Skip to main content

أسئلة أساسيَّة

ما إن وصلت حنة ذات يوم من المدرسة إلى البيت حتى اندفعت تقول:

أين العدل والإنصاف؟

أجل، فالأمر لا يخلو من الظلم، إذ كان الغش مستشرياً كل حين. فما أكثر ما يتناقل التلاميذ وريقات كُتبت عليها الإجابات الصحيحة. وغالباً ما يتهامسون في أثناء الامتحانات وينسخون واجباتهم المدرسية بعضهم عن بعض. والبنات اللواتي اعتدن فعل ذلك كن ينجحن نجاحاً باهراً.

ولكن لم تنزل الصواعق من السماء، ولم يُبْدِ المعلمون والمعلمات أي اعتراض. وقد بدا أن التلاميذ الغشاشين يفعلون فعلتهم دائماً ويفرون من العقاب.

كان جيداً أن يُقال لحنة إن عدم الأمانة لابد يوماً أن يطبق فخه على أولئك الغشاشين. غير أن الحال ليست دائماً على هذا المنوال. فمن الناس من يتمكنون من شق طريقهم في الحياة بالكذب والغش والخداع، والفخ لا يطبق عليهم البتة. بل إننا نجدهم، على عكس ما نتوقع، ينجحون ويزدهرون. فالأمر ليس حسناً ولا عادلاً.

وماذا نقول في ما يعانيه بعض الناس من آلام تقطع نياط القلب؟ فمنذ عهدٍ قريب علمت بولادة طفلٍ كنت أعرف والديه منذ ولادتهما، بل إنني سهرت ليلةً على راحة أحدهما إذ كان أبواه خارج المنزل. كان الزوجان ينتظران وليدهما بفارغ الصبر، ولكن الطفل ولد مسخاً مشوهاً،وما لبث أن مات بعد أشهر. ولكن لماذا؟ لماذا حدث هذا؟

ثم إن هنالك ذلك الظلم الفادح الظاهر في الغنى الفاحش إلى جنب الفقر المدقع.

فبينما كنت أقوم بكتابة هذا الكتاب، علمت أن خزانةً (دولاباً) بيعت في لندن، وقد استنتجت أنها كانت تحفةً نادرة إذ بيعت بأكثر من تسع مئة ألف جنيه إسترليني، أي بما يقارب المليون. وقد كتبت الصحف أن الشاري غنم غنيمة. ولكن... مليون جنيه تقريباً ثمناً لصندوقٍ خشبيٍّ ضخم مزخرف! أما كان يمكن أن نشتري بهذا المبلغ ثلاثة ملايين وجبة طعام لأُناسٍ عضهم الجوع؟ حقاً إن شراء خزانة بمبلغ خياليّ في عالمٍ يخور فيه كثيرون جوعاً لأمرٌ عديم المعنى.

عند حدٍّ ما في حياتنا، يجد معظمنا الحياة مربكةً فعلاً، إذ يبدو أنها عديمة المعنى. حقاً، إنه لأمرٌ غير حسن. هذه العبارة الأخيرة نقولها عندما نواجه اختبارات كثيرة محيرة، من أمراضٍ وحوادث وميتات ومجاعات وحروب وزلازل...

كثيرون منا يتجاوبون إزاء كوارث كهذه بسخطٍ يائس، وتصدر من أعماقهم عبارات تدل على استيائهم من انعدام معنى الحياة كما يبدو.

من هنا يمكن النظر إلى الدين باعتباره محاولةً لإضفاء معنًى على الحياة. وفي الواقع أن البوذية تعبِّر بكلمة تقنية عن انعدام معنى الحياة في ذاتها، والكلمة هي "دُكْها"، وهي واحدة من ثلاث خصائص تتميز بها الحياة:

- أنيكّا، أي غير دائمة

- دُكْها، عديمة المعنى

- أناتّا، غير شخصية

من ثم تمضي البوذية فتقدم تفسيراً يبين الأسباب التي تجعل الحياة بهذه الخصائص والكيفية التي نستطيع بها أن نضفي على الحياة معناها.

