Skip to main content

الفصل الحادي والعشرون: قداسة الله

 

          المجد لله في الأعالي. إننا نحمدك ونباركك ونسجد لك من أجل مجدك العظيم. قد نطقت بما لم أفهم. بعجائب فوقي لم أعرفها. بسمع الأذن سمعت عنك والآن رأتك عيني لذلك أرفض وأندم في التراب. يا رب سأضع يدي على فمي. مرة تكلمت ومرتين وأما الآن فلن أتقدم أكثر من هذا.

          ولكن بينما أنا أتفكر اشتعلت النار. يا رب ينبغي أن أتحدث عنك لئلا أعثر بصمتي جيل بنيك. هوذا لقد اخترت جهال العالم لتخزي الحكماء وضعفاء العالم لتخزي الأقوياء. يا رب لا تنسني. دعني أعلن قوتك لهذا الجيل وجبروتك لكل آتٍ. أقم أنبياء ورائين في كنيستك يعظّمون مجدك وردّ بقوة روحك القدير لشعبك معرفة القدوس. آمين.

          تلك الصدمة الأدبية التي نزلت بنا عندما تركنا إرادة السماء العليا خلّفت فينا خوفاً دائماً يؤثر على كل ناحية من طبيعتنا. فقد دب المرض فينا وفي كل البيئة التي حولنا.

          وعندما رأى أشعياء رؤياه الثورية لقداسة الله صارت معرفته الفجائية بفساده الشخصي بمثابة صدمة نزلت به من السماء، نزلت بقلبه المرتجف الخائف، فجاءت صرخته الأليمة "ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود." تعبّر عن شعور كل إنسان عرف حقيقة نفسه ووقف وجهاً لوجه أمام القداسة الناصعة قداسة الله. ولا يمكن أن يكون اختبار كهذا إلا اختباراً عاطفياً جامحاً.

          وما لم نر أنفسنا كما يرانا الله فلن يرجى أن ننزعج كثيراً على الظروف المحيطة بنا طالما هي لم يفلت زمامها لتهدد طريقنا المريح في الحياة. لقد تعودنا أن نعيش في وسط غير مقدس وأصبحنا ننظر إليه كأمر عادي متوقع. ولا يؤسفنا أن لا نرى الحق في معلمينا ولا الأمانة والإخلاص في ساستنا ولا الأمانة الكاملة في تجّارنا ولا الثقة التامة في أصدقائنا ولكي نستمر في البقاء نصوغ القوانين التي تكفل حمايتنا من أخينا الإنسان ثم نكتفي بذلك.

          وليس لكاتب هذه الكلمات ولا لقارئها القدرة على فهم قداسة الله. ويجب أن يُختط طريق جديد بالمعنى الحرفي عبر صحراء عقولنا حتى تجري المياه العذبة مياه الحق الحلوة لتشفي أمراضنا وأسقامنا. ولن نستطيع أن ندرك المعنى الحقيقي لقداسة الله عن طريق تصورنا لشخص أو لشيء طاهر تماماً ثم نرتفع بهذا التصور إلى أرفع درجة نستطيع تخيّلها. فقداسة الله ليست هي أسمى ما نستطيع تصوره محسناً تحسيناً لا نهائياً، لأننا ما عرفنا قط شيئاً يشبه قداسة الله، فهي فريدة، وحيدة، لا يدنى منها، وتفوق كل إدراك، ولا يمكن الوصول إليها. والإنسان الطبيعي لا يراها، فهو قد يخاف من قوة الله ويعجب لحكمته، ولكنه يعجز حتى عن تصوّر قداسة الله.

          ولن يستطيع أن ينقل معرفة القدوس إلى روح الإنسان إلا الروح القدس وحده. وكما أن التيار الكهربائي لا يجري إلا في موصّل للكهرباء هكذا الروح القدس يجري في الحق ويجب أن يجد قدراً من الحق في العقل قبل أن ينير ظلمات القلب. والإيمان يستيقظ عند سماعه صوت الحق ولا يستجيب لداعٍ سواه "الإيمان بالخبر والخبر بكلمة الله". والمعرفة اللاهوتية هي الوسيط الذي يجري فيه الروح القدس إلى قلب الإنسان، ولكن يجب أن يكون بالقلب توبة وتواضع قبل أن ينتج الحق إيماناً، فروح الله هو روح الحق، ومن الممكن أن يكون بالعقل بعض الحق بدون أن يكون الروح القدس بالقلب ولكن ليس من الممكن أبداً أن يوجد الروح بدون الحق.

