العهد الجديد نص موثوق
إن هذا هو ثاني فصل هام في الكتاب (بعد الفصل 3). فإن كان الله موجوداً (الفصل 3)، فالمعجزات ممكنة (الفصل 4). وبما أن المعجزات ممكنة، فيمكن أن تأتي لتأكيد رسالة من الله (الفصل 5). ولكن هل وُجدت رسالة من الله؟ الجواب على ذلك متعلق إن كانت نصوص العهد الجديد موثوقة تاريخية. فإن كانت موثوقة، فلدينا إذاً رسالة، أي، أن الله قد تجسد وعاش بيننا (الفصل 7)، ولدينا سجل موثوق تاريخياً للمعجزات التي تؤكد أن الرسالة من الله (الفصل 8). بما أن كل ذلك متعلق بموثوقية العهد الجديد، فمن الهام أن نفحص الدليل على موثوقيته التاريخية.
موثوقية مخطوطات العهد الجديد
ثمة خطان أساسيان يدعمان موثوقية مخطوطات العهد الجديد. الأول، أنها كانت تُنسخ بدقة عبر السنوات. والثاني. أن الأشخاص الذين دونوا التعاليم والأحداث فيها كانوا شهوداً وكتاباً موثوقين. باختصار: (1) نحن لدينا مخطوطات منسوخة وهي أكثر موثوقية من أي كتاب آخر من العالم القديم. (2). الذين دونوا الأحداث والتعاليم في هذه المخطوطات كانوا كتاباً موثوقين أكثر من أي كتابٍ آخرين لأحداث أخرى في ذلك العصر. وهذا يتضح من عدد الكُتَّاب، وقربهم من الأحداث، والاثبات الذي نجده في مصادر أخرى، والتأكيد التاريخي والأثري للأحداث المروية في كتاباتهم.
عدد مخطوطات العهد الجديد
إن عدد مخطوطات الكتاب المقدس وفير العدد وكثير مقارنة مع الكتب العامة من العصور القديمة التي لها ما بين عشرة على عشرين نسخة مخطوطة فحسب. خلافاً للعهد الجديد الذي يوجد له حوالي (5800) مخطوطة باليونانية باقية. وأكثر كتاب له مخطوطات هو الإلياذة لهومر بعدد (643) مخطوطة.[88] وهذا ما يجعل العهد الجديد أكثر الكتب المؤيدة نصياً من العصر القديم.
التاريخ المبكر لمخطوطات العهد الجديد
إن الفجوة العامة بين زمن التأليف وبين أقدم مخطوطة لكتاب من العالم القديم هي ما يقارب من ألف سنة. وعلى النقيض من أقدم مخطوطة لا خلاف فيها لكتاب من العهد الجديد، «بردية يوحنا ريلاند» (P52)، التي يعود تاريخها لسنة 117 ـ 138 م. وهي باقية من فترة جيل على تاريخ كتابته حسب العلماء (حوالي 95 م). وبما أنها كُتبت في أسيا الصغرى واُكتشفت في مصر، فهذا يتطلب بعض الوقت للانتشار الذي يضع تأليف يوحنا في القرن الأول. وتحتوي «بردية بودمِر» على كتب العهد الجديد، التي تعود إلى سنة 200 م، وبعد ما يزيد قليلاً عن 100 سنة على اكتمال العهد الجديد. وأغلب العهد الجديد، بما في ذلك الأناجيل متوفر في برديات «تِشتر بيتي» بعد 150 سنة على اكتمال العهد الجديد (حوالي سنة 250).
وقد كتب السير فرِدريك كينون، عالم المخطوطات البريطاني البارز، «إن الفاصل بين تواريخ التأليف الأصلي وأبكر دليل باق هو من الصغر بحيث أنه يمكن أن يعتبر ضئيلاً في الواقع، وآخر أساس للشك في الكتب المقدسة يزال على ضوء حقيقة أنها وصلت إلينا بشكل كبير كما كانت مكتوبة». وبهذا، «فإن كل من الموثوقية والسلامة العامة لكتب العهد الجديد بالوسع القول إنها لها أساس متين». ولا يوجد أي كتاب آخر في العالم القديم لديه هذه البرهة الصغيرة (بين التأليف وأقدم نسخ المخطوطات) مثل العهد الجديد.
دقة العهد الجديد
وأكثر من ذلك، ليس فقط أن مخطوطات العهد الجديد أكثر، بل أنها محررة بدقة أكبر من أي كتب أخرى من العالم القديم. وقد قام بروس مِتزجِر، المتخصص الكبير في العهد الجديد، وبروفيسور من برنستون، بعمل مقارنة بين إلياذة هومر، ومهاباراتا الهندوسية، والعهد الجديد، فوجد أن نص المهاباراتا يمثل فقط 90% من الأصل (مع 10% تحريف بالنص)، والإلياذة هي 95% لا شائبة فيها، في حين وضع بالشك فقط نصف الواحد من المئة من العهد الجديد. بينما يقدر عالم مادة اليونانيات أن الجزء الذي يمكن أن يثير سؤال النقد النصي هو «جزء واحد من الألف من كامل النص».[89] وهذا يضع دقة نص العهد الجديد عند 99.9% ـ أي أفضل ما هو معروف لأي كتاب في العالم القديم.[90]
بالإضافة، فإن أجزاءً هامةً من بعض الكتب القديمة مفقودة. «فعلى سبيل المثال، 107 من كتب ليفي [Titus Livius] الـ 142 عن تاريخ روما مفقودة. وكما بقي نصف كتاب تاسيتوس التواريخ والحوليات فقط».[91] في حين أن كل كتب العهد الجديد محفوظة، وليس أي جزء هام مفقود. وبالواقع، لاحظ السير فرِدريك كينون أن «أعداد مخطوطات العهد الجديد، وترجمتها المبكرة، والشواهد من كتابات آباء الكنيسة القدماء، واسعة ويؤكد عملياً أن القراءة الصحيحة لكل مقطع محل شك محفوظ بشكل ما أو آخر في هذه المرجعيات القديمة. وهذا الأمر لا يمكن قوله بشأن أي كتاب قديم في العالم».[92]
تأكيد آباء الكنيسة الأوائل على مخطوطات العهد الجديد
يوجد أكثر من (19.368) اقتباساً من الأناجيل لوحدها في كتابات الآباء. ومن ضمنها:
- (268) لجاستن الشهيد،
- و(1.038) لأيريناوس؛
- و(1.017) لأكليمندس الأسكندري؛
- و(9.231) لأوريجانوس؛
- و(3.822) لترتوليان؛
- و(734) لهيبوليتوس؛
- و(3.258) ليوسيبيوس.[93]
وحتى قبل هؤلاء العلماء، كان ثمة اقتباسات من كتاب أقدم في الكنيسة. فلدينا بسيدوبرنابا (70 ـ 130م)، الذي اقتبس من متى، ومرقس، ولوقا. وكلمانت الروماني (حوالي 95 ـ 97) الذي اقتبس من متى ويوحنا، وكورنثوس الأولى. وإغناتيوس (حوالي 110)، الذي أشار إلى رسائل بولس (6) مرات. وبوليكاربوس (حوالي 110 ـ 150)، الذي استشهد من الأناجيل الأربعة، وسفر الأعمال، وأغلب رسائل بولس. والراعي لهرماس (115 ـ 140) الذي يورد متى، ومرقس، وأعمال الرسل، وكورثنوس الأولى، وكتب أخرى. والديداخي (حوالي 120 ـ 150) الذي يشير إلى متى، ولوقا، وكورنثوس الأولى، وكتب أخرى.
كما أن بابياس رفيق بوليكاربوس، الذي كان تلميذ الرسول يوحنا قد اقتبس من إنجيله.
وهذا يظهر أن الأناجيل كانت موجودة من قبل وكان يُستدل بها، مما يعني أنها كانت موجودة قبل نهاية القرن الأول حينما كان بعض شهود العيان (مثل يوحنا) ما زالوا على قيد الحياة. وبالإضافة إلى ذلك، بما أن بعض هؤلاء الكتاب كانوا على تشابك مع آخر سفر للعهد الجديد ـ أي إنجيل يوحنا، الذي يعتقد أنه على نطاق واسع أنه يعود لحوالي سنة 90 م، فهذا يزيل عملياً أي فجوة بين كتابة العهد الجديد وأقدم الشواهد عليه.
موثوقية رواية العهد الجديد
ليس ثمة تراث قوي من المخطوطات يدعم نتيجة أن النص الحالي للعهد الجديد يمثل بدقة شديدة فحسب الأصل، بل أيضاً يوجد وفرة من الأدلة التي تشهد على حياة المسيح وتحتوي بالتالي على قصة موثوقة بشكل كبير. وهذا مدعوم بحقائق وجود (27) كتاباً من العهد الجديد، والكتب المبكرة، القائمة على شهادة شهود، ومؤكدة من مصادر تاريخية أكثر من أي كتاب آخر في العالم القديم.
تاريخية سفر الأعمال
إن تاريخ وموثوقية سفر الأعمال لهو هام لتاريخية المسيحية المبكرة، وكذلك، للدفاع عن المسيحية بالعموم. فإن كان سفر الأعمال قد كُتب قبل سنة 70 م عندما كان الشهود العيان على قيد الحياة، فله قيمة تاريخية كبيرة في إخبارنا عن العقائد المسيحية المبكرة. وبالإضافة إلى ذلك، إن كان سفر الأعمال كُتب من جانب لوقا، رفيق الرسول بولس، فهذا ما يضعه في الدائرة الرسولية للتلاميذ الأوائل ليسوع.
وإن كان سفر الاعمال قد كُتب سنة 62 م (التاريخ التقليدي)، ففي هذه الحالة يكون قد كتبه أحد معاصري يسوع (الذي صلب سنة 33 م). لا حاجة للقول، أنّ له قيمة تاريخية عظيمة. وإنْ تبيّن لنا أن سفر الأعمال كان دقيقاً تاريخياً، فهذا يعطي المصداقية لرواياته التي تدور حول أغلب العقائد المسيحية الأساسية في المعجزات (أعمال 2: 22)، والصلب (أعمال 2: 23)، والقيامة (أعمال 2: 23، 29 ـ 32)، وصعود المسيح (أعمال 1: 9 ـ 10). علاوة على ذلك، فإن كان لوقا هو كاتب سفر الأعمال، فإن «اَلْكَلاَمُ الأَوَّلُ» (1: 1)، في إنجيل لوقا يجب أن يتمتع بنفس المصداقية التي في سفر الأعمال.
الدليل على التاريخ المبكر لسفر الأعمال
يعدّد كولينز هـ. هِمِر،[94] (17) سبباً لقبول التاريخ المبكر التقليدي لسفر الأعمال خلال حياة معاصري الأحداث. وهذا يدعم بقوة تاريخية سفر الأعمال، وبشكل غير مباشر إنجيل لوقا، الذي كتبه لوقا (قارن: لوقا 1: 1 ـ 4 وأعمال 1: 1).[95]
ويكفي أول خمس حجج من كولنيز هـ. هِمر للتدليل على أن سفر الأعمال كُتب في سنة 62م:
- لا يذكر سفر الأعمال الحدث التاريخي الهام الخاص بسقوط القدس سنة 70 م، مما يضعه قبل هذا الحدث.
- وليس ثمة أي تلميح على اندلاع الحرب اليهودية سنة 66م أو أي تدهور خطير أو واضح للعلاقة بين الرومان واليهود، ما يعني ضمناً أنه كُتب قبل هذا التاريخ؛
- ليس ثمة من تلميح للتدهور المباشر في علاقة المسيحيين مع روما التي كان فيها اضطهاد نيرون أواخر الستينات؛
- بما أن الرسول بولس كان على قيد الحياة (أعمال 28)، فيجب أن يكون سفر الأعمال كُتب قبل موته (بحدود 65 م)؛
- وأخيراً، ليس ثمة من تلميح إلى موت يعقوب على يد السنهدرين في حدود سنة 62، الذي أرخ له يوسيفوس (Antiquities 20.9.1.200).[96]
لو قال شخص أن سفر الأعمال مكتوب بعد سنة 65 م، فنسأله، لنفترض أن شخصاً كتب سيرة حياة الرئيس جون ف. كيندي بعد سنة 1965 (عندما تم اغتياله) ولكنه لا يذكر موته. فإن كان حدث بهذه الأهمية قد حصل، فهو من الأهمية بحيث لا يمكن أن يتم التغاضي عنه في كتابة سيرة الحياة. وبالمثل، فإن كتاباً مثل سفر الأعمال لو كان قد كُتب بعد موت الرسول بولس (حوالي 65) أو بعد دمار أورشليم (70 م)، فكان لا بد أن يذكر مثل هذين الحدثين الهامين.
