غرابة طرق الله
كثيرا ما لا نفهم تعامل الرب معنا.. نتوقع حدوث امر، يحدث آخر.. نتوقع ان يعمل الرب بطريقة ما، لكنه يفاجؤنا واحيانا يصدمنا، فيفعل ما لا نتوقعه ويتعامل بطريقة غريبة لم تخطر على بالنا.. فنتحيّر ونستغرب ونتخبط ونحتد، لكن الرب يبقى هادئا صامتا، كأنه لا يبالي او لا يهمه الامر، وبعد فقدان الامل، نراه يدخل المشهد ويتصرف بشكل يخيفنا او يغيظنا او يحيّرنا.. فلا يتصرف عندما نتوقع ذلك، واحيانا لا يتدخل، ولما يتصرف، يتعامل بطريقة لم ننتبه اليها وكثيرا ما لا تعجبنا.
وتدور افكار شتى في خلدنا وتجول تساؤلات محيرة عديدة، منها مثلا : لماذا يبقى الرب صامتا عندما تكون الحاجة ملحّة الى تدخله العاجل؟ ولماذا لا يتصرف بالطريقة التي نتوقعها؟ ولماذا يستخدم امورا لا يقبلها المنطق البشري؟.. وفي الكتاب المقدس مثلا، لو كنا زمن بطرس لتحيرنا وصدمنا واستغربنا كيف اسلم يسوع نفسه، هذا الذي صنع المعجزات والعجائب، القوات والغرائب!. وكان بطرس يظن في قلبه موقنا ان يسوع لن يموت، وكل لحظة كان يتوقع ان يفاجئه يسوع بانقاذ نفسه.. كان متأكدا ان الله لن يسمح بموت يسوع. وكان غريبا حقا ان يسوع المخلص والمنقذ يصلب ويموت ويدفن!...
واليوم تحدث في مناطق مختلقة من العالم امورا غريبة حقا.. ونستغرب كيف يبقى الرب القدير المحب صامتا وهادئا كل الهدوء والعالم يتخبط واولاده ضحية الظلم والعبثية المطلقة غير الآمنة...ويقوم الشرير يعبث فسادا في كل مكان وينجح في بث سمومه وتحقيق مرامه. ويبقى السؤال: لماذا يحترق البار في كبرياء الشرير؟ .. ونعلم ان الله صاحب السلطان المطلق في هذا العالم، فلماذا يحافظ على هدوء تام وصمت مطبق ولا يحرك ساكنا امام الظلم والشر والطغيان؟؟!!. لماذا لا يضع حدا لكل هذا الاستبداد والجور ببنت شفة واحدة، هو الذي اوجد الكون بكلمة؟.. يمكننا ان نغوص في بحر من التساؤلات المربكة، ونقف حائرين مشدوهين، ندمع تارة، ونحتد تارة اخرة، ثم حين نتعب من التفكير العميق، نستغرق في النوم الى صباح اخر نحاول فيه من جديد ان نبتسم، لكن تعود تلك الافكار والمعضلات، التي امام صرخاتها المرة، تسبح السماء صامته في سكينة عميقة.. كأن ساكن الابد يهمس في آذاننا قائلا هدّئ من روعك.. لن تفهم الان ما انا افعل.. لكن ثق .. انا سيد عادل وحكيم وجالس في عرشي، لن يحدث الا ما اريده انا، الذي اخيرا سيعمل لخير شعب الرب الابدي...
ويصرخ النبي حبقوق مشتكيا من ظلم وشر شعبه، ويتسائل لماذا لا يفعل القدير شيئا ولمَ يقف ساكنا امام العنف والتعنت؟ .... وبعد ان تحيّر النبي اياما بل شهورا، يفاجئه الرب برد فعل السماء... اذا بشعب جائر وزائر وفائر لا يعرف الرب ، شعب كثير وخطير يغزو شعب الله، يعنّف الرجال والاطفال ويغتصب النساء ويهين الشيوخ وينفث تهديدا وقتلا.. وهنا يقف النبي حبقوق مشدوها محتارا ، متململا، غريب حقا، في البداية وقف القدير صامتا امام جور وشر شعبه، وها الان يرسل الرب شعب قاحما وظالما لا يخاف الله ليؤدب شعبه... لماذا لا يخطو الرب عندما دعت الحاجة ولماذا يتدخل بهذه الطريقة الغريبة والمستهجنة....
ما هو جواب الله على حيرة النبي؟! وما هو جواب الرب على ما يحدث من ظلم في العالم ؟!
