Skip to main content

الفصل الأول: ديانة السعادة

سأل أحد رجال الصحافة أربع فتيات عن هدفهن في الحياة، فقالت الأولى: "إن هدفي في الحياة هو أن أجد الزوج الذي أسعده ويسعدني" وأجابت الثانية: "إن هدفي هو أن أعيش الحياة كلها وأن أستمتع بكل لحظة من لحظات حياتي وأسعد بها"، وردت الثالثة "إن هدفي أن افهم معنى الحياة وأن أضع يدي على سرها ففي هذا سعادتي"، وهمست الرابعة قائلة "لا هدف لي في الحياة، لأن الهدف الأوحد في الحياة هو السعادة، والحياة الواقعية خالية من السعادة".

وهذه الصورة ترينا الهدف الأعظم في حياة البشر عامة، وهذا الهدف هو أن يجد المرء "السعادة التي يبحث عنها".

فأين السبيل إلى هذه الضالة المنشودة والهدف الجميل؟

يقول واحد: أعطني المال فأصبح أسعد مخلوق في هذا الوجود، لكن منطق الواقع، وهذا أبلغ من منطق المترافع، يؤكد لنا أن الإنسان قد يملك الملايين، ويظل بائساً حزيناً تنتابه أحاسيس الشقاء.

صدق القول الإلهي الكريم "وأما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرّة تُغرق الناس في العطب والهلاك. لأن محبة المال أصل كل الشرور الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة" 1 تى 6: 9و 10.

يقول آخر أعطني القوة فأصير أسعد إنسان في هذه الأرض.

والذي يقول هذا الكلام ينسى عشرات الضحايا من الذين ماتوا بحثاً عن القوة والسيطرة على الآخرين، فهذا هتلر، الرجل الذي أشعل نار الحرب العالمية الثانية، وأمسك بين يديه مقاليد شعب عظيم، ينتهي نهاية بائسة حزينة بعد أن تسلط على الملايين...

إقرأ معي كيف كانت نهاية هذا الزعيم الضخم الذي عاش يبحث عن القوة لعله يجد فيها سعادته كما جاءت في صحيفة كبرى:

"في الساعة الرابعة من صباح الأحد 29 ابريل سنة 1945 أملى هتلر وصيته الشخصية التي تنازل فيها عن جميع ممتلكاته للدولة، سوى جزء قليل يضمن لأقاربه أن يعيشوا عيشة برجوازية! ثم أخذ يشرح ظروف زواجه وموته قال "لقد كنت أؤمن خلال سنوات كفاحي أنني أستطيع تحمل مسؤوليات الزواج.. والآن وقبل أن تنتهي حياتي ... قررت الزواج من المرأة التي جاءت إلى هذه المدينة بعد عدة سنوات من الصداقة الحقيقية ورغم وجود حصار شبه كامل حول برلين.. جاءت بمحض إرادتها لكي تشاركني مصيري... وستموت معي بمحض اختيارها كزوجتي... وسيعوضنا موتنا معاً عن كل ما فقدناه خلال السنوات التي أنفقتها في خدمة شعبي. ولقد اخترت أنا وزوجتي أن نموت لكي نتجنب عار الهزيمة والتسليم، ووصيتنا أن تحرقوا جثتينا عقب موتنا مباشرة في هذا المكان الذي أنفقت فيه الجزء الأكبر من السنوات الاثنتي عشرة التي أمضيتها في خدمة البلاد...".

