Skip to main content

النشيد 2

ايقاظ المحبة

العروس

"8صَوْتُ حَبِيبِي. هُوَذَا آتٍ، طَافِراً عَلَى الْجِبَالِ قَافِزاً عَلَى التِّلاَلِ".

يصور لنا النشيد الأول مشهداً في النهار حيث الملك في مجلسه. أما النشيد الثاني فيرينا انقضاء متعة المحبة في حضور الملك، ويبدأ هذا النشيد بمشهد العروس وهي ترقد في منـزلها في السهول بنوافذه المشبّكة. في غياب العريس عادت إلى منـزلها في موطنها. وهي في ذلك على مثال بطرس، الذي قال في وقت لاحق، في غياب المسيح: "لأمضينّ إلى الصيد". لقد عاد إلى الظروف التي كان يعيش فيها قبل اتباعه للمسيح. لقد تبعه آخرون، ولكنهم "لم يصطادوا شيئاً في تلك الليلة". لقد استيقظت العروس على صوت حبيبها الذي يقول لها بأنه آتٍ. ومن ثم تراه عن بعد قادماً فوق الجبال: وما هي إلا هنيهة حتى وقف خلف جدار منـزلها، ومن ثم أظهر ذاته لها عبر الكُوى.

في تاريخ حياة شعب الله، كم من مرة حصلوا على فرح عظيم وبركة بعد خدر أو سبات روحي. إن مجلس الملك يفسح مجالاً لمنـزل العروس ذي الكوى. المشاركة مع الملك في مجلسه تليها أشواق العروس المتأججة في منـزلها.

كم كان سريعاً ذبول نضارة الكنيسة الأولى. عندما "كَانَ لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ"؛ عندما كان المؤمنون يؤيَّدون "َبِقُوَّةٍ عَظِيمَة" و"نِعْمَةٍ عَظِيمَة"، وكانوا يواظبون على الحياة اليومية "بنفس واحدة"، و"يكسرون الخبز في البيوت" و"يَتَنَاوَلُونَ الطَّعَامَ بِابْتِهَاجٍ وَبَسَاطَةِ قَلْبٍ"، أفلا نستطيع القول أنهم كانوا في حجرة الطعام، مع الملك في مجلسه؟ ولكن عندما تذوي هذه النضارة المبكرة، وعندما يسعى كل واحد إلى شؤونه الخاصة، وليس في أمور يسوع المسيح، أفلا ينبغي أن نقر بأن الليل الروحي قد حلّ على القديسين، وأنهم قد فقدوا الإحساس بدعوتهم العظيمة، واستقروا في منازلهم في سهول العالم؟

إن ما هو حقيقي بالنسبة للكنيسة ككل ينطبق أيضاً، وللأسف، على الأفراد. فبعد النضارة المبكرة للحب الأول غالباً ما يحدث أن يستسلم حديثو الإيمان إلى تدنٍ في المستوى الروحي، والذي يعود مرده إلى نقص المحبة القوية نحو المسيح لديهم، رغم استمرارهم في روتين الخدمة.

هكذا شروط يأتي هذا النشيد الثاني على وصفها. وإضافة إلى ذلك، فإننا نرى الطريق التي يسلكها الحب ليحقق هذه الشروط، وكيف يوقظ الملك من جديد مشاعر قلب العروس. وفي هذا نجد تعليمات لأرواحنا، يجدر بنا أن نأخذها بعين الاعتبار.

إن عواطف العروس أوقظت أولاً بصوت العريس. وإذ هي متثاقلة الأجفان من النعاس، فإنها سرعان ما تدرك صوت حبيبها. وهكذا الحال مع خراف الرب: فهي قد تسرح مبتعدة عنه، ولكنها لا تبرح مخلصة له "فتعرف صوته" (يو 10: 4). ربما عاد بطرس، وأولئك الذين تبعوه، إلى حياة صيادي السمك البائسة، ولكن عندما يأتي إليهم الرب فإنهم أدركوا في الحال "أنه الرب".