الدليل على أن كاتب سفر الأعمال هو مؤرخ من الطراز الرفيع
بالإضافة إلى البراهين على التاريخ المبكر لسفر الأعمال، فإن هِمِر أظهر أن كاتب السفر هو مؤرخ من الطراز الأول. وهذا يتضمن التالي:
(1) عناصر التفاصيل التاريخية وما شابه الذي يفترض أنها معروفة بالعموم؛
(2) المزيد من التفاصيل المتخصصة، التي ما زالت معروفة لأصحاب الخبرة في مجالاتهم: ألقاب حكام الأقاليم، الوحدات العسكرية، الطرق الرئيسة، الخ، التي كان يمكن للذين يسافرون أو والمشتركين في الإدارة أن يصلوا إليها، ولكن ليس للذين ليس لهم هذه الخلفيات؛
(3) تفاصيل الطرق المحلية، الحدود، ألقاب قضاة المدن، وما شابه، والتي لا يمكن أن تكون تحصلت في كتاب التاريخ، ولا يمكن لكاتب لم يزر هذه المناطق أن يعرفها؛
(4) ترابط تواريخ الملوك والحكام المعروفين مع التسلسل الزمني الظاهر لإطار سفر الاعمال؛
(5) التفاصيل المناسبة لزمن تاريخ بولس ولكنها غير مناسبة لظروف تاريخية أخرى وبالأخص اللاحقة؛
(6) «مصادفات غير مخططة» بين سفر الأعمال رسائل بولس الصحيحة؛
(7) يوجد ترابط كامن داخل سفر الأعمال؛
(8) تفاصيل موثقة بشكل مستقل، والتي تتطابق مع النص الإسكندراني بمقابل النص الغربي (أو بالعكس) وهي قد تكون على صلة بمراحل في التقليد النصي لسفر الأعمال؛
(9) مسائل متعلقة بالمعرفة الجغرافية العامة أو ما شابه، المذكورة، سوءاً بشكل غير رسمي أو بشكل تلميحي، مع دقة غير مدروسة ما تظهر الإلمام؛
(10) اختلاف في الصيغ داخل سفر الأعمال مؤشر محتمل على اختلاف فئات المصادر؛
(11) خصوصيات في اختيار التفاصيل، مثل إضافة تفاصيل غير هامة لاهوتياً، ولكنها قابلة للتفسير على أنها تركز على الموضوع التاريخي؛
(12) وبناءً على الحالة الخاصة السابقة، فالتفاصيل «المباشرية» تشير إلى إعادة انتاج المؤلف للتجربة الأخيرة والتي هي أقل قابلية للتفسير كنتيجة لفترة طويلة من إعادة الصياغة المتأملة؛
(13) إن البنود تعكس ثقافة وتعابير تشير إلى أنها من مناخ القرن الأول أكثر من القرن الثاني؛
(14) إن الترابط معقد وفيه نوعان من العلاقة في ترابط، أو التفاصيل المتعلقة تظهر كل واحدة علاقات منفصلة، وهي تعطي إمكانية بناء لوحة من إعادة تركيب قطع ألغاز لوحدات متشابكة.
(15) حالات يوفر فيها الاكتشاف والمعرفة ببساطة خلفية جديدة للمعلومات في متناول الشارحين من كل مشرب، وهي لا تؤثر على مسألة تاريخ السفر؛
(16) إن التفاصيل الدقيقة التي تدخل في نطاق الممكنات المعاصرة، ولكن ليس لدينا الوسائل لفحص دقتها الخاصة بطريقة أو أخرى.
بالإضافة إلى ذلك، يظهر كاتب سفر الأعمال معرفة تفصيلية بالأسماء التاريخية، والأماكن، والأشخاص، والأحداث مثل اللقب الدقيق للإمبراطور (أعمال 25: 21، 25)، والحقائق العامة على الملاحة وإمدادات الذُرة، وتضاريس يهوذا، والتسميات السامية التي يُعلق عليها أو يشرحها (أعمال 1: 12، 19، الخ)، بينما لا يقوم بذلك بشأن المؤسسات اليهودية الأساسية (أعمال 1: 12، 2: 1، 4: 1 الخ). ويظهر لوقا معرفة خاصة بتضاريس أورشليم. حيث يعطي (في أعمال 12: 4) تفاصيل حول تنظيم الحرس العسكري وفي أعمال 16: 8 وما يليها يقر بالدور الذي لعبه تراوس في منظومة الاتصالات. وفي أعمال 17: 1؛ فإن أَمْفِيبُولِيسَ وَأَبُولُونِيَّةَ معروفتان على أنهما محطتان (من المحتمل أنهما محطتا توقف ليلي) على طريق اغناتيان من فيلبي إلى تسالونيكي. ويحتوي الإصحاحان 27 ـ 28 من سفر الأعمال على تفاصيل جغرافية وتفاصيل ملاحية للرحلة إلى روما، والتي سيتم الإشارة إليها تحت عناوين أكثر تحديدياً.
كما يظهر لوقا معرفة بمجموعة لا تصدق مع الأماكن المحلية، والأسماء، والظروف، والعادات، والحالات التي تناسب فقط شاهد عيان معاصر للوقت والأحداث. وكل ذلك أثبتته الأبحاث التاريخية والأثرية على أنها صحيحة بخصوص الأشخاص، والعصور، والأماكن التي ذكرها لوقا. وهي تتضمن المعرفة التالية:
(1) عبور طبيعي بين موانئ مسماة بشكل صحيح (أعمال 13: 4 ـ 5)؛
(2) اسم ميناء (بَرْجَةِ) على طول طريق السفن القادمة من قبرص (13: 13)؛
(3) المكان الصحيح لـ «لِيكَأُونِيَّةَ» (14: 6)؛
(4) تصريف اسم لِسْتِرَةَ غير المعتاد ولكنه الصحيح (14: 6)؛
(5) اللغة المحكية الصحيحة في لِسْتِرَةَ، وهي الليكاونية؛
(6) اسم إلهان معروفان بارتباطهما ببعض (زيوس وهِرمس)؛
(7) اسم ميناء أَتَّالِيَةَ الذي يستخدمه المسافرون العائدون (14: 25)؛
(8) الترتيب الصحيح عبر دَرْبَةَ ثم لِسْتَرَة من مداخل القليقية (16: 1)؛
(9) الصيغة الصحيحة لاسم تَرُوَاسَ (16: 8)؛
(10) مكان العلامة الواضح للبحارة، سَامُوثْرَاكِي (16: 11)؛
(11) الوصف الصحيح لـ: فِيلِبِّي على أنها مستعمرة رومانية [كُولُونِيَّةُ] (16: 12)؛
(12) المكان الصحيح لنهر (غانغيتِس) القريب من فِيلِبِّية (16: 13)؛
(13) الوصف الصحيح لـ: ثَيَاتِيرَا على أنها مركز الصباغة (16: 14)؛
(14) الألقاب الصحيحة للولاة والمستعمرة (16:22)؛
(15) المكان الصحيح (أَمْفِيبُولِيسَ وَأَبُولُونِيَّةَ) حيث كان يقضي المسافرون ليال متعاقبة في هذه الرحلة (17: 1)؛
(16) وجود مجمع اليهود في تَسَالُونِيكِي (17: 1)؛
(17) لقب « politarchs» بشأن الولاة هناك (17: 6)؛
(18) الدلالة الصحيحة على أن السفر البحري هو الطريق الأسهل لبلوغ أثينا مع تفضيل الريح الشرقية للإبحار (17: 14)؛
(19) امتلاء مدينة أثينا بالأصنام (17: 16)؛
(20) الإشارة إلى مجمع اليهود في أثينا (17: 17)؛
(21) تصوير الحياة الأثينية في المناقشات الفلسفية في أجورا (17: 17)؛
(22) استخدم عامية أثينا لوصف بولس بـ «الْمِهْذَارُ» (17: 18)، وكذلك المحكمة بـ: أَرِيُوسَ بَاغُوسَ (17: 19)؛
(23) الوصف الدقيق للشخصية الأثينية (17: 21)؛
(24) معبد لـ «لإِلهٍ مَجْهُول» (17: 23)؛
(25) ردة الفعل الدقيقة للفلاسفة اليونان الذين رفضوا قيامة الأموات (17: 32)؛
(26) الأَرِيُوبَاغِيُّ هو اللقب الصحيح لأعضاء المحكمة (17: 34)؛
(27) الكنيس في كورنثوس (18: 4)؛
(28) التحديد الصحيح للقنصل غَالِيُونُ، المقيم في كُورِنْثُوسَ (18: 12)؛
(29) الوضع الصحيح للكرسي المشرف على منتدى كورنثوس (18: 16 وما بعدها)؛
(30) ثمة شواهد من النقوش على اسم «تِيرَانُّسُ» من أفسس ترجع للقرن الأول (19: 9)؛
(31) معابد وأصنام مشهورة لـ: أَرْطَامِيسَ (19: 24)؛
(32) إشارة إلى شواهد جيدة «أَرْطَامِيسَ، الإِلهَةِ الْعَظِيمَةِ» (19: 27)؛
(33) كان مسرح أفسس هو مكان اجتماعات المدينة (19: 29)؛
(34) استخدام اللقب الصحيح للقاضي التنفيذي وهو الكاتب في أفسس (19: 35)؛
(35) ذكر اللقب التشريفي neokoros الذي رخصه الرومان (19: 35)؛
(36) الاسم الصحيح لتسمية الآلهة (19: 37)؛
(37) المصطلح الصحيح للولاة (19: 38)؛
(38) استخدام صيغة الجمع anthupatoi، وهذه إشارة لافتة إلى أن رجلين كانا يمارسان وظيفتا القنصل في ذلك الوقت (19: 38)؛
(39) المحفل «المنتظم» هو العبارة الدقيقة التي نجدها في أماكن أخرى (19: 39)؛
(40) استخدام التسمية العرقية الدقيقة «الْبِيرِيُّ» (20: 4)؛
(41) استعمال المصطلح الأصلي Asianos (20: 4)؛
(42) الإقرار الضمني بالأهمية الاستراتيجية لمدينة ترواس (20: 7 وما بعده)؛
(43) خطر السفر بالسفن في ذلك الموضع (20: 13)؛
(44) المعرفة الدقيقة بتسلسل الأماكن (20: 14 ـ 15)؛
(45) الاسم الصحيح للمدينة بصيغة الجمع المحايد (بَاتَرَا) (21: 1)؛
(46) الطريق الملائم العابر ببحر الجنوب لقبرص هو المفضل للرياح الغربية ـ الشرقية (21: 3)؛
(47) الطريق المناسب بين هذه المدن (21: 8)؛
(48) العمل اليهودي للتقوى خصوصاً (21: 24)؛ والشريعة اليهودية المتعلقة بدخول الأمميين الهيكل (21: 31)؛
(49) التمركز الدائم للكتيبة الرومانية في أنطونيا لقمع أي اضطراب في وقت الاحتفالات (21: 31)؛
(50) الهروب على الدرج المستخدم من جانب الحرس (21: 31، 35)؛
(51) الطريقة الشائعة للحصول على الجنسية الرومانية آنذاك (22: 28)؛
(52) تأثر المحكمة بأنه روماني أكثر من كونه طرطوسياً (22: 29)؛
(53) كان حَنَانِيَّا الكاهن العالي آنذاك (23: 2). وفِيلِكْسَ الوالي وقتها (23: 34)؛
(54) نقطة التوقف الطبيعية بالطريق إلى قيساريا (23: 31)؛
(55) من هو صاحب القضاء في كِيلِيكِيَّةَ في ذلك الوقت (23: 34)؛
(56) الإجراءات القضائية في الإقليم في ذلك الوقت (24: 1 ـ 9)؛
(57) اسم «بُورْكِيُوسَ فَسْتُوسَ» يتطابق مع الذي أعطاه يوسيفوس (24: 27)؛
(58) حق الاستئناف بالنسبة للموطنين الرومان (25: 11)؛
(59) الصيغة القانونية «عِلَّة وَاحِدَة» (25: 18)؛
(60) الصيغة المميزة للإشارة إلى الإمبراطور في ذلك الوقت (25: 26)؛
(61) أفضل طرق الشحن البحري في ذلك الوقت (27: 4)؛
(62) العلاقة المشتركة بين كِيلِيكِيَّةَ وَبَمْفِيلِيَّةَ (27: 5)؛
(63) الميناء الرئيس لوجود سفينة مبحرة إلى إيطاليا (27: 6)؛
(64) الممر البطيء إلى كِنِيدُسَ بوجه الرياح الشمالية ـ الغربية المعتادة (27: 7)؛
(65) الطريق الصحيح للإبحار في وجه الرياح (27: 7)؛