وبينما تختلف أديان العالم حول طبيعة الحياة والطريقة التي بها قد نرجو إضفاء معنى عليها، فإنَّها تتفق جميعاً على أمرٍ واحد، وهو أن الحياة ينبغي أن يكون لها معنى. وبالحقيقة أن مهمة أيّ دين يُمكن أن تُعتبر أنَّها إيجاد المعنى لما هو عديم المعنى، أعني أنها مهمة تفسير "الدُكها"، أي انعدام معنى الحياة عموماً.

ولما كنت سأتحدث كثيراً عن الدين، فعليَّ أن أقدّم تعريفاً ما. وفيما تعريفات الدين المقترحة تعدّ بالعشرات، اخترتُ استعمال التعريف المشار إليه أعلاه.

إنّ ما ترجوه أديان العالم هو التمكُّن من تفسير "الدُكها" (انعدام المعنى عموماً في الحياة)، وذلك بالتوصُّل إلى أجوبة شافية عن الأسئلة الأساسية المتعلقة بالحياة.

هنالك بالطبع طرائق شتّى لتعريف "الدِّين". وليس التعريف الذي اعتمدته بالتعريف الوحيد، كما أنَّه لا ينطوي في خليفتّه على أية سلطة باتّة. لكن باستعمالنا لهذا التعريف نستطيع أن نضع تحت عنوان "الدين" جميع الأنظمة الدينية، أي المسيحية والإسلام واليهودية (الديانات التوحيدية الثلاث) والهندوسية والبوذية والتاوية والكونفوشيوسية والديانة الأفريقية التقليدية والسيخية، وغيرها من الأديان القائلة بآلهةٍ متعددة، أو المذاهب اللا أدرية.

هذا، وتختلف الماركسية قليلاً عن سواها من الأنظمة لكونها في الأساس إلحاديَّة. غير أنها، بمقتضى تعريفي، ما تزال ديناً، لأنها تقدِّم بالفعل أجوبةً عن الأسئلة الأساسية، ولأنَّها تتوقَّع من معتنقيها أن يؤمنوا بتلك الأجوبة. إنها تصوِّر انهيار نظام الطبقات في العالم كلّيّاً وانتصار البروليتاريا (طبقة العمال والكادحين). والماركسية مقترنة بنظرية التطوّر، مما يحدِّد جوابها عن السؤال"من أنا؟". وهي لا تعتقد أنَّ الحياة عديمة المعنى، بل ترى أنَّ للحياة ناموساً قائماً في عملية التفاعل بين النظام الحالي ونقيضه لأجل إنتاج مجتمع جديد. فهنالك الفرضية المطروحة (الطريحة) وما يعاكسها (النقيضة) وما ينتج من تفاعلهما (الجميعة) وهذه كلُّها تؤدّي إلى مجتمع صالحٍ وعادل.. ذلك هو الجواب عن السؤال "إلى أين نحن ذاهبون؟" بحسبما تذهب إليه الماركسيَّة.

وفي هذا ما يعيننا على إيضاح السبب الذي يجعل الماركسية عموماً في نزاعٍ مع الديانات، ولا سيمّا المسيحية. فالماركسية بحدّ ذاتها دين يطمح لأن يحلّ محل دينٍ آخر. وكما يصحُّ في اللغات استبدالُ فعلٍ بفعل لأنهما ينتميان إلى صنفٍ واحدٍ من الكلام، ففي الإمكان (وعند الماركسيين: من الواجب) أن تحلّ الماركسية محلّ المسيحية وسواها من الأديان، لكونها هي أيضاً ديناً من الأديان، والمفترض عند معتنقيها أنها أفضل الأديان.

أما وقد حددنا "الدين" وسردنا الأسئلة الأساسية، نستطيع الآن أن نسوق هذه الملاحظة: إنَّ أمانة البحث ودقّته لا تسمحان لنل بالقول إنَّ جميع الأديان سواسيةٌ فعلاً وإنّها تقول في جوهرها قولاً واحداً؟ وقد كتب جان كاين (John Kane) أن "البحث التفضيلي الدقيق في تاريخ الديانات قد أثبت أن التوكيدات السطحيَّة لوحدة الأديان هي بلا أساس صحيح".

وإنها لحقيقةٌ ثابتة أنَّ أديان العالم لا تختلف فقط حول القضايا الثانوية، بل أيضاً حول القضايا الجوهريّة ذلك أنّها تختلف في أجوبتها عن الأسئلة الأساسية.

