Skip to main content

الذبائح والقرابين في العهد القديم، ومدلولها في العهد الجديد

كان كهنة اليهود يقدمون لله ذبائح المحرقة والسلامة والإثم والخطية وذبيحة الكفارة السنوية، مع القرابين اللازمة كما ذكرنا فيما سلف، واستيفاء للبحث نتحدث فيما يلي عن ذبيحتين لم تسبق الإشارة إليهما، وهما ذبيحتا المحرقة الصباحية والمسائية. فقد أمر الله الكهنة أن يقدموا خروفاً محرقة كل صباح وخروفاً محرقة كل مساء، مع دقيق ملتوت بالزيت وشيء من الخمر (خروج29: 38- 42) ولذلك كانت النار تتقد على المذبح من الصباح إلى المساء، لأن الكهنة كانوا يمدونها باستمرار بالوقود اللازم، وإزاء ذلك نقول:

1-إن ذبيحة المحرقة (كما ذكرنا في كتاب كهنوت المسيح) ترمز إلى المسيح بوصفه الذي أرضى الله ونفذ مشيئته إلى التمام. والغرض من حفظ نار المذبح مشتعلة نهاراً وليلاً، كان بقاء شعب بني إسرائيل في حالة الأمان والاطمئنان طوال الليل والنهار، تحت حماية هذه الذبيحة. لأن رائحتها الطيبة كانت تتصاعد باستمرار إلى الله، جالبة إليهم رضاه. وكان ذلك رمزاً إلى أنه على أساس كمال ذبيحة المسيح نستطيع أن نعيش في سلام واطمئنان أمام الله، في كل وقت من الأوقات.

2-إن الدقيق الملتوت بالزيت يشير إلى حياة المسيح النقية المملوءة بالروح القدس، والخمر يشير إلى الفرح (مزمور104: 15)، أو بالحري إلى سرور الله بالمحرقة المقدمة إليه. كما يشير إلى مشاركة شعبه له في هذا السرور، لأنه تعالى يريد أن يمتعنا بابنه كما يتمتع هو به، حتى تمتلئ قلوبنا نحن أيضاً بالفرح- وفرح الرب هو قوتنا (نحميا8: 10).

3-وذبيحتا المحرقة الصباحية والمسائية كانت لهما ميزة لا تتوافر في غيرهما من الذبائح، إذ كانتا دليلاً على أن لله علاقة أيضاً مع الناس الذين لم يكن لهم امتياز الدخول إلى القدس أو إلى قدس الأقداس (خروج29: 42- 43). ومن ثم كانتا رمزاً إلى المسيح من حيث كونه الطريق أمام كل الناس إلى الله. فقد قال له المجد عن نفسه "أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي" (يوحنا14: 6).

مما تقدم يتضح لنا أن كل الذبائح والقرابين كانت رموزاً إلى المسيح من نواح متعددة. وبمجيء المسيح بطلت هذه الرموز، لأن كفارته وفت كل مطالب عدالة الله من جهة الخطية إلى الأبد، كما جعلت المؤمنين الحقيقيين على أساسها مقدسين أمام الله (عبرانيين10: 10). ومن ثم لم تعد بعد حاجة إلى ذبيحة أو قربان للتكفير عن الخطية (عبرانيين10: 18). ولذلك إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نرى أن الذبائح التي يقدمها المؤمنون الحقيقيون في العهد الجديد، هي ذبائح روحية محض، كما يتضح مما يلي:

1-تقديم الجسد ذبيحة:

فقد قال الرسول لهؤلاء المؤمنين "فأطلب إليكم برأفة[1]الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله، عبادتكم العقلية" (رومية12: 1). وإزاء هذه الآية نقول:

(أ)-إن المراد بالجسد هنا، ليس الكيان المادي في الإنسان (كأن هذا يجب أن يعذب بأي شكل من الأشكال، كما يفعل بعض الناس)، بل المراد به الإنسان بأكمله (أي بما يحويه من روح ونفس وجسد)- وذلك من باب إطلاق اسم الجزء على الكل.

(ب)-والمراد بتقديم الجسد "ذبيحة حية" أن يحسب المؤمنون أنفسهم أمواتاً عن الخطية، وفي الوقت نفسه أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا (رومية6: 11)، لأن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات (غلاطية5: 24). ولذلك قال الرسول عن نفسه "مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ" (غلاطية2: 20).

(ج)-والمراد يكون هذه الذبيحة "مقدسة ومرضية، أن تكون حياة هؤلاء المؤمنين مخصصة بأسرها لله، وأن تكون أعمالهم وأقوالهم وأفكارهم لأجل مجده دون سواه.

هذه هي العبادة العقلية أو بالحري "الخدمة التي بحسب الفطنة[2]" التي يريدها الله- وهي عقلية لأن المؤمنين الحقيقيين يدركون حق الإدراك إن الله لا تهمه الذبائح الحيوانية بل تهمه الحياة النقية لكي يستخدمها في تنفيذ مشيئته. كما يدركون حق الإدراك أن الأعمال الصالحة، إذا لم تكن صادرة من نفوس مكرسة لله يكون بها الكثير من العيوب والنقائص.