(66) أماكن «الْمَوَانِي الْحَسَنَةُ» والمواقع المجاورة لمَدِينَةُ لَسَائِيَةَ (27: 8)؛
(67) لقد كانت «الْمَوَانِي الْحَسَنَةُ» مرسى سفن سيء الحماية (27: 12)؛
(68) ميل ظاهر للرياح الجنوبية في هذه المناخات إلى دفع مفاجئ إلى شمال شرقية عنيفة، المعروفة باسم gregale (27: 13)؛
(69) طبيعة القارب المربع القديم، الذي لم يكن من خيار سوى جره قبل العاصفة (27: 16)؛
(70) المكان ولاسم الدقيقان لهذه الجزيرة (27: 16)؛
(71) المناورة المناسبة لسلامة القارب في محنتها تلك (27: 16 وما بعدها)؛
(72) حساب أربعة عشرة ليلةً، يرتكز على مجموعة من تقديرات واحتمالات، في حكم الملاحين الماهرين في البحر الأبيض المتوسط (27: 27)؛
(73) المصطلح المناسب لبَحْرِ أَدْرِيَا (27: 27)؛
(74) المصطلح المناسب (Bolisantes) المُستخدم في سبر أغوار البحر (27: 28)؛
(75) موضع الخط المحتمل لاقتراب السفن التي انطلقت مجدداً قبل الرياح الشرقية (27: 39)؛
(76) المسؤولية الصارمة الملقاة على الحرس الذين سمحوا للسجناء بالهرب (27: 42)؛
(77) الأهالي المحليين وخرافات ذلك العصر (28: 4 ـ 6)؛
(78) اللقب المناسب protos (tes nesou) (28: 7)؛
(79) رِيغِيُونَ بوصفها ملجأ لانتظار رياح الجنوب لتنقلهم عبر المضيق (28: 13)؛
(80) إن فُورُنِ أَبِّيُوسَ وَالثَّلاَثَةِ الْحَوَانِيتِ موضوعة بشكل صحيح كمحطات على طريق آبيا (28: 15)؛
(81) الوسائل المناسبة للاحتجاز بوجود الجنود الرومان (28: 16)؛
(82) العيش «على حسابه الخاص» من شروط السجن (28: 30 ـ 31)؛
خاتمة
إن تاريخية سفر الأعمال مُبرهن عليها بالدليل القاطع. ولا يوجد مثل هذا العدد من التفاصيل المؤكدة في أي كتاب آخر موجود من العصر القديم. وهذا ليس أبكر تأكيد مباشر للإيمان المسيحي بخصوص موت وقيامة المسيح، ولكن بشكل غير مباشر لما يرد في الإنجيل. لأن لوقا وهو كاتب إنجيل لوقا (انظر لاحقاً) هو كاتب سفر الأعمال. وبالإضافة لذلك، فالأحداث الأساسية نفسها مدونة بشكل فعلي في الإنجيلين الآخرين (متى ومرقس). ولنفس القضية، يعطي إنجيل يوحنا نفس الصورة حول أغلب الأحداث الأساسية، أي، المعجزات، الألوهية، وموت وقيامة المسيح. وبهذا، فتاريخية أغلب الأحداث الهامة للإيمان المسيحي هي قائمة على أساس متين. ومؤرخ آخر للعصر الروماني، هو أ. إن. شِروين ـ وايت، أطلق على النظرة الأسطورية إنها «غير قابلة للتصديق».[97] ولهذا السبب فالدليل لصالح سفر الأعمال أقوى بكثير من الدليل على تاريخ روما في ذلك العصر.
تاريخية روايات الإنجيل
بما أنّ متى ومرقس ولوقا أعطوا نفس المعطيات الأساسية حول حياة، وتعاليم، وموت، وقيامة المسيح، فعند التدليل على موثوقية أي واحد من هذه الأناجيل، يعطي الدليل على تاريخية الإنجيلين الآخرين. وسنركز على إنجيل لوقا بما أنه يوجد العديد من الحجج المؤكدة لتأريخيته.
كاتب إنجيل لوقا مشهود له أنه مؤرخ دقيق
الطبيب لوقا، رفيق الرسول بولس في السفر، والذي يعتقد على نطاق واسع أنه كاتب إنجيل لوقا لعدة أسباب وجيهة:
- كان له تعليم رفيع، كما يظهر المستوى الرفيع الذي كتبه به باليونانية (قارن: لوقا 1: 1 ـ 4)؛
- لم يكن أحد الرسل الإثني عشر (لوقا 1: 2)؛
- كان مشاركاً في أحداث مختلفة بنفسه (لوقا 1: 3)؛
- كان على معرفة بالرسول بولس؛
- كان يعرف ويقتبس من العهد القديم باليونانية؛
- كان لديه معرفة جيدة بالحالة السياسية والاجتماعية للقرن الأول؛
- كان يتجول مع الرسول بولس أحياناً كما يشير في أجزاء «نحن» (لوقا 16: 10 ـ 17؛ 20: 5 ـ 21: 18؛ 27: 1 ـ 28: 16)؛
- لم يكن أي من تِيمُوثَاوُس، وسُوبَاتَرُسُ، وأَرَسْتَرْخُسُ، وسَكُونْدُسُ، وغَايُوسُ أو تُرُوفِيمُسُ الأسماء التي استثناها سفر الأعمال (20: 4)؛
- كان لديه معرفة بالطب، كما يظهر من استخدام المصطلحات والمراجع الطبية. والرفيق الوحيد لبولس الذي ينطبق عليه كل هذه الصفات كان «لُوقَا الطَّبِيبُ الْحَبِيبُ» (كولوسي 4: 14).[98]
وبكل حال، فالمسألة ليست من كتب الكتاب هو الأمر الهام، بل إن كان الكتاب مصدراً موثوقاً. كما لاحظ ر. ت. فرانس: «إن التأليف... ليس العامل الرئيس في تقيمنا لموثوقية الإنجيل».[99]
ثانياً، إن الشخص الذي كتب سفر الأعمال هو الذي كتب إنجيل لوقا لـ:
- في الكتابين الكلام موجهاً إلى شخص يدعى «ثَاوُفِيلُسُ» (قارن: لوقا 1: 1 مع أعمال 1: 1)؛
- كلاهما مكتوبان بيونانية رفيعة؛
- كلاهما يظهران اهتماماً طبياً؛
- يشير الأعمال إلى «اَلْكَلاَمُ الأَوَّلُ» الذي كتبه المؤلف عن يسوع (1)؛
- يوجد تقليد متصل وعملياً بلا منازع من الكنيسة المسيحية الأولى إلى العصور الحديثة ينسبه إلى الطبيب لوقا.
ثالثاً، من المعروف أن كاتب سفر الأعمال هو مؤرخ من الطراز الأول (انظر أعلاه). وهذا ما أثبته السير ويليام رامزي في كتابه[100]، ومؤخراً كولين هِمِر.[101] وكذلك يدعم مؤرخ مختص بالتاريخ الروماني بشدة تاريخية الأناجيل، قائلاً: «إنه لأمر مدهش، أنه كان في ذلك الحين لدى المؤرخين اليونانيين والرومانيين ثقة متزايدة، فدراسة روايات الإنجيل في القرن العشرين، بدأت من مواد ليست أقل ثقةً، ولكنها صارت قاتمة جداً مع تطور النقد النصي... فالمسيح التاريخي صار مجهولاً، ولم يعد بالوسع كتابة تاريخ خدمته. وهذا أمر مثير للاهتمام».[102] وبهذا فهو فقد وجد هذا المؤرخ أن الاعتقاد بأن الروايات هي مجرد أساطير «أمر لا يُصدق».[103]
إنجيل لوقا كتب حوالي 60 ـ 61 م
من ذلك نستطيع أن نقول إن إنجيل لوقا عمل تاريخي من الطراز الرفيع، كُتب حوالي سنة 60 ـ 61 م. لأن كاتبه هو نفس كاتب سفر الأعمال، الذي ثبت أنه ذو دقة عالية ورواية تاريخية تفصيلية، وبما أن متّى، ومرقس، ويوحنا قدموا نفس الصورة الأساسية بخصوص المسيح، فبدورهم يتمتعون بالموثوقية التاريخية.[104]
ويُبرهن كذلك بحقيقة أن لوقا يظهر اهتمامه التاريخي في المقدمة (لوقا 1:1 ـ 4)، معلناً: (1) أنه واعٍ لوجود روايات أخرى مبكرة عن سيرة المسيح، (2) أن إنجيل لوقا قائم على شهادة شهود «عيان»، و(3)، وقال «قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق». وبالإضافة إلى ذلك، برهن لوقا على اهتمامه بالتاريخ بأن ربط روايته لسيرة المسيح مع تواريخ تاريخية دقيقة. فهو لم يذكر متى وُلد يسوع، أي في عهد «أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ» ملكاً (لوقا 2: 1)، بل بدقة سنة بدء يسوع بخدمته، أي «فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ عَشْرَةَ مِنْ سَلْطَنَةِ طِيبَارِيُوسَ قَيْصَرَ، إِذْ كَانَ بِيلاَطُسُ الْبُنْطِيُّ وَالِيًا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَهِيرُودُسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى الْجَلِيلِ، وَفِيلُبُّسُ أَخُوهُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى إِيطُورِيَّةَ وَكُورَةِ تَرَاخُونِيتِسَ، وَلِيسَانِيُوسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى الأَبِلِيَّةِ. فِي أَيَّامِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ حَنَّانَ وَقَيَافَا، كَانَتْ كَلِمَةُ اللهِ عَلَى يُوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا فِي الْبَرِّيَّةِ» [لوقا 3: 1 ـ 2]، وكلها تم التحقق منها بالتاريخ العام لذلك الوقت.
الأمر الثاني، أن المختص بالتاريخ الروماني كولين هِمِر حاجج بشدة على أن سفر الأعمال مكتوب سنة 62 م (انظر أعلاه)، وبما أن إنجيل لوقا كُتب قبل سفر الأعمال (قارن: لوقا 1: 1 مع أعمال 1: 1)، فهذا يعني أن إنجيل لوقا خرج للنور حوالي 60 ـ 61 م. وهذا ما يُقارب من 27 سنة بعد موت وقيامة المسيح. أي أن لوقا تكلم عن شهود عيان كثيرين للمسيح (لوقا 1: 2) كانوا على قيد الحياة عندما كتب الإنجيل، وهذا مؤشر قوي على مصداقيته التاريخية.
ويليام ف. أولبرايت حول تاريخية الأناجيل
كتب عميد الأركيولوجيين في القرن العشرين الذي تخرج على يديه كثيرون: «باختصار، وبفضل مكتشفات قمران، تبرهن على أن العهد الجديد هو بالواقع كما كان يُعتقد: تعاليم المسيح وتلامذته المباشرين بين سنوات 25 و80 م».[105]ويؤكد أولبرايت أكثر من ذلك، «علي أن أجيب، من وجهة نظري، كل كتاب في العهد الجديد كتبه يهود معمدون بين الأربعينات إلى الثمانينات للقرن الأول الميلادي (وعلى الأغلب حوالي 50 و75 م)».[106] وقد ذهب أبعد من ذلك، فقال: «أن الدليل من جماعة قمران يظهر أن المفاهيم، والمصطلحات، والتصورات في إنجيل يوحنا هي على الأغلب من بداية القرن الأول».[107] ورأى أولبرايت أن «المعطيات التاريخية الكتابية دقيقة إلى درجة أنها تتجاوز أفكار طلاب النقد المعاصرين، الذين يميلون بشكل دائم إلى الوقوف بالمكان الخاطئ إلى جانب النقد المفرط».[108] وبما أن الاعتقاد العام هو أن موت المسيح كان بحدود 35، فإن رجوع كتب في الخمسينات والستينات يعني الكتابة تمت في غضون 20 إلى 30 سنة من الأحداث، حيث كان معظم شهود العيان على قيد الحياة! بما أن ثمة تسجيلات متعددة (8 أو 9 كُتَّاب و27 سفراً)، فهذا يوفر أساساً متيناً لتاريخية هذه الكتابات.
