Skip to main content

جلوس يونان "تحت"

القراءة: يونان 10:3؛ 1:4-11

التاريخ: 15/12/1974

"وخرج يونان من المدينة وجلس شرقي المدينة وصنع لنفسه هناك مظلة وجلس تحتها في الظل حتى يرى ماذا يحدث في المدينة" (يونان 5:4).

طلب الرب إلى يونان أن يذهب الى نينوى وينادي لها المناداة العظيمة، فكانت المناداة على هذا الشكل: "بعد أربعين يوماً تنقلب نينوى". وقد تضمنّت المناداة أيضاً دعوة إلى التوبة والرجوع إلى الله. وسار يونان في نينوى متثاقلاً مسيرة يوم واحد. وكانت نينوى مدينة عظيمة مسيرة ثلاثة أيام، ولكنه سار ثلث المسافة، وبعدها انتقى لنفسه مكاناً قريباً، يستطيع منه أن يراقب المدينة. وجد هناك تلة مرتفعة ارتقاها وصنع لنفسه مظلة وجلس تحتها يراقب.

في سياق تحليلنا لبعض الحالات وبعض الشخصيات في الكتاب المقدس، لا نبغي النقد السلبي بل نحاول أن نستفيد من كل عبرة ونجاح ونتنبّه الى كل فشل. نشجّع نفوسنا على ما هو أفضل، ونتجنّب ما يسيء إلينا وإلى خدمتنا وإلى مجد المسيح.

ففي تأملاتنا في هذه الجلسة نلاحظ ما يلي:

1- أن يونان جلس هناك جلوس المراقب لما يجري. لم تكن هذه الجلسة من ضمن البرنامج الإلهي ليونان. وهل ارتكب يونان خطأً حين جلس هذه الجلسة الهادئة الطيبة مستظلاً بيقطينة تقيه الحرّ؟

إن كل انحراف عن البرنامج الإلهي ولو بدا جزئياً وبسيطاً هو انحراف وله نتائجه غير المشرّفة. يكفي أن نستنتج أن أنظار يونان تحولت عن الرب وعن الخدمة، وبدأ الآن يهتم بنفسه. أشفق يونان على نفسه، فأخذ إجازة في غير وقتها واستعفى من الخدمة قبل أوانه. سار مسيرة يوم واحد، والمدينة تقتضي مسيرة ثلاثة أيام. هذه بداية الرحلة، وغالباً ما يكون الحصاد في الثلث الأخير.

لا نضع نفوسنا على الرف ونحيل أنفسنا إلى التقاعد. هناك طريقتان للوصول إلى هذه الحالة. الطريقة الأولى، بأن يرى الرب عملنا وأتعابنا ومجهوداتنا، ويجد أنّ الوقت قد حان لكي نرتاح، بعد أن نسلم الخدمة إلى آخرين أكفاء، فنضمن استمرارية الخدمة. ونستطيع في هذه الحالة أن نردد مع الرسول بولس: "قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان" (2تيموثاوس 7:4). والطريقة الثانية هي أن يرى الرب عدم جدارتنا وعدم أهليتنا للقيام بالخدمة، فيضعنا هو على الرف. وهذا الخوف كان هاجس الرسول بولس حين قال: "بل اقمع جسدي واستعبده حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً" (1كورنثوس 27:9).

أمّا يونان فقد تفرّد كلياً، وأخذ إجازة، ولا يد للرب في كل هذا. كثيراً ما يحاول الشيطان أن يربّت على أكتافنا ويقول لكل واحد منا: جاهدت كثيراً وتعبت كثيراً واحتملت كثيراً والآن ينبغي لك أن تعمل لراحة نفسك، وراحة عائلتك ومستقبل أولادك. عملت للرب كثيراً والرب لا يطالبك بأكثر. سرت مسيرة يوم واحد وهذا يكفي.

