Skip to main content

الفصل الثاني: دعاوي المسيح

أولاً: شخص المسيح

رأينا- فيما تقدم- كيف من الضروري أن نطلب إذا كُنَّا نريد أن نجد، ولكن من أين نبدأ الطلب؟ ولعلَّ المسيحي يجيب قائلاً: "إنَّ النقطة الوحيدة، التي منها ينبغي أن نبدأ، هي شخص واحد فقط، أعني به يسوع الناصري" لأنَّه ما دام الله قد تكلّم، وقد عمل، فيكون كمال القول والعمل، قد تمَّ في يسوع المسيح... ويواجهنا سؤال خطير دقيق وهو: "هل كانَ نجار الناصرة ابن الله؟" ويقودنا إلى المشكلة القائمة، في المسيحية والتي تتلخص في السؤال: "ماذا تظنون في المسيح؟"

هذا هو أول سؤال، خطر ببال الناس، نتيجة لتعليم وعمل يسوع في أثناء خدمته العلنية، وعندما قال للمفلوج: "أيُّها الإنسان مغفورةٌ لكَ خطاياك"، ابتدأ الكتبة والفريسيُّون يفكِّرون قائلين: "مَن هذا الذي يتكّلم بتجديف؟" (لوقا 5: 20، 21) ثمَّ لما أسكتَ الرياح والبحر، تساءلَ تلاميذه، وقد اعترتهم الدهشة، قائلين: "من هو هذا. فإنّ الريح أيضاً والبحر يطيعانه" (مرقس 4: 41)– كما أنَّ المتكئين معه في بيت الفريسي، ذُهِلُوا وهم يسمعونه يقول للمرأة الخاطئة "مغفورةٌ لكِ خطاياك" وقالوا: "من هذا الذي يغفر خطايا أيضاً؟" (لوقا 7: 49)– أمَّا هيرودس رئيس الربع في الجليل، فقد ارتابَ عندما سمعَ بجميع ما كان منه، وقال "يوحنا أنا قطعت رأسهُ، فمن هو هذا الذي أسمع عنه مثل هذا؟" (لوقا 9: 9) وعندما دخلَ يسوع عاصمة مُلْكِهِ، راكباً على جحش، يقول متّى: "وارتجت المدينة كلَّها قائلةً مَن هذا؟" (متّى 21: 10).

ولا يزال هذا السؤال يتردد بين أوساط عديدة في عصرنا الحاضر، ذلك لأنّ شخص يسوع سحر عقول أهل الفكر، ولعلَّ مِن أبرز مظاهر الحياة الفكرية في القرنين الأخيرين، ما بدا مِن اهتمامٍ متزايدٍ، بحياة يسوع وتعليمه، وما يُبْذَل من جهودٍ جبّارة، لاستكشافِ الحقائق، وسبر غورها، وتقدير خطورتها وأهميتها... هذه هي القصة القديمة الجديدة، التي تزداد جدّة، بمرور الأيام والعصور.

هناك سببان رئيسيان، يدعواننا إلى بدء بحثنا في المسيحية بشخص المسيح وهما.

1- إنَّ المسيحية في جوهرها هي المسيح: فإنّ شخص المسيح وعمله، هما الصخر المتين، الذي يرتكز عليه صرح الديانة المسيحية، فإنْ لم يكن المسيح هو هو كما قال عن نفسه، وإنْ لم يتمم ما قال أنَّه جاء لكي يعمله، لانهار بناء المسيحية الشامخ، وأصبح في خبر كان.. لأنَّه لو أخرجنا المسيح من المسيحية، فماذا يبقى؟ إنَّ المسيح هو محور المسيحية وجوهرها، ويهمُّنا بالدرجة الأولى، لا أنْ نبحث فلسفياً في طبيعة المسيح، ولا في قيمة نظامه، ونوعية المستوى الأدبي الذي وضعه، ولكن همُّنا الأول والرئيسي هو ما يتعلَّق بطبيعة شخصه وكمال سجاياه، ولقد أحسن الدكتور غريفيث توماس، رئيس قاعة ويكليف في جامعة إكسفورد سابقاً، أحسن صنعاً، إذ استهلَّ كتابه: "المسيحية هي المسيح" بهذه الكلمات: "المسيحية هي الديانة الوحيدة في العالم، التي ترتكز على شخص مؤسسها".. ثم أردفَ قوله باقتباس نقله عن توماس كارليل، مؤرخ وفيلسوف القرن التاسع عشر وهو: "لو ضاعت عقيدة لاهوت المسيح هذه، لزالت المسيحية كما يزول الحلم".

