Skip to main content

من الديانة الميِّتة إلى الحياة الجديدة في المسيح

شهادة شخصيَّة من الكاهن المولود ثانيةً

"فِنسَنت أُوشاوغنيسِّي"

"إذاً إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة؛ الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكلُّ قد صار جديداً" (2كورنثوس 17:5).

وُلِدتُ وتربَّيتُ بمزرعة في "وِسْت ليمريك" بإيرلندا، وكانت ذكرياتُ طفولتي طيِّبة وسعيدة. فقد كنتُ الأصغرَ بين سبعة إخوة، أربعةِ صبيان وثلاث بنات، وكان لنا أقرباء كثيرون نـزورهم ويزوروننا أيام الأحد بعد القُدّاس. ولم يكن أحدٌ يُفوِّت قُدَّاساً تلكَ الأيام في إيرلندا، إلاَّ بسبب المرض الشديد. فقد كانت تلك خطيئةً مُميتة تستحقُّ عقاب الجحيم، إن مات امرؤٌ قبل أن يعترف بها للكاهن ويحظى بمغفرته لها. وكان الكهنة يُوقَّرون كثيراً، بل يؤلَّهون. وقد قرَّرتُ أن أصير أنا أيضاً كاهناً.

واذكرُ أنَّني لما كنتُ صغيراً جدّاً كنتُ أنـزل من السرير وأجثو كلَّ صباح لأتلو صلواتي الصباحيَّة التي تبدأ "بتقدمة الصباح" التي علَّمتني إيّاها أُمِّي ثُمَّ يتبعُها "أبانا والسلام". وما زلت أذكر "تقدمة الصباح" التي تُستَهلُّ بالقول: "يا يسوع، بقلبِ مريمَ الأقدس..".؛ الأمرُ الذي عنى لي أنَّ عليَّ أن أقترب إلى يسوع بواسطة مريم لأنْ لا طريق آخر. كذلك أيضاً لا تُبارِح ذاكرتي صورةُ الركوع في المطبخ كلَّ مساء لتلاوة صلاة السُّبحة مع العائلة، وأكثر ما أذكره أنَّ شرّابة السُّبحة كان أطول من السبحة نفسها. وكلَُّ من كانت لديه مشكلةٌ في الجوار، كان ينبغي أن يُصلَّى لأجله "السلام عليكِ" ثلاثَ مرَّات كُلَّ دفعة، وكذلك لأجل الأقرباء المتوفَّين أجمعين.

وهكذا قدَّمتُ طلب انتساب ِإلى كليَّة القدِّيس باتريك، وهي معهدٌ لاهوتيٌّ إرساليٌّ في "اثْرولْز" بمقاطعة "تِبّاراري". فقُبِلتُ وباشرتُ سنواتِ دراسةِ اللاهوت الستَّ، ومنها سَنَتا فلسفة وأربع سنين من اللاهوت العقائديِّ واللاهوت الأدبيِّ، فضلاً عن القانون الكنسيّ وموضوعاتٍ أُخرى. لم ندرس كلمة الله دراسةً حقيقيَّة، بل ألممْنا إلماماً بدراساتٍ في الكتاب المقدَّس من دون تعمُّقٍ وتأثُّر. وكثيراً ما أتأسَّف لأنَّ أحداً لم يطلب إليَّ أن أدرس كلمة الله تلك السنوات السِّتّ. على كُلِّ حال، ما كانتِ الدراسةُ لتُفيدني على الأرجح إذ لم أكُن قد وُلِدتُ من جديد. فقد كان يُعوِزني الفهمُ آنذاك، إذ إنَّ عينَي بصيرتي لم تكُونا قد فُتِحتا على كلمة الله.

أخيراً حان يوم الرسامة الذي طالما انتظرتُه، في الخامس عشر من حزيران (يونيو) 1953، فكان فرصةً لا تُنسى تَلَتها حفلةُ استقبال للأقرباء والأصدقاء. وقد استمرّ الاحتفال حتّى اليوم التالي الذي فيه أقمتُ قُدّاسي الأول وحضره أغلب ابناء الأبرشيَّة للحصول على البركة الأولى من يد الكاهن الشاب.