الصوت يعلن أنه قادمٌ. هل من شيء يمكن أن يوقظ المشاعر كمثل سماع خبر مجيئه؟ ما الذي يثير مشاعر الزوجة أكثر من معرفتها أخيراً بأن زوجها قادم من وراء البحار؟ ما الذي يمكن أن يوقظ مشاعر البقية التقية من شعب إسرائيل في ذلك اليوم العتيد، كمثل الصوت الذي يقول: "هوذا الملك آتٍ"؟ "اِبْتَهِجِي جِدّاً يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ" (زكريا 9: 9). هكذا أيضاً تستيقظ مشاعر كنيسة المسيح التي تنتظره بفضل حقيقة أنه آتٍ. إن كل المكاشفات العظيمة في سفر الرؤيا، التي ينطق بها الملائكة والشيوخ، عن الأحداث الجليلة والأمجاد الآتية والبركات الأبدية، تمر دون أن نسمعها عندما لا نعير الأمر انتباهاً. ولكن عندما يصمتُ كل صوت آخر، ونسمع يسوع نفسه يقول: "«نَعَمْ! أَنَا آتِي سَرِيعاً»" فعندها، وفي نهاية الأمر، ستستيقظ مشاعر الكنيسة، ويتردد صوت الهتاف أن "آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ".

"8طَافِراً عَلَى الْجِبَالِ، قَافِزاً عَلَى التِّلاَلِ. 9حَبِيبِي هُوَ شَبِيهٌ بِالظَّبْيِ، أَوْ بِغُفْرِ الأَيَائِلِ".

بنشاط الظَّبْيِ أَوْ غُفْرِ الأَيَائِلِ، قافزاً من صخرة إلى صخرة فوق الجبال والتلال، هكذا هي رغبة الملك في المجيء لدعوة حبيبته تتحدى كل العوائق. إن العروس قد تنام، ولكن ليس الملك هكذا. قد ينام إسرائيلُ ولكن "ذاك الذي يرعى إسرائيل لا ينعسُ ولا ينام". لقد خاطب الرب يسوع كنيسته أربع مرات بالقول : "ها أنذا آتي سريعاً". أفلا تُظهر هذه الكلمة "سريعاً" رغبة متقدة لديه لذلك اليوم العظيم عندما يكون "عُرْس الْحَمَلِ قَدْ جَاءَ"؟

"9هُوَذَا وَاقِفٌ وَرَاءَ حَائِطِنَا، يَتَطَلَّعُ مِنَ الْكُوى، يُوَصْوِصُ مِنَ الشَّبَابِيكِ".

لا يُوقظُ الملك عواطف العروس وحسب بصوته، بل يقف بصبرٍ إزاء جدار البيت منتظراً؛ ومن ثم، وبإظهار نفسه عبر الكوى يجتذبها بجمال شخصه. ألم يفعل المسيح ذلك عندما التقى بالتلميذين الخائبين على طريق عمواس؟ لقد جعل قلبهما يتقد أولاً في داخلهما بينما راح يتحدث إليهما في الطريق. ثم وقف عند عتبة بيتهما كمسافر يودعهما، وأخيراً كشف نفسه لهما- وبمثل لمح البصر، كمن ينظر نظرة عجلى من الكوى، غاب عن ناظريهما. وعلى نفس المنوال يتعامل مع شعبه الحبيب اليوم. إنه يحث مشاعرنا الواهنة المبتئسة بأن يُسمعنا صوت محبته الخافت في أعماق ذواتنا، وبصبر وأناة كبيرين يقف على باب اللاوي، منتظراً أن يُظهر ذاته لنا ويجتذب قلوبنا بجماله وروعته. 

العريس

"10أَجَابَ حَبِيبِي وَقَالَ لِي: قُومِي يَا حَبِيبَتِي يَا جَمِيلَتِي وَتَعَالَي".

حتى الآن ما أمكن للعروس إلا أن تسمع صوته، والآن تسمع كلمات فمه، وتردد بسرور ما يقوله حبيبها. سوف لن يبقى الملك من بعد دون عروسه؛ فسيأخذها من الوديان المظلمة الباردة إلى أماكن أكثر دفئاً وضياءً. إن أول كلمة يقولها ستوقظها من الظروف التي تعيش وسطها: "قومي". والكلمات التالية تبين أهميتها العظيمة في نظره: "يَا حَبِيبَتِي يَا جَمِيلَتِي". وأخيراً تسمع نداءه الواضح المحدد أن "َتَعَالَي"- وبهذا يكشف توق قلبه لها.

