Skip to main content

الإعتراف

إن الاعتراف بالخطية يكون لله وحده، وذلك لسببين (الأول) أن الخطية هي إساءة إلى الله، والاعتراف لا يكون قانونياً أو مجدياً إلا إذا كان موجهاً إلى المساء إليه (الثاني) أن الله وحده هو الذي له حق الغفران، ومن ثم ليست هناك فائدة من الاعتراف بالخطية أمام غيره على الإطلاق. ولكن الأرثوذكس والكاثوليك يقولون [إن الاعتراف بالخطية يجب أن يكون أمام الكهنة لديهم، لأن الله أعطاهم سلطان منح الغفران]. ومع أن الله لم يعط أحداً من البشر هذا السلطان كما ذكرنا في الفصل السابق، ولم يعين هو أو رسله كهنة بالمعنى الحرفي، لأن عمل هؤلاء هو إقامة الذبائح الكفارية، وهذه الذبائح لم تعد لها ضرورة بعد كفارة المسيح (عبرانيين 10: 19)، وذلك لتحقيقها كل مطالب عدالة الله إلى الأبد (عبرانيين 9: 12)[1]، الأمر الذي لا يدع مجالاً لقول الأرثوذكس والكاثوليك هذا، لكن استيفاء للبحث نذكر فيما يلي حججهم الخاصة بهذا الموضوع مصحوبة بالرد عليها.

أولاً: الآيات الكتابية، ومعناها الحقيقي:

1. [قال يعقوب في رسالته "أَمَرِيضٌ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ؟ فَلْيَدْعُ شُيُوخَ الْكَنِيسَةِ فَيُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيَدْهَنُوهُ بِزَيْتٍ بِاسم الرَّبِّ، وَصَلاَةُ الإيمان تَشْفِي الْمَرِيضَ وَالرَّبُّ يُقِيمُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ خَطِيَّةً تُغْفَرُ لَهْ. اِعْتَرِفُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ بِالّزَلاَّتِ، وَصَلُّوا بَعْضُكُمْ لأجل بَعْضٍ لكي تُشْفَوْا" (يعقوب 5: 16، 17)، ولذلك لا مجال للغفران إلا بواسطة الاعتراف للقسوس].

المعنى (أ) لكي نعرف المراد بالقسوس نقول: أن هذه الكلمة معربة عن الكلمة السريانية "قشيشو" ومعناها شيخ أو شخص متقدم في السن. وبالرجوع إلى الكتاب المقدس يتضح لنا أن القسيس هو الأسقف بعينه، فقد قال الوحي عن الرسول إنه ميليتس استدعى قسوس الكنيسة. فلما جاؤوا إليه قال لهم "اِحْتَرِزُوا إذاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَكُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ فِيهَا أساقفة" (أعمال 20: 28)، أما الإعتراض [بأن الأسقف لأنه يعمل عمل القسيس فمن الجائز أن يسمى قسيساً. مع أنه في ذاته ليس قسيساً]، فلا يجوز الأخذ به، لأن الكتاب لا يدعو الأسقف قسيساً بل يدعو القسيس أسقفاً، وهذا لا يجوز إلا إذا كان القسيس هو الأسقف بعينه "[2]

كما أنه بالرجوع إلى الكتاب المقدس، يتضح لنا أنه لا يطلق على القسوس لقب كهنة بالمعنى الحرفي. ويرجع السبب في ذلك إلى أن العمل الأساسي للكهنة بهذا المعنى هو تقديم الذبائح الكفارية، بينما أعمال القسوس تنحصر في الوعظ والتعليم والتدبير (تيطس 1: 9، 1تيموثاوس 3: 5). ولو فرضنا جدلاً أن العشاء الرباني هو ذبيحة، (كما يقول الأرثوذكس والكاثوليك)، فإن الوحي لا يسند القيام به إلى القسوس، ومن ثم لا يجوز كتابياً أن يطلق عليهم كهنة بالمعنى الحرفي على الإطلاق[3].

(ب) فضلاً عما تقدم، فإن الآيات التي نحن بصددها لا تدل على أن المؤمنين يجب أن يعترفوا بخطاياهم للقسوس أو الشيوخ، بل أن يعترفوا بها للأشخاص الذين يخطئون إليهم، فإذا كانوا يخطئون إلى القسوس (مثلاً) يجب أن يعترفوا لهم. وعلى هذا النسق نفسه، إذا كان القسوس يخطئون إلى إخوتهم المؤمنين من غير القسوس، يجب أن يعترفوا بدورهم لهؤلاء المؤمنين، لأن هذا هو ما يستنتج مـن قـول الوحي "اعترفوا بعضكم لبعض بالزلات. وصلوا بعضكم لأجل بعض". وباعتراف المؤمنين جميعاً بعضهم لبعض بالزلات وصلاة بعضهم لأجل البعض الأخر، يزول من بينهم الخصام، وبزواله تزول العلل والأمراض التي يسمح الله بها تأديباً لهم لأجل الخصام المذكور. كما أن هذه الآيات لا تقول أن القسوس يغفرون الخطية، أو يتوسطون لله لأجل غفرانها، بل تقول "وإن كان قد فعل (المريض) خطية تغفر له"، أي أن الله هو الذي يغفرها له وليس القسوس لأنه ليس هناك داع لأن يستعمل الوحي صيغة المبني للمجهول في الآيات المذكورة لوكان القسوس المذكورون فيها هم الذين يغفرون الخطية.