وفي أعقاب عطلة دامت ثلاثة أشهر قضيتُها في مسقط رأسي، أبحرتُ إلى نيويورك بصحبة كهنةٍ آخرين رُسِموا حديثاً، قاصدين أماكنَ شتَّى في الولايات المتَّحدة الأميركيَّة. وكان مقرُّ خدمتي الأول في كاتدرائيَّة مدينة "ساكرامنتو" بولاية "كاليفورنيا"، على مقربة من مبنى الكابيتول الضخم. فباشرتُ واجباتي الكهنوتيَّة بكثير من الحماسة والتكريس لعمل الخدمة، وأنا عازمٌ على القيام بأفضلِ ما أستطيع آمِلاً بأن أكون كاهناً مثاليّاً. وقد أُعطِيتُ غرفةً في الطبقة الثالثة من بيتِ الكهنة التابع للكاتدرائيَّة كان قد أخلاها توّاً رجلٌ يُعاني مشكلةً شائعة بين الكهنة الكاثوليك ألا وهي إدمانُ الكحول. فكان عليَّ أن أتوجَّه عدَّة مرَّات إلىمستوعَب القمامة في آخر الساحة للتخلُّص من جميع القناني الفارغة التي وجدتها في الأدراج والخزائن. وقد آلمني ذلك جدّاً لأنَّني كنتُ آنذاك داعيةً إلى الامتناع التام عن المسكر وعضواً في منظَّمة إيرلنديَّة مَعْنيَّة بذلك يتعارف المنتمون إليها بشكِّ دبُّوسٍ أحمر في ثيابهم، فإذا رأى الإيرلنديُّون شخصاً شاكّاً ذلك الدبُّوس لا يُقدِّمون له مشروباً كحوليّاً.

وأذكرُ أنَّني كنتُ أقضي في الكاتدرائيَّة ساعاتٍ طويلةً لعدم رغبتي في مغادرة كرسيِّ الاعتراف فيما الناسُ ما زالوا ينتظرون دورهم في رَتَلٍ طويل. ولكنْ حين كان ينتهي الوقت المحدَّد، لم يكُن يبدو أنَّ مغادرة غرفة الاعتراف يُزعج الكهنة الآخرين. وكانت نتيجة ذلك أنَّني تعوَّدتُ أن أتأخَّر عن المواعيد المضروبة حتَّى صرتُ أُضحوكةً عند الآخرين بسبب خدمتي للمتأخِّرين ولا سيَّما الأمريكيِّين المكسيكيِّين. فقد أعطاني الله محبَّةً خاصَّة لأولئك القوم البُسطاء المتواضعين، وهم بدَورِهم أحبُّوا "البادري"، أيِ الأبَ الكاهن، وكانوا يركعون ويلثمون يده. هذا الاختبار أثَّر فيَّ وجعلني أتَّضع فعلاً.

بعد الكاتدرائيَّة، ذهبتُ لأشغل منصباً شاغراً في أبرشيَّة أُخرى بالضَّواحي، حيث كان العاملون إيرلنديِّين. وكان كاهنُ الأبرشيَّة الجديد شبهَ عاجز يعاونه ثلاثةُ مُعاوِنين، لكنْ سرعان ما تبيَّن لي أنَّ القائم بعمل كاهن الأبرشيَّة فعلاً إنَّما كان هو أُختَ المونسنيور، وقد كانت ربَّة المنـزل. فهي تفتح البابَ عندما يُقرَع، وتردُّ على المخابرات الهاتفيَّة، وتُحيل المتَّصلين على أخيها، سواءٌ طلبوه أو لم يطلبوه. وكان المطبخ وغرفة الطعام مُقفلَين دائماً، إلاَّ حينما تدعو ربَّةُ المنـزل إلى تناول الطعام. حتّى إنَّها ذات مرَّة طردت واحداً من الكهنة المساعِدين إلىخارج "مطبخها" شاهرةً سكِّينَ حَفْر، فاضطرَّته إلى استعمال كرسيٍّ للتفادي من طعنة السكّين.

بقيتُ في ذلك المحيط خمسة أعوام فيما صحَّةُ الكاهن المُسِنّ تزداد سوءاً. فأدَّى ذلك إلى تحمُّلي مسؤوليات الأبرشيَّة تدريجيّاً. وسواءٌ صدَّقتَ أو لم تُصدِّق، كسبتُ ودَّ مدبِّرة المنـزل وعطفها، فسارت الأمور حسناً طوال ما بقي لي من مُدَّةٍ هناك.