2- لو ثبت أنّ يسوع المسيح شخص إلهي فريد، لانحلّت مشاكل أخرى كثيرة بطبيعة الحال.. وكون المسيح شخصاً إلهياً، يبرهن وجود الله، ويعلن طبيعة الله، كما نجد فيه الجواب للمشكلات المتعلّقة بواجبات الإنسان، ومصيره، والحياة بعد الموت، وغرض وصحة العهد القديم، ومعنى الصليب، لأنَّ يسوع علَّم عن هذه الأشياء، وكان تعليمه كمن له سلطان، لأنَّ شخصه إلهي.

إذاً لا بدَّ أن يبدأ بحثنا بيسوع المسيح. وللوقوف على حقيقته، لا بدَّ لنا من الرجوع إلى الأناجيل، ويمكننا اعتبارها مصادر تاريخية، إذا غضضنا النظر عن أنَّها كتب سماوية موحى بها من الله، وفيها سجل كامل لحياة وتعليم يسوع.

ونرمي من ذلك إلى بيان الدليل، لكي نبرهن على أنَّ يسوع هو ابن الله الوحيد، ولن نقبل أو نرضى عن قرار يعلن ألوهيته بشكل غامض مُبهم، لكن ينبغي أن نثبت لاهوته الفريد– إنّنا نؤمن بعلاقتهِ السرمدية الجوهرية بالله، والتي ليست لأحد سواه، ولا نحسبه إلهاً متنكراً في هيئةِ إنسان، ولا إنساناً تجلّى في صفاتِ إلهية، لكن نؤمن إيماناً وثيقاً بأنّه إله متجسد، وأنّه شخص تاريخي، عاش فعلاً بين الناس، له طبيعتان كاملتان- اللاهوت والناسوت- وينفرد بهما إلى الأبد، وهذا مما يجعله، ليس فقط جديراً بعظيم إعجابنا، بل بعبادتنا أيضاً.

هذا الدليل مثلث ويتعلّق: (1) بالدعاوى التي جاهر بها المسيح عن نفسه وسجاياه (2) وطبيعته (3) وقيامته من الأموات وسوف يقتصر بحثنا في هذا الفصل والفصلين التاليين، على هذه المواضيع –ولا يكفي أن نأخذ واحداً من هذا الدليل المثلث، حِجة مسلمّة، بل يجب أن تسير الأدلّة الثلاثة معاً، حتى تصل إلى نتيجة واحدة.

فالشهادة الأولى هي شهادة أقوال المسيح نفسه، ومن المسلّم به، أنّ المسيح الذي يشهد له التاريخ، هو شخص حقيقي، وُلِدَ وعاش ومات.. وهو شخص عجيب، ينسب لنفسه مقاماً فريداً، وإنّ تلك الأقوال والدعاوى، لا تقيم في ذاتها حجة أو دليلاً لإثبات ما يقوله المسيح عن نفسه، غير أنّ هناك ظاهرة تتطلب التعليل، ولذلك رأينا أن نقسم الموضوع إلى أربعة أنواع كما يأتي:


1-مدار تعليم المسيح عن نفسه (مغزى كلمة "أنا" في تعليم المسيح)

إنّ أبرز ظاهرة في تعليم يسوع، هي أنّه كان يتكلم عن نفسه مراراً، ومع أنّه تكلم كثيراً عن أبوّة الله، لكنه كان يعبّر على أنّه هو "الابن" لهذا الآب وأنّه لم يحسب خلسةً أن يكون معادلاً له.. كما أنّه كان يجول ويبشر بملكوت الله (لوقا 4: 43) ولكنه اعتبر نفسه، صاحب المكان الفريد في الملكوت، الذي شرفه بمجيئه، ووسعه بأعماله وقدرته، والذي لا سبيل إلى الدخول إليه إلا بطاعة الناس له، وإنّ بين البركات التي منحها لتلاميذه، بركات: "أن يرثوا الحياة الأبدية" و"أن يخلصوا" و"أن يدخلوا ملكوت الله" فليس من الغريب، إذاً، أن نقرأ أحياناً أنَّ ملكوت الله، هو "ملكوت المسيح".. وأنَّه دعا نفسَه "الملك" (مثلاً متّى 13: 14، 16: 28، 20: 21، 25: 31، 34-40، لوقا 23: 42، انظر يوحنا 17: 33-38) ولا شكَّ إنّ أعجب إعلان قدّمه يسوع، هو إعلانه عن نفسه، لأنّ هذا يمّيزه عن بقيةِ المعلمين الدينيين الآخرين في العالم، ممن يسعون لإخفاء وستر شخصياتهم، أمّا هو فقد أبرز شخصيته، وهم يشيرون بعيداً عن أنفسهم ويقولون: "ذاك هو الحق الذي نعرفه" أمّا هو فيقول: "أنا هو الحق. اتبعوني"– ولم يتجاسر غيرهُ، أن يقول مثل هذا القول. ومما يلفت النظر، كثرة استخدامه لضمير المتكلم "أنا" فمثلاً قال: "أنا هو خبز الحياة. من يقبل إليّ فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً" (يوحنا 6: 35) "أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا وكل من كان حيَّاً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد (يوحنا 11: 5، 26) "أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلاَّ بي" (يوحنا 14: 6) "أنا هو نور العالم" (يوحنا 8: 12).

