الأصحاح الثالث والعشرون
نرى داود الآن يُجهَّز للطريق المُعد له من الرب، ولكن له اتباع حوالي 600 رجل، وكان داود معهم يستطيع أن يقدم خدمة لله، لم تكن الخدمة سهلة بل شاقة، كان عليه أن يسير في ذات الدرب العسير الذي سار فيه من بعده ربنا يسوع المسيح له المجد- الذي جُرّبَ في كل شيء مثلنا بلا خطية لكي يقدر أن يعين المجربين أمثالنا الذين يسيرون في إثر خطواته.
أخبر داود أن الفلسطينيين يحاربون قعيلة، وهي مدينة ذات أسوار وعلى بعد ستة أميال جنوب مغارة عدلام. وكان الفلسطينيون ينهبون البيادر لأن الوقت كان وقت حصاد فكانوا ينهبون البيادر التي جُمعت فيها الحنطة وبهذا يحرمون الشعب من غذاءهم. والحنطة تشير إلى المسيح، وهذا ما يفعله أعداء المؤمنين الآن إذ يحاولون حرمان المؤمنين من كلمة الله، الكلمة التي تحوي الحق الخاص بالمسيح ويجعلونهم يشعرون بالجوع والهزال.
أخبروا داود ولم يخبروا شاول ملكهم فإنه من واجباته أن يحامي عن رعيته لكنه لم يشتهر في محاربة الفلسطينيين من الأول إلى الآخر، وكان يفرغ جهده في هذا الوقت لإبادة داود.
عندما ترك داود يهوذا من أجل والديه، ورغم سلامة نيته في هذا التصرف إلا أن أهمل أول واجباته وأهمها. لكن عندما أخذ الله مكانه الصحيح في حياته نجده يرجع كل شيء إليه "في كل طرقك أعرفه وهو يقوّم سبلك" (أم 3: 6). ولا شك أن هذا يعتبر الأمر الرئيسي في كل طاعة حقيقية، وهذا هو الدرس الذي تعلمه داود نتيجة سقطته. فبمجرد أن وصل إلى وعر حارث سمع أن الفلسطينيين حاربوا قعيلة ونهبوا البيادر. ولعدم رغبته في تكرار خطئه السابق سأل الرب قائلاً "أَأَذْهَبُ وَأَضْرِبُ هَؤُلاَءِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ؟" (1 صم 23: 2)لكن لماذا يستخدم داود السيف ولماذا يقول "مبارك الرب صخرتي الذي يعلم يدي القتال وأصابعي الحرب" (مز 144: 1)، السبب هو أن "الأرض للرب" وتنظيمها يقع على عاتقه، وفي سلطانه المطلق انتخب إسرائيل ليكون مركز الدائرة بين الأمم (تث 22: 7- 9). لقد مارس الله سلطته الإلهية فيهم في الأرض وسيمارسها مرة أخرى في المستقبل.
سأل داود من الرب عن طريق الأفود التي كانت مع أبياثار الكاهن، سأل داود الرب مرتين، الأولى ليعرف فكره، وقال له الرب اذهب، واضرب، وعاد داود ليسأل الرب مرة أخرى، وكانت هذه المرة ليهدئ روع رجاله الذين كانوا خائفين من الذهاب لمحاربة الفلسطينيين في قعيلة بينما كان الذهاب معه إلى موآب لا يشكل أية صعوبة بالنسبة لهم، أما شاول بن قيس فلم يكن له أي دور في الخلاص، كان داود هو الآلة الوحيدة للخلاص التي استخدمها الرب.
سمع شاول أن داود قد جاء إلى قعيلة، ولم يهتم بما فعله داود من خلاص، كان كل همه الإمساك به وقتله، كان على استعداد أن يضحي بقعيلة في طريق خدمة أغراضه، كان شاول يحارب خارج حدوده، كان يحارب الله نفسه، لم يكن يعرف قوة الله في حفظ خاصته، أما داود فكان خاضعاً للرب تماماً سائراً طبقاً لمشيئته، وكانت النهاية مؤكدة.
في ذلك الوقت كان أبياثار قد هرب إلى نوب وجاء إلى داود وبيده الأفود. ونلاحظ أن صدرة القضاء التي لا تنفصل عن الأفود كانت تحمل أسماء بني إسرائيل الاثني عشر. وحيث أن داود كان مزمعاً أن يتعلم بالاختبارات المريرة طبيعة الشعب الذي كان عليه أن يخدمه. نراه بواسطة الأفود والصدرة يتذكر محبة الرب الثابتة لهم رغم تغير ظروفهم وأحوالهم. ولو رآهم في نور سلوكهم الشخصي لنفر منهم، لكن عندما يراهم بحسب فكر الرب، كما هو ظاهر في هذا الرمز فإن هذا يعمق اهتمامه وميله لهم بينما يستطيع أن يجد الإرشاد الذي يحتاجه بواسطة الأوريم والتميم. لذلك قال داود لأبياثار "قدّم الأفود" وكان صراخه إلى الرب مفعماً بالخشوع والوقار والغيرة، كان يستغيث بالرب إله إسرائيل لذا سأله "هل ينزل شاول كما سمع عبدك.. فقال الرب ينزل.. هل يسلمني أهل قعيلة مع رجالي ليد شاول. فقال الرب يسلمون" إنه لم يتقدم بأية شكوى ضدهم وهو لا يستطيع أن يشن الحرب على إسرائيل- على الشعب الذي نقُشت أسماؤهم على الصدرة، كما أنه لا يستطيع أن يضرب سيده مسيح الرب لكن "قام داود ورجاله. وخرجوا من قعيلة حيثما ذهبوا".