وسرعان ما علقتُ في دُوّامةِ ما أدعوه "هرطقة النشاط المفرِط"، الأمر الذي جعل حياتي الروحيَّة تتكبَّد العواقب. حافظتُ على قضاء وقتٍ في الصلاة قبل القُدّاس وبعده، وواظبتُ على تلاوة الصلوات اليوميَّة المفروضة على الكهنة. وكنتُ أُحضِّر عظاتي مساء السبت بناءً على التصميم الذي أعدَّته الأبرشيَّة. وقد تمتَّعتُ بالوعظ، بعدما تدربَّتُ على مخاطبة المشاعر في نطاق النفس. ولكنْ لم أتلقَّ أيَّ تدريب -كما لم تكُن لي أدنى فكرة- في كيفيَّة الخدمة بالروح أو التوجُّه إلى روح الإنسان. لقد جعلتُ الناس يشعرون شعوراً طيِّباً، وبذلك المقياس اعتُبِرتُ ناجحاً.

وإذ أستعيد ذكريات الماضي متأمِّلاً، أتذكَّر أمراً جرى بعد انقضاء خمس سنوات على مباشرتي لخدمتي الكهنوتيَّة. ذلك أنَّ الله حاول أن يتَّصل بي ويُرشدني بواسطة ولدٍ صغير، ولكنِّي لم أُلقِ بالاً إلى ما كان ذلك الولد يقوله لي. فقد كنتُ واقفاً أمام مبنى الكنيسة، وربَّما كنتُ أنتظر وصول موكب جنازة، وقدِ ارتديتُ الثوبَ المعدَّ لتلك المناسبة. ولم يكُن هناك سوى ولدٍ أسود صغير بدا أنَّه في الثالثة أو الرابعة من العمر. فمشى نحوي ودار حولي وهو يرمقني بعينيه الواسعتين. وأخيراً نطق فقال: "مَن أنت؟ أأنت واعظ؟" ثمَّ دار حولي ثانيةً، ونظر إلى عينيَّ مباشرةً، وقال: "أأنت مُخلَّص؟" لستُ أذكر ماذا كان جوابي له، أو ردُّ فعلي عليه؛ لعلَّهما تميَّزا بالشفقة أوِ التحامُل. فقد طرح عليَّ ذلك الولد الصغير أهمَّ سؤالٍ في الحياة، ولم تكن لي أدنى فكرة بِمَ يتكلَّم. واضحٌ أنَّه كان يفهم معنى كون المرء مخلصاً، وقد استخدمه الله ليُحاول جذب انتباهي، ولكنْ بلا جدوى. ولو كنتُ أعلم آنذاك ما تبيَّن لي بعد اثنتي عشرة سنة لاحقة، لكنتُ اعترفتُ لذلك الولد -صادقاً- بأنَّني غيرُ مخلَّص. وقد صار عمري خمساً وأربعين قبل أن أعرف معنى ما قاله لي ذلك الصغير، أي قبلَ أن أعرف معنى كون المرء مخلصاً أو مسيحيّاً مولوداً ثانيةً.

كنتُ قد طلبتُ نقلي، فإذا بي في منطقةٍ ريفيَّة زراعيَّة. وبُعيدَ ذلك استقبلتُ الراهبتين "إيفون" و"نون" في أبرشيَّتنا، في آب (أوغسطس) 1968. ومنذ لحظة لقائنا، نشأتْ أُلفةٌ فوريَّة بيني وبين الأُخت إيفون، وكأنَّنا صديقان منذ زمن بعيد. وقد بقيت علاقتنا محصورةً في نطاق الخدمة، وراقنا كِلَينا أن نتحدَّث ونتبادل الرأى في موضوعات شتّى.

وذاتَ يومٍ، في سياق حديثٍ عن كتاب، قلتُ للراهبة إيفون: "يا أُختاه، ما رأىك في تأديتي لواجباتي في الخدمة الكهنوتيَّة؟ أرجو أن تصدقيني القول بِلا مجاملة ولا وَجَل!" وإذا بجوابها عن سؤالي يصعقني ويصدمني، إذ قالت: "يا أبتِ، أراك قائماً بكلِّ الأمور الصحيحة، واسمعك قائلاً كلَّ الكلمات الصحيحة من المنبر، وأراك مؤدِّياً "دور الكاهن!" بكلمة أُخرى: رأتْ فيَّ تجسيداً لكاهن مثاليّ. ومع أنَّها لم تُدرِكْ كاملَ تأثير كلماتها، فقد كانت تلك نقطة التحوُّل في حياتي. فقد عنى لي قولُها لعبَ دورٍ على مسرح الحياة. أما قال شكسبير: "العالم كُلُّه مسرح"؟ مِن ثَمّ لم أعُد أُريد أن أكون كاهناً يؤدِّي دوره على مسرح الحياة، بل رغبتُ في الانكفاء عن المسرح بأسرعِ ما يمكن. وهكذا ابتدأت شهورُ معاناة طويلةٌ.