لا يتّسع كتابٌ بهذا الحجم لمعالجة كلِّ من الأسئلة الأساسية بالتفصيل. ولكن حتى إلقاءُ نظرة سطحيَّة على الأسئلة وعلى الأجوبة التي تقدِّمها أديان العالم من شأنها أن تبيِّن لنا أن ما أشار إليه جان كاين هو أمرٌ غنيٌّ عن البيان.


من أنا؟

من أين جئت؟ إلى أين أنا ذاهب؟لماذا؟

من الطبيعي جداًّ أن تصدر أوّل مجموعة من الأسئلة عن وعينا لحدَّي الحياة الطبيعيين، أي الولادة والموت. أين كُنتُ قبل أن أُولد _ هذا إذا كُنت في مكانٍ ما؟ أين سأكون بعد أن أموت _هذا إذا كُنت سأكون في مكانٍ ما؟

إنَّ الديانات الشرقية، كالبوذية والهندوسية، تقدَّم عن هذين السؤالين جواباً منفتح الطرفين: فأنت كنت َموجوداً قبلما صرت مولوداً، وستكون موجوداً بعد موتك. إنّك عالقُ في فخ "السامسارا"، أي دوّامة الوجود اللانهائية. وما لم يحدث ما يقطع الدوامة، تظلُّ إلى ما لا نهاية تُولد وتموت، وتُولد مرّةًً أُخرى لتعود فتموت. أما هدف الحياة فينبغي أن يكون الانفلات من الدوامة، أي أن أضع في الواقع نهايةً لذاتي الماكرة والباطلة. وتعرض البوذيّة ما تدعوه "نرفانا" حيث تنسحق جميع المشاعر المكوِّنة للذات، فيما تعرض الهندوسية الذوبان في المطلق. وكلتا الطريقين تُفضي إلى إنهاء ذاتي. وقد علّق الفيلسوف لِوْيس (C. S Lewis)

على قياس التمثيل المستعمل عادةً للتعبير عن هذه الفكرة، وهو نزول نقطة الماء إلى قلب المحيط، فقال إنه إذا كان ممكناً اعتبار نقطة الماء ما تزال موجودة بعد اندماجها في المحيط، فمعنى ذلك انتهاء وجود النقطة بحد ذاتها. فإذا كنت سأذوب في المطلق، فمعنى هذا انتهاء وجودي بوصفي ذاتاً.

غير أن المسيحية تقدِّم أجوبةً مختلفة عن هذه المجموعة من الأسئلة.

أنا فردٌ فريد خلقني الله. كانت لي بداية، ولكن لن تكون لي نهاية. لماذا خُلِقتُ؟ كي أتمتع بالله من طريق المعرفة الشخصية له.

إن الجواب عن السؤال "إلى أين أنا ذاهب؟" يعمّقه التفسير المسيحي لانعدام المعنى من الحياة عموماً (الدُكها). ذلك أن المسيحيين يوافقون على كون الحياة غير مُرضية. وهي كذلك لأننا فقدنا تلك العلاقة المميزة بالله، العلاقة التي لأجلها قد خُلقنا. فقد أصبحنا أذكى من اللازم وأكثر ثقةً بالذات وعناداً. وبحماقة ٍوصلنا إلى حيث اعتقدنا أننا قادرون على تدبير شؤون العالم بمعزل عن أي رجوع إلى الله. ونحن نُسيء استخدام قوتّنا ومعرفتنا. إننا نستغلُّ العالم - العالم الذي كونه الله - ونخربّه. ففي أفريقيا تمتدُّ صحراء الساحل أكثر فأكثر؛ وفي أوروبا تتلوَّث البحار بعدما غدت مكبَّ نفايات نطرح فيه النفايات الذرية. وفصائل بكاملها من الحيوانات يتهدّدها الخطر حتى تكاد تنقرض.

إن التفسير المسيحي "للدُّكها" بسيط: لقد أبقَيْنا الله خارج المعادلة. فلنُعِده إليها وإذا كلُّ شيء يتغير.

لنعد الله إلى المعادلة، يَعُدِ الجواب عن السؤال "إلى أين أنا ذاهب" إلى المكان حيث صنع الله الإنسان أوّلاً: "إلى الله، إلى السماء إلى الفردوس".

