لا تكونوا مثل الوثنيين
"وحينما تصلّون لا تكثروا الكلام عبثاً مثل الوثنيين فإنهم يظنون أنه لكثرة كلامهم يُستجاب لهم. فلا تتشبّهوا بهم فإن الله أباكم يعلم بما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه."
يمتاز الإنسان في هذه الدنيا بمقدرته العجيبة على تحويل الأشياء الحسنة إلى عكسها. أعط الإنسان قوة فيعمل على البطش بقريبه الإنسان! أعطه حرية فيجعل منها إباحية! أعطه الفن فيجعله تحت تصرّف ميوله الدنيئة! أعطه معرفة علمية فيبدأ بالشك بالله وبكل ما هو فوق الطبيعة! أعطه شرفاً واعتزازاً بالنفس فيجعل منهما كبرياء وعجرفة.
وكذلك نلاحظ هذا الأمر المؤسف في حياة الإنسان في موقفه من الأمور الروحية المقدسة. خذ مثلاً موضوع الصلاة، فالصلاة من أعظم الامتيازات التي منحها الخالق لمخلوقاته العاقلة. ولكن ما أكثر الذين يسيئون استعمال الصلاة ويحولونها إلى كفر وخيانة وتمرد على الإله الواحد الحقيقي! وقد لاحظنا في عظة سابقة أن السيد يسوع المسيح حذّر تلاميذه من استعمال الصلاة كذريعة للتأثير على الناس. فقد طلب من تلاميذه ألاّ يتشبّهوا بالفريسيين المرائين الذين كانوا يُصلّون صلواتهم الخاصة في أماكن عامة لا للتقرب من الله تعالى اسمه بل لمحاولتهم ذرّ الرماد في العيون والظهور بمظهر التقوى والصلاح. قال المسيح لتلاميذه، وهذا يعني لنا أيضاً الذين نُسمى باسمه: "ومتى صلّيتم فلا تكونوا كالمرائين!" صلاة المرائي لا تصل إلى السماء! صلاة المرائي مكروهة لدى الله.
لكن المسيح لم يقف عند ذلك الحد بل علّم تلاميذه وجوب تجنّب خطية الوثنيين التي كانت تُرتكب في صلواتهم ولذلك قال له المجد:
"وحينما تُصلّون لا تكثروا الكلام عبثاً مثل الوثنيين، فإنهم يظنون أنه لكثرة كلامهم يُستجاب لهم. فلا تتشبّهوا بهم فإن الله أباكم يعلم بما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه."
وبعبارة أخرى كان السيد المسيح يقول لسائر المؤمنين به: "لا تكونوا كالوثنيين عندما تصلّون! لا تتشبّهوا بهم ولا تحذوا حذوهم عندما تقتربون من الله!" إن عابدي الأصنام يرددون صلواتهم بشكل آلي ويظنون بأنهم إن ثابروا على ذلك تسمعهم آلهتهم وتأتي إلى معونتهم. لكن الله تعالى اسمه وهو الإله الحقيقي الحي ليس كتلك الآلهة الوهمية التي تمثلها الأصنام. أي شبه بينه وهو الإله القدّوس وبين صُنع أيدي الناس الخطاة؟! لا شيء مطلقاً! فلمَ الصلاة إذاً إلى الله بطريقة مشابهة للأوثان؟
ولدينا في الكتاب المقدس وصفاً واقعياً للكيفية التي كان يصلّي بها الوثنيون في أيام أنبياء العهد القديم. جاء نبي الله إيليا إلى أهل إسرائيل ووبخهم على ترك عبادة الله الحي والسعي وراء البعليم أي آلهة الكنعانيين. ووجّه نبي الله كلامه إلى الملك أخآب وقال:
"فالآن أرسل واجمع إليّ كل إسرائيل إلى جبل الكرمل وأنبياء البعل أربع المئة والخمسين وأنبياء السوارى أربع المئة الذين يأكلون على مائدة إيزابيل." فأرسل أخآب إلى جميع بني إسرائيل وجمع الأنبياء إلى جبل الكرمل.