ثمَّ قرُب موعدُ آخر صفٍّ للراهبتين قبل عيد الميلاد، وكنتُ قد طلبتُ إلى الأخت إيفون أن تزوِّدني بجدول برامج السنة الجديدة. كان ذلك هو آخِر صفّ السنة 1968، وهي لم تُعطِني بعدُ الجدولَ الذي طلبتُه. وإذا بها تبحث في حقيبة يدها عن شيء، ثمَّ تسحب ظرفاً وتناولني إيّاهُ قائلةً: "ما كان عليَّ حقاً أن أقوم بهذا. ولكنْ يحقُّ لك أن تعلم!" وقد وجدتُ في الظرف رسالةً مؤرَّخة في أيّار (مايو) 1968 وهي موجَّهة إلى رئيس رهبانيَّتها "أخوات العائلة المقدَّسة". وفي الرسالة استقالتُها من الرهبنة. ولكنْ بما أنَّها قد نذرت نذورها لمدَّة سنة، فقد عرضت أن تُكمِل تلك السنة إنْ كان تركُها لا يُسبِّب أيَّ إزعاج. بهذه الطريقة أُرسِلَت إلى جبل "شاسْتا" بدلاً من الدير الكبير في خليج "سان فرنسيسكو" حيث كانت مُلحقة. وإذ قرأتُ هذه الرسالةَ التي تعني أنَّها لن تعودَ إلى أبرشيَّتي بعد، أخذَتِ الدموع تنهمرُ على خدَّيَّ، فقالت لي: "ما خطبُك؟" فقلتُ، على ما أذكر: "لستُ أدري. لعلَّها صدمةُ الخبر!" ثمَّ بدأ الأولاد يتوافدون إلى غرفة الصفّ، فغادرتُ ذلك المكان تاركاً إيفون في مواجهة صفِّها. وكان ذلك آخِر عهدي بها بضعةَ أسابيع، إذ رحلت إلى الدَّير في جبل "شاسْتا" ثانيَ يوم.

كان عيدُ الميلاد ذاك موحشاً وباعثاً على الكآبة لِما تساقط فيه من ثلوجٍ سبَّبت مشاكل كثيرة. ولمّا كان البعد يبعث لواعج الشوق، فقد كان عليَّ أخيراً أن أعترف لِلّه ولنفسي بأنَّني وقعت في حُبِّ إيفون. ولكنْ كان واضحاً أنَّها لم تكُن تميلُ إلى تطوُّر تلك العلاقة نظراً لكوني كاهناً ولتقديرها الكبير لدعوتي. فهي لم تكُن تريد أن تغدو مسؤولةً أمام الله عن حَملي على ترك الكهنوت.

طال عذابي، وصرختُ كثيراً إلى الله، طالباً إرشاده لي في الحياة: أعليَّ أن أترك الكهنوت أم لا؟ وهل أستطيع أن أُبدِّل دور التمثيل الذي نبَّهتني إليه إيفون؟ حاولتُ إرجاء قراري، فاستدعيتُ أفضلَ مُقيمٍ للرياضات الروحيَّة في محاولةٍ منِّي لإحداث نهضة روحيَّة في حياتي ولدى رعيَّتي. وأُقيمت الرياضة في أول أُسبوع من الصوم، إلاَّ أنَّني رأيت فيها "تمثيلاً" لدور عاقد الرياضات. فقد تردَّدَت أصداءُ الرسالة في الفراغ، إذ كانت خاوية وخالية من الإخلاص نحو الله. إذ كان لها "صورةُ التقوى"، أو مظهر التديُّن، على حدِّ ما يقولـه بولـس الرسـول فـي 2تيموثاوس 5:3 "لهم صورة التقوى، ولكنَّهم منكرون قوَّتها؛ فأعرِضْ عن هؤلاء!" إذ ذاك اتخذت قراري وحزمتُ أمري. ثمَّ كتبتُ إلى إيفون أُخبرها بقراري النهائي الذي لا رجوع عنه. وعرضتُ عليها أن نتحدَّث في الأمر إذ نتغدَّى معاً، فوافقَت. وقد تغدَّينا معاً في مكانٍ لن أنساه، في "كونكورد إنْ" على مقربة من مسقط رأسها "ابْلازَنت هِلّْ". واقنعتُها بأنَّني مغادرٌ الكهنوت بصرف النظر عن تطوُّر علاقتنا. ثُمَّ شعرتُ بأنَّني مدفوعٌ لأن أقول لها: "يا إيفون، أنتِ تركتِ الدَّير بملء اختيارك، فلماذا لا أستطيع أنا أن أترك الكهنوت؟" وفجأةً أدركت ماذا كانت تفعل بي فقالت: "آسفة؛ أنا مُخطئة في محاولة ثَنيِكَ عن قرارك. ولكنْ إنْ تركتَ، فعليك أن تفعل ذلك بمعزلٍ عنّي. عليك أن تعرف هل هذه مشيئة الله!"