ألا يخاطب الرب شعبَه هكذا اليوم؟ ألا نسمع صوته يقول لنا "قوموا"، إذ يبغي أن يقيمنا من حالة النعاس والتثاقل الروحي التي تتملكنا وتشدنا إلى الأرض؟ ألا يقول لنا: "قوموا وانطلقوا: فهذه ليست راحة لكم"؟ ومن جديد يذكّرنا الرسول بـ " أَنَّهَا الآنَ سَاعَةٌ لِنَسْتَيْقِظَ مِنَ النَّوْمِ فَإِنَّ خَلاَصَنَا الآنَ أَقْرَبُ مِمَّا كَانَ حِينَ آمَنَّا".

وفوق ذلك، ألا يذكّرنا الرب كم نحن عزيزون في نظره عندما يخبرنا كيف أنه أحب الكنيسة وبذل نفسه لأجلها ليُطهّرها ويقدّسها بغسل الماء بالكلمة، ليقدّمها لنفسه كنيسةً مجيدةً؟ أولا تحرك هذه الكلمات أعماق قلبنا عندما نسمعه ينادي عروسه قائلاً: "يَا حَبِيبَتِي يَا جَمِيلَتِي" رغم كل كل برودتنا، واعوجاج طرقنا، وانهيارنا؟

ثم ألا نسمعه يناشدنا أن نبتعد عن هذا العالم البائس، بقوله: "لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ"؟وبعدها ألا نسمع أيضاً صوته قائلاً: "تعالوا"، داعياً إيانا للقائه في الهواء؟

"11لأَنَّ الشِّتَاءَ قَدْ مَضَى، وَالْمَطَرَ مَرَّ وَزَالَ. 12الزُّهُورُ ظَهَرَتْ فِي الأَرْضِ. بَلَغَ أَوَانُ الْقَضْبِ، وَصَوْتُ الْيَمَامَةِ سُمِعَ فِي أَرْضِنَا. 13التِّينَةُ أَخْرَجَتْ فِجَّهَا، وَقُعَالُ الْكُرُومِ تُفِيحُ رَائِحَتَهَا. قُومِي يَا حَبِيبَتِي يَا جَمِيلَتِي وَتَعَالَيْ."

إن الملك لا ينادي العروس من منـزلها في السهول وحسب، بل أيضاً يكشف لها عن عالمٍ من البركة، حيث لا عواصف أو رياح شتوية تهب عليه، بل كل ما فيه جميلٌ للنظر وعذبٌ للسمع وممتع للمذاق- أرض من الأزهار والأناشيد، أرض ذات ثمار تين خضراء وخمرة جديدة. ولا ينقص ذلك المشهد سوى حضور العروس، ولذلك فإن الملك يخلص إلى القول: "قُومِي يَا حَبِيبَتِي يَا جَمِيلَتِي وَتَعَالَيْ".

عندما جمع الرب تلاميذه الحزانى حوله تلك الليلة الأخيرة الحزينة قبل أن يغادر العالم، عزّى قلوبهم المضطربة بإفضائه لهم عن عالم آخر، منـزلٍ كان ماضياً ليعدّه لهم، فيما وراء ليل هذا العالم البارد. إن العاصفة التي كانت فوق رؤوسنا كانت على وشك أن تنفجر فوق رأسه، وفي مقدوره أن يرى ما هو أبعد من العتمة والدينونة ويفتح أمام ناظرنا مسكناً جديداً حيث يصبح الإيمان معاينةً- وستبزغ الورود، حيث لن يكون هناك بكاء ونحيب من بعد، وسيأتي أوان التغني، وسيُسمَعُ صوتُ الحمام، إذ سينضم المؤمنون إلى جوقة غناء أغنية المجد الجديدة للحمل. وهناك سنتغذى على الثمار الجديدة في السماء ونحتسي الخمر الجديد. وتكتمل البركة في ذلك المشهد بحضور العروس، عروس الحمل. قد يطول انتظار المسيح، ولكنه ما برح يقول: "سآتي ثانيةً وآخذكم إليّ"، وسرعان ما سينقضي الشتاء، ويولّي زمن الانتظار، فيأتي ليأخذ عروسه، وسنسمع صوته قائلاً: "قُومِي يَا حَبِيبَتِي يَا جَمِيلَتِي وَتَعَالَيْ". فحسنٌ أن ننشد هنا قائلين:

"وراء العواصف أمضي، خلفَ وادي البكاء، خلفَ الطوفان، ما وراء السنين المتحولة، إلى أرض أفضلَ أمضي، بالإيمان الذي ما فتئتُ أمتلكُ، ويشرق المجدُ أمامي، إذ ليست ها هنا راحتي".