وعسانا نلاحظ أنَّ الجزء الأول من تعليمه، يقودنا إلى هذا السؤال الخطير العظيم: "وأنتم من تقولون أني أنا؟" (مرقس 8: 29) ولقد أكدَّ دعواه بقوله: "إنَّ إبراهيم رأي يومه وفرح" (يوحنا 8: 56) "وإنَّ موسى كتب عنه" (يوحنا 5: 46) "وإنَّ الكتب تشهد له" (يوحنا 5: 39)– وإنَّ الثلاثة أقسام العظمى في العهد القديم– أي الناموس والأنبياء والمزامير –كتبت عنه (لوقا 24: 27، 44) وها نحن نرى لوقا يصف بإسهاب، الزيارة التي قام بها يسوع إلى الناصرة وطنه، حيث كان قد تربَّى، ولمَّا دخل المجمع، دُفِعَ إليه الدَرَج، ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه: "روح الرب عليّ لأنّه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية وأكرّز بسنّة الرب المقبولة" (لوقا 4: 18-19، أشعياء 61: 1-2) ثمَّ طوى السفر وسلّمه إلى الخادم وجلس، وكانت عيون جميع الذين في المجمع شاخصةً إليه، وصمت الجميع كأنَّ على رؤوسهم الطير "فابتدأ يقول لهم إنّه اليوم قد تمَّ هذا الكتاب في مسامعكم" أو بعبارة أخرى كأنّه يقول: "إنّ أشعياء كان يتكلم عني" .

وليس بالغريب على شخص، له هذه الثقة والعقيدة في نفسه، أن يدعو الناس إليه... وحقيقة الأمر، لم تكن مجرد دعوة، لكنه أمر أصدره في قوله: "تعالوا إليّ" و "اتبعني" وقد وعد الذين يأتون إليه بالراحة "وأنا أريحكم" وذلك برفع أثقالهم وأتعابهم عنهم (متى 11: 28-30) وبإشباع الجياع (يوحنا 6: 35) وبإرواء الظمأ (يوحنا 6: 35، 7: 37) وأكثر من ذلك، كان على أتباعه أن يطيعوه وأن يعترفوا به قدّام الناس، وقد بلغ التلاميذ من الإدراك ما جعلهم يعترفون ويقرون بحق المسيح الكامل، في دعاويه الجامعة، حتى أنّ بولس وبطرس ويعقوب ويهوذا، سُرُّوا أن يلقبُّوا أنفسهم في رسائلهم "بعبيده"، وزد على ذلك، فقد جعل يسوع نفسه، الموضوع المناسب لإيمان الإنسان ومحبته، وقد دعا الناس لكي يؤمنوا به وقال: "هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله" (يوحنا 6: 29) "الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية" (يوحنا 3: 36) فإذا اعتبرنا الإيمان به، الواجب الأول على الإنسان، لاعتبرنا عدم الإيمان به، خطية الإنسان الرئيسية (يوحنا 8: 24، 16: 8، 9) ومع أنَّ الوصية الأولى والعظمى هي "أن تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك" إلاّ أننا نرى يسوع يطالب بكل ثقة بمحبة الإنسان له ويقول: "كل من أحب أباً أو أماً أو ابناً أكثر مني فلا يستحقني" (متى 10: 37) كما قال في لوقا 14: 26 "إن كان أحد يأتي إليِّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وأخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً" ... حاسباً أنّه والآب واحد.

وقد بلغ الأمر بيسوع من حيث ثقته واقتناعه من مكانه الرئيسي في قصد الله، بلغ به حدّاً جعله يأخذ على عاتقه، أن يرسل شخصاً ليحل محله بعد صعوده إلى السماء، إلاّ وهو الروح القدس وقد دعاه "المعزّي" (باراكليتParaclete ) وهي تسمية مشروعة، ومعناها المحامي، أو مستشار الدفاع، وبذلك يكون عمل الروح القدس، الدفاع عن قضية يسوع أمام العالم، وقال يسوع عنه: "هو يشهد لي" (يوحنا 15: 26) ثمَّ "ذاك يمجدني لأنّه مما لي ويخبركم" (يوحنا 16: 14) وتختص شهادة الروح القدس بيسوع المسيح، كما أنَّ إعلان الروح القدس للكنيسة يختص بيسوع المسيح أيضاًَ هذا الذي تنبأ قائلاً: "وأنا إن ارتفعت عن الأرض، أجذب إليّ الجميع" (يوحنا 12: 32) فقد عرف أنّ للصليب تأثيراً مغناطيسياً أدبياً على البشر، نساءً ورجالاً، ولم يقصد باجتذابهم أن يجذبهم إلى الكنيسة أو إلى الحق أو إلى البر بل إلى نفسه أولاً... وبه يأتون إلى الكنيسة وإلى الله.