ولكنْ ماذا يحدث إذا لم نفعل؟ إذا كنتُ لا أسمح لله أن يقوِّم حياتي غافراً لي خطايا الماضي ومحرِّرا إياي من خطايا الحاضر فماذا يكون إذاً؟ عندئذٍ أظلُّ جزءاً من "الدُّكها". سأكون أنا نفسي غير راضٍ، وسأجعل الآخرين أيضاً غير راضين.

إنْما لنلاحظ أمراً جوهرياً متعلقاً بالجواب المسيحي: إنْه لا يُمكن البتةَّ أن أكون أنا شخصياً من يقوِّم ذاته بأيْ مجهودٍ مهما عظْم. فلا بدَّ أن يفعل الله هذا. أمْا أنا فلا أستطيع.

وهكذا نطرح السؤال "لماذا؟". لماذا كلَّف الله نفسه فخلقني؟ وأكثر من ذلك: لماذا جاء يفتِّش عنِّي بعدما خلقني ورآني أبتعد عنه بعيداً وأمضي في سبيلي الذاتي؟ أما كان في وسعه، بدلاً من هذا، أن يمحو ذِكري من سجلّه؟ إذا كان دُكها العالم ما هو غير الحصيلة النهائية لفجور جميع الناس أمثالي، فلماذا لا يكتفي الله بأن يُنهي وجودنا أجمعين ويبدأ مشروعاً آخر في مكان ما ؟

الجواب هو محبة الله

فحاشا له أن يكون وحشاً هائلاً نائياً عديم الرحمة. بل أنه أبٌ مُحِبٌّ، كما تقدِّمه المسيحية.

ومع ذلك فهو بارّ (عادل)، وليس أشبه بجدٍّ عاطفي يتغاضى عن حماقات حفدائه. ومن شأن الله العادل أن يسوي الحساب ذات يوم. فالدَّين يفيه هو أو يبقى عليك لتفيه أنت، لكنه لا بُدَّ أن يوفى.

منذ عدّة سنين قرأت خبر فلاّح كندي قرّر أن يتحدّى إله المسيحية، وقد أصر على تعمد العمل يوم الأحد، وهو اليوم المسيحي المخصَّص للعبادة. وبعد حصاد أيلول (سبتمبر) كتب على الصحيفة المحلية يقول: "حرثت ذلك الحقل يوم الأحد، وبذرت البذار فيه يوم الأحد، وحصدت الحصيد يوم الأحد، وأخيراً بعتُ الغلة يوم الأحد، وقد كسبت من ذلك الحقل ربحاً أكثر مما كسبت من أي حقل آخر. " إلا أن محرر الصحيفة علَّق على الخبر بهذا التعليق الموجز: "إن الله لا يسوِّي حسابه في أيلول".


مَن أنت؟

مِن أين جئتَ؟ إلى أين أنت ذاهب؟ لماذا؟

في المجموعة الثانية من الأسئلة الأساسية إقرارٌ بأننا نعيش في المجتمع. فإلى جانب أنا هناك أنت. ويقيناً أنّه من الواضح أن فهمي لهويتك من شأنه أن يحدِّد كيفية تعاملي معك. فقد كان في وسع ستالين أن يتخلَّص من معارضيه لأن الماركسية ترى أن أنت غير مهمّ. وقد كتب كولاكوسكي (kolakowski ) في "تياراتُ الماركسية الرئيسيَّةُ": "تمّ اعتقال الملايين وإعدام مئات الأُلوف".

تحدِّد البوذية الحياة بأنّها غير دائمة وغير مُرضية وغير شخصيَّة. فلا وجود فيها لشيءٍ اسمه "أنت" ذلك أن الفرد ما هو إلَّا مظهر أو وهم يُدعى مايا (maya). "فأنتَ" مجموعةٌ عارضة من المقوّمات المتغيرة أبداً، وليس ثمة "أنت" تجعل تلك المقومات تتماسك.

إذاً "أنت" هو أمرٌ غير موجود.