ومع خيوط فجر يوم 29 أبريل اتجه هتلر إلى فراشه لينام... وقد أمضى وزوجته صباح يوم 30 أبريل داخل مخبئه الخاص بمبنى المستشارية وعندما أشارت الساعة إلى الثانية والنصف صباحاً خرج كلاهما لتوديع أقاربهما وأصدقائهما المقربين، وكانت عينا هتلر مبللتين بالدموع، وكان ينظر بعيداً كأنما يريد أن يستشف ما وراء الجدران التي تحيط بمخبئه. وكان معظم أعوان هتلر قد توقعوا له أن ينتحر في صباح هذا اليوم، ولكنه لم يفعل بل أمر عند الظهر أن يعقد مؤتمره العسكري المعتاد، وفي أثناء المؤتمر استمع إلى أنباء تشير إلى أن ساعات حياته أصبحت معدودة، وفي الساعة الثانية والنصف أمر سائقه بإعداد 200 لتر من الجازولين في حديقة المستشارية ثم ودع زوجته وأقاربهما وأصدقائهما الوداع الأخير ودخلا غرفتيهما.

وعلى باب الغرفة وقف جوبلز ومارتن وغيرهما من الأعوان، وانتظروا بضع لحظات سمعوا بعدها صوت طلق ناري من مسدس، وانتظروا قليلاً ثم دخلوا الغرفة برفق حيث وجدوا جثة هتلر ملقاة فوق أريكة والدماء تنـزف منها.. لقد أطلق رصاصة واحدة في فمه اخترقت أعلى حلقه.. وبجانبه رقدت جثة إيفا براون... وبجانبهما مسدس لم يطلق منه الرصاص... فقد اختارت إيفا الموت بالسم... وقد تم ذلك قبل الساعة الثالثة النصف من بعد ظهر يوم 30 أبريل 1945 بعد أن انقضت اثنتا عشرة وثلاثة عشرة أشهر على اليوم الأول الذي تولى فيه هتلر منصب مستشار ألمانيا. وحملت الجثتان إلى الحديقة ووضعتا في إحدى الحفر الناجمة من ضرب قنابل الروس وصب عليهما الجازولين وأضرمت فيهما النار... ولم تكد الجثتان تحترقان عن آخرهما حتى كانت قنابل الروس قد بدأت تنهال كالمطر على المستشارية وحديقتها، فقضت بذلك على آخر أمل في العثور على أي أثر لهما. وهكذا كانت نهاية رجل عاش يبحث عن القوة، ويرجو أن يسعد بها، فانتهى بهذه النهاية الدامية وتمت فيه كلمات الوحي الإلهي "من يسلك بالكبرياء فهو قادر على أن يذله" دا 4: 37.

هنا يتقدم شخص آخر قائلاً أعطني الصحة فأحس بها سعادة الحياة... ويقينا أن الصحة هي أعظم البركات، ولكنها مع ذلك ليست الطريق إلى السعادة. فكثيرون من المرضى يستمتعون بالهدوء والصفاء، وكثيرون من الأصحاء يخيم على حياتهم الشقاء.

ويأتي بعد أولئك قائل يقول هبني العمر الطويل وأنا أصبح أسعد الناس في هذا العالم الواسع.. ولكن ما نفع العمر الطويل بغير سعادة؟ وما قيمة طول السنين بغير هناء؟ وكم من أناس عاشوا عمراً طويلاً وكانت حياتهم مغلفة بالحزن، مغمورة بالآلام.

خذ مثلاً "الملك حزقيا" فقد مرض ذلك الملك وأرسل إليه الرب قائلاً "أوص بيتك لأنك تموت ولا تعيش" لكن حزقيا كان يحب الحياة، كان يرغب في "العمر الطويل" "فوجه وجهه إلى الحائط وصلى إلى الرب وقال: آه يا رب أذكر كيف سرت أمامك بالأمانة وبقلب سليم وفعلت الحسن في عينيك. وبكى حزقيا بكاء عظيماً". ورق قلب الرب، وأرسل إليه أشعياء النبي، وجاء أشعياء إلى حزقيا بالكلمات "هكذا يقول الرب إله داود أبيك. قد سمعت صلاتك. قد رأيت دموعك. هأنذا أضيف إلى أيامك خمس عشرة سنة" أش 38: 5.

طال عمر حزقيا خمس عشرة سنة؟ فهل كانت هذه السنوات سبباً في سعادته؟ يقيناً : لا.