تأكيد النقاد الليبراليين للعهد الجديد
إن عالم العهد الجديد، الأسقف جون روبنسون، الذي كان له دور بارز في تصاعد حركة «موت الإله» في النصف الثاني من القرن العشرين. وقبل موته وبدون أن يصحح نظراته السلبية، كتب الأسقف روبنسون عملاً كاشفاً بعنوان: «إعادة تاريخ العهد الجديد». حيث وضع إنجيل متى بحدود (40 ـ 60)، ومرقس حوالي (45 ـ 60)، ولوقا حوالي (57 ـ 50)؛ ويوحنا بحدود (40 ـ 65).[109] وهذه الكلمات تعني أن بعض الأناجيل كُتب بشكل مبكر، بعد موت يسوع! وفي الحدود القصوى كُلها كُتبت في نطاق الشهود والمعاصرين للأحداث. وهذا يعني أنها كانت باكرة جداً بحيث يصعب على المرء رفض أساس تاريخيتها.
الأناجيل مبكرة جداً بحيث يستحيل أن تكون أسطورية
لقد تحدى يوليوس مولّلر علماء زمنه أن يأتوا ولو بمثالٍ واحدٍ يمكن لأسطورة في جيل أن تتطور حيث تكون العناصر الأبرز أساطير.[110] ولم يستجب أي أحدِ للتحدي. والمؤرخ المختص بالتاريخ الروماني شِروين وايت لاحظ أن «هيرودتس وفر لنا فرصة أن نختبر إيقاع صناعة الأسطورة، فالاختبارات أظهرت أنه حتى جيلين هذا وقت قصيرة للسماح بالنزعة الأسطورية بالهيمنة على النواة التاريخية للتقاليد الشفوية».[111] ويعلق ويليام لين كريج حول هذا الأمر، ملاحظاً أن ذلك يخولنا أن نقول إن المعدل الذي تطور فيها الأساطير «إن الاختبار يظهر أنه حتى جيلين لهو وقت قصير لجعل النزعات الأسطورية تزيل الجوهر الأساسي للحقيقة التاريخية».[112] وأي حساب معقول، يظهر أن الجوهر الأساسي المتين هو الواقع في الدعوى المسيانية للمسيح، وموته وقيامته.
التأكيد التاريخي والأثري [الأركيولوجي] للأناجيل
يقدم لوقا التقاطعات التاريخية التي يمكن التحقق من أصولها التاريخية. وقد قال إن يسوع بدأ خدمته:
«وَفِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ عَشْرَةَ مِنْ سَلْطَنَةِ طِيبَارِيُوسَ قَيْصَرَ، إِذْ كَانَ بِيلاَطُسُ الْبُنْطِيُّ وَالِيًا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَهِيرُودُسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى الْجَلِيلِ، وَفِيلُبُّسُ أَخُوهُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى إِيطُورِيَّةَ وَكُورَةِ تَرَاخُونِيتِسَ، وَلِيسَانِيُوسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى الأَبِلِيَّةِ فِي أَيَّامِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ حَنَّانَ وَقَيَافَا، كَانَتْ كَلِمَةُ اللهِ عَلَى يُوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا فِي الْبَرِّيَّةِ» (لوقا 3: 1 ـ 2).
ومن الجدير أن نلاحظ أن لوقا يقدم:
- التاريخ الدقيق (29 م)،
- ثمانٍ أشخاص، كلهم معروفون تاريخياً،
- وكانوا معروفين أنهم عاشوا في نفس الوقت. وهذا ليست قصة «كان يا ما كان في قديم الزمان» (أسطورة).
وأي شخص مطلع على الثقافة اليهودية للقرن الأول سيدرك فوراً أن الإنجيل يسجل نفس المناخات. حيث يذكر الفريسيين، والصدوقيين، التقاليد والعادات اليهودية، وحتى يستخدم الكلمات الآرامية (قارن: متى 27: 46؛ أعمال 9: 36)، مع مدن وتضاريس الأرض، وكل ذلك مألوف من وثائق يهودية أخرى من القرن الأول التي سجلها يوسيفوس وآخرون.
بالإضافة إلى ذلك، يذكر العهد الجديد شخصيات تاريخية مثل: أُوغُسْطُسَ قَيْصَر (لوقا 2: 1)، وطِيبَارِيُوسَ قَيْصَرَ (لوقا 3: 1)، وكِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ (لوقا 2: 2)، وهِيرُودُسُ الْمَلِكُ (متى 2: 3)، وبِيلاَطُسَ الْبُنْطِيِّ الْوَالِي (متى 27:2)، وحَنَّانَ وَقَيَافَا كبيرا الكهنة (لوقا 3: 2)، ويوحنا المعمدان، وآخرون. ومن المعلوم أن جميعهم كانوا موجودين واشتغلوا في الوقت والمكان الذي كما ذكرهم العهد الجديد.
وما هو أكثر من ذلك، فإضافة للسند الأثري الكبير لهذه الفترة بالعموم (انظر أعلاه)، فثمة إشارات في الأناجيل تؤيد مكتشفات أثرية محددة، مثل بركة سِلوام، وبركة بيت حسدا، وكنيس كفرناحوم، وأساس الهيكل الذي وضعه هيرودس، ودار ولاية بيلاطس، وتخوم الجلجثة، وقبر الحديقة، وبالمثل، يساعد نقش «تيتولس فينتوس» على إضاءة أُوغُسْطُسَ قَيْصَر (لوقا 2: 1 وما بعدها). وتذكر لوحة لاتينية «بيلاطس البنطي من يهوذا». وكما يوجد أيضاً عظام لشخص صُلب في القرن الأول، هو يوحنان، تؤيد التفاصيل القاسية لموت المسيح، ومرسوم الناصرة، الذي كان ما بين 41 و54 م، وهو نظرة لافتة على إعلان اليهود على أن جسد المسيح قد سُرق ولم يقم من الموت (متى 28: 13). وبما أن لوائح الاتهام الرومانية كانت تتضمن غرامة فقط، فلما يجب أن تُرفع هذه العقوبة الصارمة في فلسطين بعد وفاة يسوع مباشرة، وتلاميذه قد أثاروا المعارضة في فلسطين؟[113]
ومثل كل بقية الكتب، فحياة المسيح كما جاءت في الأناجيل منسجمة بالكامل مع الوقائع المعروفة المكتشفة من قبل علماء الآثار لتلك الفترة. وليس ثمة من دليل يعاكس ذلك.[114] وقد وجدنا مكتشفات كثيرة تثبت الأناجيل.[115]
الدليل على تاريخية رسائل بولس المبكرة
حتى النقاد الليبراليون الذين يرفضون رسائل بولس المتأخرة، يقبلون أن بولس كتب كورنثوس الأولى وأنها كُتبت بحدود سنة 55 م. وقد أجمل د.أ. كارسون الدليل بشكل ممتاز:
يوجد نقش يسجل أمر الإمبراطور كلاوديسو إلى شعب دلفي، ويذكر غالليو على أنه متسلم منصب القنصل في آخائية في فترة إعلان كلاوديوس السادسة والعشرين على أنه الإمبراطور ـ الحقبة المعروفة في مصادر أخرى ممتدة في الأشهر السبعة الأولى لسنة 52 م. في مهمة السنتين والنصف لبولس في أفسس التي جرت في خريف سنة 55.[116]
وفي أفسس كتب بولس كورنثوس الأولى قبل عيد الخمسين (أعمال 16: 8). وبسبب التعديل المحتمل لسنة على بداية قنصلية غالليو، فتاريخ كتابة كورنثوس الأولى يمكن أن يكون حوالي 56 م.
والآن، تقدم كورنثوس الأولى نفس المعلومات الأساسية حول المسيح الموجودة في الأناجيل، ولكن بعضها كان قبل ما يقارب من خمس سنوات قبل إنجيل لوقا. وهذا يضع الأماكن والوثائق التي تؤكد تاريخية موت وقيامة المسيح بعد 22 ـ 23 سنة من الحدث! ويكتب بولس:
وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِالإِنْجِيلِ الَّذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ، وَقَبِلْتُمُوهُ، وَتَقُومُونَ فِيهِ، وَبِهِ أَيْضًا تَخْلُصُونَ، إِنْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّ كَلاَمٍ بَشَّرْتُكُمْ بِهِ. إِلاَّ إِذَا كُنْتُمْ قَدْ آمَنْتُمْ عَبَثًا! فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا: أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ لِصَفَا ثُمَّ لِلاثْنَيْ عَشَرَ. وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ، أَكْثَرُهُمْ بَاق إِلَى الآنَ. وَلكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا (1 كورنثوس الأولى 15 ـ 1 ـ 6).
ويظهر هذا النص حقائق مهمة:
أولاً، إن جوهر الرسالة المسيحية هي موت وقيامة المسيح ـ وهي نفس الأمر الذي شددت عليه الأناجيل الأربعة.
ثانياً، قال بولس في رسالته «مَا قَبِلْتُهُ أَنَا»، مشيراً بذلك أنه كانت لديه أبكر من ذلك. ويرى بعض علماء العهد الجديد أن رسالة بولس الأصلية تسلمها بولس على شكل صيغة عقائدية بعد سنوات فحسب من موت المسيح. فإن كان الأمر ذلك، فهذا يضع رسالة الأناجيل فوق أي شك تاريخي معقول (انظر: «العقائد» فيما بعد).
ثالثاً، إن الدليل على قيامة المسيح يمتد إلى أكثر من 500 شاهد عيان، الواقعة، التي تضعه خارج أي شك منطقي. ويتحدث بولس عن أكثر من 250 شاهدَ عيان للقيامة الذين كانوا على قيد الحياة حينما كتب رسالته (15: 6). وهو يعدد «صَفّا» (بطرس)، الذي كان رسولاً على أنه أحد الشهود العيان (15: 12)، و«الاثني عشر» (رسولاً)، ويعقوب، أخ المسيح، على أنهما شهود عيان ومعاصرين. وهذا دليل على تاريخ المبكر لكورنثوس الأولى.
رابعاً، كان قرّاء كورنثوس الأولى معاصرين للشهود العيان على القيامة، وقد قدم لهم بولس تحدياً ضمنياً بسؤال الشهود العيان بأنفسهم، بما أن بولس أضاف: «أَكْثَرُهُمْ بَاق إِلَى الآنَ» (العدد 6).
خامساً، أن الدليل الداخلي يتضمن: (1) تكرار الإعلان أن الكتب من بولس (1: 1، 12 ـ 17؛ 3: 4، 6؛ 22: 16، 21)؛ (2) ثمة متوازيات مع سفر الأعمال؛ (3) دائرة الموثوقية من البداية إلى النهاية؛ (4) ذكر 500 شخص رأوا المسيح، وأغلبهم كان ما زال على قيد الحياة وكان بالوسع التوثق من دعاوي بولس (15: 6)؛ (5) التناعم بين المحتوى مع ما هو معروف عن كورثنوس في ذلك الوقت.
وبالمثل، فالدليل الخارجي لهو من المتانة من القرن الأول والقرن الثاني، بما في ذلك (1) كتاب كلمنت الروماني: الرسالة إلى كورنثوس (الفصل 47)؛ ورسالة برنابا (الفصل 4)؛ الديداخي (الفصل 10)؛ والراعي لهرماس (الفصل 4). وثمة أكثر من 600 اقتباس من كورنثوس الأولى بواسطة إيريناوس، وكلمنداس الإسكندري، وترتليان لوحدهم. فالعهد الجديد أفضل الكتب المصادق عليها في عصره.