2-فعل الخير وتوزيع المال والملابس على الفقراء:

فقد قال الرسول للمؤمنين "ولكن لا تنسوا فعل الخير والتوزيع، لأنه بذبائح مثل هذه يسر الله" (عبرانيين13: 16). وإزاء هذه الآية نقول:

(أ)-إن فعل الخير والتوزيع في نظر المؤمنين الحقيقيين، أرفع من أن يكون فريضة من الفرائض الدينية، لأنهم يقومون به بكل سرور وسخاء، مشاركة لله في اهتمامه بالمحتاجين على اختلاف أجناسهم، دون انتظار لجزاء أو ثواب- ذلك لأنهم نالوا من الله بمجرد إيمانهم القلبي بالمسيح بركات وهبات لا تقدر بكل ما في العالم من ثروة[3]. ومن ثم فمهما ضحوا من صحة أو وقت أو مال في سبيل الله، يرون أنهم لم يفعلوا شيئاً على الإطلاق.

(ب)-والوحي الإلهي يضع أمامنا صورة مشرفة لمؤمنين تفانوا في البذل والعطاء، لدرجة أصبحوا معها في حالة الفقر المدقع. فقال عنهم إنهم على الرغم من اجتيازهم في ضيقة مالية قاسية، أعطوا من القليل الذي لديهم بفرح وسخاء حتى أصبحوا فقراء، ذلك لأنهم أعطوا فوق طاقتهم كثيراً (2كورنثوس8: 1- 4). ومن ثم ينهي الرسول جميع المؤمنين عن إلقاء رجائهم على المال، ويطلب منهم أن يصنعوا صلاحاً، وأن يكونوا أغنياء في أعمال حسنة، وأسخياء في العطاء وكرماء في التوزيع (1تيموثاوس6: 17- 21).

3-التسبيح:

فقد قال الرسول "فلنتقدم به (أي المسيح) في كل حين لله، ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه" (عبرانيين13: 15)، وإزاء هذه الآية نقول:

(أ)-إن التسبيح هو التعبير عن الفرح القلبي بسبب هبات الله وعطاياه. وقول الرسول عن التسبيح إنه "ثمر شفاه"، يدل على أن له أساساً أو جذوراً في القلب، وطبعاً القلب النقي المخلص لله. فمكتوب "صوت ترنم وخلاص في خيام الصديقين" (مزمور 118: 15). و "بالمستقيمين يليق التسبيح" (مزمور33: 1). وقد عرف أتقياء العهد القديم أيضاً أن التسبيح المذكور هو ذبيحة في نظر الله. فقال داود النبي "اذبح لله حمداً" (مزمور50: 14). كما قال له "فلك أذبح ذبيحة حمد" (مزمور 116: 17) أما التسبيح الخارج من الشفتين فحسب، لا يعتبر ذبيحة أمام الله، بل ولا يكون له أي مذاق أمامه. ولذلك يحرضنا الرسول على التسبيح بالقلب فقال "مترنمين في قلوبكم للرب" (كولوسي3: 16).

(ب)-وقول الوحي عن التسبيح إنه (ثمر شفاه "معترفة باسمه"، أو بالحري باسم المسيح) دليل على أن مادة التسبيح الحقيقي يجب أن تكون شخص المسيح نفسه، لأنه هو وحده موضوع سرور الله (متى3: 17) وسرورنا نحن أيضاً (حبقوق3: 18).

كما أن هذا التسبيح (كما يتضح من هذه الآية) يجب أن يكون "كل حين"، لأن إحسانات الله تتهاطل علينا في كل حين. و"التسبيح كل حين" من شأنه أن يرفع نفوسنا فوق أهواء العالم وهمومه، ويحفظها في حالة التأثر بالرب وإحساناته، الأمر الذي يبعث إليها بالنشاط الروحي ويقدرها على خدمة الرب وإكرامه.

(ج)-وقول الوحي "فلنتقدم به (أي بالمسيح) لله ذبيحة التسبيح" دليل على أنه بالإضافة إلى ضرورة نقاوة القلب، فإن التسبيح لا يحوز رضى الله إلا إذا كان مرفوعاً إليه بواسطة المسيح كرئيس الكهنة العظيم، لأنه هو الذي يستر كل نقص أو عيب فيه، بما يخلعه عليه من استحقاقاته الشخصية. وبذلك يكون مقبولاً كل القبول أمام الله.

(د)-أخيراً، إن تحريض الوحي لنا على التسبيح بعد قوله لنا: "فلتخرج إليه خارج المحلة"، دليل على أنه ليس هناك مجال للتسبيح، إلا إذا انفصلت قلوبنا عن أهواء العالم وانطلقت لتكون مع المسيح.


25-كلمة "رأفة" هنا، ترد في الأصل اليوناني في صيغة الجمع، أي "رأفات"، للدلالة على كل أنواع الرأفة التي عاملنا ويعاملنا الله بها.

26-كما جاء في بعض النسخ الإنجليزية للكتاب المقدس- ومما تجدر الإشارة إليه أن كلمة "العبادة" ترد بمعنى التعبد لله من أجل إحساناته، كما ترد بمعنى الخدمة التي يجب علينا القيام بها من نحوه بوصفنا عبيداً له. والقرينة تدل على أن المعنى الثاني هو المراد في الآية التي نحن بصددها.

27-وهذه البركات هي الغفران والتبرير والتطهير والتقديس والولادة من الله والبنوة له، والتمتع بالحياة الأبدية، كما ذكرنا بالتفصيل في كتاب "قضية الغفران".

  • عدد الزيارات: 23879