(ج) ومما تجدر ملاحظته في هذه المناسبة أن هذا الآيات، لا تقول عن القسوس انهم يدهنون المريض (بالزيت) بأل التعريف، بل تقول "بزيت" فقط. كما أنها لا تقول أن الزيت يشفي المريض بل تقول أن صلاة الإيمان هي التي تشفيه ومن ثم يكون المراد بكلمة "زيت" هنا هو زيت الزيتون العادي الذي كان ولا يزال يستعمل في بلاد فلسطين، ليس فقط في إعداد الأطعمة بل وفي إعداد الأدوية أيضاً، ومن ثم لا يكون هذا الزيت سراً من الأسرار كما يقال. فضلاً عن ذلك بل كان يمنحه بواسطة وضع الرسل أيديهم على المرضى أو الصلاة لأجلهم أو المسك بأيديهم (مرقس 6: 13)، لأنه كان قد أيد هؤلاء الرسل بالمواهب المعجزية التي تثبت صدق رسالتهم للعالم، وإذا كان ذلك كذلك، أدركنا أن هذا الزيت لم يكن إلا وسيلة من وسائل العلاج العادية التي ألفها اليهود قديماً (والتي لا يزال يستعملها الكثير من الناس في علاج بعض الأمراض كما هو معلوم لدينا)، فقد كانوا يضعون على الضربات والجروح زيتاً (إشعياء 1: 6) أو خمرا وزيتاً (لوقا 1: 34) ومما يثبت ذلك أيضاً أن الرسول لم يقل أن يرشموا[4] المريض بزيت، بل أن يدهنوه بزيت، أي يدهنوا جسده كله أو الجزء المصاب منه. أما في العهد الجديد فقد أعلن الوحي أن الدهن بالزيت لا يكفي وحده للشفاء، بل لا بد أن يكون مصحوباً بالاعتراف بالخطية وصلاة الإيمان.

2. قال الوحي عن اليهود إنهم اعتمدوا من يوحنا معترفين بخطاياهم (متى 3: 6)، وإن الذين آمنوا بالمسيح كانوا يأتون إلى الرسل معترفين ومخبرين بأفعالهم (أعمال 19: 18)

المعنى: هاتان الآيتان لا تدلان على أن الاعتراف يكون سرياً أمام القسوس أوغير القسوس لأجل الحصول على الغفران، بل تدلان على أنه يكون علناً للشهادة على نعمة الله التي تخلص من الخطية وتغفرها، وهذا ما يليق بنا جميعاً أن نفعله عندما نخبر بفضائل الذي دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب (1بطرس 2: 9) وقد سبقنا الرسول إلى هذا الاعتراف فقال "صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أن الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إلى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أولهُمْ أَنَا" (1تيموثاوس 1: 15)

3. قال الله لموسى النبي "فَإِنْ كَانَ يُذْنِبُ (إنسان) فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ (الوصايا) يُقِرُّ بِمَا قَدْ أَخْطَأَ بِه. وَيَأْتِي إلى الرَّبِّ بِذَبِيحَةٍ لإِثْمِهِ عَنْ خَطِيَّتِهِ الَّتِي أَخْطَأَ بِهَا" (لاويين 5: 5)

المعنى: (أ) هذا الإقرار أو الاعتراف لم يكن سرياً بل علنياً، ولم يكن الغرض منه أن يغفر الكاهن في العهد القديم خطية المخطىء، بل أن يطلب منه الذبيحة القانونية حتى يغفر له الله خطيته. لكن لا يمكن أن يكون هذا هو الحال معنا في العهد الجديد، لأننا نعلم أن المسيح قدم نفسه ذبيحة لله (أفسس 5: 2)، وأن ذبيحته قد حققت كل مطالب عدالة الله وقداسته إلى الأبد، حتى أعلن الوحي أنه "لاَ يَكُونُ بَعْدُ قُرْبَانٌ عَنِ الْخَطِيَّةِ" (عبرانين 10: 18)، ومن ثم لا يتطلب الأمر منا إذا أخطأنا أن نقدم ذبيحة (أو يقدمها أحد لأجلنا) لكي نحصل على الغفران. فضلاً عما تقدم فإن المسيح كما أنه هو الذبيحة هو أيضاً الكاهن فقد قال الوحي عنه إنه كاهن عظيم على بيت الله (عبرانيين 10: 11)، ولذلك فالاعتراف بالخطية يكون له وحده، والغفران عن الخطية يكون منه وحده، وبفضله وحده.

4. قال الله لموسى النبي أيضاً إنه بعد ذبح تيس الخطية يضع هرون يديه على رأس التيس الحى، ويعترف عليه بكل ذنوب بنى إسرائيل وكل سيئاتهم مع كل خطاياهم، ويجعلها على رأس هذا التيس. ثم يرسله بيد من يلاقيه في البرية ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى أرض مقفرة (لاويين 16: 15، 22)

المعنى: أن المعترف بالخطية هنا، ليس هو الخاطىء بل بالكاهن، وذلك بوصفه ممثل الخطاة جميعاً. والمعترف عليه ليس هو الكاهن بل الذبيحة التي كانت رمزاً لربنا يسوع المسيح حال كونه حاملاً خطايانا، ومن ثم لا يسوغ اتخاذ هذا الآية مبرراً للاعتراف أمام شخص ما للحصول بواسطته على الغفران. أما معنى هذه الآيات فهو :

(أ) أن التيس الأول كان رمزاً لكفارة المسيح، لأن دمه كان يوضع في قدس الأقداس (المكان الرمزي لحضرة الله) مثالاً لإيفاء مطالب عدالته ورد الاعتبار اللائق به. أما التيس الثاني، فكان رمزاً لنيابة المسيح عن الخطاة، لأنه كان يحمل خطايا الناس عوضاً عنهم.

(ب) أن هرون بوصفه الممثل الشرعي للشعب القديم، كان يقر بذنوبهم على التيس الحي، وكان ذلك رمزاً لوضع الله خطايانا على المسيح وقبوله إياها على نفسه عوضاً عنا (إشعياء 35: 6-12) كما أن إطلاق هذا التيس إلى البرية أوالأرض المقفرة بعد ذبح تيس الخطية، كان رمزاً لأن الخطايا التي كفر المسيح المسيح عنها بموته على الصليب لن تذكر فيما بعد (عبرانيين 8: 12)، الأمر الذي يهدىء روع الخاطىء المرتجف ويملؤه راحة وسلاماً. كما يقوده للشكر والحمد لله والسلوك في سبيله بكل محبة وإخلاص.