سادساً، إن كورنثوس الأولى مع كورنثوس الثانية، وغلاطية، وفيلبي (وهي كلها مصادق عليها)، لا تكشف فقط عن اهتمام تاريخي بوقائع سيرة حياة يسوع، ولكنها توفر مجموعة واسعة من التفاصيل عن أشياء موجودة في الأناجيل. ويتحدث بولس عن يسوع:
- السلالة اليهودية (غلاطية 3: 16)؛
- نسب داود (رومية 1: 3)؛
- الولادة العذرية (غلاطية 4: 4)؛
- حياته تحت الشريعة اليهودية (غلاطية 4: 4)؛
- وأخوته (1 كورنثوس 9: 5)؛
- وشخص يدعى يعقوب (1 كورثنوس 5: 7)؛
- الاثني عشر تلميذاً (1 كورنثوس 15: 7)؛
- وبعضهم لديه زوجات (1 كورنثوس 9: 5)؛
- أن بولس يعرف بطرس ويعقوب (غلاطية 1: 18 ـ 2 ـ 16)؛
- فقر يسوع (2 كورنثوس 8: 9)؛
- تواضعه (فيلبي 2: 5 ـ 7)؛
- وداعة المسيح وحلمه (2 كورنثوس 10: 1)؛
- مضايقات الآخرين له (رومية 15: 3)؛
- تعاليمه بخصوص الطلاق والزواج (1 كورنثوس 7: 10 ـ 11)؛
- دفع أجور الخدام (1 كورنثوس 9: 14)؛
- دفع الضرائب (رومية 13: 6 ـ 7)؛
- محبة القريب (رومية 13: 9)؛
- النجاسة الطقسية (رومية 14: 14)؛
- حول ألقاب يسوع الإلهية (رومية 1: 3 ـ 4؛ 10: 9)؛
- حول اليقظة ترقباً لمجيء يسوع الثاني (1 تسالونيكي 4: 15)؛
- الذي سيكون مثل لص في الليل (1 تسالونيكي 5: 2 ـ 11)؛
- بشأن تعليم المسيح بخصوص عشاء الرب (1 كورنثوس 11: 23 ـ 25)؛
- حول سيرة يسوع الخالية من الخطيئة (2 كورنثوس 5: 21)؛
- وموته على الصليب (رومية 4: 25؛ 5: 8؛ غلاطية 3: 13؛ 1 كورنثوس 15: 3)؛
- بالصليب تحديداً (رومية 6: 6؛ غلاطية 2: 20)؛
- بتحريض يهودي (1 تسالونيكي 2: 14 ـ 15)؛
- حول دفن يسوع (1 كورنثوس 15: 4)؛
- حول قيامته في «اليوم الثالث» (1 كورنثوس 15: 4)؛
- بشأن ظهوره للرسل بعد قيامته (1 كورنثوس 15: 5 ـ 8)؛
- (1 كورنثوس 15: 6)؛
- وحول مكانه الآن على يمين الله (رومية 8: 34).
إضافة لذلك، يضع بولس حقيقة المسيحية حول تاريخية القيامة (1 كورنثوس 15: 12 وما بعدها). وقد أعطى بولس تفاصيل تاريخية حول معاصري يسوع (1 كورنثوس 15: 5 ـ 8)، بما فيهم لقاءاته الخاصة مع بطرس والرسل (غلاطية 1: 18 ما بعدها؛ 2: 1 وما بعدها). وأكثر من ذلك، لاحظ أنه كان ثمة أكثر من (250) شاهداً على قيد الحياة عندما كتب كورنثوس الأولى، تاركاً المجال لتحدي ضمني للتحقق من دعاويه (15: 6). والمرء بالكاد يقدر أن يطلب دليلاً أفضل بخصوص الحقيقة التاريخية للمسيحية روته الأناجيل الأربعة مع تفاصيل أعظم.
تأكيد العهد الجديد بقوانين «الإيمان المبكرة» أو التقاليد
يشير عدد من العلماء إلى الدليل في العهد الجديد على العقائد المبكرة أو التقاليد التي تشير إلى تاريخية الرسالة الأساسية في الأناجيل. بما أن أغلب الناس في القرن الأول كانوا أميين، فإن فقرات قصيرة عن المسيح كانت سهلة الحفظ، وكانت طريقة صالحة لنقل الحقيقة. إن «قوانين الإيمان» هذه تشير إلى مسائل مثل الإيقاع والنماذج المتكررة. ونجد أمثلة ممكنة في (لوقا 24: 34؛ أعمال 2: 22 ـ 24؛ 3: 13 ـ 15؛ 4: 10 ـ 12؛ 5: 29 ـ 32؛ 10: 39 ـ 41؛ 13: 37 ـ 39؛ رومية 1: 3 ـ 4؛ 4: 25؛ 10: 9؛ 1 كورنثوس 11: 23 وما بعدها؛ 15: 3 ـ 8؛ فيلبي 2: 6 ـ 11؛ 1 تيموثاوس 2: 6؛ 3: 16؛ 6: 13؛ 2: 8؛ 1 بطرس 3: 18؛ 1 يوحنا 4: 2).[117]
ونجد في 1 كورنثوس 15: 3 ـ 8 أكثر الأمور لافتة للنظر:
«فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا: أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ لِصَفَا ثُمَّ لِلاثْنَيْ عَشَرَ. وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ، أَكْثَرُهُمْ بَاق إِلَى الآنَ. وَلكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا. وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ لِيَعْقُوبَ، ثُمَّ لِلرُّسُلِ أَجْمَعِينَ. وَآخِرَ الْكُلِّ كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ ظَهَرَ لِي أَنَا.» [التأكيد مُضاف].
وما هو جدير بالذكر هنا هو أن بولس «تلقى» التعاليم من آخرين. وهذا يعني أن هذه التعاليم كانت موجودة قبل ذلك. ولاحظ جاري هابِرماس، صاحب المعرفة في مسألة القيامة، أن علماء عديدين نقديين أعطوا تاريخاً مبكراً بشكل يدعو للدهشة: «بخصوص وقت أكثر دقة، وهو تاريخ أكثر شعبية موجود في منتصف الثلاثينات ميلادية».[118] وبالنهاية، فبولس كتب حوالي 55 ـ 56 ميلادي. وهذا ما يضع أصل التعاليم حول موت، ودفن، وقيامة يسوع، وظهوره للمئات الأشخاص وفق تقدير المحافظين في حدود سنوات قليلة بعيد الأحداث التي جرت.
التأكيد على العهد الجديد من موقف الحقائق الأساسية
يحاجج البروفسور هابِرماس بما يمكن أن يُسمَّى موقف الحقائق الأساسية. بادئاً بالحقائق التي يتفق عليها أغلب العلماء النقديين في العهد الجديد، فهو يبرهن أن أفضل تفسير أن يسوع عاش، ومات، وقام من بين الأموات ـ وهو مركز تاريخية العهد الحديد. وهو يعدد «أنه توجد على الأقل اثنتا عشرة حقيقة منفصلة متفق عليها بخصوص التاريخ القابل للمعرفة» من قبل كل «الباحثين النقديين عملياً».[119] وهذا يتضمن:
- يسوع مات على الصليب،
- دُفن،
- تلامذته تفرقوا،
- وُجد القبر فارغاً بعد ذلك،
- آمن التلاميذ أنهم رأوا يسوع فيما بعد حقيقةً،
- وتحولوا من أناس شاكين إلى مبشرين شجعان بالقيامة،
- وهذه الرسالة كانت مركز التعليم المبكر،
- وقد قام التلاميذ بالتبشير عن ذلك في أورشليم بعد وقت قصير من الحدث،
- وقد وُلدت الكنيسة ونمت بسرعة،
- وكان يوم الأحد يوم العبادة الرئيسي،
- وقد آمن يعقوب بعد أن كان يشك بقيامة يسوع،
- وبعد سنوات اهتدى بولس مؤمناً أنه رأى يسوع القائم من الموت.
وعلى هذا الأساس يتم المجادلة بعدم وجود نظرية طبيعية تفسر هذه الحقائق وأن القيامة الجسدية الفعلية ليسوع هي التي تفسر أفضل تفسير كل هذه الحقائق.
علاوة على ذلك، لو أخذنا حتى بأربعة حقائق من تلك، والتي يقبل بها عملياً كل العلماء النقديين (1، 5، 6، و12)، فما زال يمكن الدفاع عن إن قيامة المسيح الفعلية هي التي تفسر كل هذه الحقائق.[120] ويخلص هابِرماس إلى «أن هذه الحقائق الأساسية توفر أيضاً الدليل الإيجابي الرئيس على ظهورات قيامة المسيح الفعلية... وبهذا فجوهر الحقائق التاريخية توفر الدليل الإيجابي على إمكانية إثبات دعاوي الرسل بشأن قيامة يسوع الفعلية، وبالتحديد، أن هذه الحجج لا يمكن أن تعلل بشكل طبيعي».[121]
الدليل الداخلي على تاريخية الأناجيل
بالإضافة إلى متانة الدليل من خلال المكتشفات الأثرية القديمة، وشهادة الشهود العديدين، وهناك أدلة داخلية على صحة تاريخية ومتانة موثوقية روايات الإنجيل. فبما أنه تم تأريخ الكتب في الفترة المتصلة بشكل مباشر مع تلاميذ يسوع، تضعف جدوى السؤال من هو الذي كتبها عملياً. وفي الواقع، ليست ثمة سبب جيد لرفض نسب التأليف التقليدي، الذي يصادق عليه تاريخ الكنيسة المبكر لمتى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا. إذا كان الحال كذلك، فالوثائق كُتبت من جانب تلاميذ المسيح في القرن الأول، الذين كانوا شهود عيان ومعاصرين للأحداث. وهذا هو الواقع. ولننظر إلى الدليل الداخلي على موثوقية الأناجيل.
لم يسعَ كتاب الأناجيل للمواءمة بين قصصهم: في عرضهم لرواياتهم الموثوقة فإن الشهود العيان نادراً ما يحكون القصة نفسها كلمة بكلمة. ففي الشهادة يوجد التشارك في النقاط الهامة، ولكن حرفية التفاصيل نادرة. وهذا ما نجده في الأناجيل. فثمة إجماع بخصوص الحقائق المركزية حول حياة، وموت وقيامة المسيح، بالتوازي مع اختلافات هامة التفاصيل ولكنها قابلة للتوفيق.
يظهر في بعض الأحيان كما لو كان يوجد تعارض ظاهري بين رواية وأخرى. فعلى سبيل المثال، ثمة ملاك واحد لدى القبر في متى (28: 2 ـ 3)، واثنان في يوحنا (20: 12). ويقول متى (27: 5) إن يهوذا شنق نفسه، بينما يؤكد سفر الأعمال أن يهوذا سقط على وجهه (أعمال 1: 18). ويقول متى أن يسوع شفى رجلين أعميين (متى 9: 27)، وبينما يقول لوقا (18: 35 وما بعدها) انه شفي رجلاً أعمى.
وحتى شيء بسيط مثل النقش على الصليب يقرأ بأربعة أشكال مختلفة (قارن: متى 27: 37؛ مرقس 15: 26؛ لوقا 23: 38؛ يوحنا 19: 19). وبالتأكيد لم يكن ليسمح كتاب بمثل هذه التعارض الظاهري في الأخبار لو كان بينهم تواطؤ. وبينما لم يتبرهن قط على أن هذه هي تعارضات حقيقية،[122] والمؤكد كما يظهر أن الكُّتاب لم يكونوا متآمرين سوياً للكلام عن قصة ليست صحيحة.
أدرج كتاب الأناجيل آيات تضع يسوع في ضوء رديء: دليل داخلي على موثوقية الأناجيل هو حقيقة أن كُتَّاب الأناجيل لم يترددوا في تدوين مواضيع تضع يسوع، الذي كانوا مخلصين له، تحت ضوء رديء. إذ نقرأ أن خصومه أطلقوا عليه «شِرِّيبُ خَمْرٍ» (متى 11: 19)، و«يَهْذِي» (يوحنا 10: 20)، وبِه شَيْطَانٌ (يوحنا 8: 48)، ولم يؤمن أخوته به (يوحنا 7: 5). وبالتأكيد، لا أحد كان يريد أن يقدم صورة جميلة أو يتكلم عن أسطورة كان سيقبل بمثل هذه التفاصيل في كتاب يخص بطلهم الأعظم، ولما قالوا شيئاً من قبيل ذلك عن الشخص الذي كانوا يؤمنون أنه ابن الله.