غير أنَّ المسيحية تقدِّم جواباً مختلفاً:

أنت أيضاً فردٌ فريد، وليس قصد الله أن تُفقَد تلك الفرديَّة أو تُدمَّر

فأنت ما كُنت "لتذوب" في الأبدية. إنّ ذلك الجسم الذي لكَ يتغيَّر دائماً أبداً: فهو ينمو ويتقوّى ويتقهقر ويضعف، وأخيراً ينحلّ. ولكنّك أنت فردٌ مخلوقٌ فريداً: إنك حصيلة لا تتكرّر لِما ورثتَه من طريق الجينات (المورِّثات) التي جاءتك من أبويك، وما تعلّمته واختبرته في الحياة، وما فعله الله لأجلك وفيك. ولكَ مجموعة فريدة من المواهب والقدرات لا بدَّ من وجودها في تلك الحصيلة المعيّنة، أي فيك دون سواك. إنّك غير قابل للاستبدال. إنك ذو قيمة في نظر الله.

على أن المسيحية، فضلاً عن هذا، تؤكِّد أنّ لدى الله قصداً فريداً لحياتك، قصداً صالحاً كاملاً مرضياً (راجع رومية 12:2). فأنت لم تأتِ إلى الوجود بالصدفة، وكأنك مجرَّد نتيجة آلية لمعاشرة معيَّنة قام بها أبواك؛ إذ إنَّ مثل هذه المعاشرة وقعت فعلاً ملايين المرَّات في التاريخ دون أن ينتج منها أيُّ وعندما ينتج من المعاشرة حمل يعتبر المسيحيُّون ذلك عملاً قام به الله واهباً الحياة بسرور. فهو تعالى من أتى بك عمداً إلى الوجود.

هذه فكرة رائعة لأولئك الذين يبدو أنهم نَكِرات في هذا العالم. فأنا لست شخصاً غير مرغوب فيه. ربمَّا لم يكن أبواي يرغبان فيَّ. أمَّا الله، فيرغب.

وهكذا أيضاً تبرز أمامنا مجوعة من الأجوبة الواضحة عن الأسئلة الأساسية:


ما هذا العالم؟

مِن أين جاء؟ إلى أين هو ذاهب؟ لماذا؟

تُعلِّم المسيحيَّة أن الله خلق العالم، وهكذا تُعلِّم اليهوديَّةُ والإسلام (بخلاف الهندوسية والبوذية). فالعالم له بداية وسيكون له نهاية ذات يوم. فليس العالم أبدياًّ كما ترى الهندوسية، ولا هو مجرّد صدفة كونيّة كما قد ترى الماركسيّة. فإنَّ الأرض قد خلقها الله على نحوٍ فريد بقصدٍ أن تكون لنا "مسكناً". ولو كانت أبعد قليلاً عن شمسنا لكانت أكثر برودةً من أن تُحتمَل، أو لو كانت أقرب قليلاً لكانت أكثر حرارةً من أن تُطاق. وعندنا القمر لإضاءة الليالي، ونحن ندور حول المحور بحيث يصير عندنا ليل ونهار ولكي تدفأ كل أجزاء الأرض. وهناك الأُوكسجين لنتنفَّسه، وطبقة من الأوزون لحماية الإنسان من الإشعاعات العالية غير المحتملة.

ولكن، أليس ثَّمة أمرٌ ناقص؟ فالحياة ما تزال غير مُرضية. ومن السهل أن نحتجّ بأن بعض كوارث الحياة هي من صنع الإنسان، ولكن ليس كلُّها من صنعه. فهنالك المرض، وبوار الزرع، والأوبئة، والجراثيم. وبينما الأرانب مثلاً حسنة جداً، ماذا نقول في ذلك المرض الذي أودى بعشرات الألوف منها، وقد عُرف باسم ميكسوماتوسِز myxomutosis) (؟ من أين جاء هذا المرض؟ إذا كان الله قد صنع العالم، فمن المؤكَّد أنه قام بعمل غير كامل فيما يتعلق بالعالم؟

عمل غير كامل؟

يجيب المسيحي: كلَّا البتَّة، ثَّم يقدِّم ملاحظة مزدوجة تختصُّ بالدُكها، أي عدم نفع الحياة لكونها غير مُرضية:

- هذا العالم ليس على الطريقة التي قُصِد له أن يكون عليها.

ما هذا العالم؟ إنه مسكنٌ فريد للإنسان. من أين جاء؟

الله صنعه.