ولعلّ أبرز حقيقة في هذا التعليم، الذي يدور حول شخص الناطق به، هي أنه صدر عن "الواحد" الذي أوصى الآخرين مشدداً على التواضع... وقد وبّخ تلاميذه لأنهم يطلبون نفوسهم ويحبّون ذواتهم، واضطرب إذ رآهم يتشاجرون في من يكون عظيماً، أفلا يمارس عملياً ما يكّرز به؟ لقد أخذ ولداً وأقامه في وسطهم مثالاً لهم، فهل كان له مقياس خاص به يختلف عن غيره؟


2-دعاوي المسيح المباشرة:

من الواضح أنّ يسوع اعتقد بأنه المسيا الذي تنبأ عنه العهد القديم، واعتبر خدمته إتماماً لتلك النبوات، وقد جاء لكي ينشئ ملكوت الله، الذي أخبر عنه الأنبياء قديماً، ومما يستحق كبير الاهتمام، أنّ أول كلمة سجلها الوحيلخدمة المسيح العلنية، هي "كَمُلَ"، كما وردت في أول عبارة وهي "قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله" (مرقس 1: 15) واتخذ لنفسه لقب "ابن الإنسان" وهو لقب من ألقاب المسيا المقبولة، والمشتقة من إحدى رؤى دانيال –وقد قبل يسوع الوصف "ابن الله"، عندما تحداه رئيس الكهنة (مرقس 14: 61، 62) وهو لقب متعلق بالمسيا، مأخوذ عن مزمور 2: 7، وفسّر إرساليته في ضوء الصورة التي رسمها أشعياء، صورة عبد الرب المتألم، وقد بلغت المرحلة الأولى من تعليمه ذروتها، في قيصرية فيلبس، عندما اعترف سمعان بطرس، بإيمانه أنّ يسوع هو المسيح (مرقس 8: 27-29) وبينما ظنّه البعض واحداً من الأنبياء، أكدّ بطرس أنّه هو هو عين الشخص الذي تنبأ عنه الأنبياء قديماً.

فلم يكن مجرد إنسان بين رفاقه، ولكنه هو الشخص الذي إليه تتجه أنظار وقلوب الجميع، وكان "الإتمام" أو "الإكمال" هو الطابع الذي امتازت به خدمة المسيح وإرساليته، وهذا نفس ما قاله لتلاميذه على انفراد: "طوبى للعيون التي تنظر ما تنظرونه. لأنّي أقول لكم إنّ أنبياء كثيرين وملوكاً أرادوا أن ينظروا ما أنتم تنظرون ولم ينظروا وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا" (لوقا 10: 23، 24) (قابل أيضاً متى 13: 16، 17).

ولكن هذه الدعاوى المباشرة التي نحن بصددها الآن، لا تشير إلى المسيح بصفة كونه المسيا فحسب، بل تشير أيضاً إلى لاهوته. فقد جاهر أنّه ابن الله، لا بوصفه المسيا فقط، بل أيضاً بالنسبة لعلاقته الفريدة الأزلية مع الله الآب، وها نحن نورد ثلاثة أمثلة، بهذا الصدد: نذكر أولاً، علاقته الوثيقة بأبيه "الله".. وقد ورد ذكرها مراراً وتكراراً، وها نحن نرى يسوع في سن الثانية عشرة، وقد أدهشت أبويه– حسب الجسد –غيرته المتقدة على ما لأبيه السماوي (لوقا 2: 49) وأيضاً قوله: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يوحنا 5: 17) "أنا والآب واحد" (يوحنا 10: 30) "أنا في الآب والآب فيَّ" (يوحنا 14: 10، 11) "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يوحنا 14: 23) ومن المسلّم به أنَّ يسوع علَّم تلاميذه أيضاً أن يخاطبوا الله "كأب" ولكن شتّان بين بنوة المسيح لله، وبنوتنا نحن.. وقد فرّق يسوع بين الاثنتين، فعندما تكلم عن الله، كان يقول "أبي" (متى 18: 10، 19: 35، 7: 21، 20: 23، 26: 53) لذلك خاطب مريم المجدلية بقوله: "إني أصعد إلى أبي وأبيكم" (يوحنا 20: 17) ولم يكن بالإمكان أن يقول: "إني أصعد إلى أبينا"– ومع أنَّ هذه الآيات مأخوذة من إنجيل يوحنا، إلاّ أننا نرى يسوع، وقد جاهر بهذه العلاقة الفريدة– علاقة المسيح بأبيه– في إنجيل متى 11: 27 أيضاً حيث يقول: "كل شيء قد دفع إليَّ من أبي، وليس أحد يعرف الابن إلاّ الآب، ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له". إلاّ أنّ حنق اليهود وغيظهم، بدا قوياً واضحاً في قولهم: ".. جعل نفسه ابن الله" (يوحنا 19: 7) وجاء نتيجة لدعوى المسيح بشأن علاقته الوثيقة بالله، حتى أنّه وضع على قدم المساواة، موقف الإنسان نحو الله، وموقف الإنسان نحو المسيح وقال: "لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً"– فمعرفته هي معرفة الله (يوحنا 8: 19، 14: 7) كما أنّ رؤياه هي بعينها رؤية الله الآب "الذي يراني يرى الذي أرسلني" (يوحنا 12: 45، 14: 9) والذي يؤمن به، يؤمن بالله (يوحنا 12: 44، 14: 1) ومن يقبله يقبل الله (مرقس 9: 37) ومن يبغضه يبغض الله (يوحنا15: 23) ومن يكرمه يكرم الله (يوحنا 5: 23).