هل هذا صحيح؟ هل عمِلْنا للرب ما يجب أن نعمله؟ يجيبنا الرب عن أسئلة كهذه في هذا المثل قائلاً: "ومن منكم له عبد يحرث أو يرعى يقول له إذا دخل من الحقل تقدم سريعاً واتكئ. بل ألا يقول له أعدد ما أتعشى به وتمنطق واخدمني حتى آكل وأشرب وبعد ذلك تأكل وتشرب أنت. فهل لذلك العبد فضل لأنه فعل ما أُمر به، لا أظن. كذلك أنتم أيضاً متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون. لأننا إنما عمِلنا ما كان يجب علينا" (لوقا 7:17-10).

طلب الرب إلى يونان أن يذهب الى نينوى المدينة العظيمة مسيرة ثلاثة أيام. أُوكلت عليه مسؤولية الخدمة في كل المدينة، ولكنه بعد يوم واحد أزاح المسؤولية عن نفسه وجلس تحت الظل يراقب ما يجري وكأن الأمر لم يعد يعنيه لا من قريب ولا من بعيد. أهكذا تكون المسؤوليات؟ أهذه هي نوعية الرجال في مركز المسؤولية؟ إنّ العلاقة السليمة بالرب لا تكفي بل تفرض علينا علاقة سليمة بالآخرين. هناك علاقة بيننا وبين الخدمة. نأخذ مسؤولية نفوسنا أمام الرب، ومسؤولية بنيان شخصياتنا أمام الرب ومسؤولية الآخرين وبنيانهم وخلاصهم.

لنا يد في ما يجري في نينوى، لنا يد في ما يجري في بيروت، لنا يد في ما يجري في لبنان، لنا يد في ما يجري في العالم، ولا نستطيع أن نتهرب من المسؤولية. تساءل المرنّم قديماً: "لماذا أهان الشرير الله" (مزمور 13:10)؟ وكأن لا يدَ له في الموضوع. لماذا الخطية مستفحلة في العالم؟ نحن نتذمر مما يجري حولنا من انحراف وخطية وفساد وكأن لا يدَ لنا في الموضوع. أليس ذلك انعكاساً لضعف الكنيسة وقلة طهارة الكنيسة وقداستها، وضعف تأثيرها في العالم، وعدم نشر رسالة الإنجيل كما يجب. نحن ملح الأرض، والملح يُصلِح الفساد ويمنع تسربّه وامتداده. زحف الكنيسة يوقف زحف الشيطان، وزحف الحق يوقف زحف الباطل، وزحف النور يُبطل زحف الظلمة.

أراد يونان أن يراقب ماذا سيجري في نينوى وكأن الأمر لا يخصّه. لكن الله لم يقمه رقيباً بل خادماً ومبشراً وشاهداً ومعلناً إرادة الله.

سنحاسب على كل ما فعلنا وعلى كلّ ما قمنا به من خدمات وعلى ما قدمنا من طاقات وأوقات وأموال ومجهودات. وسنحاسب أيضاً على ما لم نفعل. سيحاسب يونان على ما فعله خلال يوم، وعلى ما لم يفعله خلال يومين. سنحاسب على تنصّلنا وعدم اهتمامنا وعدم انخراطنا في الخدمة وانسحابنا من البرنامج الإلهي وترك الأمور تأخذ مجراها الطبيعي.

2- نلاحظ أيضاً أن يونان جلس جلوس اليائس، ومن دون سبب شرعي. ولو حاولنا أن نسبر غور أفكاره لنعرف الأسباب التي أوصلته الى هذا اليأس، لما وجدنا شيئاً يستحق الذكر. جلس جلسة اليائس لأن الأمور لم تجرِ بحسب ما فكّر وخطّط. كان تخطيطه، أن الله ينفّذ وعيده، وبعد أربعين يوماً تنقلب نينوى. يريد أن يرى بأُمِّ العين ما سمع عنه قديماً كيف أن الله تكلم بالطوفان وبالنار والكبريت وصبّ جام غضبه على الخطية. ونينوى تستحق مثل هذه المعاملة. ولكن أمنية يونان لم تتحقّق والرب غيّر فكره "وندم على الشر الذي تكلم أن يصنعه". بعد "أن آمن أهل نينوى ونادوا بصوم ولبسوا مسوحاً من كبيرهم الى صغيرهم". وقد حَسِبَ يونان ذلك فشلاً لخدمته، فجلس يندب حظّه ويلوم الرب بقوله: "أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضي. لذلك بادرت الى الهرب الى ترشيش لأني علمت أنك إله رؤوف ورحيم بطيء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر. فالآن يا رب خذ نفسي مني لأن موتي خير من حياتي" (راجع يونان 3و4).