وإذا كان ذلك كذلك، لا يجوز أن نعترف بخطايانا أمام إنسان ما، لكي ننال بواستطه الصفح والغفران، بل يجب أن نعترف بها أمام من حمل قصاصها نيابة عنا، لأنه هو وحده الذي يستطيع أن يغفرها لنا.

5. قال يشوع لعخان "يا ابني, أَعْطِ الآنَ مَجْداً لِلرَّبِّ إِلَهِ إسرائيل, وَاعْتَرِفْ لَهُ وَأَخْبِرْنِي الآنَ ماذا عَمِلْتَ" (يشوع 7: 18)

المعنى: يتضح لنا من هذه الآية والآيات التالية لها أن اعتراف عخان بما عمله من شر لم يكن ليشوع بل كان لله، وأن غرض يشوع من معرفة هذا الشر، لم يكن النظر في منح الغفران لعخان، بل إشهار خطيته حتى يتضح للملاء استحقاقه للقصاص الذي كان الله عتيدا أن يوقعه عليه. إذا كان موقف يشوع موقف القضاء والمحاكمة، وكان اعتراف عخان اعتراف مذنب أمام المحكمة الإلهية التي كان يمثلها يشوع الحاكم السياسى للأمة، ولذلك كانت نتيجة المحاكمة، ليس الغفران بل إصدار الحكم برجم عخان هو وأفراد عائلته. ولذلك ليس هناك مجال لاتخاذ هذه الآية مبرراً للاعتراف أمام القسوس أوغير القسوس للحصول على الغفران.

6. لما قال داود لناثان النبي "قَدْ أَخْطَأْتُ إلى الرَّبِّ" فَقَالَ نَاثَانُ لِداود: «الرَّبُّ أيضاً قَدْ نَقَلَ عَنْكَ خَطِيَّتَكَ. لاَ تَمُوتُ" (2صمو)يل 12: 13)

الرد: يتضح من هذه الآية وما قبلها أن ناثان لم يطلب من داود أن يعترف له بخطيته، بل كل ما فعله أنه أيقظ ضمير داود، فأحس داود بما ارتكبه من خطأ، ومن ثم صاح قائلاً: "قَدْ أَخْطَأْتُ إلى الرَّبِّ" كما يتضح أيضاً أن ناثان لم يغفر لداود خطيته بل أعلن له أن الله قد غفرها له، لأن ناثان رأي أن داود قد اعترف بها وندم لارتكابها، وهذا هو كل ما يطلبه الله من المؤمن الحقيقي حتى يمنحه الصفح والغفران. فمكتوب "وَمَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ" (أمثال 28: 13)

ثانياً: الإعتراضات والرد عليها:

1. [إن المؤمنين الذين يسيئون إلى الله بعمل الخطية، لا يكون في وسعهم أن يدنوا منه ويعترفوا له بخطيتهم، ومن ثم لا مفر من أن يعترفوا بها أمام القسوس].

الرد: من المعلوم لدينا جميعاً أن الإعتراف لا يكون قانونياً أو مجدياً، إلا إذا كان مقدماً للشخص المُساء إليه كما ذكرنا. وبما أن الخطايا التي نأتيها أحياناً هي قبل كل شيء إساءة إلى الله لأنها تتعارض مع الوصايا التي أعطاها لنا، وفي الوقت نفسه لم يأمرنا تعالى بأن نعترف بخطايا لشخص سواه، لذلك يجب أن نعترف بها له وحده.

وبالإضافة إلى ذلك، فإننا إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نرى أنه حتى المؤمنين الذين عاشوا في العهد القديم (والذين كان الله قد عين لهم كهنة يتوسطون بينهم وبينه ويرفعون الذبائح له نيابة عنهم) كانوا يعترفون بخطاياهم له وحده، فقد قال داود النبي "أَعْتَرِفُ لَكَ بِخَطِيَّتِي" (مزمور 32: 5)، كما قال لله "إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ وَالشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ" (مزمور 51: 4) وقال نحميا لله "لِتَكُنْ إذنُكَ مُصْغِيَةً وَعَيْنَاكَ مَفْتُوحَتَيْنِ لِتَسْمَعَ صَلاَةَ عَبْدِكَ الَّذِي يُصَلِّي إِلَيْكَ الآنَ نَهَاراً وَلَيْلاً لأجل بَنِي إسرائيل عَبِيدِكَ وَيَعْتَرِفُ بِخطايا بَنِي إسرائيل الَّتِي أَخْطَأْنَا(1) بِهَا إِلَيْكَ. فَإِنِّي أَنَا وَبَيْتُ أَبِي قَدْ أَخْطَأْنَا" (نحمياً 1: 6) وقال دانيال أيضاً "وَصَلَّيْتُ إلى الرَّبِّ إلهي وَاعْتَرَفْتُ وَقُلْتُ: [أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلَهُ الْعَظِيمُ الْمَهوبُ حَافِظَ الْعَهْدِ وَالرَّحْمَةِ لِمُحِبِّيهِ وَحَافِظِي وَصَايَاهُ. أَخْطَأْنَا وَأَثِمْنَا وَعَمِلْنَا الشَّرَّ وَتَمَرَّدْنَا[5] وَحِدْنَا عَنْ وَصَايَاكَ وَعَنْ أَحْكَامِكَ "كما قال "وَبَيْنَمَا أَنَا أَتَكَلَّمُ وَأُصَلِّي وَأَعْتَرِفُ بِخَطِيَّتِي وَخَطِيَّةِ شَعْبِي إسرائيل وَأَطْرَحُ تَضَرُّعِي أَمَامَ الرَّبِّ إلهي عَنْ جَبَلِ قُدْسِ إلهي" (دانيال 9: 5-20)

وإذا كان ذلك كذلك، فلا مجال للقول بوجوب الاعتراف بالخطية أمام القسوس أو غير القسوس.