ولننتقل الآن من وجه التعميم إلى وجه التخصيص، وإلى علاقة يسوع الشخصية، الوثيقة بالله الآب، ولتوضيحها نورد مثلين آخرين:

المثل الأول جاء في الإصحاح الثامن من إنجيل يوحنا، عندما اشتد الجدل مع اليهود، في قول يسوع: "الحق الحق أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد" ع 51 ولما لم يحتمل أعداؤه هذا القول، أجابوا قائلين: "قد مات إبراهيم والأنبياء..ألعلك أعظم من أبينا إبراهيم... من تجعل نفسك.. (52-53)"وأجاب يسوع وقال: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح.. فلمّا سمع اليهود ذلك ازدادت حيرتهم وقالوا: ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبراهيم؟" فأجابهم يسوع بعبارة أفحمتهم قائلاً: "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يوحنا 8: 51-58) فرفعوا حجارة ليرجموه، لأنّ ناموس موسى أوصى برجم المجدّفين، وقد اعتبروا كلام يسوع تجديفاً.. فما الذي حسبوه تجديفاً؟

إنّ أول ما خطر على البال قوله: "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" هذا ما جاهر به يسوع، في مناسبات عديدة، وأيضاً قوله إنّه مُرسَل من الآب، وإذ ننعم النظر نرى أنه لم يقل: "قبل أن يكون إبراهيم أنا كنت" بل قال "أنا كائن"... ولعلّ هذا يعني إقراره بوجوده، ليس فقط قبل إبراهيم، بل منذ الأزل، كما أنّ في هذا القول: "أنا كائن" ما هو أعمق من هذا، لأنّ فيه إقراراً بألوهيته... لأنّ هذا هو ذات الاسم الذي أعلنه الله لموسى عند العليقة في البرية، إذ قال إنّ اسمه هو "أهيه الذي أهيه" أي "أنا الذي أنا" وهو نفس القول "أنا الكائن" "أهيه أرسلني إليكم" (خروج 3: 14) وقد نسب يسوع لنفسه هذا السم، وكلّه طمأنينة وثقة... من أجل هذا رفع اليهود حجارة لكي يرجموه إذ حسبوه مجدِّفاً.

المثل الثاني بشأن دعواه بألوهيته: هذا ما حدث بعد القيامة فإنه بعد ثمانية أيام من القيامة، كان التلاميذ في العلية، وتوما معهم، عندما جاء يسوع والأبواب مغلقة، ووقف في الوسط، وبعد أن حيّاهم، قال لتوما: "هات إصبعك إلى هنا وأبصر يديّ، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن، بل مؤمناً، واعترت توما دهشة وحيرة فصرخ قائلاً: "ربي وإلهي" (يوحنا 20: 26-29) وقد وبخ يسوع توما لعدم إيمانه – مؤيداً هذا الاعتراف.


3-دعاوي يسوع الغير المباشرة:

أيّدَ يسوع دعواه بالألوهية، بوسائل غير مباشرة، كما سبقَ وأيّدها بالوسائل المباشرة، فإنَّ خدمته– وما تضمنته من أعمال –شهادة واضحة صريحة، لها من القوة والتأثير ما لكلماتهِ وأقوالهِ... فقد قام بأعمال– في مناسباتٍ عديدةٍ –لا يقدر أن يعملها إلاَّ الله، ونسب لنفسه بعض الامتيازات الإلهية، نكتفي بذكر أربعة منها فقط:

(1)دعواه بغفران الخطايا:

غفر يسوع الخطايا في حادثتين مختلفتين، أولاهما: لما قُدِّم إليه المفلوج، مُدلَّّى مِنَ السقف بأربعة حبال،