"14يَا حَمَامَتِي فِي مَحَاجِئِ الصَّخْرِ، فِي سِتْرِ الْمَعَاقِلِ."

كان الملك قد أخبر العروس عن أرض الشمس والغناء، حيث يكون الشتاء قد ولّى والمطر قد زالَ وانقضى؛ ولكن في هذه الأثناء لا تزال هي في أرض المطر والشتاء. إلا أن هذا الذي جاء لأجلها هو الذي يحميها. إنه يشبّه عروسه بيمامةٍ تختبيء في محاجل الصخر، وتجد ملجأ لها من العاصفة في ستر المعاقل. هكذا الحال في وقتنا الراهن، في انتظار الرب، حيث يلقى شعبه معارضةً من المناوئين، ويواجهون العواصف. إلا أن النعمة قد أمّنت لهم ملاجئ ومساتر من العواصف. ونقرأ: "وَيَكُونُ إِنْسَانٌ كَمَخْبَأٍ مِنَ الرِّيحِ وَسِتَارَةٍ مِنَ السَّيْلِ كَسَوَاقِي مَاءٍ فِي مَكَانٍ يَابِسٍ كَظِلِّ صَخْرَةٍ عَظِيمَةٍ فِي أَرْضٍ مُعْيِيَةٍ." (أشعياء 32: 2). في شق تلك الصخرة- وفي يسوع المسيح الإنسان المطعون في جنبه- كم سيجد شعب الرب البائس المؤمن به ملجأ من الرياح العاتية، أولئك الذين يمكن تشبيههم بحمامةٍ مخلوعة الفؤاد. فلننشد هاتفين:

يا حمل الله، احفظنا إلى جنبك المطعون، ففيه فقط نجد أماناً، ونقيم في سلام". 14 "أَرِينِي وَجْهَكِ. أَسْمِعِينِي صَوْتَكِ، لأَنَّ صَوْتَكِ لَطِيفٌ وَوَجْهَكِ جَمِيلٌ".

من خلال كوى نوافذ منـزلها، أظهر الملك نفسه للعروس، وتحدث إليها، إلا أن هذا لا يشبع رغبات قلبه. وسيرى وجهها بسرور ويسمع صوتها. فصوتها عذبٌ على مسمعه، ووجهها جميل المحيّا في ناظريه. ألا يُسَرُّ الرب بأن يعلن أمجاده لشعبه ويتحدث إليهم؟ إنه يتشوق إلى يوم يلاقي فيه شعبَه وهم بكل المجد- دونما شائبة أو لطخة أو شيء من ذلك- بل كاملين بكل الجمال الذي أضفاه عليهم. ويتطلع لأن يسمعهم يقولون بصوت متفق: "«لِلْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَلِلْحَمَلِ الْبَرَكَةُ وَالْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ»".

"15 خُذُوا لَنَا الثَّعَالِبَ، الثَّعَالِبَ الصِّغَارَ الْمُفْسِدَةَ الْكُرُومِ، لأَنَّ كُرُومَنَا قَدْ أَقْعَلَتْ."

لقد عبّر الملك عن توقه لرؤية عروسه، ولسماع صوتها؛ وكما الثعالب، وخاصة بصغارها، التي تفسد الكروم إذ تطأ الأزهار، فغالباً ما يكون هناك أناسٌ ذوي نـزعات شريرة وطبيعة ماكرة يعملون على إقامة عوائق تمنع العروس من الاستجابة بنضارةٍ لقلب الملك.