إلى أين يمضي هذا العالم؟ يبدو فعلاً أن الزمام قد أُفلِت. وقد بذلت صنوفٌ شتّى من المحاولات لوضع العالم من جديد على السكة القويمة. فها هي أنظمة سياسية جديدة، منها المحلَّي كالقومية الأفريقية، ومنها الدُّوّلي كالماركسية، تنشط في عملها محاوِلةً إضفاء معنًى على الحياة، ساعيةً بكل جهد لعلَّها تضع حدّاً لصفة عدم الإرضاء المنوطة بوجودنا البشري. ويبدو غالباً أن هذه الأنظمة البشرية تنطلق من افتراض يقول بأنّنا جميعاً صالحون في الجوهر وأنَّه يسرنا أن نعمل لأجل خير الآخرين، وهكذا نُصلح حال العالم كلّه. إلا أن حال العالم لا تصطلح، وتذهب المحاولة أدراج الرياح. والظاهر أن سبب ما نقدّمه من أجوبة بشرية غير شافية عن السؤال "إلى أين يمضي هذا العالم؟" إنّما يكمن فينا نحن. فليست المشكلة هي العالم، بقدر ما هي نحن في العالم. وهكذا تعود بنا المجموعةُ الثالثة من الأسئلة الأساسية، لا محالة، إلى المجموعتين الأولى والثانية.

إلى أين يذهب العالم؟

إلى الفوضى والخراب؟ أهي غلطة الله؟ حسناً، لنأخذ مثلاً "عدم كفاية" المجاعة. ينقطع المطر فيبور الزرع ثم يجوع الناس. فهل هي غلطة الله؟ حاشا: ففي العالم غذاء يكفي لتلبية حاجات كلّ من هو حيَّ اليوم وكل من سيكون حياًّ في المستقبل المنظور.

إنما التوزيع هو المشكلة. فإنَّه لَعالمٌ مجنون حيث تكدّس أوروبا زبدتها وأمريكا حنطتها فيما يجوع قوم في أفريقيا وآسيا ويموتون فعلاً كلَّ يوم.

مهلاً. سهلٌ جداًّ أن نُلقي اللوم على أمريكا وأوروبا وحدهما. فاللوم يلحقنا جميعاً _ سوداً وبيضاً _ لأجل هذه الفوضى.

وأنا، كاتب هذه السطور، قد عشت في أثيوبيا عدّةَ سنين، بما فيها سنوات المجاعة، حين مات مئاتُ الألوف جوعاً. أهي غلطة الله؟ أم غلطة أمريكا؟... وقد حلّقت بي الطائرة فوق المنطقة الواقعة في جنوب أثيوبيا، والمعروفة محليَّا بأنها "سلّة خبز أفريقيا ": أميالٌ وأميال من الأراضي الخصبة المدهشة، لكنَّها متروكة بلا زرع. ذلك أن الأثرياء الأثيوبيين في أديس أبابا علموا بخطط البنك الدولي المعدَّة لتنمية المنطقة، فما كان منهم إلاَّ أن ابتاعوا الأراضي من السكان المحليين ثم جلسوا مكتوفي الأيدي وراحوا ينتظرون صفقة العمر حين يبيعون تلك الأراضي إلى البنك الدولي. وطبعاً، لم يكونوا راغبين في زراعتها فيما كان الآلاف يموتون جوعاً.

إلّا أن القصّة لم تنتهِ عند هذا الحدّ. فقد بادر الغرب إلى إغاثة الجياع، فأرسل هباتٍ من مسحوق الحليب المجفّف للأطفال وكميّات من الحنطة للجائعين. غير أنّ المبتزّين الأثيوبيين وضعوا أيديهم على مسحوق الحليب وباعوه في السوق السوداء. وكأنَّ هذا لم يدرّ عليهم الربح الكافي حتى خلط بعضهم مسحوق الحليب بغبار الكلس. وبالطبع مات كثيرون من الأطفال نتيجةً لذلك.

فعلى من يقع اللوم؟ علينا أجمعين، ما دامت طبيعةُ انتهاز الفرص موجودة في قلب كل واحد منّا.