2. [إننا في حاجة إلى وسطاء بيننا وبين الله، لأنهم يسهلون أمامنا أمر الاعتراف بالخطية ويبعثون الراحة إلى ضمائرنا بكلمة الصفح التي نسمعها منهم إذ أنهم بشر مثلنا يشفقون علينا ويرثون لنا، وفي الوقت نفسه هم أقرب إلى الله منا ويسمع لهم أكثر مما يسمع لنا].

الرد: فضلاً عن أننا لسنا في حاجة إلى أن نسمع كلمة صفح من أحد الناس، لأن الله وحده هو الذي يصفح، وقد أعد لنا في كتابه السبيل للحصول على الصفح، كما ذكرنا فيما سلف، نقول:

(أ) حقاً أننا لا نستطيع أن نقترب في ذواتنا إلى الله مباشرة، لكن لا يحق لنا أن نقيم من أنفسنا وسيطاً بيننا وبينه، إذ قد يكون الوسيط الذي نختاره ليس جديراً بهذا المركز لديه تعالى، ومن ثم لا يجوز القبول أمامه. ولذلك فإن الوسيط لا يصح أن يكون وسيطاً إلا إذا كان معيناً من الله نفسه. وبالرجوع إلى الكتاب المقدس نرى أن الله قد عين فعلاً هذا الوسيط، ولذلك لا يجوز أن نتخذ لأنفسنا وسيطاً غيره، مهما كان مقامه في نظرنا. أما الوسيط الذي عينه الله لنا فهو "المسيح" فقد قال الوحي "لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإنسان يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأجل الْجَمِيعِ" (1تيموثاوس 2: 5، 6)، كما قال عنه انه "وَسِيطٌ أيضاً لِعَهْدٍ أَعْظَمَ، قَدْ تَثَبَّتَ عَلَى مَوَاعِيدَ أَفْضَلَ" (عبرانيين 8: 6)، وَلأجل هَذَا هو وَسِيطُ عَهْدٍ جَدِيدٍ، لكي يَكُونَ الْمَدْعُّوُونَ - إذ صَارَ مَوْتٌ لِفِدَاءِ التَّعَدِّيَاتِ الَّتِي فِي الْعَهْدِ الأول - يَنَالُونَ وَعْدَ الْمِيرَاثِ الأبديِّ، والسبب في كون المسيح هو الوسيط الوحيـد بين الله وبيـننا (أولاً) أنه هو الله والإنسان معاً (ثانياً) أنه هو الذي وفى مطالب عدالة الله وقداسته من نحونا إلى الأبد، وهذان هما الشرطان اللذان يجب توافرهما في الوسيط أو الشفيع. ومما تجدر ملاحظته أن الوحي بقوله عن المسيح إنه وسيط بين الله وبيننا (وليس بيننا وبين الله) يعلن لنا أن الله نفسه هو الذي يريد أن يقترب منا ويقربنا إلى شخصه، وهذا ما يشجعنا على الاتجاه إليه مباشرة ويملؤنا بالثقة الكاملة في القبول أمامه في المسيح. كما أن الوحي بقوله عن المسيح "الإنسان يسوع المسيح" يعلن لنا أننا إذا أردنا إنسانا مثلنا يشعر بضعفنا ويرثي لنا، حتى يستطيع أن يمثلنا أمام الله تمثيلاً صادقاً ويشفع بكل جوارحه فينا لديه، فهذا الإنسان هو "يسوع المسيح" من الناحية الناسوتية. وأنعم به من إنسان وأكرم! فكل الناس مهما كان شأنهم، هم دونه بما لا حد له أو قياس.

(ب) فضلاً عن ذلك فإن المسيح (كما يتضح لنا من تاريخ حياته على الأرض) هو أفضل من يشفق علينا ويرثي لنا (أقرأ: متى 15: 22، يوحنا 11: 33، 35)، ولذلك قال الرسول لنا عنه "لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئيسُ كَهَنَةٍ[6] غَيْرُ قَادِرٍ أن يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ "كما قال "لأَنَّهُ فِي مَا هو قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرباً يَقْدِرُ أن يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ" (عبرانيين 4: 15، 18)، ومن ثم يكون الاعتراف أمامه أيسر وأفضل من الاعتراف لأي فريق من الناس (إن كان هناك مجال للاعتراف لهم)، كما تكون الثقة في الحصول على الغفران بواسطة الاعتراف أمامه، لا يعتريها شك على الاطلاق.

وقد عرف هذه الحقيقة كثيرون من القدماء فقالوا: "ادع يسوع المسيح ابن الله من القلب بدون انقطاع، مع كل نسمة من أنفاسك، معترفاً له بخطاياك واثقاً من غفرانها. لأن النفس التي تداوم على الدعاء بذلك الاسم العظيم، سرعان ما تصل إلى صاحب الاسم ذاته". وقالوا أيضاً: "لا تقل إنى خاطىء، وليست لى الشجاعة أن أقف لأصلي. إن كل من يعتبر نفسه مرذولاً، يستمع الله إليه كما استمع للعشار. لنا ثقة مثل هذه لدى الله من أجل الصفح عن الخطايا السالفة". وأيضاً: "إعلم أنه ليس باستحقاقك تنال سؤالك بل بإيمانك" وأيضاً: "خالقك يحب كلامك وحديثك أفضل من المراتب العليا، وهو يشتاق إلى صوتك أعظم من الروحانيين ويفرح بصوتك أفضل من الساروفيم" وأيضاً "إنه يكلمنا بذاته، بصوته الذي نحبه ونتوق إليه، دون وسيط أياً كان" (حياة الصلاة الأرثوذكسية 231، 324، 405، 101، 107)