ثمَّ كتبتُ إلى مطراني وأطلعتُه على قراري، وطلبتُ إليه إن يرفع لي التماساً إلى روما لعلَّها تسمح لي بمغادرة الكهنوت والتزوُّج في الكنيسة الكاثوليكيَّة. وفي الأخير رُفع ذلك الالتماس إلى رئاسة الأساقفة في "سان فرنسيسكو"، وقد ضمَّنتُه خبرَ تدبيرِ كاهنٍ للحلول محلِّي في الأبرشيَّة مُدَّةَ شهرين بعد مغادرتي. ثمَّ توجَّهت إلى خليج "سان فرنسيسكو" ومعي حاجيّاتي القليلة في مقطورة صغيرة جرَّتْها سيّارةُ الأبرشيَّة. وتوقَّفت لأُقابل مطران أبرشيَّة "ساكرامنتو" وأوكِّد له أنِّي سأُعِدُّ الترتيبات اللازمة لإعادة سيّارة الأبرشيَّة إلى مكانها. إلاَّ أنَّه طلب منِّي دفتر السيّارة وكتب اسمي عليه، ثمَّ ردَّه إليَّ قائلاً: "مبروكةٌ لك هذه السيّارة. إنَّها مِلكُك الآن، وأنت تحتاج إليها". ولَسوف أذكرُ دائماً هذه البادرة الطيِّبة!

وصلتُ إلى "أوكلاند" حيث كان لإيفون شقَّةٌ قربَ بحيرة "ميرِّيتّ"، فشغلتُ تلك الشقَّة، وانتقلت هي إلى منـزل والدتها في "ابْلازَنْت هِلّ". وقد كان ذلك المكان وادِعاً وهادئاً، وكأنَّه مُنتجَعٌ باشْرتُ فيه فترةَ نقاهة بعد الصدمة المريعة التي أعقبت قراري النهائيَّ. وطويتُ أيامي أصلِّي لأجل وظيفة وأملأُ الطلبات، إلى أن أعطاني ذاتَ يومٍ صديقٌ يعمل في "قسم مراقبة آلاميدا" طلب وظيفة ورد إليه من مقاطعة "سيلوزا". فملأتُ ذلك الطلب وأرسلتُه بالبريد، واستُدعيتُ إلى مقابلة، وحصلتُ على الوظيفة.

تزوَّجْنا، أنا وإيفون، وانتقلنا إلى مدينة سيلوزا. وأخيراً حصلتُ على إعفاءٍ رسميّ، وباركَتِ الكنيسةُ الكاثوليكيَّة زواجنا. وقد حصلت إيفون على وظيفة إداريَّة في جمعيَّة التعليم المسيحيِّ التابعة للأبرشيَّة. أرجو ألاَّ يفوتك أننا كُنّا كاثوليكيِّين ملتزِمَين، وقد عقدنا عزمَنا على أن نبقى كذلك. ولكنْ كُلَّما رجعنا إلى البيت من حضور القُدّاس، كُنّا نشعر باليبوسة والجفاف عطشاً وجوعاً إلى الحقِّ الألهيّ، إلى طعامٍ روحيٍّ نمضغه ونهضمه؛ إنَّما بدا لنا أنَّنا لن نجده. وكان الله قد رزقنا وظيفتين ومنـزلاً جميلاً ثُمَّ ابنةً عزيزةً سمَّيناها "كالي آن"، فنعمنا بالسعادة وغمر قلوبَنا العرفان بجميل الله من أجل جميع إحساناته إلينا. غير أنَّنا ظلَلْنا نَنشد علاقةً بالله أمتن وأوفر معنىً.