إنه لخطأٌ كبير أن نخدم بحسب رأينا وليس بحسب برنامج الله، وجهل عظيم أن لا نعرف طبيعة الله، فنخدم بحسب أفكارنا وعواطفنا بدل أن نكتشف أفكار الله وطبيعته. وكان يونان في حالة من الحزن واليأس والفشل، والسماء في عرس وفرح. ربوات من النفوس رجعت إلى الرب ويونان في وادٍ آخر، غارقًا في بحر أحزانه.

وربما جلس يونان جلسة اليائس لأن نَفَسَه قصير، وغالباً ما يصل أصحاب الأنفاس القصيرة الى حالة اليأس سريعاً. الرب يتعامل مع الناس بطول أناة بحسب طول شخصيته وليس بحسب طولنا. ويتعامل مع الناس برفق وليونة، ويعطيهم الفرصة تلو الفرصة، "اتركها هذه السنة أيضاً" (لوقا 8:13). ولكن بما أنّ للإنسان طبيعة متسرعة، فإنه يريد أن يحقق النجاح بسرعة، وأن يخلص الناس بسرعة، وإذا كان هناك من تقييد للشيطان فليكن اليوم، وإذا كان هناك من مجال لوضع حدّ للخطية فليكن اليوم. فالإنسان يريد أن يختصر الأمور، وإن أمكنه أن لا يعمل شيئاً، فلا بأس. ولكنْ لله توقيته وبرنامجه في هذا العالم. وكم من الأمور التي نراها وبحسب الظاهر معاكسة وتعمل ضدنا فتسقطنا في بالوعة اليأس والفشل، نرى الله يحولها لخيرنا ولمجده ومجد كنيسته لكن في الوقت المعيّن. ليت الرب يساعدنا حتى تطول أنفاسنا ولا نفشل في عمل الخير، ولا نكل في الخدمة، "لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكل" (غلاطية 9:6).

وربما جلس يونان جلسة اليائس لأنه توقع من الله أن يعامله بالنعمة ويعامل الآخرين بالناموس شأنه شأن الكثيرين من أولاد الله. نسي معاملات الله معه، ونسي أن الله لا يتغيّر، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين" (متى 45:5). فالله محبة، ويعامل الناس بالنعمة والرحمة والشفقة. كم مرة نتمنى أن نكون مكان الرب لكي نلقّن الناس دروساً تنقصهم، أو لكي نقاصهم القصاص الذي يستحقونه. لكن نشكر الله إذ ليس أحد منا مكان الرب، فلو كان الأمر كذلك لرأينا رؤوساً كثيرة تدحرجت وسحقت تحت وطأة العدالة والناموس.

أقل ما نستطيع قوله في يونان، إنه فَرْدٌ، هارب، مجهول الهوية. دخل السفينة ونام في قاعها، وعندما اشتد النوء أيقظوه بقولهم: ما هو عملك ومن أين أتيت، ما هي أرضك ومن أي شعب أنت" (يونان 8:1). وعندما صار في بطن الحوت لم يعرف أحدٌ بهذا الإنسان المجهول سوى من "عيناه تراقبان الأمم" (مزمور 7:66). ومع هذا كله عامله الله بالمحبة واللين والرفق، وعاد فأعطاه هوية خادم ومؤمن ومبشر وأرسله الى نينوى. ولما تعامل الرب مع نينوى بالنعمة عينها والمحبة ذاتها اغتاظ يونان. ولماذا تريد يا يونان أن يتأنى الرب عليك ولا يتأنى على غيرك؟

كم مرة احتمل الرب من شرورنا ومعاصينا وتجاوزاتنا، ودعانا مرة بعد المرة، ولاحقنا حتى وصل بنا إلى الصليب؟ هذه هي النعمة التي شعر بها الرسول بولس وعاشها وقدّمها إلى الآخرين. "وتفاضلت نعمة ربنا جداً مع الإيمان والمحبة التي في المسيح يسوع. صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلّص الخطاة الذين أولهم أنا"
(1تيموثاوس 14:1و15).