          ويعتقد رودلف أوتو في دراسته المؤثرة عن القدوس بوجود شيء في العقل البشري يسميه "نيومينوس" ويعني به على ما يبدو الإحساس بأن في العالم شيئاً غامضاً لا يُدرك أسماه "السر الرهيب" يحيط بالكون ويحتويه، وهو شيء وليس شخصاً، وهو رهيب لا يدرك بالعقل بل يحس به الشعور في أعماق روح الإنسان، ويبقى غريزة دينية دائمة، أي شعوراً بذلك الموجود الذي لا يكتشف ولا يُسمّى والذي يجري كالزئبق في شرايين الخليقة، ويحيّر العقل أحياناً بإعلانه عن نفسه إعلاناً معجزياً خارقاً للطبيعة، فينبطح ذلك الإنسان الذي يواجه بإعلان كهذا ويغشاه الخوف فلا يسعه إلا أن يرتعد في صمت مطبق.

          وهذه الرهبة التي تعلو كل عقل، وهذا الإحساس بالسر غير المخلوق الذي هو في العالم، إنما هو أساس كل دين. وديانة الكتاب المقدس النقية وكذلك الديانة الحلولية القبلية ما كانت لتقوم لو لم تكن هذه الغريزة موجودة في الطبيعة البشرية. وبالطبع فإن الفارق بين ديانة أي أشعياء أو بولس وديانة الحلولي الذي يؤمن بأن لكل شيء روحاً هو أن الواحد قد وجد الحق بينما الآخر لم يجده، فليس له إلا غريزة "النيومينوس" فقط، فهو "يتحسس طريقه" نحو إله مجهول، أما أي أشعياء أو بولس فقد وجد الإله الحق الذي أعلن عن ذاته في الكتاب المقدس الموحى به من عنده.

          والبحث عن السر، وحتى عن السر العظيم، هو أمر أساسي في الطبيعة البشرية، وهو لازم ضروري للإيمان الديني، على أنه ليس بكافٍ وبسببه قد يتهامس الناس قائلين "ذلك الأمر الرهيب" ولكنهم لا يصرخون بأعلى أصواتهم "يا قدوسي". وفي الكتاب المقدس لدى العبرانيين والمسيحيين يمضي الله في إعلانه ذاته فيعطي ذلك الإعلان شخصية ومحتويات أدبية، فيبدو ذلك الحضور الرهيب أنه ليس أمراً أو شيئاً بل هو كائن أدبي له كل الصفات الدافئة للشخصية الحقة. وأكثر من هذا أنه الجوهر المطلق للسمو الأدبي، اللانهائي في كمال البر، والنقاوة، والاستقامة، والقداسة الفائقة الإدراك. وهو في كل هذا غير مخلوق، مكتفٍ في ذاته، وعالٍ عن قدرة كل فكر بشري للفهم والإدراك، أو للنطق والإفصاح.

          والمسيحي يربح كل شيء عن طريق إعلان الله لذاته في الكتاب المقدس وإنارة الروح القدس، ثم هو لا يخسر شيئاً. ثم يضاف إلى فكرته عن الله فكرتان عن الشخصية والسجايا الأدبية على أن الشعور الأصيل بالرهبة والعجب في حضرة السر الذي يملأ الكون باقٍ لا يتغير. فقد يظفر قلبه اليوم صارخاً "يا أبا الآب – ربي وإلهي". وقد يركع غداً في رعدة السرور متعجباً وعابداً العلي المرتفع ساكن الأبد.

          قدوس هو كيان الله، وهو لا يسير في قداسته على مقياس فإنه هو المقياس بعينه. فهو قدوس قداسة مطلقة بملء النقاوة اللانهائية الكاملة كمالاً يفوق الإدراك والتي لا يمكن أن تكون إلا كذلك، وبما أنه قدوس فكل صفاته مقدسة، أي أن كل ما نقول عنه أنه لله يجب أن نقول عنه مقدس.