(ج) أما القول [إن هناك شفاعتين: الشفاعة الكفارية والشفاعة الاستغفارية، والأولى خاصة بالمسيح وحده، أما الثانية فيقوم بها القسوس]، فليس له أساس في الكتاب المقدس على الإطلاق، بل هو من تأليف هؤلاء القسوس، ليبرروا قولهم إنهم يقومون بمركز الوساطة بين الناس وبين الله[7] إذ من الواضح أن الكفارة مرتبطة بالغفران كل الارتباط. فلا كفارة بدون غفران ولا غفران بدون كفارة. كما أن الذي له حق القيام بالشفاعة بكل معانيها هو المسيح وحده لسببين السابق ذكرهما، وكفانا على ذلك دليلاً أن الرسول قال للمؤمنين: "أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هَذَا لكي لاَ تُخْطِئوا. وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ. وَهو كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخطايا كُلِّ الْعَالَمِ أيضاً" (1يوحنا 2: 1-2)

ومما تجدر ملاحظته في هذه الآية (أولاً) أنها لا تقول: "وإن تاب أحد"، بل تقول "وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ"، أي أن المؤمن بمجرد أن يخطىء يعمل المسيح على رد نفسه إلى الله، لأن هذا المؤمن هو أحد خرافه الذين اشتراهم بالدم الكريم.

(ثانياً) أن قول الوحي "فَلَنَا شَفِيعٌ" لا يدل على أننا إذا أخطأنا يتولى المسيح الشفاعة لأجلنا، بل يدل على أنه قائم بهذه الشفاعة باستمرار لأجلنا، ليحفظنا في حالة القبول أمام الله (ثالثاً) أن قول الوحي أن المسيح شفيع لنا لدى "الآب" وليس لدى الله، يدل على بقاء علاقتنا بالله كبنين، حتى إذا عثرنا، ذلك لأن حصولنا على هذا المقام لا يتوقف على أعمالنا بل على نعمة الله (رابعاً) أن وصف المسيح في شفاعته بأنه البار أو العادل، يضفي أهمية عظيمة عليها، لأنه لا يبنيها على الاسترحام والاستعاطاف، بل يبنيها على حقوقه الشخصية في حفظ المؤمنيـن في كل حين في حالة القبول التام أمام الله، بسبب الكفارة التي قدمها لأجلهم (خامساً) أخيراً أن قوله عن المسيح إنه "كفارة لخطايا كل العالم أيضاً" يرينا عظمة كفارته وإمكانية إفادة كل واحد منا بها، الأمر الذي لا يدع مجالاً أمام أضعف المؤمنين للبحث عن وسيط أو شفيع بشري، في حالة السقوط في خطية ما.

3. [إن الاعتراف بالخطية أمام القسوس للحصول على الغفران، كان يمارس في الكنيسة منذ نشأتها، الأمر الذي يدل على أنه من تعليم الرسل أنفسهم].

الرد: فضلاً عن أن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد لا يأمرنا بالاعتراف بالخطية أمام أي فريق من الناس، الأمر الذي لا يدع مجالاً للرأي الذي نحن بصدده نقول: إننا بالرجوع إلى التاريخ نرى ما يأتي[8]:

(أ) أن معظم القديسين الذين عاشوا في القرون الأربعة الأولى، مثل باسيليوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم، أعلنوا صراحة أن الاعتراف يجب أن يكون لله وحده.

(ب) ولكن ظهر في القرن الثالث أساقفة كانوا يطلبون من المؤمنين الذين يخطئون أن يعترفوا بخطاياهم علناً أمام الكنيسة (أو بالحري أمام جماعة المؤمنين) لكي يطلبوا من الله أن يغفرها لهم ويساعدهم على السلوك بالتقوى والقداسة، ولكي يفرضوا عليهم أيضاً ما يرونه مناسباً من التأديب حتى يشعروا بشناعة خطاياهم ولا يعودوا إلى مثلها مرة أخرى. ولذلك كانوا يأمرونهم بلبس المسوح والرماد، والامتناع عن الزينة ومراعاة التقشف الكلي في حياتهم، والمواظبة على التنهد والبكاء. كما كانوا يأمرونهم بالصوم لمدة من الزمن مع دفع مبلغ من المال للأرامل والأيتام، ويحرمونهم من الاشتراك في عشاء الرب والصلاة مع المؤمنين والتحدث معهم. ولم يكن الغرض من هذه التأديبات وقتئذ الحصول على الغفران من الله، بل مصالحتهم مع الكنيسة لأنهم بخطاياهم قد أساؤوا إلى سمعتها في العالم.

(ج) وفي القرن الرابع احتكر بعض الأساقفة لأنفسهم أمر الحكم بالتأديب، كما تطرفوا فيه كثيراً. فكانوا يامرون بالامتناع عن الزواج لغير المتزوجين، وعدم المعاشرة الزوجية للمتزوجين، أو الإنـزواء في دير حتى يأذن لهم الأساقفة المذكورون بالعودة إلى بيوتهم. ولذلك كان كثيرون من الذين يخطئون يؤجلون الاعتراف بخطاياهم إلى ساعة الوفاة. ولما علم أوغسطينوس بذلك، نصح المؤمنين بوجوب الاعتراف بخطاياهم على الأقل مرة في كل عام، حتى يكون لهم نصيب في السماء.