ترك كتاب الأناجيل آيات صعبة في نصوصهم: وحتى أكثر أتباع يسوع المخلصين يقرون أنه كان من الأسهل الدفاع عن إعلان يسوع أنه ابن الله لو لم تكن الأناجيل تحتوي على بعض الأشياء التي قالها يسوع صعبة على الشرح. فعلى سبيل المثال، إن كان يسوع هو الله حقاً، كما تسجل النصوص التي أعلن فيها ذلك (متى 27: 63 ـ 64؛ يوحنا 5: 23؛ 8: 59؛ 10: 30؛ 17: 5)، فلماذا ترك كتاب الأناجيل كلمات مثل: «لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي» (يوحنا 14: 28)، و«تِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ» (متى 24: 36)؟ ولماذا أيضاً وبخ الغني الذي قال ليسوع: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ»، فرد عليه: «لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحًا. لَيْسَ أحَدٌ صَالِحًا إلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ» [متى 19: 16 ـ 17]. فلماذا إذاً يترك كتاب العهد الجديد هذه الآيات بحيث يقوم اللأدريون باستغلالها ليقولوا إن يسوع لم يكن حكيماً، مثل لعنه شجرة التين التي لم تكن تحمل تيناً في غير أوانها (متى 21: 18 وما بعدها). ولماذا يتركوا آية تقول إن يسوع بدأ وكأنه يقول إنه سيعود إلى الأرض في غضون الجيل ولكنه لم يفعل ذلك (مت 24: 34)، لا سيما أن قبل المرء، كما يفعل النقاد، أن هذا لم يكتب إلا متأخراً وبعد أن ظهر أن النبوة لم تتحقق؟ والسبب الأكثر احتمالاً هو أن كتاب الأناجيل كانوا ينقلون ما جرى وليس ما يجعل الأمر يبدو أفضل، أو أنسب، أو يترك أثراً أفضل. باختصار، إن كل هذه الأشياء تصب في صالح مصداقية كتاب الأناجيل.
سجل كتاب الأناجيل قصصاً تنقص من شأنهم: لنسلم أن واحداً أو أكثر من الرسل كتب إنجيلاً أو أكثر (لنقل متى و/ أو يوحنا)، أو لنفرض أنه كان لديه تأثير قوي على كاتب الإنجيل (مثل بولس على لوقا أو بطرس على مرقس ورفاقه)، فلماذا تركوا أشياء تنقص من شأنهم، مثل: (1) كل التلاميذ ناموا عندما طلب منهم يسوع الصلاة؛ (2) دُعي بطرس يا «شيطان» (متى 16: 23)؛ (3) أنكر بطرس الرب ثلاث مرات (لوقا 22: 34)؛ (4) وعندما صارت الأمور صعبة (لدى الصلب)، هرب التلاميذ ما عدا واحداً (مرقس 14: 50)؛ قطع بطرس إذن خادم الكاهن الأعلى (مرقس 14: 47)؛ و(6) وخلافاً لتعليم يسوع المتكرر أنه سيقوم من الموت ثانيةً (يوحنا 2؛ متى 12؛ 17)، فإن التلاميذ كانوا متشككين وغير مصدقين أن يسوع قد قام من الموت؟ ومرة أخرى، إن أفضل تفسير لاحتواء الأناجيل على ما ينقص من شأنهم هو أنها تروي ما حدث فعلاً، وأن كُتَّاب الأناجيل كانوا يخبرون الحقيقة.
ميز كتاب الأناجيل بين كلمات يسوع وكلماتهم: أن أي متعلم يقدر أن يأخذ نسخة من الإنجيل بالأبيض والأسود ويضع بدقة علامات اقتباس حول ما قاله يسوع، وسهولة ذلك لأن كُتّاب الأناجيل ميزوها بوضوح بعيداً عما جاء في لسانهم. والواقع أن لون الأحرف الأحمر من الكتاب المقدس، حيث كلمات يسوع باللون الأحمر يظهر إلى أي حد كلماته مميزة بنفسها. ولكن لماذا يجب على كتاب الأناجيل أن يميزوا بعناية كلمات يسوع عن كلماتهم الخاصة، ولم يضعوا كلمات على فم يسوع؟ إن التمييز يظهر، على العكس من النقد الشكلي والتنقحيي، إنهم كانوا ينقلون الصدق، ولم يكن يختلقون كلمات يسوع.
وبالمثل، قدم بولس نفس التميز الدقيق في رسائله وفي سفر الأعمال، حيث قال: «فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ الضُّعَفَاءَ، مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ» (الأعمال 20: 35). وقال للكورنثيين: «وَأَمَّا الْمُتَزَوِّجُونَ، فَأُوصِيهِمْ، (لاَ أَنَا بَلِ الرَّبُّ)...» وبعد آيتين قال: «وَأَمَّا الْبَاقُونَ، فَأَقُولُ لَهُمْ (أَنَا، لاَ الرَّبُّ)... » (1 كورنثوس 7: 10، 12 قارن: 9: 14؛ 11: 23 ـ 25) [التشديد مُضاف].[123]
لم ينكر كتاب الأناجيل شهادتهم تحت الاضطهاد أو التهديد بالموت: إن الطريقة الأكثر تأكيد لتحديد إنْ كان المرء يتكلم الحقيقة هي اضطهاده أو تهديده بالقتل إن لم يغير نظرته. ومن المعروف جيداً ان المسيحيين الأوائل، الذين كان من بينهم كتاب الأناجيل، تعرضوا بشكل متكرر لهذه الحالة. (أعمال 4، 5، 7 و8) هي نماذج بارزة لذلك في الكنيسة الأولى. وقد تحدث بولس عن أعداء المسيح الذين رفضوا تصديقه:
مِنَ الْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِالْعِصِيِّ، مَرَّةً رُجِمْتُ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفِينَةُ، لَيْلًا وَنَهَارًا قَضَيْتُ فِي الْعُمْقِ. بِأَسْفَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، بِأَخْطَارِ سُيُول، بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ، بِأَخْطَارٍ مِنْ جِنْسِي، بِأَخْطَارٍ مِنَ الأُمَمِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْمَدِينَةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَرِّيَّةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَحْرِ، بِأَخْطَارٍ مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ. فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ، فِي أَسْهَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ، فِي أَصْوَامٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ. عَدَا مَا هُوَ دُونَ ذلِكَ: التَّرَاكُمُ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ، الاهْتِمَامُ بِجَمِيعِ الْكَنَائِسِ (كورنثوس الثانية 11: 24 ـ 28).
وأنها لحقيقة نفسية، أن أقلية، إن وُجدت فعلاً، قادرة أن تحتمل عذاباً على أمر تعرف أنه كاذب.[124]
إن كان ما أورده كتاب العهد الجديد زيفاً، فالمرء سواء أكان تقياً أم لا، سينهار تحت الضغط، وسيعترف أن ما قاله ليس حقاً، ولكن لم يفعل أي واحد منهم هذا الشيء. وهذا بدوره شهادة قوية على صدق تسجيلات الإنجيل.
أحداث العهد الجديد ترتكز على شهادة العيان: في الأناجيل وسفر الأعمال الدليل على أن ما فيها قائمة على سفر شهادة العيان.
يوحنا: «وَالَّذِي عَايَنَ [الصليب] شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَقٌ» (يوحنا 19: 35). «هذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهذَا وَكَتَبَ هذَا. وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ.» (يوحنا 21: 24).
لوقا: «إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ، رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ».
سفر الأعمال: «فَيَسُوعُ هذَا أَقَامَهُ اللهُ، وَنَحْنُ جَمِيعًا شُهُودٌ لِذلِكَ» (الأعمال 2: 32) «فَأَجَابَهُمْ بُطْرُسُ وَيُوحَنَّا وَقَالاَ: «إِنْ كَانَ حَقًّا أَمَامَ اللهِ أَنْ نَسْمَعَ لَكُمْ أَكْثَرَ مِنَ اللهِ، فَاحْكُمُوا. لأَنَّنَا نَحْنُ لاَ يُمْكِنُنَا أَنْ لاَ نَتَكَلَّمَ بِمَا رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا» (الأعمال 4: 19 ـ 20). «وَنَحْنُ شُهُودٌ بِكُلِّ مَا فَعَلَ فِي كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَفِي أُورُشَلِيمَ. الَّذِي أَيْضًا قَتَلُوهُ مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ. هذَا أَقَامَهُ اللهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَأَعْطَى أَنْ يَصِيرَ ظَاهِرًا» (الأعمال 10: 39 ـ 40). «أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ لِصَفَا ثُمَّ لِلاثْنَيْ عَشَرَ. وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ، أَكْثَرُهُمْ بَاق إِلَى الآنَ. وَلكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا. وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ لِيَعْقُوبَ، ثُمَّ لِلرُّسُلِ أَجْمَعِينَ. وَآخِرَ الْكُلِّ كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ ظَهَرَ لِي أَنَا» (كورنثوس الأولى 15: 3 ـ 8) ـ المكتوبة 55 ـ 56 م.
العبرانيين: «فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصًا هذَا مِقْدَارُهُ؟ قَدِ ابْتَدَأَ الرَّبُّ بِالتَّكَلُّمِ بِهِ، ثُمَّ تَثَبَّتَ لَنَا مِنَ الَّذِينَ سَمِعُوا [التشديد مُضاف]، شَاهِدًا اللهُ مَعَهُمْ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَمَوَاهِبِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، حَسَبَ إِرَادَتِهِ» (العبرانيين 2: 3 ـ 4).
بطرس: «لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً، إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ» (بطرس الثانية 1: 16). «أَطْلُبُ إِلَى الشُّيُوخِ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ، أَنَا الشَّيْخَ رَفِيقَهُمْ، وَالشَّاهِدَ لآلاَمِ الْمَسِيحِ، وَشَرِيكَ الْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ» (بطرس الأولى 5: 1).
يوحنا: «اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ» (يوحنا الأولى 1: 1).
وأخيراً، تحتوي رواية العهد الجديد مؤشرات عديدة على رواية شهود عيان. وفيها لغة مباشرة حية تظهر أنها رواية شهود عيان. وهي تعكس معرفة أماكن القرن الأول، والأشخاص، والعادات، والتضاريس، والجغرافيا. وثمة إشارة إلى مدن يمكن التحقق منها مثل بيت لحم، وأورشليم، ومدن أخرى عديدة في القرن الأول في فلسطين، مع معرفة دينية حول الفريسيين والصدوقيين.
ويوفر لوقا إشارات تاريخية يمكن التحقق منها في إنجيل لوقا، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يحدث مع كاتب أساطير. ويشير لوقا إلى ملك روما على أنه على قيد الحياة عندما وُلد يسوع، أغسطس قيصر (لوقا 2: 1)، وإلى الإحصاء الذي جرى في سوريا تحت أمرة كِيرِينِيُوس، وزعماء معرفين رومان ويهود على قيد الحياة، بما فيهم: طِيبَارِيُوسَ قَيْصَر، بِيلاَطُسُ الْبُنْطِيّ، وَهِيرُودُس، وَأخيه فِيلُبُّسُ أَخُوهُ، وحَنَّانَ وَقَيَافَا، ويوحنا المعمدان (انظر: لوقا 3: 1 ـ 2).