إن المسيح يتوق لرفقة شعبه، إن رغبة قلبه هي أن يتعشى معهم وهم معه. وهناك "حاجة إلى أمر واحدٍ"، وهو أن نجلس عند قدميه ونحظى بالشركة معه. إن في مقدوره أن يستعيض عن خدمتنا الغنية له، ولكنه لا يتخلى عن رفقتنا له. مريم، دون مرتا، أبدت هذا الموقف. لوهلة جعل الثعلب مرتا غير مثمرةً. وفي أحيانٍ كثيرة نشابه مرتا في ذلك. فثمة ثعلب، وقد يكون ثعلباً صغيراً، يُسمح له بدون انتباهٍ أن يعمل سراً في قلوبنا. فالكبرياء، واشتهاء ماللغير، والشهوات، والقسوة، والأفكار الشريرة، والنميمة، والسخط، والنـزق، والاستخفاف، قد نسمح لها بأن تعشعش في داخلنا دون أن ندينها، وهذه تعيق الشركة، وتجعل الحياة عقيمة. علينا أن ننتبه كثيراً جداً إلى غارات هؤلاء الثعالب ونطردها بيد قاسية عندما تظهر.

العروس

"16حَبِيبِي لِي وَأَنَا لَهُ".

كان الملك قد قام بزيارة خاطفة لعروسه ثم مضى. ولكن من خلال هذه اللقاء القصير أيقظ مشاعرها، كما حدث مع الرب يسوع – في يوم قيامته- وبعد زيارة قصيرة منه إذ أنه حول "القلوب البطيئة عن الإيمان" إلى قلوب مضطرمة متقدة. لقد أظهر الملك خفايا قلبه إلى العروس بحديثه إليها عبر النافذة المشبكة: فأخبرها عن الأرض ذات الشمس المشرقة والأزهار، أرض الراحة والغناء، أرض الفرح والوفرة: فدعاها لأن تنهض وتأتي إلى تلك الأرض السعيدة: لقد كشف لها عن توق قلبه لرؤية وجهها وسماع صوتها، وبينما راحت تصغي إلى هذه المكاشفات الرائعة، أخفق قلبها في داخلها بشدة، واستيقظ حبها. وإذ أدركت حبه وإخلاصه لها، هتفت تقول: "أنا لحبيبي، وحبيبي لي". لقد صار هدف قلبها الوحيد، بإدراكها أنها منية قلبه. وهكذا يتعامل المسيح مع المؤمنين به اليوم. فهو يكشف نفسه لنا، ويبين لنا مدى اشتياقه لأن نكون معه وجهاً لوجه، ولأن يسمع صوتنا ونحن نلهج بالترنيمة الجديدة. ومن جديد، وإذ يخاطب قلوبنا البطيئة في الطريق فإنه يجعلها تضطرم بمحبته، ويجعلنا ندرك أننا له وأنه لنا. وهكذا إذ ندرك محبته اختبارياً فإنه يتحدث إلى قلوبنا بحكمة تجعلنا لا نستطيع أن نتمالك أنفسنا بل نهتف بسرور عظيم قائلين: "أنا لحبيبي، وحبيبي لي".

"16يَرْعى بَيْنَ السَّوْسَنِ. 17إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ".

لقد شبّه الملك للتو عروسَه بسوسنة، وكشف لها عن المشاعر الدافئة التي يكنها لها في قلبه، ومن هنا أدركت أنها نبع الحياة والسعادة لديه. وخلال ليل غيابه عنها وإلى أن يحين موعد الزفاف فإنه "يرعى بَيْنَ السَّوْسَنِ". وهكذا المسيح خلال ليل غيابه ما الذي يسر قلبه سوى شعبه المحبوب؟ الحق يُقال إنه "يرعى بَيْنَ السَّوْسَنِ إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ". بالفعل سيجعلنا معه في المجد، كما صلى قائلاً: "أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا".. ولكنه إبان فترة الظلال سيُسر للمجيء إلى خاصته بحسب ذلك القول الآخر الجميل: "لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ". وكم هي صادقة وصحيحةٌ تلك الكلمات التي قالها لاهوتي كبير: "إن المؤمن يتمتع بحياة قلبية شفافة، وميراث غني، وأعني بذلك المسيح هنا، والمسيح في الآخرة"!

"17ارْجِعْ وَأَشْبِهْ يَا حَبِيبِي الظَّبْيَ، أَوْ غُفْرَ الأَيَائِلِ عَلَى الْجِبَالِ الْمُشَعَّبَةِ."