وعلى الرغم من هذا النصح كان كثيرون يحجمون عن الاعتراف بخطاياهم خشية الفضيحة والعار، ولذلك صدرت قرارات في القرنين الرابع والخامس بأن الاعتراف يجب أن يكون سرياً أمام الأساقفة والقسوس وحدهم. كما صدرت قرارات تحرم على هؤلاء وأولئك إفشاء سر المعترفين، ومن ثم دعي الاعتراف "سراً" (بمعنى أمر يجب عدم ذكره أمام الغير) وكان أول من دعاه بهذا الاسم هو البابا "ليو" الأول سنة 459م. وبعد ذلك أمر هذا البابا أن يعطي الأساقفة للمعترفين وثيقة تدل على حصولهم على الغفران من الله، حتى تطمئن قلوبهم ولا تقوم ضدهم دعوى من أحد بسبب الخطايا التي فعلوها، فكانت هذه الوثيقة نواة لصكوك الغفران التي ظهرت فيما بعد.

ولكن نظراً لأن الأساقفة لم يكونوا قد ادعوا بعد أن لهم سلطاناً لغفران الخطايا كان بعض المسيحيين لغاية القرن الخامس يكتفون بالاعتراف بخطاياهم أمام الله دون سواه.

(د) وبعد ذلك حدثت ثلاث مباحثات خطيرة بين الأساقفة من جهة الموضوعات الآتية (الأول) هل الاعتراف يكون لله أم لهم؟ فاستقر الرأي على أنه يكون لهم، لأنهم هم الذين يقدمون العشاء الرباني للمعترفين (الثاني) وهل الغرض من التأديب الذي يفرضونه هو الإصلاح أم التكفير؟ فاستقر الرأي على أنه للتكفير، وأنه بدون تنفيذه لا تغفر الخطية على الإطلاق[9] (الثالث) وهل تقتصر سلطتهم على غفران الصغائر من الخطايا، أم تشمل الكبائر أيضاً، مثل الارتداد والزنا والقتل؟ فاستقر الرأي على أن لهم السلطة على غفران الصغائر والكبائر أيضاً، إذا نفذ الذين ارتكبوها التأديب الذي يفرض عليهم.

(هـ) ومع ذلك كان كثير من الأساقفة لا يسندون لأنفسهم سلطة الله في منح الغفران، وكل ما كانوا يفعلونه وقتئذ أنهم يعظون المعترفين ويفرضون عليهم التأديب الذي يتراءى لهم فرضه، وذلك لأجل إصلاحهم وإبعادهم عن الخطية. وإذا نفذوا التأديب المفروض عليهم، يعلنون لهم أن الله غفر لهم وصفح عنهم، ومن ثم كانوا يقولون للمعترف "الله الضابط الكل يرحمك ويغفر خطاياك" لكن لما عظم شأن الأساقفة بعد ذلك، أسندوا إلى أنفسهم سلطان الحل والربط، ليس بالمعنى الذي ذكرناه فيما سلف، بل بمعنى منح الغفران أوعدم منحه. فقد أخذ الواحد منهم يقول للمعترف "إني أحلك من خطاياك" أو"كن محلولا منها من فم الله ومن فمي"[10]. فثار بعض المؤمنين وقتئذ ضد الأساقفة وأنكروا عليهم هذا السلطان، ولكن البعض الآخر أذعن لهم وانقاد لآرائهم خوفاً من غضبهم أوسخطهم، كما يقولون.

واستمرت الحال على هذا المنوال حتى جاء (اينوسنت الثالث) بابا روما في القرن الثالث عشر، فقرر أن الاعتراف يجب أن يكون إجبارياً لا اختيارياً. كما قرر أن الأساقفة هم نواب الله على الأرض، ومن ثم لهم أن يمنحوا الغفران للذين يعترفون بخطاياهم، فوجد قراره هذا أنصاراً كثيرين بسبب الجهل بكلمة الله بينهم. وفي سنة 1550م التأم المجمع التريدنيتي. وقرر فيما قرره من أمور، أن الاعتراف للأساقفة سر من الأسرار الإلهية، بمعنى عمل منظور عن طريقه يعطي الله بركة غير منظورة، هذا هو تاريخ الاعتراف بالخطية أمام القسوس، ومنه يتضح لنا أنه دخيل على المسيحية وليس أصلياً فيها.

لكن وإن كان الاعتراف بالخطية أمام الأساقفة أو القسوس لكي يحلونا من خطايانا أو يجلبوا لنا الغفران عنها دخيل على المسيحية كما رأينا، لكن من الجائز بل ومن النافع أيضاً أن نذكر لبعض إخوتنا المتقدمين في حياة التقوى والإيمان ما نحس به من ضعف روحي وما يصدر منا من أخطاء بسببه، لكي نفيد من اختباراتهم ونصائحهم، ولكي يصلوا أيضاً معنا حتى ننال قوة من الله تنصرنا على ضعفنا وخطايانا. غير أن هذا العمل لا يدعى اعترافاً بالخطية لهم، وليس الغرض منه الحصول على غفران منهم أو بواسطتهم.

اعتراف المؤمنين بخطاياهم بعد الإيمان

أخيرا يتساءل بعض الناس قائلين [إن كان المؤمنون الحقيقيون قد غفرت لهم كل خطاياهم بمجرد إيمانهم بالمسيح، فلماذا يجب أن يعترفوا بالخطايا التي يأتونها بعد الإيمان حتى يغفرها الله لهم. فقد قال الرسول لهم "إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهو أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ" (1يوحنا 1: 9)].