إلى أين يذهب هذا العالم؟ إن مصيرنا الفوضى والخراب. وغالباً ما لا نقدر أن نجد ولو سبيلاً للمساعدة. فلنعد إلى أثيوبيا. مرَّت سنوات ورحى الحرب تدور على جبهتين: مع أهل الصومال إلى الشرق، ومع أهل أريتيريا إلى الشمال. ولدعم المطالبة بالاستيلاء على الإمبراطورية، أنشأت أثيوبيا أكبر جيش في أفريقيا، بحيث تحوّل معظم الدخل القومي إلى اقتناء القنابل والرصاص. ولما ظهرت المجاعة من جديد في الثمانينيّات، صدرت صرخات الاستغاثة من آلاف الجياع. ولكن ما العلم؟ عندما تُرسل الحنطة تتشجّع الحكومة الأثيوبية وتنفق ميزانيتها على الحرب. وعندما لا تُرسل الحنطة يموت الناس جوعاً.

أضف إلى هذا بالطبع أهوال المرض والزلازل والأعاصير، وكلُّها جزء من الفوضى المستفحلة في هذا العالم. غير أن العالم لم يخلق على هذه الصورة.

"ورأى الله كل ما عمله، فإذا هو حسن جداًّ" (تكوين31:1 ).

مرّةً أُخرى نشير إلى أن اللوم، بحسب التعليم المسيحي، يقع على الإنسان. فالفصل الثالث من سفر التكوين يصوِّر، على نحوٍ بسيط ودرامي، تصميم الإنسان الانتحاريَّ على المضيّ في سبيله الخاصّ لإرضاء ذاته مُبقياً الله خارج حسابه. ونقولها بكلماتٍ كُنا نتمنَّى ألَّا تُقال، إننا هناك نطقنا على أنفسنا بحكم العواقب الرهيبة الظاهرة الآن في ابتعاد الإنسان عن الله وإقامته في عالمٍ مُعادً. وبكلمة واحدة: إنّها الفوضى الشاملة.

هذه الفوضى الكليّة ليست من صنع الله، بل من صنعنا نحن. وهنا يظهر الجواب عن "لماذا سقط العالم في هذه الفوضى"؟ لقد كان ذلك بسببنا نحن وبسبب ابتعادنا عن الله. فلو كُنَّا قد عرفناه حقّ المعرفة، لما كنّا نتصرّف كما نحن فاعلون الآن.

العلاج

كما أن للمسيحية تفسيرها للفوضى الكونيَّة، فإنَّ عندها علاجاً لها. أما، وقد رأينا التفسير، ننظرُ الآن في العلاج؟

إن العلاج يتمُّ على صعيدين:

_ مباشر

_ ومستقبليّ

فعلى المدى القريب، يستطيع الله أن يغرس فينا حياةً ذات نوعيَّة جديدة ومطامح جديدة وأولويات جديدة، بحيث نصير على استعداد لأن نضع الله أوّلاً والآخرين ثانياً وأنفُسنا أخيراً. وهكذا نستطيع، على المدى القريب، أن نحصل على عالم ٍ أفضل. وكي نكون واقعيين، نقولُ إنَّه لن يكون العالم الأفضل، لسببٍ بسيطٍ هو أنَّ المسيحية لا تشجّعنا على الاعتقاد أنّ أعداداً كبيرةً من الناس ستنضوي تحت لوائها. فليست المسيحية مجرّد وعدٍ بمجتمع فاضل، بل هي تقِّدم طريقاً، طريقاً صعباً، ينطلق منا أوّلاً.

وعلى المدى البعيد، فللمسيحية أيضاً ما تقوله، إذ هنالك الرجاء بأن العالم سيكون ذات يوم معرضاً لكل النظام والجمال والقصد العجيب الذي قُصِدَ له في الأصل أن يكون عليه. وقد كان كثيرون من المسيحيين الأوَّلين قوماً عديمي العلم. أما بولس فكان استثناءً، فهو يهوديٌّ درس على معلِّم شهير اسمه غمالائيل.

وقد كتب بولس رسالة إلى الكنيسة في روما، وفيها رسم الصورة كلّها بمنتهى الوضوح:

لأنّ انتظار الخليقة يتوقّع إستعلان أبناء الله. إذ أُخضعت الخليقة للبُطل، ليس طوعاً بل من أجل الذي أخضعها، على الرجاء _ لأن الخليقة نفسها أيضاً ستُعتق من عبوديَّة الفساد إلى حرية مجد أولاد الله. فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخَّض معاً إلى الآن. وليس هكذا فقط، بل نحن الذين لنا باكورة الروح، نحن أنفسنا أيضاً نئنّ في أنفسنا، متوقعين التبنّي، فداء أجسادنا (رومية 8: 19_23 ).