تعبر العروس هنا عن رغبة قلبها في أن يكرر الملك زياراته لها كما تنـزل الظباء وغفر الأيائل من الجبال ليلاً إلى السهول لكي تتغذى. وهكذا لنا أن نرحب بكل مناسبة يأتي بها الرب وسط شعبه فيما هم يعبرون ظلمة هذا العالم.

"3: 1فِي اللَّيْلِ عَلَى فِرَاشِي، طَلَبْتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي، طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ."

إن الزيارة الليلية التي قام بها الملك قد أيقظت مشاعر العروس. ولكنها مجرد زيارة؛ فقد أظهر ذاته عبر الكوى؛ لقد كشف لعروسه عن صورةٍ لعالم آخر أشد ضياءً- عالم من الشمس المشرقة والغناء؛ ودعاها للنهوض من نومها والمجيء إلى تلك الأرض الطيبة خلف الجبال والتلال؛ وعندها، وإذ أيقظ مشاعرها، انسحب عائداً إلى مكانه، وتُركت العروس خلفه في ظلام الليل. لقد سمعت عن ذلك النهار وهي تتوق إلى انبلاج الصبح، رغم أنها لا تزال في عتمة الليل. إن حضور الملك سوف يُطلِعُ الفجر، كما أن غيابه يشكل الليل. وهكذا يمكننا أيضاً أن نقول أن حضور يسوع هو نهارنا، وغياب المسيح ليلٌ بالنسبة لنا. ولكن العروس، وقد تُركت في ظلام الليل، فإن قلبها يشتعل اشتياقاً لحبيبها. لقد أوقِظت من تكاسلها ونعاسها. لقد استيقظ الحب في داخلها، وهي تفرح الآن للحديث إلى حبيبها الذي تحبه نفسها. ونجدها تستخدم، ولأربع مرات، العبارة "مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي".

ولكن الحب الذي استيقظ لا ينال مبتغاه دون الحبيب. الحب يجعل منها ساعيةً. حتى الآن كان العريس هو من سعى إليها، ولكن الآن جاء الوقت أخيراً لتكون العروس هي من سيسعى إليه. إن حال الخاطئ الذي قسّى قلبَه هو مثل حال المؤمن المتبلد الإحساس. إن المسيح هو من يسعى إلينا أولاً. وليس من خاطئ يسعى إلى المسيح ما لم يكن المسيح المخلص قد سعى إليه أولاً. لو لم يأتِ ابنُ الإنسان أولاً ليطلب ويخلص الضال، لما أمكننا أن نسمع عن جابي الضرائب الذي "كان يسعى طالباً أن يرى يسوع". ولو لم يدنو "يسوع نفسه" من التلميذين المحزونين على طريق عمواس، لما عادا إلى أورشليم في تلك الليلة نفسها ليجدا "يسوع نفسه" وسط تلاميذه.

إضافة إلى ذلك، حريٌ بنا أن نلاحظ أن العريس نفسه هو من تبحث العروس عنه. فهي لا تطلب انبلاج الصبح أو أوان الغناء أو أرض التغني، بل كانت تسعى إلى شخص، ألا وهو شخص العريس نفسه الذي تتوق لرؤياه. هو في نظرها أجمل من الأرض الأكثر جمالاً، وأفضل من كل البركات التي يمكن أن يأتي بها. عندما يستيقظ الحب فإن المسيح وحده يمكن أن يشبع قلب المسيحي. وكمؤمنين مشتاقين إلى الرب فإننا سنرحب بفكرة أنه قريباً جداً ستُمسح آخرُ دمعةٍ، وسينقضي آخر حزن، وسيُغلبُ آخرُ مناوئ. ولكننا كمؤمنين مشتاقين للرب علينا أيضاً أن نطلب "المسيح نفسه". قال الرب للص المحتضر (على الصليب)، والذي خلص بالنعمة، "اليوم تكون معي في الفردوس" وليس "اليوم تكون في الفردوس". إن المدينة السماوية، بأسوارها التي من يشب، وبوابتها التي من اللؤلؤ، وشوارعها التي من ذهب، سوف لن تكون سماوية إن لم يكن المسيح فيها. وسيكون هناك حقاً "تَرَنُّمٌ وَفَرَحٌ أَبَدِيٌّ" بحيث يكون المسيح موضوع هذا الترنم ومصدر هذا الفرح. ويكون "َالْحَمَلُ سِرَاجُهَا".

