق "منذ الأزل مُسحت منذ البدء منذ أوائل الأرض" (أم 8: 23)، ومُسح الرب أيضاً للخدمة حيث نسمع من فم ذلك الفادي المجيد قارئ نبوة إشعياء في مجمع الناصرة هذه الأقوال "روح الرب عليّ لأنه مسحني" (إش 61: 1 ولو 4: 18 وأع 10: 38)، ومُسح أيضاً ليملك "أما أنا فقد مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي" (مز 2: 6). لكن في مسحه كما في أي شيء آخر لا بد أن يكون سيدنا متقدماً بارزاً على كل الذين يختبرون مسحة الروح (1 يو 2: 27) "من اجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" (مز 45: 7).

ذهب الروح من عند شاول وبغته روح رديء من قبل الرب. قد رأينا أن روح الرب حلّ على شاول بعدما مسحه صموئيل ولكن لا يقال عنه إنه حلّ عليه من ذلك اليوم فصاعداً إنما حلّ عليه مؤقتاً ليُلبسه قوة بها يضرب أعداء الرب، ومع ذلك لا نسمع أن شاول حارب بقوة من الله لأنه كان إنساناً جسدياً. فتركه روح الرب مطلقاً وأتاه روح شرير بأمر الرب وكان ذلك سبب تعديه على كلمة الله مرة بعد أخرى وابتعاده عن السلوك اللائق بمقامه كملك إسرائيل. كانت أناة الله قد انتظرته زماناً كافياً ولم ينتبه ولا تاب عن طرقه. وكما حكم الرب عليه بعزله عن المُلك لم يتأثر كما يجب بل استمر مفتكراً في مجد ذاته فقط. فأرسل الرب حينئذ ومسح داود وحلّ روح الرب عليه. وكلما كان داود تقياً وأميناً أبغضه شاول أكثر وتمكنت منه قوة الشيطان الذي استخدمه، محاولاً أن يقتل داود ويمنع إقامة النظام الملكي عن يده حسب قصد الله. وفي كل ذلك نرى داود رمزاً صريحاً للمسيح الذي هو مَلك الله المختار.

وكما رفض شاول كلمة الرب فسلمه الرب ليد الشيطان فإن هذا بعينه سيحدث للمسيحية الاسمية في أيام ارتدادها عندما تترك الرب وتتبع أرواحاً مضلة وتعاليم شياطين. ولم يزل الله يسمح للشياطين أن تسيطر على العصاة والذين لا يطيعون الحق.

وفي مظهر داود نرى رمزاً جميلاً لربنا يسوع المسيح له المجد إذ قبل عنه في العدد 12 أنه كان "أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر". والتعبير أشقر أي أبيض وأحمر وهذا ما تقوله عروس النشيد عن عريسها الذي هو المسيح- "أبيض" أي قدوس "وأحمر" أي إشارة إلى سفك دمه على الصليب. كما أن حلاوة العينين تشير إلى ما قالته أيضاً تلك العروس إن عينيه "كالحمام" أي له العين البسيطة التي تمجد الله وعلى مجاري المياه وفي بساطتها فإن قيادتها بالروح القدس، أما حسن منظره فهذا ما نراه في مزمور 45 "أنت أبرع جمالاً من بني البشر" أما ما يقوله أحد الغلمان لشاول عنه في العدد 18 رجل يحسن الضرب أي أن المرنم. وما أجمل المزامير التي رنمها داود. وهو في هذا رمز للمسيح الذي مكتوب عنه "أخبر باسمك إخوتي في وسط الكنيسة أسبحك"، كما أن جبّار بأس أي رمز للمسيح كالحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، ورجل حرب لأن المسيح هو الذي يحارب حروبنا، وفصيح لأن الرب يسوع قيل عنه "لم يتكلم إنسان قط مثل هذا الإنسان"، والرب معه وكما كان المسيح هكذا داود، كان المسيح متكلاً على الله تماماً ومكتوب عنه في مزمور 16 "احفظني يا الله لأني عليك توكلت".

بيد أن داود مع أنه مع أنه مُسح، لم يجلس على عرش إسرائيل فوراً بل نظير الرب يسوع لا بد أن يجتاز سنوات مريرة من الألم والرفض. وفي وقت الله تحطم رجل اختيار الشعب الجسدي، وارتفع الإنسان الذي بحسب قلب الله. وعلى هذه الصورة عينها قد رتب الله في مشورته موعداً توضع فيه ممالك العالم بين يدي الرب يسوع له المجد. والحاجة الماسة لتحقيق هذا الوعد تزداد حلاوة لكل ذي عينين. ذلك أن أنين العالم يزداد عمقاً كل لحظة.

دعي داود ليضرب بالعود ويرنم أمام الملك المحزون لتطيب نفسه. فأحبه شاول جداً ولكن حبه كان وقتياً فقط.

"فكان يرتاح شاول ويطيب ويذهب عنه الروح الرديء" نرى هنا صورة جميلة عن الرب يسوع المسيح، فكلماته الحلوة وتعزيات روحه تنعش وتطرد الأرواح الشريرة. وكان بعد أن يهدأ الملك التعس وتطيب نفسه كان الراعي الملك الصغير يعود إلى بيته. وإلى رعاية قطيع أبيه.

لم يتردد داود عن أن يأخذ مكانه كخادم حتى في دار من برهن في مستقبل الأيام أنه أعدة أعدائه. وهكذا لم يفرق بين أي عمل يقوم به أو مكان يحل فيه سواء كان ذلك العمل حماية قطيع أبيه من وحوش البرية أو إبعاد الروح النجس عن نفس شاول.

 

  • عدد الزيارات: 1823