وللرد على ذلك نقول: بالرجوع إلى الكتاب المقدس، يتضح لنا أن الغفران الذي يمنحه الله للمؤمنين الحقيقيين بمجرد إيمانهم، ليس غفرانا عن فترة خاصة من الزمن، بل هو غفران عام عن خطاياهم الماضية والحاضرة والمستقبلة[11]، لأن بهذا الإيمان تحسب كفارة المسيح تعويضاً عن نفوسهم، والنفوس لا تتجزأ إلى أجزاء كما ذكرنا. وهذا الغفران الأبدي العام مصحوب بالولادة الثانية من الله والحصول على الروح القدس، وغايته النجاة من الدينونة والتمتع بالله إلى الأبد أيضاً (يوحنا 3: 6). أما الغفران الذي يمنحه الله لهم عندما يعترفون بخطية يأتونها بعد الإيمان، فهو متعلق بالوقت الحاضر وعن هذه الخطية وحدها، والغرض من هذا الغفران ليس إعادة ولادتهم من الله [لأن هذه الولادة لا تحدث إلا مرة واحدة]. ولا إعادة إعطائهم الروح القدس [لأن هذا الروح وإن كان يحزن بسبب سوء تصرفهم (أفسس 4: 30) لكن لا ينـزع منهم على الإطلاق (أفسس 1: 14)، إذ أنه معطى لهم ليس بناء على أعمالهم بل بناء على كفارة المسيح الدائمة الأثر]، ولا إعادة تطهيرهم بالدم الكريم [لأن التطهير به يتم مرة واحدة عند الإيمان الحقيقي بالمسيح (أعمال 15: 9)]، ولا إعادة منحهم الحياة الأبدية [لأن هذه الحياة مضمونة لهم إلى الأبد بفضل كفارة المسيح كما ذكرنا فيما سلف]، بل الغرض من هذا الغفران هو رفع ثقل الخطية التي فعلوها عن كاهلهم (2كورنثوس 2: 5-11)، ثم إعادتهم إلى حالة الشركة الروحية الصافية مع الله، حتى يستطيعوا التمتع به والقيام بخدمته في العالم الحاضر، كما كانوا يفعلون من قبل.

(ب) فنحن وإن كان لنا بفضل كفارة المسيح غفران كامل إلى الأبد، لكن إن سقطنا في خطية ما بعد الإيمان، لا نستطيع أن نقترب إلى الله كما كنا نفعل مـن قبـل (وذلك لقداسته المطلقة وكراهيته للخطية أينما وجدت)، ونظل على هذه الحالة من البؤس والحرمان حتى نأتى إليه بتذلل وانسحاق ونعترف بهذه الخطية أمامه، متعهدين بعدم العودة إلى مثلها. وحينئذ يزول ثقلها عن نفوسنا وتعود إلينا علاقتنا الطيبة معه. وقد وصف داود النبي حالته قبل أن يعترف بخطيته أمام الرب فقال "لَمَّا سَكَتُّ بَلِيَتْ عِظَامِي مِنْ زَفِيرِي الْيَوْمَ كُلَّهُ 4لأَنَّ يَدَكَ ثَقُلَتْ عَلَيَّ نَهَاراً وَلَيْلاً. تَحَوَّلَتْ رُطُوبَتِي إلى يُبُوسَةِ الْقَيْظِ". وكان من الجائز أن يظل على هذه الحال طوال حياته على الأرض لولا أنه اعترف بخطاياه، فقال "أَعْتَرِفُ لَكَ بِخَطِيَّتِي وَلاَ أَكْتُمُ إِثْمِي. قُلْتُ: [أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي] وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي" (مزمور 32: 5).

فمثل المؤمنين الحقيقيين في حالة السقوط في الخطية مثل أبناء بررة لأب عطوف شفوق، فإنهم إذا أخطأوا لا ينكر أبوهم بنوتهم له أويطردهم من بيته، أويحرمهم من الميراث الذي أعده لهم، بل يظهر فقط أسفه الشديد لسوء تصرفهم ويحرمهم من بعض الامتيازات التي كان يمتعهم بها من قبل (مثل الترحيب بهم في حضرته، والتحدث باللطف معهم، وإغداق الهدايا عليهم)، وهذا ما يحز في نفوسهم ويؤلمهم كثيراً. ولكن عندما يأتون إليه متأسفين لخطئهم، ومتعهدين بعدم العودة إلى مثله، يصفح عنهم، وبذلك يعودون للتمتع به، كما كانوا يتمتعون من قبل.

(ج) ومما تجدر ملاحظته أن الاعتراف بالخطية ليس مجرد طلب الغفران عنها، بل هو التصريح بها أمام الله. فيقول المعترف وهو في كامل الوعى أمامه تعالى أنه (مثلاً) أهمل في الصلاة ودراسة الكلمة والانقياد بالروح القدس، أو أنه أحب العالم وركض وراءه، أو أنه كذب أو راءى أو غش أو سرق أو تنجس، أو... أو...! والله يطلب منا أن نذكر الخطية كما هي أمامه، لأن في ذكرها نشعر بشناعتها ونتألم لارتكابها، ونعزم على عدم العودة إلى مثلها. إذ أنه لا يريد أن نعترف بخطايانا لكي نحصل فقط على الصفح عنها، بل لكي نهذب نفوسنا ونصلح إعوجاجها، لكن يجب الا يغيب عنا أن الاعتراف وإن كان مذلا للنفس، غير أنه ليس الثمن الذي عينه الله للغفران، بل هو فقط السبيل الذي يهيء نفوسنا للتمتع بهذا الغفران. لأن الثمن الوحيد للغفران هو كفارة المسيح، وهذه الكفارة لا تزال محتفظة بقيمتها وستظل محتفظة بها إلى الأبد أيضاً كما ذكرنا فيما سلف. ولذلك إذا سقطنا في خطية بعد الإيمان لا يستدعي الأمر أن نقدم ذبيحة ما، أونطلب من أحـد أن يقدم هذه الذبيحة عنا، بل أن نعترف اعترافا قلبياً بما أخطأنا به أمام الله، وفي نيتنا ألا نعود إلى مثله مرة ثانية، فنحظى للتو بالصفح والغفران ونتمتع بالراحة والسلام.