3- نجد أن يونان جلس جلسة الهارب المختبئ. وهذه الجلسة طبيعية بالنسبة إليه، لأنه اعتاد الهرب من المسؤولية، كما اعتاد سد أذنيه عن سماع صوت الرب. وهكذا نجد أن العادات تتأصل في حياة الإنسان، قبيحة كانت أم حميدة، حتى إنه يمارسها ويكررها بشكل طبيعي وعفوي. لذلك علينا أن نجتهد لكي ننمّي فينا الفضائل المسيحية، وندرّب نفوسنا على حياة الانضباط وتحمّل المسؤولية، فتتأصل هذه المزايا فينا ونعيشها بشكل تلقائي ومن دون تعب أو جهد.

من الصعب الرجوع عن العادات القبيحة خاصة بعدما تتكرر وتتأصل في الحياة. فالانحدار سهل، أمّا الصعود فيحتاج إلى مجهود. أن نأخذ إجازة عن الشهادة والخدمة أمر سهل، أمّا أن نعود الى ميدان العمل فهذا أمر شاق. لذلك وجب علينا أن ندرّب نفوسنا على العادات المسيحية التي فيها يتمجد الرب.

جلس يونان شرقي مدينة نينوى ونظر إليها مترقباً نزول الغضب الإلهي، واقترب يسوع من أورشليم ونظر إليها. "وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها" (لوقا 41:19). وشتان ما بين النظرتين. بكى يسوع يوم تتويجه، وبينما كانت الأصوات تشقّ عنان السماء صارخة: "مبارك الآتي باسم الرب. سلام في السماء ومجد في الأعالي" (لوقا 38:19). نظر يسوع فرأى قسوة قلب الإنسان، وتحسّر على جهل الإنسان وغبائه: "نظر الى المدينة وبكى عليها قائلاً: إنك لو علمتِ أنتِ أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامكِ. ولكن الآن قد أخفي عن عينيكِ" (لوقا: 42:19).

هل لنا هذه النظرة؟ كيف ننظر إلى مدينة بيروت، وإلى المدن الأخرى؟ كيف ننظر إلى العالم؟ بأي عين نتأمل؟ رأى يسوع النفوس وإذا هي نفوسه، تخصّه، وله علاقة بها. نجاح الخدمة نجاحه، وفشل الخدمة فشله. فإن تابت النفوس ورجعت إلى الله ستنضم إلى العائلة السماوية، عائلتنا، وستذهب إلى السماء حيث سنكون نحن. وإن لم ترجع هذه النفوس إلى يسوع، فإن قلب الله سيبكي عليها. هل هذا هو إحساسنا وشعورنا؟

لماذا تفرح يا يونان هذا الفرح العظيم؟ ألأن اليقطينة ارتفعت لتكون ظلاً فوق رأسك؟ ولماذا اغتظت كل هذا الغيظ حتى طلبت الموت لنفسك؟ ألأن دودة ضربت اليقطينة فيبست؟

ويعاتبه الرب بقوله: "هل اغتظت بالصواب من أجل اليقطينة. فقال اغتظت بالصواب حتى الموت. فقال الرب أنت شفقت على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربّيتها، التي بنت ليلة كانت وبنت ليلة هلكت. أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم وبهائم كثيرة" (يونان 9:4-11).

لماذا تبكي يا يسوع والجميع يهتفون بغية تتويجك؟ لأنه "ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويُحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً على حجر لأنك لم تعرفي زمان افتقادك" (لوقا 43:19و44).

لماذا تُسرّ يا رب وتفرح؟ "أما الرب فَسُرَّ بأن يسحقه بالحزن: إن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلاً تطول أيامه ومسرة الرب بيده تنجح. من تعب نفسه يرى ويشبع" (إشعياء 10:53و11).

وهكذا لتكن أفراحنا أفراح السماء وأتراحنا أتراح السماء.

  • عدد الزيارات: 4458