إلا أن العروس تعلّمنا أشياء أخرى. فقد استيقظ الحب؛ وجعل منها الحب ساعيةً، ولكنها لا تنال مطلبها في الحال. فرغم أنها كانت تطلب العريس إلا أنها أقرت أكثر من مرة أنها "لم تجده". فلماذا؟ أوليست تطلب الشخص المناسب؟ لا، بل تفعل. ولكنها في بادئ الأمر تطلبه بطريقة خاطئة. تقول: "عَلَى فِرَاشِي طَلَبْتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي". لقد كانت تسعى إليه، وفي نفس الوقت كانت تحاول المحافظة على راحتها. ما كانت على استعداد في بداية الأمر لأن تتخلى عن راحتها الشخصية خلال سعيها إلى حبيبها. كم كان كثيرون منا ليطلبون المسيح لولا الجسد. إن محبة المسيح سوف تدفعنا لاتباعه، ولكن ميلنا إلى الراحة سيعيقنا عن ذلك. إننا نطلبه، ونحن مسترخين في أسرّتنا، ولذلك فإننا لا نجده. إننا ننسى ما قاله مرةً: "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي".

"2إِنِّي أَقُومُ وَأَطُوفُ فِي الْمَدِينَةِ، فِي الأَسْوَاقِ وَفِي الشَّوَارِعِ، أَطْلُبُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي. طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ."

إن قوة الحب تنتصر في العروس، وتقول: "إِنِّي أَقُومُ وَأَطُوفُ فِي الْمَدِينَةِ". إنها تتغلبُ على تكاسلها، ولكنها تخفق من جديد. لقد راحت تطلب حبيبها بطريقة خاطئة، والآن تطلبه في المكان الخطأ. فهو لن يوجد في طرقات المدينة وشوارعها العريضة؛ إنه يتغذى بين السوسن. وقد نقع نحن أيضاً في نفس الشرك. قد نود أن نحصل على المسيح، إلا أننا نسعى للحصول على المسيح وطرقات العالم العريضة. ولكن إن لم نستطع الحصول على المسيح واجتناب الجسد، فلن نحصل على المسيح ولن نحتفظ بالعالم. إن كان الصليب يشهد على محبة المسيح حتى الموت فإنه أيضاً يعبّر عن بغض العالم الذي لا يموت للمسيح. فمرذولاً من العالم، "تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ"، وإن كنا نريد أن نجد المسيح فعلينا أن "نَخْرُج إِذاً إِلَيْهِ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ حَامِلِينَ عَارَهُ".

"3وَجَدَنِي الْحَرَسُ الطَّائِفُ فِي الْمَدِينَةِ، فَقُلْتُ: «أَرَأَيْتُمْ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي؟»"

للمرة الثالثة تخفق العروس في مسعاها وراء العريس بالطريقة الخطأ. فبعد أن بحثت عنه في المكان الخطأ، ها هي تسأل عنه الناس الخطأ. إن عمل الحرّاس هو الحراسة وحفظ النظام. لعلهم يقيمون العدل، ولكن لا يمكنهم تقديم العون فيما يتعلق بقضايا الحب. "إن كان الأمر يتعلق بالفساد أو الدعارة" فإن حكام هذا العالم يستطيعون معالجة الموضوع؛ ولكنها مسألة "حب"، و"يسوع". فهي إذاً، في نظر العالم، "مسألة كلمات وأسماء"، والعالم "لا يتعامل مع هكذا قضايا". وإن أراد التعامل مع هذه القضايا، فإنه عندها يتحول إلى مضطهد لأولئك الساعين وراء هكذا أمور. فعبثاً نسعى، إذاً، إلى العسكر في هكذا مسائل، كما وقع المسيحيون منذ البداية في هكذا فخّ، ومنه تعلّموا أن أمراء هذا العالم قد صلبوا رب المجد. فنحن، كمثل أعمى بيت صيدا، الذي استعاد جزءاً من البصر، عرضةٌ لأن نرى الناس بما لا يتناسب مع حجمهم الحقيقي. فإننا "نرى الناس كأشجار تسير". إلا أن محبة المسيح سوف تجعلنا، مثل التلاميذ الأولين، نرى "يسوع وحده".