ورغم أن الرب استخدم داود ورجاله في تخليص عقيلة من أيدي الفلسطينيين لكن أهل قعيلة الذين كتبت لهم النجاة على يد داود أرادوا به شراً وفكروا أن يسلموه ليد شاول. لقد كافأوه شراً بدل خير وقابلوا محبته بالبغضة. وهو في ذلك صورة للرب يسوع المسيح الذي جال ليصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لكن قُوبلت أعماله بالخِسّة والجحود.
هرب داود من عدوه مرة أخرى، وأصبح في زيف، لم يفلت من التجربة بمجهوده بل بما عمله الرب له، ومعنى زيف "تنقية"، وكانت التنقية ضرورية لداود كما هي ضرورية لكل مختاري الله، ومن الضروري أن يشتركوا في آلام المسيح لكي يشتركوا في أمجاده وملكوته.
سار الرسول بولس في نفس الطريق، كان طريقه في الجهاد الموضوع أمامه ناظراً إلى رئيس الإيمان ومكمله الذي احتمل الصليب مستهيناً بالخزي، ولذلك جلس عن يمين الله، احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه، وكان في هذا مثالنا، ويقول لنا الرسول لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية.
لم يكن داود وهو في التجربة يمثل الرب، لم يكن وهو في مكان التنقية يمثل الرب يسوع له المجد. لأن الرب لم يكن فيه خلط أو زغل، بل كان داود يمثله فقط كشريك في آلامه لكي نشترك معه في أمجاده. إن التقنية خطة لفصلنا عن الشر، ونرى مثالاً لذلك يوناثان بن شاول، كان مميزاً بين الخير في داود والشر في شاول، وكان هذا التميز طبقاً للنور الذي يعطيه التواجد في محضر الله، جاء يوناثان ليقوي داود وتكلم عنه بكلمات التشجيع ووجد نظر داود إلى الله أساس تعزيته، وكصديق مُنكر لذاته أعلن عن سروره بأن الأمور ستؤول لخير داود وأنه سيصل إلى عرش المُلك، وسوف يكون هو مشيره، كان كذلك في وقت الشدة، ونحن لا نستطيع أن نُقدّر الجهد الذي تكلفه يوناثان ليتكلم هكذا. ولكن مع الأسف رجع يوناثان إلى بيت أبيه وترك داود في البرية. أراد يوناثان أن يشترك مع داود في حكم الشعب، ولكن لم يكن لديه رغبة في أن يشترك مع داود في آلامه. والمبدأ الكتابي "إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه" (رو 8: 17)، كان من المستحيل أن يحصل يوناثان على الراحة في بيت أبيه وكانت النتيجة أنه قتل مع أبيه على جبل جلبوع.
بعد زيارة يوناثان لداود اكتشف الزيفيون أن داود في زيف وكانوا على استعداد لتسليمه تحت ضغط شاول، ولكن داود صرخ للرب "اللهم باسمك خلصني وبقوتك تحكم لي. اسمع يا الله صلاتي أصغي إلى كلام فمي" (مز 54: 1، 2) ولما تيقن أن الرب سمع صلاته قدّم الشكر للرب "أحمد اسمك يا رب لأنه صالح. لأنه من كل ضيق نجاني".
واستجاب الرب لصلاته هذه وتدخل في أمره إذ جعل شاول يتحول عن داود إلى العدو الأصلي أي الفلسطينيين الذين أرسلهم الله ليهاجموا مملكة شاول. وكم هو جميل أن نعرف قدرة الله في خلاصنا بعد أن تكتمل تنقيتنا.
ودعي ذلك الموضع "صخرة الزلقات" أي صخرة الانقسام لأن قلب الملك شاول كان متردداً بين ذهاب هنا أو هناك، وأخيراً أضطر أن يترك داود لكي يذهب وراء الفلسطينيين. وقد صار واضحاً أن نجاة داود كانت بتدخل العناية الإلهية.
"وصعد داود من هناك وأقام في حصون عين جدي" وهي بقعة غنية بالمياه تقع عند الطرف الشرقي لصحراء يهوذا وبها كثير من عيون الماء.
- عدد الزيارات: 1639