طبعا نحن البشر نعلم ذرة من مجرة و نقطة من بحر، نعلم اليسير مما يدور في خلد الخالق، اي اننا تقريبا لا نعرف شيئا من المعرفة المطلقة.. ما اندر واحقر ما يعرفة البشر من الكون!.. والله يريدنا ان نحسم الامر ونطمئن من حقيقة لا ريب فيها وهي ان الله حكيم لا يزلّ قيد انملة، فحكمته مُحكَمة ودقيقة وكاملة، وعدله تام لا جور فيه، وهو لا يظلم احدا. وما نراه ظلما وقسوة، هما في الحقيقة غير ذلك، هما حكمة ربانية وخير للبشر... ربما نجد صعوبه في ادراك ذلك ، لكن العيب ليس في المصمّم بل في الالة المحدودة وهي تظن انها تعي كل شيء واحيانا تحتقر حكمة الله وتدّعي انها تفهم اكثر من الاخرين.. اغقر لنا يا رب تطاولنا وغباوتنا وادخال انفنا فيما لا يعنينا.. والحقيقة ان الله متحكم ومسيطر على كل الامور وهو جالس في عرشه، لا حاجة لينهض مهرولا وكأنه فقدَ زمام الامور بل يده القديرة ممسكة بالكواكب ومسيطرة على المصائب ولن يحدث الا ما هو صائب.. ربما يعترض الانسان على حكمة الله لكن الله لا يعطي تقريرا لمخلوقاته، ولا يدع اموره تفحصها عقول كائنات تحتاج الى رحمة خالقها.. والله لا يحتمل الجور، اكثر بما لا يقاس من عدم احتمال الانسان لذلك... فاذا انزعج الانسان الذي يشرب الاثم كالماء من الاثم والظلم، أ يقبل القدير القدوس البار ذلك؟! حاشا.. لا تشكك في حكمة وقدرة وطهارة الرب القدير.. ربما لا يدرك عقلك المحدود طرق الله، الممحصة سبع مرات ويجدها غريبه ومحيرة..
وبدلا من الاعتراض والتذمر لنسمع، ما هي الدروس من كل هذا...
يريد الرب ان يكتشف الانسان محدوديتة، ويصحو على حقارة ادراكه امام عظمة القدير في حكمته وقدرته وامانته.. ويعترف بضآلته امام عظمة خليقة الله.. بالاضافة الى ذلك، يكتشف الانسان طبيعته وشره المطبق. فبدل اتهام الله وفحص طرقه، كان عليه بالحري الانتباه الى اثمه، فالبشر بلا استثناء اشرار وخطاه امام قداسة الله وطهارته ... كما اعترف النبي عزرا قائلا .. نحن اشرار وانت يا رب بار في كل ما تفعل..... والحقيقة التاليه هي ان الله حر وصاحب الارادة المطلقة ان يتصرف متى وكيف هو يرى الامر مناسبا، فهو لا يحتاج الى نصائح البشر وآراء الانسان وضغط الخطاة.. واهم من كل هذا، دعنا نقف بصدق امام هذا التساؤل الذي يستغربه الله ايضا. لماذا، امام كل ما يحدث من مصائب وفظائع رهيبة، لماذا يبقى الانسان غير مستعد على ان يراجع نفسه ويعيد النظر من جديد في افكاره واعتقاداته؟؟؟!! هل التقليد والعقيدة هما وحي غير قابل للفحص؟!.. لماذا لا يتضع الانسان ويفحص طرقه ومفاهيمه من جديد؟، ربما يكون زائغا عن الحق وهو لا يعلم.. أ ليست الظروف القاسية صوت من الله الى الانسان ليعيد النظر في افكاره؟ .. وكأن الانسان يريد ان يقيّد الله بافكاره هو. ويتوقع من الله ان يلتزم ويتصرف في حدود تقكيره المحدود. هذا غريب حقاً! كل واحد من ملايين البشر له افكاره الخاصة، وكل واحد يعتقد ان افكاره صحيحة وصائبة، ولا احد يريد ان يغيّر افكاره مهما حدث، وكأنه يريد ان يسير الله القدير بحسب افكاره، أ ليس غريباً حقاً ؟.. ان الساكن في السماء يضحك، وهو لن يغيّر افكاره مهما ضغط او سخط الانسان ومهما امتعض او رفض.. يبقى الله لا يتغير، وهو يدعو الانسان ان يغير افكاره ويتغير. وعلى الانسان ان يكف ويحطط عن بغلته. عليه بالحري ان يلائم افكاره مع افكار الله وليس بالعكس.. من المستحيل ان يسير الله بحسب افكار وتوقعات البشر.. فالانسان يصر على افكاره، ومع انه يتألم ويعاني ويتخبط، لكنه غير مستعد مرة ان يغيّر مسلّماته ومعتقداته... والحقيقة ان التخبّطات والاضطهادات هما فرصة للامناء لكي يمارسوا ايمانهم وثقتهم اليومية في الههم.. لا شك ان الالام والضيق والمحن هم لتمحيص وتنقية اولاد الله وتزكية ايمانهم، وهم اثبات وبرهان على استحقاق المتألم لرضى الرب..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
- عدد الزيارات: 6880