"4فَمَا جَاوَزْتُهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً، حَتَّى وَجَدْتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي، فَأَمْسَكْتُهُ وَلَمْ أَرْخِهِ، حَتَّى أَدْخَلْتُهُ بَيْتَ أُمِّي، وَحُجْرَةَ مَنْ حَبِلَتْ بِي."

عندما تغلبت على كل العوائق- السرير، والمدينة، والحراس- كان لم يبقَ أمام العروس إلا القليل لتجدَ حبيبها. وعندما وجدَتْهُ فإنها "أَمْسَكتهُ وَلَمْ تُرْخِهِ". أفلا نقول، في أيامنا هذه، أن ما يعوز شعب الله جداً هو هكذا طاقة على الحب التي تتغلب على كل العوائق، وتربط الروح إلى المسيح، ولا تدعْه يمضي؟ ولكن للأسف، فعلى ضوء ما نرى من لا مبالاة سائدة ونقص في المحبة نحو المسيح، لا نجد إلا أن نصرخ من جديد مع أشعياء قائلين: "لَيْسَ مَنْ يَدْعُو بِاسْمِكَ أَوْ يَنْتَبِهُ لِيَتَمَسَّكَ بِكَ" (أشعياء 64: 7). ففي الأيام التي كان فيها على الأرض، جاء يومٌ حدث فيه أن الكثيرين ممن اعترفوا به وتبعوه "رَجَعَوا إِلَى الْوَرَاءِ وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ"، أما الإثني عشر فقد "تمسكوا به وما كانوا ليتركونه يذهب". ويسألهم الرب: "«أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟»"، فيجيبون :"يَا رَبُّ إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ". وفي هذه الأيام من غيابه المجيد، حيث تفتر محبة كثيرين، وتتدلى الأذرع، وتضعف الركب، وعندما يتحول كثيرون عنه ولا يسيرون معه من بعد، كم هو ضروري وملحٌ أن أن ننهض لكي "نمسك به"، وإذ نتمسك به من أعماق قلوبنا، ولا نتركه يذهب عنا أبداً.

في ختام النشيد الأول رأينا العريس يقود العروس إلى حجرة طعام الملك، أما في هذا المشهد الختامي هنا فنجد العروس تقود العريس إلى بيت أمها. فبالنسبة للعروس الأرضية تمثل الأم شعب إسرائيل (رؤيا 12). وما لم يعطِ شعب الله الأرضي للملك مكانته التي يستحقها فإنهم لن ينالوا البركة. قد نحاول استجلاب المسيح إلى الأرض- بمعنى آخر، قد نسعى لربط اسم المسيح وسلطته بهذا العالم- ولكن سيكون هذا بدون جدوى. فالمسيح لا نجده في مدينة وأزقة هذا العالم، وإن كنا لا نجده هنا فلن نتمتع به هنا. يمكننا أن نعرفه ونتمتع به فقط فيما يخص المشهد السماوي حيث هو والذي ننتمي إليه. وكما رأينا، إن كان يوجَد فقط "خارج المحلّة" فإن "بيت الأم" سيعلّمنا أنه يمكن التمتع به فقط "خلال الحجاب".

"5أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، بِالظِّبَاءِ وَبِأَيَائِلِ الْحَقْلِ، أَلاَّ تُيَقِّظْنَ وَلاَ تُنَبِّهْنَ الْحَبِيبَ حَتَّى يَشَاءَ."

ينتهي النشيد هنا، كما في النشيد الأول، بمناشدة عميقة تطلب فيها العروس من بنات أورشليم، بألا يُفسد أحدٌ أو شيء متعة الحب بين العريس والعروس. وبهذه الروح ننشد قائلين:

"خذ قلوبنا، واجعلها دائماً وأبداً مغلقةً أمام الجميع سواك، وها نحن عبيدك المخلصين، اختمنا بختم المحبة إلى الأبد".

  • عدد الزيارات: 1836