فتقدم إيليا إلى جميع الشعب وقال: "حتى متى تعرجون بين الفرقتين؟ إن كان الرب هو الله فاتّبعوه وإن كان البعل فاتّبعوه!" فلم يجبه الشعب بكلمة. ثم قال إيليا للشعب: "أنا بقيت نبياً للرب وحدي وأنبياء البعل أربع مئة وخمسون رجلاً. فليعطونا ثورين فيختاروا لأنفسهم ثوراً واحداً ويقطعوه ويضعوه على الحطب ولكن لا يضعوا ناراً وأنا أقرّب الثور الآخر وأجعله على الحطب ولكن لا أضع ناراً. ثم تدعون باسم آلهتكم وأنا أدعو باسم الرب، والإله الذي يجيب بنار فهو الله. فأجاب الشعب وقالوا: الكلام حسن!" فقال إيليا لأنبياء البعل: "اختاروا لأنفسكم ثوراً واحداً وقرّبوا أولاً لأنكم أنتم الأكثر وادعوا باسم آلهتكم، ولكن لا تضعوا ناراً!" فأخذوا الثور الذي أعطي لهم وقرّبوه ودعوا باسم البعل من الصباح إلى الظهر قائلين: يا بعل أجبنا! فلم يكن صوت ولا مجيب! وكانوا يرقصون حول المذبح الذي عُمل. وعند الظهر سخر بهم إيليا وقال: "ادعوا بصوت عال لأنه إله! لعله مستغرق أو في خلوة أو في سفر أو لعله نائم فيتنبه". فصرخوا بصوت عال وتقطعوا بالسيوف والرماح حتى سال منهم الدم. ولما جاز الظهر وتنبأوا إلى حين اصعاد التقدمة ولم يكن ولا مجيب ولا مصغ! قال إيليا لجميع الشعب: "تقدموا إلي" فتقدم جميع الشعب إليه. فرمم مذبح الرب المنهدم. ثم أخذ إيليا اثني عشر حجراً بعدد أسباط بني يعقوب الذي كان كلام الرب إليه قائلاً: "إسرائيل يكون اسمك". وبنى الحجارة مذبحاً باسم الرب وعمل قناة حول المذبح تسع كيلتين من البزر. ثم رتب الحطب وقطع الثور ووضعه على الحطب وقال: "املأوا أربع جرار ماء وصبوا على المحرقة وعلى الحطب." ثم قال: "ثنّوا" فثنّوا، وقال: "ثلثّوا" فثلثّوا! فجرى الماء حول المذبح وامتلأت القناة أيضاً بماء. وكان عند اصعاد التقدمة أن إيليا النبي تقدم وقال: أيها الرب إله ابراهيم وإسحق ويعقوب ليُعلم اليوم أنك أنت الله في إسرائيل وأنا عبدك وبأمرك قد فعلتُ كل هذه الأمور استجبني يا رب، استجبني ليعلم هذا الشعب أنك أنت الرب الإله وأنك أنت حوّلت قلوبهم رجوعا!
فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التي في القناة، فلما رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا: الرب هو الله، الرب هو الله! فقال لهم إيليا: "أمسكوا أنبياء البعل لا يُفلت منهم رجل." فأمسكوهم فنزل بهم إيليا إلى نهر قيشون وذبحهم هناك. من سفر الملوك الأول 18: 19-40.
ألم نلاحظ أثناء قراءتنا لحادثة القضاء على الأنبياء الذين أضلوا إسرائيل كيف أنهم صلّوا لآلهتهم من الصباح حتى ما بعد الظهر؟ ألم يرددوا العبارات الكثيرة التي لم تمكنهم من النجاح؟ ألم يجرحوا أنفسهم ظانين بأنهم كانوا يقدرون التأثير على آلهتهم الكاذبة؟ ولكن ماذا صار من جدّهم وعنائهم؟ لا شيء! أظهرت آلهتهم عجزها على مساعدتهم ففشلوا فشلاً ذريعاً تجاه تحدي نبي الله. لكن صلاة إيليا التي أتت بالمفعول القوي الذي حوّل قلوب الناس إلى الله، تلك الصلاة قيلت في مدة لا تتجاوز برهة أو دقيقة من الزمن. ولكن الله استجاب لصلاة نبيه الأمين وأعطاه نصراً مبيناً على أعدائه من أنبياء البعليم.