ذلك هو جواب المسيحي، على المدى البعيد، عن طبيعة الحياة المتسمة بالنقص وعدم الإرضاء. إن الله قد أصلح حالي، ويستطيع أن يُصلح حالك. ونحن نستطيع معاً أن نبدأ بإصلاح حال هذا العالم. غير أن الله سيتدخّل يوماً ما، بخطوةٍ حاسمة، ليُحرِّر الخليقة كلَّها. وعندئذٍ نرى عالم الله كما قصد له دائماً أن يكون.

لعلك لاحظت، ونحن ننظر في الأسئلة الأساسية، أنَّنا مراراً وتكراراً عُدنا إلى أنفسنا، أي إلى الإنسان. لذا يلزمنا فعلاً أن نسأل أنفسنا هل نحن على صواب في وضعنا الإنسان في لُبّ تفكيرنا بالذات. فهل الإنسان بهذه الأهميَّة حقّاً ؟

ليس الإنسان ذا أهميَّة لأنه يعتقد أنَّه مهم، بل لأنَّ الله صنعه هكذا. حتّى إنَّ جزءاً من مشكلة النقص العام في الحياة يأتي عندما يجعل الإنسان نفسه مهمّاً بمعزلٍ عن الله. وتظهر وجهة النظر المسيحية بخصوص الإنسان في سؤالٍ بسيط وجوابه بحسب خلاصة أصول الدين المعروفة بخلاصة وستمن ستر الصُغرى (وهي معتمدة في الكنائس المشيخية في انكلترا واسكتلندا وايرلندا منذ 1648 ):


ما هي غاية الإنسان الرئيسيّة؟

_ غاية الإنسان الرئيسية هي أن يمجِّد الله ويتمتع به إلى الأبد.

ينبغي ألّا تدور الحياة على محور النجاح والشهرة والمرَح والمال، بل يجب أن تكون كلُّها مُتَمحوِرة حول الله الذي ينبغي أن يكون مركز حياتي. فما أُفكِّر فيه وأقوله وأفعله يجب أن تهيمن عليه هذه الفكرة: أنّ الله قد خلقني كي أُمجده وأتمتّع به إلى الأبد.

تؤكّد المسيحية أن الحياة تكون ذات معنى فقط حين ترتبط بالله. هذه قولة حقٍّ يُقرّها المنطق السليم. إذا كُنَّا نلخّص الحياة ونثمّنها بحصرها بين طرفي ولادتي وموتي، فهي لن تعني شيئاً البتة. وأصدق كلمة في وصفها عندئذٍ هي "دُكْها" (عدم الكفاية والإرضاء). ولكن ما إن أدع الله يدخل في الحساب حتى يبزغ رجاء جديد، إذ يصير ممكناً أن تكون حياتي ذات معنى. بل إن الحياة بكاملها والخليقة كلها يصير لهما معنى. تُقرّ الفلسفة الإنسانية بانعدام العدل في الحياة، وتكتفي بمجرّد القول: "ليست الحياة حسنة. هذا أمرٌ مؤسف، ولكنّه الواقع، وما علينا إلّا قبوله".

وتقول البوذية: "الحياة ليست حسنة، ولكن سبب ذلك هو أنك لا تفهمها على حقيقتها. فهي وهم (مايا). الألم وهم. الأفراد وهم".

أما المسيحية فتقول: ليست الحياة حسنة. ولكن افتح عينيك وحياتك لله. إنك لست مجرّد صُدفة كونية، بل أنت فردٌ فريد. قد صنعك الله لتمجّده وتتمتّع به إلى الأبد. تصالحَْ معه، تتبدَّلْ حالك. ومتى حدث هذا، فإنّ العالم أيضاً يتبدّل. حينئذٍ، لتكن لك نظرة جديدة في الحياة".

ولكن قبل النظر في فكرة المصالحة مع الله، لابدَّ لنا من النظر في المسيح ما دام هو الشخص الذي يجعل هذه المصالحة ممكنة.  

  • عدد الزيارات: 13774