الفصل الخامس: الحياة الأخرى
كان الكاهن يتطلَّع إلى وجهي طول الوقت، كأنه يعلم أن هناك صراعاً داخلياً في نفسي، ولم يشأ أن يقطع عليّ تفكيري. فلما انتبهت لنفسي ونظرت إلى وجهه ولاحظت نظرة الفضول التي تجلت في عينيه أحسست أنه كان يتابعني في أفكاري، فخجلت وسألته: "ألم تعدني أن تخبرني الكثير عن الحياة الأخرى ويوم الدينونة الذي سيجلس فيه "أوزيريس "على كرسي الحكم؟". فأجاب: "سأحكي لك كل ما أعرفه في هذا الموضوع".
"اعلم يا صديقي أن الموت يعني انطلاق أرواحنا خارج أجسامنا. على أن الروح تظل مرتبطة بالمكان الذي يُوجد فيه الجسد. لم يخبرنا الكهنة الكبار عن خروج الروح في حالة الغرق أو الحريق أو ما شابه ذلك. إنهم يعرفون ولا شك، ولكني أنا لا أعرف. ولذلك أتحدث إليك عن الأحوال العادية!!
"تخرج الروح من الجسد، ولكنها تظل في المكان يومين، وكان يمكن أن تظل أكثر من ذلك. وفي اليوم الثالث تُقام خدمة صرف الروح، وهي خدمة هامة تُقدَّم فيها صلوات وتقدم قرابين. ثم يتقدم الابن الأكبر، فإذا لم يكن ابن يتقدم كبير من أفراد العائلة ويلقي الكلمات السبع المقدسة. وتنصرف الروح، ولكنها لا تبتعد كثيراً، فإنها تعود إلى البيت مرة بعد أخرى إلى مدى أربعين يوماً، وتكون عملية تحنيط الجسد إذ ذاك قد تمَّت، فتُلقى صلاة الأربعين، وهي الصلاة التي تصرف الروح نهائياً عن البيت، ولكنها لا تنطلق إلى مسكن الأرواح نهائياً، بل تعود بين حين وآخر إلى القبر. وهي تعرف جسدها، فتعود إلى القبر الذي دُفنت فيه. وفي نهاية السنة تُقام الصلاة التي تصرف الروح نهائياً إلى مساكن الأرواح حيث تستقر إلى أن يأتي يوم القيامة، فتعود إلى الجسد في ذلك اليوم- وقد نجحوا في تحنيط الأجساد لتظل حافظة لصورتها حتى لا تضل الروح عنها. ومن باب الاحتياط تُرسم صورة الميت على القبر، والروح ترى الصورة فتعود إلى الجسد كيفما كان!
"ومكان الروح ومساكن القيامة من الأمور التي قال الكهنة فيها أقوالاً مختلفة.
على أنهم اتفقوا أن الأجساد ستعود إلى الأرض.... والدار الأخرى ليست مدينة سوقها من ذهب وأسوارها من حجارة كريمة وأبوابها من لآلي كبيرة، فان الدنيا الأخرى كأرضنا، تقع في وادٍ خصب تتخلله نهيرات صغيرة تستمد ماءها من النهر السماوي الكبير، وتنمو على جانبيه كل أشجار الحنطة والبقول والفواكه. وعلى سكان الدنيا الأخرى أن يعملوا كما كانوا يعملون في دنياهم، غير أن عملهم يخلو من متاعب عمل الأرض ومن القلق، من ضعف المحصول أو قلة ماء الري ووجود الآفات الزراعية...
ثم جعل الكاهن يحدثني عن يوم الدينونة الرهيب أمام الكرسي الذهبي الذي يجلس عليه الديان الأكبر أوزيريس، كما حدثني عن مملكة الظلام والنهر الأسود ومياهه العكرة الداكنة التي تنبعث منها الأبخرة الخانقة، والمناظر المروعة التي على جانبي النهر التي يرتعش أمامها أشجع الشجعان، وذكر لي قصة الوحش الدميم الذي يقوم على حراسة مدخل قاعة المحكمة، والثعابين القاتلة التي تُطل من جحورها، وقد أرسلت عيونها لهيباً نارياً مفزعاً... كما ذكر عن الأفاعي التي تنتظر من يُطرحون في نهر الدينونة، إذ يحكم "أوزيريس" عليهم بالهلاك الأبدي... ولم أستطع أن أصغي إلى كل الحديث لأنه كان مليئاً بالرعب، بل إني رجوته أن يكف عن الحديث.
وقد ذهبت إلى فراشي وأنا أرجف... لا أعلم إن كنت قد نعست أم لم أنعس. لكني رأيتني وقد قبض عليّ الإله "أنوبيس" وازن القلوب، وقد انحنى إلى جانبه الإله "تحوت" حارس القانون ومسجل الأحكام، ومن ورائه هوة سحيقة حفرها زبانية الجحيم، وأبصرت فيها التنين اللعين يكشف عن أنيابه منتظراً أن يبتلعني، وقد تجلَّت على وجهه ابتسامة ساخرة، ورأيتُ أني أقف أمام أوزيريس المهيب وقد جلس على كرسيه الذهبي واحتاط به القضاة الاثنان والأربعون. ورأيتني أقف مرتعشاً مضطرباً، والقاضي الأعظم يسألني والقضاة يضيقون عليّ وهم يحاسبونني على كل كبيرة وصغيرة. ليس فقط عما عملت بل عما فكرت وعما بدأت أفكر فيه. ورأيت إلهاً يخلع قلبي ويضعه في ميزان القلوب، وكفة السيئات وكأنها تتجه إلى أسفل، وها أنا ألاحظ شفتي أوزيريس تنفرجان، وقبل أن يقول "إلى الجحيم" أحسستُ كأن حجراً ثقيلاً جداً يجثم على صدري وأنا أحاول أصرخ "لا. لا. لست أريد آلهة. لن أبحث بعد عن اله. أخطأت أخطأت. سامحني يا أبي". واستيقظت وجسمي غريق في بحر من العرق وأنا أقول: "لا. لا.". غالى أن سقطتُ على الأرض، ولكني لم أكف عن الحركة. هوذا جسدي يتحرك والأرض تتحرك، وكل ما تحتي يتحرك. هل قضيتُ يوماً أو بعض يوم أو أياماً؟ لا أعلم. وغبتُ عن الوعي وأنا لا أكف عن الحركة ولا أكف عن الكلام مع أني لا أسمع صوتاً... يخيَّل لي أن جيلاً مضى، بل أجيالاً....
فتحتُ عيني فإذا شمس النهار ترسل أشعتها النارية، وإذا أنا أتحرك وشفتاي تتحركان: "لا. لا. لستُ أريد الهاً. لست أريد أوزيريس أو غير أوزيريس. سامحني يا أبي. لقد كنتُ مستريحاً وأنا بعيد عن الآلهة. ليتني أصغيتُ اليك... لا. لا. لا".
ثم جلست على الأرض فأبصرت رجلاً يتطلع إليّ بفضول....
- عدد الزيارات: 3304