وقد رأى يسوع أنَّ حاجة ذلك الإنسان روحية، أكثر ممّا هي جسدية، فأَذهلَ جميع الحاضرين حين قال له: "يا بني مغفورةٌ لكَ خطاياك (مرقس 2: 1-12) والثانية: عندما غفرَ خطايا المرأة الخاطئة، وهو مُتكّئ في بيت رجل فريسي، وقد جاءت بقارورةِ طيب، ووقفت عند قدميه من ورائه باكية، وابتدأت تَبُّّل قدميه بالدموع، وكانت تمسحهما بشعر رأسها، وتُقبِّل قدميه وتدهنهما بالطيب... فقال لها يسوع: "مغفورةٌ لكِ خطاياك" (لوقا 7: 36-50).

وفي كلتا الحادثتين، ملأتْ السامعين حيرة ودهشة، وتساءلوا في أنفسهم قائلين: "من هذا الذي يغفر خطايا أيضاً؟ ما هذا التجديف؟ من يستطيع أن يغفر خطايا إلا الله وحده؟" وربما بَدَتْ كلماتهم– في ظاهرها- صحيحة في نظرهم، لأنَّه عادةً، يمكننا نحن البشر، أنْ نسامح إساءات الآخرين إلينا، ولكن الله وحده هو الذي يقدر أنْ يغفر الخطايا التي نرتكبها نحن ضدَّه تعالى.

(2)دعواه بمنح الحياة:

وصف يسوع نفسه بأنّه "خبز الحياة" (يوحنا 6: 35) وبأنّه "الحياة" (يوحنا 14: 6) وبأنّه "القيامة والحياة" (يوحنا 11: 25) وقد شبّه اعتماد شعبه عليه، باعتماد الأغصان على الكرمة، وقدَّم للمرأة السامرية "ماء الحياة" (يوحنا 4: 10-15) ووعد الشاب الغني بالحياة الأبدية إذا تَبِعَهُ (مرقس 10: 17، 21) ودعا نفسه "الراعي الصالح" الذي يضع نفسه عن الخراف، والذي يعطيها الحياة الأبدية (يوحنا 10: 28) وأعلن أنَّ الله أعطاه سلطاناً على كلِّ جسد ليعطي حياة أبدية، للذين أعطاه إيَّاهم الله (يوحنا 17: 2) ونادى قائلاً: "كذلك الابن أيضاً يحيى من يشاء" (يوحنا 5: 21).

كانت هذه الدعوى واضحة قويّة، حتى أنّ تلاميذه أدركوا حقيقته، واستبعدوا أن يفكّروا في تركه، بدليل قول بطرس: "إلى من نذهب كلام الحياة الأبدية عندك" (يوحنا 6: 68) وعسانا نرى أهمية هذه كلها، لأنّ الحياة لغز وإنَّ بها– جسدية كانت أم روحية –من الغموض ما يحيِّر الألباب، إنَّ في طبيعتها أو أصلها، فلا يستطيع المرء أنْ يحدّد ماهيتها، ولا أنُ يقول مِنْ أين تأتي، ولا يمكننا إلاّ أن ندعوها هبة إلهية، وهذه هي العطية التي منحنا إيّاها يسوع.

(3) دعوى بتعليم الحق:

إنّ الحقائق السامية التي علَّمها يسوع، لا تسترعي ذات الاهتمام، الذي يسترعيه أسلوبه الصريح الواضح، الذي يأخذ بمجامع القلوب، ويسحر الألباب، حتى أنّ معاصريه، تأثروا تأثيراً قوياً، من حكمته وقالوا: "من أين لهذا هذه كلّها؟ وما هذه الحكمة التي أُعطِيَتْ له؟ أليس هذا هو النجار ابن مريم؟" (مرقس 6: 2، 3) "كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلّم؟" (يوحنا 7: 15) ولا شكّ أنّهم لاحظوا كلمات النعمة الخارجة من فمهِ! (لوقا 4: 22).

كما أنَّ سلطانه، ترك في نفوسهم أثراً أكبر فقالوا: "لم يتكلم قطُّ إنسان هكذا مثل هذا الإنسان" (يوحنا 7: 46) "وبُهِتُوا من تعليمه لأنَّ كلامه كان بسلطان" (لوقا 4: 32) وقد جاء في ختام الموعظة على الجبل هذه الكلمات: "فلما أكمل يسوع هذه الأقوال، بُهِتَتْ الجموع مِنْ تعليمه، لأنّه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة" (متى 7: 28، 29).