وذات يومٍ حصلنا على كتابٍ عن رجُلٍ ولد ثانيةً بالروح القدس، فان ذلك جديداً علينا بجملته. وقد تضمَّن الكتاب شهادة ذلك الرجل بشأن حياته ولقائه مع الله. بعد مدَّة قصيرة تَلَت قراءتَنا لذلك الكتاب، دُعِينا لحضور اجتماعٍ قدَّمت فيه إحدى النِّساء شهادتها لقدرة الله على الخلاص ورَوَت كيف وُلِدت من جديد. وقد شعرتُ أنَّ الربَّ لمس قلبي وتحدَّث إليّ. وعندما أُلقِيَتِ الدَّعوة للتقدُّم إلى الأمام، احزُر من تقدَّم أولاً؟ صحيح، فِنسَنت وإيفون! وقد صلَّينا طالبَين أن يسود الربُّ على كلِّ ناحية من حياتنا، وفي الحال بدأنا نلمس الفرق. وأعتقد أنَّني في تلك اللحظة وُلِدتُ ثانيةً وحصلتُ على يقين الخلاص والسلام بمغفرة خطاياي. ثمَّ أصبح لحياة الصلاة عندنا معنىً وواقعٌ أوفرُ وأوفى. كما أنَّ الكتاب المقدَّس، كلمة الله الحيَّة، بدأ يتكلَّم إلينا وغدا أغنى معنىً إذ شرعْنا في دراسته وقراءته.

ثُمَّ باشرْنا حضور صفٍّ لدراسة الكتاب المقدَّس، وأخذنا نتعمَّق في كلمة الله أكثر فأكثر، فبدأنا نكتشف أنَّ كثيراً ممّا قد تعلَّمناه في الكثلكة لا يوافق كلمة الله. وخُلاصة القول أنَّ كنيسة روما الكاثوليكيَّة تُعلِّم بإنجيل أعمال (أي الخلاص بواسطة مجهودات الإنسان الشخصيَّة في سبيل الخير والصلاح وتأدية فروض التوبة، وكأنَّ الربَّ يسوع المسيح لم يؤدِّ عقوبة الخطيَّة بسفك دمه على صليب الجلجثة). والحالُ أنَّ أفسس 8:2و9 توضحان بكلِّ جلاءٍ أنَّ الخلاص عطيَّة مجّانيَّة من عند الله تُقبَل بالإيمان: "لأنكم بالنعمة مخلَّصون، بالإيمان، وذلك ليس منكم؛ هو عطيَّة الله؛ ليس من أعمال، كيلا يفتخر أحد".

من ثَمَّ تأكَّدت لنا حاجةُ الكاثوليك لأنْ يفصلوا أنفسهم عن ضلال الكثلكة، مثلما فعلنا نحن. وقد بارك الربُّ يسوع حياتنا حقاً ونحن نسعى في خدمته. ولم نكُن يوماً أسعدَ ممّا نحن الآن. كما أنَّ الربَّ باركَنا بإعطائنا ابنتَين جميلتين، وفتح أمامنا عدَّة أبواب لخدمة الكلمة والصلاة لأجل الناس.

صلاتُنا لأجل كلِّ مَن يقرأون هذه الشهادة أن يعرفوا الربَّ وقوَّة قيامته (فيلبِّي 10:3). فلماذا لا تطلب الربَّ يسوع من كلِّ قلبك. هلاَّ تَقبلُ أنَّه هو وحده المخلِّص من دون سواه! لقد مات كي يتسنّى لك أن تحيا، كما تشهد كلمتُه بالذات: "... البارُّ من أجل الأثمة، لكي يقرِّبنا إلى الله" (1بطرس 18:3).

وختاماً، ها هُنا دُعاءٌ إيرلنديٌّ قديم لأجلك: "عسى أن يُسعِفَك الطريق على المسير، وأن تكون الريحُ وراء ظهرك دائماً، وأن تصلَ إلى السماء قبل زمنٍ طويلٍ من معرفة إبليس بأنّك قد مُتَّ!"

(الكاهن المولود ثانيةً: فِنسَنت أُوشاوغنيسِّي)

  • عدد الزيارات: 3382