وقد نتعجب ونقول: لماذا وجّه السيد المسيح ذلك التحذير لتلاميذه وهم ليسوا من عبدة الآلهة؟ هل كان ذلك التحذير في محله؟ نعم كان ولا يزال تحذير السيد المسيح في محله في حياة جميع المؤمنين بالله الواحد الحقيقي. لأنه مع إيمان الإنسان بالله إلا أنه قد يقلّد الوثنيين في موقفه من الله وخاصةً في موضوع الصلاة الحسّاس. إنه لا يكفي للإنسان أن يعترف بأنه يؤمن إيماناً حقيقياً بالله الواحد بل عليه أن ينظم حياته بما فيه حياة الصلاة حسب متطلبات هذا الإيمان. فكثيرون من الناس في أيام المسيح وفي الأيام الحاضرة يظنون بأن الله تعالى هو على شاكلتهم أو أنه مثل بني البشر ولذلك يظنون بأنه من الممكن التأثير عليه ودفعه على القيام بما يودونه إن كرروا عبارات كثيرة في صلواتهم. إنهم لا ينظرون إلى الصلاة كامتياز روحي عظيم ولا يتذكرون بأن الله يعرف تماماً جميع احتياجاتهم الروحية والمادية بل يقفون تجاه الصلاة موقف الساحر الوثني الذي يردد بعض العبارات في صلواته والتي ليست إلا عبارة عن تعاويذ يُراد منها التأثير في الآلهة الوثنية.
والسيد المسيح لم يكن يمنعنا عن ترديد مطاليبنا بشكل مستمر في صلواتنا لله لأننا كما سنرى في دراستنا للصلاة الربانية علّمنا بأن نطلب طلبات معيّنة في كل يوم من أيام حياتنا. ما أرادنا أن نتجنبّه هو ترديد عبارات معينة عبثاً وبدون تفكير أو وعي! علّمنا السيد المسيح في مناسبة أخرى بأنه من واجبنا ألا نملّ في صلواتنا بل أن نصلّي في لجاجة وحرارة إلى أن يستجيب الله دعاءنا. لكن السيد له المجد كان يعلم أننا كبشر خطاة معرّضون دوماً للانزلاق من مفهوم صحيح للصلاة إلى مفهوم خاطئ لا يختلف في صُلبه عن المفهوم الوثني الضار.
وكما لاحظنا في عظة سابقة عن موضوع الصلاة نرى هنا أيضاً أن المسيح يريد المؤمنين به أن ينظروا إلى الله كالآب السماوي الذي هو ملم كل الإلمام بجميع احتياجاتنا. وهذه العلاقة الروحية بين الله والمؤمنين لم تأتِ إلى الوجود بدون عمل يسوع المسيح الكفاري على الصليب. إن الذي يعُلمنا عن الطريقة الصحيحة للصلاة ليس إلا ذلك الذي مات عنا مكفّراً عن جميع خطايانا. إنه هو الذي صالحنا مع الله ومنحنا الصلاحية بأن ندعوه باسم الآب. ومن اختبر ضمن حياته هذه المنحة التي لا يمكن أن تقدّر بثمن ومن أخذ ينظم حياته حسب متطلبات حالة التبني التي انتقل إليها يود من أعماق قلبه أن يبتعد كل الابتعاد عن التشبّه بعابدي الأوثان الذين يجهلون الله والذين ينظمون صلواتهم حسب المفهوم الخاطئ لطبيعة الله ولكيفية الحصول على مرضاته ومعونته.
جميعنا بحاجة إلى تعلُّم الصلاة في مدرسة المسيح فلمَ لا نأتي إليه ونؤمن به إيماناً قلبياً؟
* * * *
يا ثقيلَ الحمـلِ أقبـلْ نحوَ فـاديكَ الحبيـبْ
واطرحِ الأوزارَ حـالاً عـندَ أقدامِ الصليـبْ
فتَـرى ينبوعَ جُـودٍ سـالَ منْ جنبِ الحَمَـلْ
منْ أمـاتَ الموتَ بالمو تِ الذي عنّـا احتمـلْ
اسمعِ الفـادي يُنـادى كلَّ مقطـوعِ الـرجـا
التفـتْ نحوي فتحْيَـا وتنــالَ الـفـرجـاَ
أقبـلوا نَحـوي فإني جئْتُ منْ أجلِ الخطـاة
إنني الخبزُ الـسماوي وأنـا مـاءُ الحيــاة
احمـلِوا نيري عليكمْ إنـني الـراعي الوديعْ
لا تخـافوا منْ عـدوٍ فـأنا الحصـنُ المنيـعْ
فهـلّم الآن يـا مَنْ بـاتَ في أسرِ الهـلاكْ
واسألِ الغفرانَ واقبَلْ هِـبـةً ممّـنْ فــداكْ
لا تقسِّ القلبَ واسمعْ صـوتَ فاديكَ الحنونْ
وانـتبهْ وادنُ سريعاً قبـلَ إتيانِ المنــونْ
- عدد الزيارات: 8822