المصادر غير المسيحية تؤكد حقائق الإنجيل الأساسية: بالإضافة إلى الروايات الكتابية، فثمة مصادر غير مسيحية عن حياة المسيح، بما فيها: تاسيتوس، سويتونيوس، تالُّوس، التلمود اليهودي، ويوسيفوس. والاستشهادات منها موجودة في عمل ف. ف. بروس الهام، المختص البارز في العهد الجديد، في كتابه: «يسوع، أصول المسيحية خارج العهد الجديد»، وكتاب غاري هابِرماس: «يسوع التاريخي». وإن سرنا مع هابِرماس، فإن أشياءً عديدة يمكن أن يتم التحقق منها: (1) كان يسوع محل عبادة المسيحيين (2) أتى يسوع بتعليم جديد في فلسطين (3) صُلب لأجل هذا التعليم. وفي تعليمه نجد (4) شركة كل المؤمنين (5)، أهمية الاهتداء، و(6) أهمية رفض آلهة اليونان. والمسيحيون (7) يؤلهون يسوع و(8) وكانوا يعيشون حسب شريعته. وبالإضافة إلى ذلك، كان أتباع يسوع (9) يؤمنون بالخلود، وكانوا (10) لا يهابون الموت (11) ويتصفون بالتفاني الذاتي الطوعي، و(12) انكار الماديات. وقد أعطى لوقيان أكثر الروايات غنىً بالمعلومات عن يسوع والمسيحية خارج العهد الجديد، على الرغم أنه أعلى النقاد صوتاً.[125]
ويلاحظ هابِرماس أن كتابات المصادر غير المسيحية عن المسيح تقريباً هي من 20 إلى 150 سنة على موت المسيح، وهو ما يعتبر باكراً جداً في معايير علم التاريخ القديم. وأكثر من ذلك: «إن سبعة عشر من الكتابات غير المسيحية تسجل أكثر من خمسين تفصيلاً بخصوص، سيرة، وتعاليم، وموت وقيامة يسوع، بالإضافة إلى تفاصيل متعلقة بالكنيسة المبكرة».[126] وإن أضاف المرء المصادر غير الكتابية والمسيحية أيضاً، فثمة ما يقارب من (129) حقيقة حول حياة المسيح مسجلة خارج العهد الجديد.[127] وهذا هو تأكيد شديد القوة على تاريخية العهد الجديد من المصادر خارج الكتاب المقدس.
الاعتراضات على تاريخية العهد الجديد
رغم الدليل الكبير على تاريخية العهد الجديد، فما زال البعض يشكك في موثوقيته. وأكثر حجتان ذكراً هما: استحالة معرفة الماضي، وعدم موثوقية قصص المعجزات.
هل التاريخ قابل للمعرفة؟
يتساءل بعض العلماء النقديين إنْ كان يمكن معرفة التاريخ بالإجمال. ويأتي هذا الاعتراض من أصحاب النسبية التاريخية الذين أجبنا عليهم باستفاضة في مكان آخر.[128] ويمكن ذكر الملاحظات التالية: أولاً، هذا الاعتراض يرتد على النفس، أن يدعي المرء أن كل الآراء عن التاريخ ليست صحيحة. فالمرء يجب أن يعرف النظرة الصحيحة في التاريخ ليتمكن من القول بذلك. ثانياً. إن التاريخ البشري يقوم على نفس المبادئ الأساسية التي يبني فيها العلماء التاريخ العلمي، والذي يقول عنه النسبيون أنه صالح. ويكفي الوثائق المتوفرة والشهود الكثر لبناء تاريخ موثوق عن كلمات وأفعال يسوع. ثالثاً، إن كان تاريخ يسوع مجهولاً، فكل التاريخ مجهولٌ لأن الدليل التاريخي عن يسوع هو أكبر بكثير من أي تاريخ في العالم القديم.
هل روايات المعجزات غير موثوقة؟
بما أنه تم معالجة مسألة موثوقية المعجزات سابقاً (في الفصل 5)، فسنتطرق إلى هذه المسألة باختصار. قبل كل شيء، لم يقدم أي أحد حجة قاطعة تظهر أن المعجزات مستحيلة. وكل حجة هي مصادرة على المطلوب بتحديد المعجزة أنها مستحيلة. ثانياً، إنْ كان الله الواحد موجوداً، فالمعجزات ممكنة، لأن المعجزة هي عمل خاص لله، وإنْ كان الله الواحد موجوداً، الذي قام بعمل خارق هو خلق العالم من العدم، فالنتيجة هي أن المعجزات ممكنة. ثالثاً، وهذا يتبع، أنه لدحض إمكانية المعجزات يجب أن يتم تفنيد وجود الله. وعلى الرغم من كل المحاولات لإلقاء الشك على وجود الله، لم يقدر أحد بعد على توفير نفي مطلق على وجود الله. وكل المحاولات ذهبت أدراج الرياح.[129]
وإضافة لذلك، ثمة تناقض في حجج النقاد. لأن المؤرخين القدماء يقبلون موثوقية الروايات القديمة حول الأحداث التي تشتمل على المعجزات فيها. وكما لاحظ هابِرماس: «تسرد التواريخ القديمة الأخبار الخارقة من كل نوع، بما في ذلك، الطوالع والنذر، والتنبؤات، ومعجزات الشفاء، وأنواع مختلفة للتدخل الإلهي، كما التأثير الشيطاني». فمثلاً «في التاريخ عن الإسكندر العظيم، فإن بلوتارخ بدأ بالتنويه أنه يبدو أن الإسكندر كان سليل هِرقل[130]. ولاحقاً تكلم الإسكندر مع كاهن ادعى أن ابن الإله آمون، ومع آمون نفسه». وبالفعل، «في نهاية حياته، اعتبر الإسكندر كل حدث غير عادي أنه خارق وأحاط نفسه بعرافين وغيرهم ليخبروه بالمستقبل».[131] وكان إدراج معجزات مدعاة جزء من أخبار تاسيتوس وسويتونيوس الذين تقبل رواياتهما من جانب المؤرخين المعاصرين باعتبار أنها تحتوي على أخبار تاريخية موثوقة.
هل تتطلب الدعاوي غير العادية دليل خارق؟
ثمة نقد مقارب، ولكن أقل بروزاً، يتكرر دائماً «الدعوى الاستثنائية تتطلب أدلة استثنائية». ويعطي العهد الجديد دعاوي غير عادية، وهذا يتطلب دليلاً غير عادي. وبكل حال، ثمة ثغرات خطيرة عديدة في هذه الدعوى بخصوص تأثيرها على تاريخية العهد الجديد.
قبل أي شي، أن مفردة «الاستثنائية» غامضة. هل يُقصد بها خارقة؟ فإن كان هذا هو القصد، فهذه مصادرة على المطلوب، لأنها تعادل القول: «الدعوى الإعجازية تتطلب دليل معجز». ولكن إن قدم المرء دليلاً معجزاً على ذلك، فالمعترض قد يطلب دليلاً معجزاً آخر على ذلك، وهذا إلى ما لا نهاية. وفي هذه الحال، المرء لن يقدر أن يتحقق من أي معجزة. وهذا على كل حال مصادرة على المطلوب.
ثانياً، إن كانت مفردة «الاستثنائية» تعني ببساطة مجرد أمر أكثر من عادي، فالعهد الجديد يقبل التحدي، بما أنه يوجد مخطوطات أكثر عدداً، وأبعد قدماً، ومنسوخة بدقة أكبر، مع شهود كثر، ومؤيدة بشكل أكبر بدليل خارجي أكثر من أي كتاب أخر في الأزمنة القديمة.
ثالثاً، إن مفردة «الاستثنائية» غير دقيقة. كيف يجب أن يكون الدليل غير عادي؟ مَنْ يُحدّد معناه؟ ما هي المعايير الموضوعية على الأمر الاستثنائي؟ وهل هذا ينطبق بشكل دائم على الدعوى غير العادية في التاريخ وفي حقول معرفية أخرى؟ فمثلاً: كانت بطولات نابليون استثنائية[132]. وقليلون قبله أو بعده من قدروا على تحقيقها. ومع ذلك لم يتم رفض تاريخية أعماله البطولية لأنه كان لديه الوثائق والشهود التي تسمح باعتبارها تاريخية.
رابعاً، كثيراً من الآراء في العلم الحديث والتي هي غير عادية تم القبول بها بأدلة أقل مما في العهد الجديد. نظرية الانفجار الكبير هي مثال على ذلك. وحسب المعايير السارية في العلم الحديث، فانفجار الكون من العدم هو حدث غير عادي بشكل فائق[133]. ومع ذلك فالدليل العلمي العادي كان مطلوباً للاعتقاد به، مثل القانون الثاني للديناميكا الحريرية، وتمدد الكون، الخ (انظر الفصل 2).
وأخيراً، الكثير من الأحداث الطبيعة بشكل محض هي استثنائية لحد كبير. مثلاً، كل شيء في الطبيعة يتقلص إن تعرّض للبرودة. مع إن الماء عندما يبلغ درجة 32 فهرنهايت (صفر مئوية)، فإن الجزيئات تتبلور في شكل هيكل يتمدد بدلاً من أن يتقلص. ولا يطلب العلماء دليلاً غير عادي على ذلك، لأن الأمر يسير على وفق التالي: مجرد أن المطلوب للتثبت من أحداث طبيعية أخرى كان الملاحظة العادية.
باختصار، إن «الدعوى الاستثنائية تتطلب أدلة استثنائية» تخفق في تقويض تاريخية العهد الجديد. لأنه ثمة أكثر من دليل كافٍ على دعوى الإعجاز فيه.
هل تنفي الدوافع الدينية كتابة تاريخ موثوق؟
لقد تم مناقشة هذه المسألة في مكان آخر. ويكفي أن نذكر هنا أن أمثال هذه الاعتراضات مصادرة على المطلوب أو فشل ذاتي.[134] لأنه يمكن اتهام ضحايا الهولوكوست أن لديهم تحيزات مسبقة، ولكن من الذي يمكن أن يقدم شهادة أفضل من شاهد عيان على الحدث الفعلي. وبالفعل، اظهر كُتَّاب آخرون قديماً أن أهدافاً دينية في كتاباتهم، ولكن ذلك لم يمنع المؤرخين من التوصل إلى حقائق أساسية عن الماضي من كتاباتهم. لكل شخص هدف من الكتابة وله أن يقدم أحكام قيمة. ولكن هذا لا يلغي أهليتهم كمؤرخين جيدين. وأخيراً، لقد أظهرنا أعلاه، أنه حيث كان كتاب الأناجيل يتشابكون مع التاريخ العام، فإنهم ظهروا مراراً على أنهم تمتعوا بالدقة، بغض النظر من نظراتهم الدينية.
هل لدينا كلمات يسوع الحرفية؟
حتى مع افتراض الموثوقية العامة للعهد الجديد، فالبعض يقول إنه لا يحتوي على كلمات يسوع الحرفية. وفي تصوّر هذا البعض أن ذلك يضعف قضية الموضوعية التاريخية للعهد الجديد. وسوف نبسط حجج هذه النظرة ونقيمها.
كلمات يسوع بالآرامية وتم ترجمتها لليونانية: الاعتراض الأول هو أن يسوع تكلم على الأرجح بالآرامية، كما يظهر من حقيقة أن بعض الكلمات ما زالت محفوظة بنفس اللغة (قارن: متى 27: 46). والعهد الجديد مكتوب باليونانية. وبالتالي، فهي ترجمة لكلمات يسوع.
الرد: ملاحظتان في الترتيب. أولاً، حتى لو تكلم يسوع بالآرامية، فهذا لا يعني أن كُتاب الأناجيل لم يترجموها بأمانة. ثانياً. بعض العلماء يرى بما أن يسوع كان لديه لغتان على الأقل، فمن المحتمل أنه تكلم مع التلاميذ باليونانية.[135] وفي هذه الحالة، ليست ثمة من حاجة لترجمتها. ثالثاً، حقيقة أن يسوع كان يتكلم أحياناً بالآرامية، كما في بضع كلمات على الصليب (27: 46)، فهذا لا يثبت أنه كان يتكلم بها بشكل منتظم في خطاباته. رابعاً، لاحظنا أعلاه، حتى لو كان يسوع يلقي عظاته بالآرامية، فالموثوقية التاريخية لا تعتمد على امتلاك الكلمات بحرفيتها، بما أن الترجمة اليونانية احتفظت لنا بالمعنى. وخلافاً لافتراضات النقاد، التي ترتكز على مسلمات مشكوك بها، فليس ثمة دليل فعلي موجود يظهر أن ما قصده يسوع ليس محفوظاً في نصوص الإنجيل. وأخيراً، بما أن أقدم نسخ الإنجيل المعروفة في اليونانية، وبما أن اليونانية المكتوبة هي موحي بها (2 تيموثاوس 3: 16)، فلم يعد مهماً إن كان يسوع تكلم بالآرامية بالأصل.