ففي ذلك الزمان أرسل مردوخ بلادان بن بلادان ملك بابل رسائل وهدية إلى حزقيا لأنه سمع أنه مرض ثم صح. ففرح بهم حزقيا وأراهم بيت ذخائره الفضة والذهب والأطياب والزيت الطيب وكل بيت أسلحته وكل ما وجد في خزائنه. لم يكن شيء لم يرهم إياه حزقيا في بيته وفي كل ملكه.

فجاء أشعياء النبي إلى الملك حزقيا وقال له: "ماذا قال هؤلاء الرجال ومن أين جاءوا فقال حزقيا جاءوا إلي من أرض بعيدة من بابل. فقال ماذا رأوا في بيتك؟ فقال حزقيا رأوا كل ما في بيتي. ليس في خزائني شيء لم أرهم إياه. فقال أشعياء لحزقيا اسمع قول رب الجنود: "هوذا تأتي أيام يحمل فيها كل ما في بيتك وما خزنه آباؤك إلى هذا اليوم إلى بابل لا يترك شيء يقول الرب. ومن بنيك الذين يخرجون منك الذين تلدهم يأخذون فيكونون خصيانا في قصر ملك بابل" اش 39: 1- 7.

لقد تمنى حزقيا العمر الطويل، وتوسل أن يناله، فلما ناله لم يكن هذا العمر الطويل سبباً في إسعاده بل من خلاله قاده حبه للعظمة والظهور إلى ضرر شعبه وذريته.

أخيراً يخرج من موكب البشرية إنسان يقول أعطني العلم وأنا أمتلئ بسعادة الحياة.

ومما لا جدل فيه أن العلم قد أسبغ على المجتمع البشري الكثير من المزايا والمخترعات، التي أعانت الإنسان على توفير سبل الراحة، وساعدته على تخفيف آلام الأمراض. وعلى ملء الحياة بالتسليات والمسرات، وعلى تعميم فرص التعليم، وعلى إطالة أوقات الفراغ، ولكننا لا نجد أي دليل على أن العلم قد جعل الناس أوفر سعادة، أو أنه جعل الأُسَرَ أشدّ ارتباطاً وتضامناً، أو أنه صيّر الحكومات أكثر حكمة وتعقلاً، إن الدليل الملموس يقودنا إلى الاعتقاد بفشل العلم في إسعاد البشر، فنحن نعاني من تفكك عرى الأسرة في جميع أرجاء العالم الفسيح، وانفصام الروابط الزوجية من جراء حوادث الطلاق العديدة التي تسجلها المحاكم كل يوم، ونرى عشرات بل مئات المرضى بأمراض عصبية نجمت كلها عن القلق المتزايد في عالم اليوم، والناس في كل مكان حيارى يبحثون عن ترياق يهبهم السعادة والهدوء والهناء. وعصرنا بغير شك يتميز بأنه عصر "البحث عن السعادة".

فهل يمكن للمسيحية أن تقدم للإنسان ما لم يستطع أن يحصل عليه بالمال، والقوة، والصحة، والعلم، والعمر الطويل؟!

إن كثيرين يعتقدون خطأ أن المسيحية هي ديانة الحرمان والحزن والألم، ولذا فنحن نرى أن عدداً كبيراً من الشباب قد أعطوا ظهورَهم المسيحية اعتقاداً منهم أنها تحرمهم من متع الحياة ومسراتها، وتثقل كواهلهم بالضغط والكبت والإذلال.

فتعال معي لكي نبحث حقيقة هذه القضية، وسترى في وضوح أن كل صفحة من صفحات الكتاب المقدس تؤكد أن المسيحية هي ديانة الفرح والسعادة والسلام والرجاء الباسم.

إصغ إلى صوت المرنم يتحدث في سفر المزامير قائلاً "إني أسمع ما يتكلم به الله الرب. لأنه يتكلم بالسلام لشعبه ولأتقيائه فلا يرجعن إلى الحماقة" مز 85: 8.