(د) أخيراً نقول: نظراً لكفاية كفارة المسيح وتحقيقها لكل مطالب عدالة الله وقداسته إلى الأبد من جهتنا نحن المؤمنين، فإن الغفران الذي نناله بواسطة الاعتراف، لا يكون نابعاً من عطف الله ورحمته فحسب، بل ومن عدالته وأمانته أيضاً. فقد قال الوحي في الآية التي نحن بصددها أن الله "أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ"، وهذا ما يؤكد لنفوسنا بدليل قاطع أنه بمجرد الاعتراف القلبي بخطايانا، يغفرها الله لنا ويعود بنا إلى حياة الشركة الروحية التي كانت لنا معه من قبل، الأمر الذي لا يدع مجالاً أمام المؤمن الحقيقي لمجرد التفكير في الاعتراف بالخطية أمام أي إنسان مهما كانت مكانته.


-[1] لكن وإن لم يكن هناك كهنة بالمعنى الحرفي في العهد الجديد، غير أن هناك كهنة بالمعنى الروحي فيه. وهؤلاء الكهنة هم المؤمنون الحقيقيون، وذلك لأنه أصبح لهم امتياز الاقتراب من الله في المسيح. فقد قال الرسول عن المسيح إنه "الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ، وَجَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلَّهِ أَبِيهِ" (رؤيا 1: 5-6)

[2] - أما التفرقة بين القسيس والأسقف، فقد حدثت في القرن الثاني بعد انتقال الرسل من هذا العالم. فقد استحسن كثير من القسوس أن يقيموا لهم رئيساً مشهوراً بالفطنة لكي يوزع عليهم أعمالهم ويضع حداً لما يقوم بينهم من نـزاع. وقد أطلقوا على هذا الشخص وحده لقب أسقف، أو ناظر.

[3] - ولكنهم أطلقوا على أنفسهم هذا الاسم في القرن الثالث عندما اعتبروا العشاء الرباني ذبيحة، تقدم لله للحصول على الغفران.

[4] - "الرشم"، كما هو معروف بين الجماعات التي تعتقد أن الزيت المذكور سر من الأسرار، هو عمل علامة على هيئة صليب صغير بهذا الزيت، على بعض أعضاء الجسم، كالجبهة واليدين.

[5] - نرى في هذه الآيات عمل الكهنوت الروحي الجليل فنحميا ودانيال مع أنهما لم يشتركا في خطايا الشعب، لكنهما حملاها على نفسيهما كما لو كانت خطاياهما الشخصية، وطلبا من الله الصفح عنها، وهما بذلك صورة مصغرة للمسيح من جهة ناسوته، فهو مع قداسته المطلقة رضي أن تنسب خطايانا إليه وأن يقوم هو بالتكفير عنها بنفسه. ولذلك قال على لسان النبي قديما لله، "يا اللهُ أَنْتَ عَرَفْتَ حَمَاقَتِي وَذُنُوبِي عَنْكَ لَمْ تَخْفَ" (مزمور 69: 5)

[6] - يدعى المسيح رئيس كهنة لسببين (الأول) أنه قام بالعمل الذي كان يقوم به رئيس الكهنة في العهد القـديم (وهو الحصول على الغفران للشعب) بصفة رمزية (الثاني) "وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ، وَجَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلَّه" (رؤيا 1: 9)، "كُونُوا أَنْتُمْ أيضاً مَبْنِيِّينَ كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ، بَيْتاً رُوحِيّاً، كَهَنُوتاً مُقَدَّساً، لِتَقْدِيمِ ذَبَائحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ اللهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ" (1بطرس 2: 5)

-[7] لأنه لا يخطر ببالهم أن يقولوا أنهم وسطاء بين الله وبين الناس، وإذا كان ذلك كذلك، فإن وساطتهم (إن كانت لهم وساطة) لا يوثق بها على الاطلاق.

-[8] عن ريحانة النفوس، وتاريخ الكنيسة لموسهيم (للإنجيليين) والأسرار السبعة واللآليء النفيسة ومختصر المقالات اللاهوتية (للأرثوذكس والكاثوليك)

[9] - وقد أغنانا عن الرد على هذا الاعتقاد الخاطىء معلم أرثوذكسي مشهور، فقد قال "من الذي يقدر أن يخلصنا ويفي العدل الإلهي حقوقه: هل دم يسوع المسيح أم التأديب؟ لا لعمري، فإنه لو سفك جميع البشر دماءهم لما أمكنهم وفاء جزء من حقوق عدل الله". كما قال "إن التوبة والبكاء والصوم والرحمة هي من علامات الإيمان الحقيقي بالله والانسحاق القلبي أمامه والابتعاد عن الخطية، ولكنها لا تفي حقوق عدل الله الغير المحدودة" (أسرار الكنيسة السبعة ص 146- 148)

[10] - مما تجدر الإشارة إليه أن الكهنة لدى الأرثوذكس مع قولهم في القداس الغريغوري أن الله أعطاهم أن يغفروا الخطايا وأن يربطوا ويحلوا أيضاً، يصلون إلى الله قائلين "اللهم أنعم لنا بغفران خطايانا. باركنا. طهرنا. حالل سائر شعبك"، الأمر الذي يدل على أنهم لا يثقون بينهم وبين أنفسهم أن لهم سلطان الحل بالمفهوم الأرثوذكسي والكاثوليكي. وأن هذا السلطان هو في يد الله دون سواه.

[11] - أما الدعوى بأن هذا الغفران يشجع المؤمنين الحقيقيين على عمل الخطيئة فلا مجال لها على الإطلاق، لأن هؤلاء المؤمنين مولودون من الله مرة ثانية، وبهذه الولادة سكن فيهم الروح القدس وأصبحوا شركاء لله في طبيعته الأدبية. ومن ثم فإنهم يكرهون الخطية بكل قلوبهم. وإن سقطوا فيها مرة لا يطيقون البقاء فيها لحظة، بل يسرعون إلى الرب لكي يشغلوا مركزهم أمامه بالتقوى والقداسة كما كانوا يفعلون من قبل.

  • عدد الزيارات: 8610