ولم يكن سلطانه سلطان نبي، استمدّه من غيره، بل كان سلطاناً أصيلاً، فلم يستخدم في حديثه العبارة القائلة: "هكذا يقول الرب" بل كان يقول: "الحقَّ الحقّ أقول لكم" ومع أنّه ذكر بصراحة أنّ تعليمه ليس له بل للآب الذي أرسله (يوحنا 7: 17، 18) إلاّ أنّه كان يعلم يقيناً أنّه الوسيلة الفعّالة المباشرة، للإعلان السماوي، مما جعله يخاطب الجموع، وكلّه ثقة في نفسه، فلم يتردد في كلامه، ولم يعتذر عن أي شيء، كما لم ينقض شيئاً مما سبق وقاله، ولم يتراجع عن شيء أو يعدّله، لأنّه كان يتكلم بكلام الله (يوحنا 3: 34) وفي حديثه عن المستقبل، بدا واثقاً مما يقول، كما أنّه نطق بوصايا أدبية رفيعة، منها "أحبوا أعداءكم" (متى 5: 44، لوقا 6: 27) "لا تهتموا للغد" (متى 6: 34) "لا تدينوا لكي لا تدانوا" (متى 7: 1) وأمّا وعوده مثل "اسألوا تعطوا" (متى 7: 7، لوقا 11: 9) فلم يشكّبتاتاً في إتمامها، كما أنّه أكدّ أنّ كلامه أبدي، ثابت مثل الناموس، ولا يزول حرف منه (مرقس 13: 31 قابل متى 5: 18) وأنذر سامعيه مشدداً على أنّ مصيرهم الأبدي، متوقف على مدى طاعتهم لأقواله، كما توقف مصير الشعب قديماً، على طاعتهم لأقوال الله (متى 7: 24-27، يوحنا 12: 48).

(4) دعوى دينونة العالم:

ربما كانت هذه، أقوى دعوى قدّمها المسيح، وقد تضمنت بعض أمثاله، فكرة مجيئه الثاني إلى العالم، وأنَّ يوم الدينونة قد يُؤجَّل حتى يجيء، فهو الذي سيُقيم الموتى (يوحنا 5، 28، 29) وإنَّ كلَّ الأمم والقبائل والألسنة، سوف تجتمع قُدَّامَهُ، وسوف يجلس على كرسي مجده، ويعطيه الآب كلّ الدينونة (يوحنا 5: 22) حينئذٍ سيميز الناس بعضهم عن بعض، كما يميز الراعي الخراف عن الجداء، ويدعو البعض لكي يرثوا الملكوت المعد لهم منذ تأسيس العالم، بينما يخاطب البعض الآخر قائلاً: "اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته" (متى 25: 31-46) ولا يقتصر الأمر على أن يكون يسوع ديّاناً فحسب، بل إنه يحاسب البشر على موقفهم منه، بالنسبة لموقفهم من "إخوته الأصاغر" الذين هم أتباعه العاملون مشيئة الله (مرقس 3: 35) أو بالنسبة لإجابتهم لدعوته وإطاعتهم لوصاياه (يوحنا 12: 47، 48) وإن الذين اعترفوا به قدام الناس، يعترف به قدام أبيه الذي في السموات، والذين أنكروه، ينكرهم هو أيضاً (متى 10: 32، 33) ويكفي أن يقول يسوع لإنسان ما: "لم أعرفك" (متى 7: 23) في اليوم الأخير، ليحرمه من دخول السماء.. وما أعظم هذا القول، وما أبعد تأثيره ومداه! تصوروا واعظاً يقف على المنبر، ثم يخاطب سامعيه هكذا: "اسمعوا! أصغوا بكل انتباه إلى ما أقول! لأن مصيركم الأبدي، يتوقف على مدى سماعكم لكلامي، والعمل به، وسوف أرجع عند انتهاء العالم، لكي أناديكم، واعلموا أن نصيبكم الأبدي يتوقف على مدى طاعتكم لي"... لو حدث هذا، فلن يمر وقت طويل، حتى يلقى القبض على مثل هذا الواعظ، أو أن يرسل– كمخبول– إلى مصّحة الأمراض العقلية للعلاج.


4-دعاوي المسيح المعجزية العملية:

بقي علينا فقط، أن نتأمل في معجزات المسيح، التي يمكن تسميتها بدعاوي المسيح المعجزية، وليس هنا مجال البحث الدقيق عن إمكانية وقصد المعجزات، بل نكتفي بالإشارة، إلى أن قيمتها تظهر في أهميتهاالروحية،أكثر من كونها فائقة للطبيعة، فإنها "علامات" بل "آيات" لم تجرِ عرضاً وبدون معنى، ولا غايات ذاتية أنانية، ولم يكن القصد منها، إرغام الناس على الخضوع والتسليم، ولا لمجرد إظهار القوة الجسدية، ولكنها دلائل السلطة الأدبية –فهي في الواقع أمثال يسوع العملية. التي تُظهر للعيان دعاويه أو بعبارة أخرى، هي أعماله التي تمثل كلماته وأقواله... هذا ما رآه الرسول يوحنا جلياً، فاختار منها بضع آيات، نواة لإنجيله (يوحنا 20: 30، 31) رابطاً إياها بمجموعة التصريحات والعبارات التي بدأها بالقول: "أنا هو" وأولها معجزة تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل، ولا تقوم أهميتها على ظاهرها، بل تذهب إلى أعمق من هذا، فقد سجل يوحنا أنه كانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك "حسب تطهير اليهود" (يوحنا 2: 6) ولعلنا نرى في هذه العبارة المفتاح الذي نبحث عنه، فقد كان الماء هنا– كما كانت بئر يعقوب في الإصحاح الرابع من إنجيل يوحنا- رمزاً لديانة العهد القديم، مليئاً بالذكريات والروابط القديمة، كما أن الخمر كانت ترمز إلى ديانة يسوع، فكما أنّ المسيح حوّل الماء إلى خمر، هكذا الإنجيل سيحوّل الناموس ويحل محله... وقد أثبتت هذه الآية قدرة المسيح على إحلال النظام الجديد، ذلكم لأنه هو المسيا، كما صرّح بعد قليل للمرأة السامرية بقوله: "أنا... هو" (يوحنا 4: 26).

وهكذا أيضاً، في إشباعه الخمسة الآلاف، أوضح يسوع دعواه بإشباع جوع القلب البشري وقال: "أنا هو خبز الحياة" (يوحنا 6: 35) وبعد قليل فتح عيني المولود أعمى، مؤيداً ومؤكداً، ما سبق وقاله: "أنا هو نور العالم" (يوحنا 8: 12)...فإن كان قد فتح عيني الأعمى، ألا يستطيع أن يفتح عيون البشر لكي يبصروا الله ويعرفوه؟ وقد أعاد للحياة إنساناً اسمه لعازر، بعد أن بقي في القبر أربعة أيام وقال: "أنا هو القيامة والحياة" (يوحنا 11: 25) وإنّ إحياء الميت معجزة فائقة وقد أشارت حياة الجسد هنا، إلى حياة النفس والروح، فإن يسوع هو حياة المؤمن المسيحي في هذه الحياة الدنيا، قبل الموت، كما أنه القيامة للمؤمن المسيحي بعد الموت، وما جميع هذه المعجزات سوى أمثال، لأنّ البشر جياع روحياً، وعمي وأموات، ولا يستطيع أن يشبع جوعهم أو يفتح عيونهم أو يقيمهم إلى جدة الحياة سوى يسوع المسيح وحده.


الخلاصة

ليس في الإمكان أن نترك هذه الدعاوى، من تعليم نجّار الناصرة، فلا يمكن القول أنها من اختراع البشيرين، أو أنه مبالغ فيها بدون قصد، وقد توزعت توزيعاً عادلاً واسعاً في الأناجيل المختلفة وفي مصادرها، كما أن شخص هذا المعلم، أثبت وأكثر اتزاناً، من أن يكون من نسج الخيال.. فالدعاوى قائمة، وهي في ذاتها لا تقيم الدليل الكافي على ألوهيته، وقد تكون الدعاوى باطلة، ولكن لا بد من إيجاد تفسير للأمر... فليس في وسعنا بعد ذلك أن نعتبر يسوع معلماً عظيماً، لو أنه أخطأ هذا الخطأ الفاحش في موضوع رئيسي من تعاليمه، أعني به شخصه..

وقد قال أحدهم: "إن التناقض القائم بين عمق تعاليم المسيح الأدبية وتعقلها واتزانها، وبين حماسته المتأججة على نفسه، الكامنة وراء تعاليمه اللاهوتية، لا يمكن أن تفسر إلا بكونه الإله الحق".

وهل حاول أن يستميل الناس إلى آرائه، بانتحال سلطان إلهي، لم يكن حائزاً عليه؟! هذا ما يصعب تصديقه- فهناك شيء عن يسوع، لا عيب فيه، فقد كره الرياء في الآخرين، وكان مخلصاً كل الإخلاص لنفسه.

فهل كان مخلصاً في غروره؟

لا حاجة لنا أن ندعوه مختلاً، ولكن هل كان مغروراً في نفسه بشكل لا يمكن إزالته من مخيلته؟ إن لهذا الرأي من يؤيده بشدة... ولكن يبدو أن أصحاب هذا الرأي، كثر غروراً بأنفسهم من يسوع. إن يسوع لا يترك فينا فكرة اتهامه بالشذوذ، الذي نراه في المغرورين المخدوعين بأنفسهم... لأن سجاياه وصفاته تؤيد أقواله ودعاويه، ولذلك سوف نوالي بحثنا في هذه الدائرة.

  • عدد الزيارات: 12093