واسمع الرب يتكلم في سفر ارميا قائلاً "لأني عرفت الأفكار التي أنا مفتكر بها عنكم يقول الرب أفكار سلام لا شر لأعطيكم آخرة ورجاء" ارميا 29: 11.

وأنصت إليه وهو يتحدث في سفر أشعياء قائلاً "رأيت طرقة وسأشفيه وأقوده وأرد تعزيات له ولنائحيه. خالقاً ثمر الشفتين. سلام سلام للبعيد وللقريب قال الرب وسأشفيه" مز 57: 18، 19. ثم أصغ إلى ما يقوله عنه داود في المزمور "الرب يعطى عزاً لشعبه. الرب يبارك شعبه بالسلام" مز 29: 11.

والآن هلم بنا إلى العهد الجديد!!

هل تبصر هذا القائم هناك في وسط المجمع، تحيط بوجهه هالة من النور الإلهي الوضاح، وتنبئ عيناه بإحساسه بحقيقة شخصه.

إنه الرب يسوع المسيح الذي تنبأ عنه أشعياء قائلاً "لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً رئيس السلام" أش 9: 6.

إنه يمسك السفر المقدس الذي وردت فيه هذه النبوة سفر أشعياء النبي، ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه..

"روح الرب عليّ

لأنه مسحني لأبشر المساكين

أرسلني لأشفي المنكسري القلوب

لأنادي للمأسورين بالإطلاق

وللعمى بالبصر

وأرسل المنسحقين في الحرية

وأكرز بسنة الرب المقبولة"

لوقا 4: 17- 19

إن السيد المسيح له المجد يحدد معالم رسالته، لقد جاء لإسعاد المساكين، ولشفاء المنكسري القلوب، ولتحرير الأسرى من الخطايا والذنوب، ولإعادة البصر للعميان!... إنه في عبارة جامعة مانعة قد جاء ليهب الناس السعادة!..

وعندما نعود إلى تتمة هذه النبوة في مكانها من سفر أشعياء نقرأ العبارات الحلوة البهيجة المعزية "لأعزى كل النائحين... لأعطيهم جمالاً عوضاً عن الرماد ودهن فرح عوضاً عن النوح ورداء تسبيح عوضاً عن الروح اليائسة فيدعون أشجار البر غرس الرب للتمجيد" أش 61: 2و 3.

وإذن فالمسيح يريد للناس أن يستمتعوا بالفرح في أتم مظاهره، أجل ففرح المؤمن ينبع من يقينه بأن اسمه قد كتب في السموات، ولذا فهو يهتف مع المرنم قائلاً "جعلتَ سروراً في قلبي أعظم ن سرورهم إذ كثرت حنطتهم وخمرهم. بسلامة اضطجع بل أيضاً أنام. لأنك أنت يا رب منفرداً في طمأنينة تسكنني" مز 4: 7 و8.

بل يهتف مردداً مع حبقوق النبي "فمع أنه لا يزهر التين ولا يكون حمل في الكروم يكذب عمل الزيتونة والحقول لا تصنع طعاماً ينقطع الغنم من الحظيرة ولا بقر في المذاود فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي" حب 3: 17و 18.

لقد نادى نحميا أبناء شعبه في القديم قائلاً "اذهبوا كلوا السمين واشربوا الحلو وابعثوا أنصبة لمن لم يعد له لأن اليوم إنما هو مقدس لسيدنا ولا تحزنوا لأن فرح الرب هو قوتكم" نحميا 8: 10.

وهتف داود مردداً "افرحوا بالرب وابتهجوا أيها الصديقون واهتفوا يا جميع المستقيمي القلوب" مز 82: 11.

فالذين عرفوا الرب يسوع المسيح معرفة حقيقية، واختبروا عمل نعمته، وسكنى روحه في قلوبهم

حياتهم ممتلئة بالسعادة الحقة.

ونفوسهم مطهرة بالدم.

تشدو بأعذب الترانيم.

فالمسيحية الحقيقية والسعادة النفسية صنوان عزيزان لا يفترقان.

  • عدد الزيارات: 5953