          فالله قدوس وقد جعل القداسة الشرط الأدبي الضروري لسلامة الكون. ووجود الخطية في العالم إلى حين إنما يؤكد هذا. وكل ما هو مقدس هو سليم، فالشر علة أدبية يجب أن تنتهي بالموت.

          وبما أن غرض الله الرئيسي في الكون الذي خلقه هو سلامته الأدبية أي قداسة ذلك الكون لذلك فكل ما هو عكس هذا فهو بالضرورة واقع تحت غضبه الأبدي. فيجب أن يبيد الله كل ما يريد أن يفسد خليقته وذلك لكي يحافظ على هذه الخليقة. وعندما يقوم لكي يهزم الشر ويخلص العالم من السقوط الأخلاقي الذي لا قيامة بعده فإنه يوصف بأنه غاضب. كل دينونة انسكبت بغضب عبر تاريخ العالم كانت عملاً مقدساً للحفظ والإنقاذ. ولا يمكن الفصل بين قداسة الله، وغضب الله وسلامة الخليقة. وغضب الله هو عدم احتماله الكامل لكل ما يفسد ويهلك، فهو يمقت الإثم كما تمقت الأم شلل الأطفال الذي يفتك بحياة وليدها.

          فالله قدوس قداسة مطلقة لا تعرف درجات، وهو لا يعطي هذه القداسة لخلائقه، ولكن هناك قداسة نسبية يُشرك فيها الملائكة والسرافيم في السماء والأشخاص المفديين على الأرض كإعداد لهم لسكنى السماء. هذه القداسة يهبها الله لأولاده، وهو يشركهم فيها عن طريق حسبانها لهم وإعطائها لهم ولأنه أعدها لهم بدم الحمل لذلك هو يطلبها منهم، وهو يقول لهم "كونوا قديسين لأني أنا قدوس"، فهو لم يقل كونوا قديسين كما أنا قدوس. وإلا لكان تطلب منا القداسة المطلقة، وهي ملك الله وحده. والملائكة يسترون وجوههم أمام نار قداسة الله، بل حتى السموات غير طاهرة قدامه والنجوم غير صافية. ولن يجرؤ إنسان مخلص على أن يقول "أنا قدوس"، كما لا يجب أن يتجاهل رجل مخلص الكلمات الخطيرة التي نطق بها الرسول بالوحي "اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب".

          فماذا نعمل نحن المسيحيين للخلاص من هذه الورطة؟ علينا أن نعمل كما عمل موسى فنستر أنفسنا برداء الإيمان والتواضع بينما نحن نختلس نظرة خاطفة لله الذي لا يستطيع أحد أن يراه ويقيسه. فهو لا يحتقر القلب المنكسر والمنسحق. وعلينا أن نخفي عدم قداستنا في جروح المسيح كما أخفى موسى نفسه في نقرة الصخرة بينما مرّ مجد الله أمامه. فيجب أن نحتمي من الله في الله، وفوق كل شيء يجب أن نؤمن أن الله يرانا في ابنه كاملين بينما هو يدربنا وينقينا ويؤدبنا لكي نشترك في قداسته.

          وبالإيمان والطاعة والتأمل المستمر في قداسة الله ومحبة البر وكره الإثم والتعرف المتزايد على روح القداسة يمكننا أن نعوّد أنفسنا على شركة القديسين على الأرض ونهيء أنفسنا للرفقة الأبدية مع الله ومع القديسين في العلى، وهكذا عندما يجتمع المؤمنون المتواضعون يكون لنا سماء تمضي إلى سماء.

          كم هي رهيبة سنوك الأبدية

          أيها الرب السرمدي

          أمامك الأرواح منبطحة ليلاً ونهار

          تعبدك بلا انقطاع!

          كم أنا أخافك أيها الإله الحي

          بخوف عميق رقيق جداً0

          وأعبدك برجاء مرتعد

          ودموع التوبة والندامة

          فردريك و. فايبر

  • عدد الزيارات: 1215