Skip to main content

مقدمة

يحرث الفلاح حقله، ثم ينثر البذار، ويعتني بالتربة فيضيف إليها الأسمدة، وهو يعلم علم اليقين أنه في النهاية خاضعٌ تماماً لقوى خارجة عن نطاق إرادته. فهو يعرف أنه لا يستطيع إنبات البذار ولا إحداث المطر وضوء الشمس لينمي المحصول ويحصده. لذا تجده يتّكل على الله لتوفير هذه الشروط كي يحصل على غلال وفيرة.

ولكن هذا الفلاح يعلم أنه إذا لم يثابر بكل اجتهاد، ولم يتكبد مشقات كثيرة، من حراثة وزرع وتسميد وعناية، فليس له أن يتوقع محصولاً في نهاية الموسم. أنه إذا جاز التعبير، يتعاون مع الله، ولا يضمن الفوائد إلا عندما يقوم بمسؤولياته.

فالزراعة بمثابة مغامرة مشتركة بين الله والمزارع. إذ ليس بوسع المزارع أن يعمل ما يعمله الله، ولا يعقل أن يقوم الله بما يجب أن يقوم به المزارع. هكذا نستطيع التشديد على أن السعي وراء القداسة هو أيضا مشروع مشترك بين الله والمؤمن المسيحي. فلا يمكن لأحد أن يرتقي درجة واحدة في سلم القداسة دون أن يعمل الله في حياته، ومن المحقّق أيضاً أن لا أحد يتقدم في القداسة دون مجهود يبذله هو. فقد يسّرَ الله سبيل السلوك في منهج القداسة، لكنه ألقى على عواتقنا مسؤولية العمل والسير. وهو تعالى لا يقوم بذلك عوضاً عنّا.

يلذّ لنا نحن المسيحيين المؤمنين، أن نفيض في التحدث عن إعدادات الله، وكيفية سحق المسيح للخطيّة على الصليب، وإعطائنا هبة الروح القدس للانتصار على الخطيّة. ولكننا نجد صعوبة في التكلم عن مسؤوليتنا الخاصة في سلوك سبيل القداسة. ولهذه الظاهرة سببان رئيسان: السبب الأول يكمن، وبكل بساطة، في أننا نأبى أن نتحمل مسؤولياتنا بطيبة خاطر. فنحن نؤثر أن نترك هذا الأمر لله، ونصلي طالبين النصرة في حين نعلم أن علينا أن نسلك الطاعة.

أما السبب الثاني فمردّه إلى عدم إدراكنا للفرق الواضح بين الإعداد الإلهي في مسألة القداسة من جهة ومسؤولياتنا الشخصية من جهة أخرى. وقد جاهدت طويلاً مع السؤال التالي: "ماذا ينبغي أن أعمل أنا، وفيم أتكّل على الله كي يعمله هو؟" ولكن حينما فهمتُ ما يعلّمه الكتاب المقدس في هذا الموضوع، حينئذٍ فقط تصديت لمسؤوليتي بثقة واختبرت بهجة السلوك في سبيل القداسة.

وأما عنوان الكتاب فهو مستوحىً من الوصية الكتابية "اتبعوا... القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" (عبرانيين 12: 14). وهذه الوصية تتضمن في طياتها فكرتين: الفكرة الأولى أن الاجتهاد والمثابرة هما أمران حيويّان، والفكرة الثانية أن هذا السعي هو مهمة تدوم العمر كله. هاتان الفكرتان هما المحور الذي يدور حوله موضوع هذا الكتاب. وفيما سعيتُ لأن أوضح بدقة وجلاء ما أعدّه الله للقداسة، تعمّدتُ الإصرار على ناحية المسؤولية الفردية شعوراً مني بأن هذا الإصرار هو أمسّ ما يحتاج إليه المؤمنون المسيحيون اليوم. وقد حاولت في الوقت عينه التشديد على أن القداسة هي عملية مستمرة، لن نبلغ البتة نهاية شوطها في هذه الحياة. بل بالأحرى إذ نبدأ بالخضوع لإرادة الله في ناحية معينة من نواحي حياتنا، يُكشف لنا النقاب عن حاجة ماسة في ناحية أخرى. لهذا السبب نحن دائماً بصدد نشدان القداسة في هذه الحياة، وإن كان يستحيل علينا البلوغ إلى نهاية شوطها.

 وعلاوة على دراستي الشخصية لموضوع القداسة في كلمة الله، جنيت فائدة جمة مما كتبه "الطهوريّون" (The Puritans) ومن جاراهم في هذه المدرسة الفكرية من حيث موضوع القداسة. ففي عدة مناسبات اقتبست مباشرة من كتاباتهم، وأشرت إلى ذلك بوضوح. وفي شواهد أخرى، اندمج أسلوبي في التعبير بأسلوبهم الخاص في صياغة الألفاظ. وهذا ينطبق فعلاً على كتابات جان أوين (John Owen) والدكتور د. مارتن لويد جونز (D. Martyn Lioyd Jones) من لندن، وكان لي في كتاباتهما حول هذا الموضوع بركة شخصية ثمينة جداً.

لست أدّعي أني متمكنٌ من الموضوع بكل جوانبه، أو أني أحرزتُ تقدماً شخصياً ملموساً. وخلال كتابتي اضطررتُ مراتٍ عديدة أن أطبق هذه المبادئ في حياتي أولاً. وما اكتشفته كان لي عوناً فعالاً وحيوياً في سعيي وراء القداسة، وأثق أنه سيساعد أيضاً قارئ هذا الكتاب.

وللتعمق أكثر في المبادئ الكتابية المتعلقة بالقداسة والتي بحثتها في هذا الكتاب، أشجع القارئ أن يدرس مواد "دراسة كتابية في نهج القداسة"، وهو كُرّاس رديف لهذا الكتاب.

  • عدد الزيارات: 1484