لا تحتوي روايات الأناجيل المتوازية على نفس الكلمات بالضبط: وقد لاحظ النقاد أن الكلمات التي قالها يسوع في مناسبة معينة تختلف من إنجيل إلى آخر. وعلى ضوء ذلك يقولون إنها ليست نفس الكلمات التي تكلم بها يسوع.
الرد: يفشل هذا الاعتراض في البرهنة على مراده لعدة أسباب.
أولاً. في أغلب (إن لم يكن في كل)، الحالات، يمكن لرواية أن تقدم سرداً أكثر اكتمالاً لكلمات يسوع من رواية أخرى. فمثلاً، في اعتراف بطرس الشهير، لدينا في إنجيل متى تسجيل أكثر مما في مرقس وإنجيل لوقا أقل. ففي متى جاء: «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ!» (متى 16: 16)، وفي رواية مرقس نجد جزءاً منها، أي: «أَنْتَ الْمَسِيحُ!» (مرقس 8: 29). وفي لوقا نقرأ: [وأنت] «مَسِيحُ اللهِ!» (لوقا 9: 20).
ثانياً، اختلافات أخرى في روايات الأناجيل مردها في أحيان احتمالات منطقية هي: (1) أشياء متشابهة في ظروف مختلفة (2) ثمة أكثر من مناسبة معينة مما سجل أحد أو حتى جميع كتاب الأناجيل، أو (3) نفس الأمر بأكثر من طريقة في نفس المناسبة (قارن: مرقس 10: 23، 24)[136].
ثالثاً، مهما كان الحدث، فإن الكلمات الحرفية ليست ضرورية لتقديم رواية موثوقة تاريخياً، ما دام تم نقل نفس المعنى.
يتعذّر تذكّر الأحاديث المطولة بعد سنوات: تسجل الأناجيل وفي سفر الأعمال (2، 7، 10، 17) أحاديث مطولة كثيرة ليسوع. وبما فيها الموعظة على الجبل (متى 5 ـ 7)، والأمثال (متى 13)، وإدانة القادة اليهود (متى 23)، وكلمة جبل الزيتون (24 ـ 25)، وكلمة العلية (يوحنا 14 ـ 17)، وصلاته الكهنوتية (يوحنا 17). وقد حاجج البعض أنه من غير المحتمل أنه تم تذكر هذه الخطب كلمة كلمةً بعد جيل أو أكثر عندما تم تدوينها.
الرد: يتغاضى النقاد عن حقائق هامة هنا. أولاً. إنهم يضعون الأناجيل في تاريخ متأخر (انظر أعلاه). والبرهان يضع الكتابات أقرب للأحداث مما كان يُعتقد من قبل، وحتى في غضون عشر سنوات حسب بعض النقاد الليبراليين (مثل جون روبنسون). ثانياً، إن الذاكرة كانت أكثر تطوراً للغاية في هذه الثقافة قبل عصر انتشار القراءة والكتابة، جعل من المناسب أن تكون الذاكرة هي وسيلة الحفظ الأولى. ثالثاً، حتى اليوم ثمة أشخاص كثيرون يحفظون أكثر من ذلك، وحتى بعضهم كامل الأناجيل. رابعاً، إن إنجيل متى الذي يشتمل على خطابات مطولة كان كاتبه من ناحية المهنة يعمل في حفظ السجلات (جابي ضرائب). ويمكن أن يكون قد جمع تسجيلات كلمات يسوع الحرفية التي كانت متوفرة لدى الأخرين مثل الكاتب المسيحي بابياس، الذي قال إنه كان لديه هذه النصوص.[137] وكان الطبيب لوقا رجلاً متعلماً الذي بحث المسألة بعناية (لوقا 1: 1 ـ 4)، وحصل على محفوظات شهود عيان كانت متوفرة. خامساً، يسوع وعد تفعيل فوق طبيعي لذاكرة التلاميذ قائلاً: «وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (يوحنا 14: 26. التشديد مُضاف). وأخيراً، فإن هذه الأحاديث المطولة إن تمت تلخيصها أو أُعيد صياغة كلمات يسوع الدقيقة، فليس دليلاً يشير إلى أنها ليست دقيقة. ففي الواقع، كما رأينا أعلاه، فكل الدلائل تشير إلى خلاف ذلك.
يسجل يوحنا أن يسوع قال أموراً مختلفة: ليس ثمة من شك في أن إنجيل يوحنّا يسجل أقوالاً مختلفة عما في الأناجيل الأخرى. فمثلاً تصريح يسوع الشهير «أنا هو» في إنجيل يوحنا (مثلاً: 4: 26؛ 6: 35؛ 8: 12، 58؛ 10: 9، 11؛ 11: 25؛ 14: 6). أو «حقاً حقاً» التي ترد في إنجيل يوحنا فحسب (قارن: 1: 51: 3: 3، 5، 11؛ 5: 19، 24، 25؛ 6: 26، 32، 47، 53؛ 8: 34، 51، 58؛ 10: 1، 7؛ 12: 24؛ 13: 16، 20، 21، 38؛ 14: 12؛ 16: 20، 23؛ 21: 18). ولكن ثمة شك أكبر بأن يقوّض هذا من موثوقية تدوينات الإنجيل بأي شكل من الأشكال.[138]
الرد: ثمة أسباب وجيهة لهذه الاختلافات في إنجيل يوحنا. أن اختلافات إنجيل يوحنا عن الأناجيل الأزائية (متى، مرقس، لوقا)، يمكن أن تشرح بشكل كبير بالمكان (يهودا)، التاريخ (الخدمة المبكرة أو المتأخرة)، وطبيعة أقوال يسوع (الكثير منها أحاديث خاصة). وإعلانات مثل «أنا هو» يمكن أن يُفهم منها على أنها بيانات أكثر اختصاراً، وأبسط قدمه يسوع للذين لم يفهموه بالبدء. وفي الواقع رواية يوحنا حميمية وحية، ومفصلة مما تؤيد أصالتها.[139]
وعبارة «حقاً حقاً» لها أوجه شبه مع «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ» (متى 26: 34 ومرقس 14: 30). والتكرار يمكن أن يكون للتأكيد.[140]
علاوة على ذلك، عندما يقول يوحنا إن يسوع استعمل «حقاً حقاً» فهو يخبر عما قاله يسوع في مناسبات مختلفة عما تذكرها الأناجيل الإزائية. وقد تجنب يسوع في خدمته الإعلان للجمهور صراحة عن أنه المسيح. ولكنه لم يتردد في التصريح بذلك على انفراد للمرأة عند البئر (يوحنا 4: 25 ـ 26). وكل هذه الأشياء قالها يسوع في مناسبات مختلفة عما في الأناجيل الإزائية. وفي مناسبات كان يسوع يقول «حقاً» مرة واحد فحسب في الأناجيل الإزائية وإنجيل يوحنا. وبالفعل، هو الإنجيل الوحيد الذي يعلن أنه مكتوب من جانب رسول شاهد عيان (يوحنا 21: 24 ـ 25)، واستنتاج كارسون صحيح: «من المعقول تماماً أن يسوع كان يتحدث أحياناً فيما لا يقل عما نعتقده أنه «أسلوب يوحنا»، وأن أسلوب يوحنا هو متأثر بدرجة ما بيسوع نفسه». وبهذا، «عندما ننظر إلى الأدلة بمجملها، فليس صعباً الاقتناع أنه عندما نسمع إلى صوت الإنجيلي في وصفه لما قاله يسوع، فنحن نسمع إلى صوت يسوع نفسه».[141]
خلاصة القول، لا يوجد أي دليل صالح يفيد أن الاناجيل لم تنقل لنا الحقيقة نفسها التي تكلم بها يسوع، وحتى لو ظهر في بعض الحالات أن كلماته لم تنقل حرفياً. فالمؤكد: إن كتاب الأناجيل لم يختلقوا تعاليم وأعمال يسوع، بل نقلوها فحسب. وحتى لو كان بعضها (أو جميعها) بالآرامية وتُرجمت إلى اليونانية، فإنها تُرجمت بدقة من جانب شهود عيان ومعاصرين للأحداث الذين حياتهم وذكرياتهم كانت متأثرة بيسوع على كل الأصعدة، والذين كانت ذاكرتهم مفعلة بشكل خارق بالروح القدس. وعلاوة على ذلك، فتاريخية ما قاله هؤلاء كانت معززة بروايات متعددة، وبالاكتشافات الأثرية، وبدليل المخطوطات المبكرة، وكذلك بأخلاقية وتفانٍ الكُتَّاب. ولا يوجد مثل هذا المزيج من الأدلة بخصوص أي كتاب في العصر القديم.
خاتمة
إن تاريخية العهد الجديد قائمة على دليل أكثر متانة من جميع الأحداث الأخرى في العالم القديم. فلا توجد حوادث ترتكز على مخطوطات أكثر، ومنسوخة بدقة أكبر، ومدونة من جانب أشخاص كانوا شهود عيان أو معاصرين للأحداث. ولولا التحيز المسبق ـ الذي لا أساس له ـ المعادي للأمر الخارق عند النقاد السلبيين (انظر الفصلين 3 و4 أعلاه)، فإن أخبار الأناجيل ما كان يجب أن تتعرض للفحص عن تاريخيتها ـ، وهو الأمر الذي صار يهتم به علماء الكتاب المقدس بعد 1800 سنة من وقوع الأحداث.
وعلى النقيض، يضع النقاد القليل من التحديات التاريخية الخطيرة بخصوص الحقائق الأساسية عن سيرة وبطولات الإسكندر العظيم. ومع ذلك لا توجد مصادر معاصرة متوفرة. ولا توجد ألا القليل من القطع الصغيرة المتوفرة، وهي بعد انقضاء حوالي 300 ـ 500 سنة قبل أن نملك تواريخ عديدة. وبخلاف صارخ، نحن لدينا في غضون 20 إلى 30 سنة بعد الأحداث، وثائق حول الأحداث الأساسية في حياة، وموت، وقيامة، وتعاليم المسيح الرئيسة. وحتى في التواريخ الأكثر أهمية، لدينا كامل العهد الجديد مكتوب في غضون حياة شهود عيان ومعاصرين للأحداث. وهذا يعني، إن لدينا روايات موثوقة لكلمات وأعمال يسوع. وإذ كان الحال كذلك، فلزاماً على كل باحث عن الحق أن يقرأها بتدبر، ويأخذها بالاعتبار بشكل كامل. ولهذا قال يسوع: «اَلْكَلاَمُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ» (يوحنا 12: 48).
المسائل الاثني عشر |
موجز الفصل: يسوع ادعى أنه الله كما يُشهد في العهد الجديد · خلفية العهد القديم لإعلان المسيح الألوهية · دعاوي المسيح بالألوهية ü أخرون أعلنوا أن يسوع هو الله ü أخرون أعلنوا أن يسوع هو الله · الرد على بعض الاعتراضات |
|
1. الحقيقة حول الواقع قابلة للمعرفة 2. لا يمكن أن يكون كلا النقيضين صادقين 3. الله الواحد موجود 4. المعجزات ممكنة 5. يمكن أن تأتي المعجزات لتأكيد رسالة من الله 6. العهد الجديد نص موثوق 7. أعلن يسوع المسيح في العهد الجديد أنه الله 8. إعلان يسوع أنه الله تأكد بمجموعة فريدة من المعجزات 9. وبهذا، فيسوع هو الله الظاهر بالجسد 10. كل ما أكّده يسوع (الذي هو الله) أنه الحق، فهو حق 11. يسوع أكّد أن الكتاب المقدس كلمة الله 12. إذاً، الحق أن الكتاب المقدس كلمة الله، ومزيف وكل ما يعارض هذا الحق الكتابي |
||
ملخص الفصل بما أن الله موجود (الفصل 3)، فالمعجزات هيممكنة (الفصل 4). وبالتالي، يمكن أن تأتي المعجزات لتأكيد دعوى من الله (الفصل 5). وبما أن وثائق العهد الجديد موثوقة تاريخياً (الفصل 6)، فإن يسوع أعلن حقاً أنه الله القادر في جسد بشر (الفصل 7). وقد قام بذلك بطرق متعددة ومتكررة. وقام أتباعه المبشرون بنفس الإعلان بشأنه. وإذ كان هذا هو الحال، يبقى علينا أن نفحص إنْ كان يوجد تأكيد إعجازي بشأن إعلان يسوع أنّه الله (الفصل 8). |
- عدد الزيارات: 1080