Skip to main content

٤ ماهية الإيمان وأثره في نفوس المؤمنين

أولًا - ماهية الإيمان

أمام الآيات السابق ذكرها ، التي تدل على أنه بالإيمان نحصل على الخلاص من قصاص الخطية وسلطانها ، ونتمتع بالحياة الروحية مع الله الى الأبد ، يتساءل بعض الناس عن ماهية هذا الإيمان . ولهم الحق في ذلك، لأن كلمة الايمان لكثرة تداولها بيننا فقدت معناها الحقيقي عند الكثيرين منا ، وأصبحت تطلق على مجرد الاعتراف بعقيدة ما . فكل من اعترف بوجود الله (مثلا) أصبح في نظر الناس مؤمنًا. لكن هذا ليس من الصواب فى شيء ، لأن من يؤمن بوجود الله يبغض الخطية ويأبى أن يعيش فيها . وبما أن كثيرين من الذين يعترفون بوجود الله ، يرتكبون الكثير من الآثام غير حاسبين له تعالى حسابًا ، إذًا فهم ليسوا بمؤمنين . وإن قالوا أنهم يؤمنون ، فإيمانهم هذا لا يكون حقيقيا بل يكون إيمانا اسميا فحسب . وإيمان مثل هذا (إن جاز أن يسمى إيمانًا) لا قيمة له في نظر الله ، حتى إن كان ذووه يصومون ويصلون ويتصدقون كثيرا . وإذا كان ذلك كذلك ، يجب علينا أن نعرف ما هو الإيمان الحقيقي الذي يؤهلنا للتمتع بخلاص الله ، ولذلك نقول :

ا - معنى الإيمان من الناحية اللغوية : (ا) الإيمان لغة هو الثقة واليقين ، أو بالحرى هو الثقة بحقائق غير منظورة بناء على شهادة الله عنها ، وليس فقط بناء على إدراك العقل لها . لأنه وإن كانت حقائق الله تتوافق مع العقل السليم ، غير أنه من الواجب أن يكون الباعث على الإيمان بها ، هو إعلان الله عنها ، وليس توافقها مع هذا العقل، لأن الله أولى بالتصديق من عقولنا ، وذلك بسبب قصورها وعدم إدراكها لكل الأمور . وقد استعمل الكتاب المقدس كلمة الايمان بهذا المعنى فقال " الإيمان هو الثقة بما يرجى ، والايقان بأمور لا ترى " (عبرانيين ١١ :١) - هذا هو المعنى العام للايمان . وإذا أردنا تطبيقه على الإيمان الذي نحصل به على الخلاص ، يكون هذا الإيمان هو العمل الروحي الذي به تتفتح النفس الله ، وتثق في خلاصه الذي عمله في المسيح ، ثقة تجعلها توقن كل اليقين انها امتلكت هذا الخلاص مع البركات المترتبة عليه الى أبد الآباد . 

(ب) غير أن للإيمان في بعض اللغات الأجنبية معان اخرى (۱) ففى اللغة السنسكريتية (التي هي أصل كثير من اللغات الأوروبية) يراد أيضا به الرابطة ، ومن ثم يكون الإيمان بالمسيح هو الرابطة التي تربطنا به وتربطه بنا 

(Happy Chrisian) (۲) وفي اللغة اليونانية يراد أيضا به "الأساس الذي يستقر عليه الشيء" ، و "الجوهر الذي يجعل لهذا الشيء كيانه ووجوده"، كما يراد به  "العقد الذي يثبت الملكية" - ومن ثم يكون الإيمان بالمسيح هو الأساس الروحي الذي يستقر عليه خلاص المسيح فى النفس ، وهو الجوهر الذي يجعل لهذا ، الخلاص كيانا خاصا فيها ، وهو الوثيقة التي تؤكد للمؤمنين ملكيتهم لهذا الخلاص وأحقيتهم فى التمتع به ، كما يتمتع المالك بملكه الخاص الذي وضع يده عليه شرعا وفعلا (تفسير العبرانيين الكانون جاردنر ص ۱۲۳) . (۳) وفي اللغة العربية يراد بالإيمان أيضا " الأمن ، ، فقد جاء في (المعجم الوسيط) " آمن إيمانا أى أمن ، ، ومن ثم يكون المؤمن شخصا يعيش في سلام واطمئنان (٤) وفى اللغة الانجليزية يراد به أيضا " الأمين ، ، ومن ثم يكون المؤمن شخصا أمينًا مخلصًا - والمعنيان الأخيران يردان فى الكتاب المقدس ليس تعريفا للايمان ، بل نتيجة له . فقد قال الوحي " إن لم تؤمنوا ، فلا تأمنوا" ، (أشعياء ۷ : ٩) ، كما قال عن غير المؤمنين " أنهم أشخاص لا أمانة فيهم " (تثنية ٣٢ : ٤) .

۲ - معنى الإيمان من بعض النواحى العلمية والفلسفية (١) وإذا استعرضنا لغة علم النفس ، يكون إيمان الخلاص هو استجابة " العقل الباطن " (١) ، للإعلان الالهى أن الخلاص قد تم بواسطة المسيح ، ثم اطمئنانه لهذا الإعلان وامتلاكه للخلاص المذكور مع البركات المترتبة عليه - وهذه الأعمال الروحية الثلاثة (أي الاستجابة والاطمئنان والامتلاك) تكون طبعا بموافقة " العقل الواعي (۱) " ، لأن الإيمان المسيحى ليس هو الثقة بأمور وهمية أو مجهولة ، بل بأمور حقيقية معروفة.

(ب) وإذا استعرنا لغة العلوم الطبيعية ، يكون إيمان الخلاص هو استقبال النفس لخلاص الله الذي عمله في المسيح ، ثم حصولها عليه مع البركات السابق ذكرها، كما يستقبل السالب قوة الموجب ويحصل عليها . أو يكون هذا الإيمان هو تفاعل النفس مع الخلاص المذكور وتشبعها به ، تشبعا يجعله مع البركات المترتبة عليه جزءا لا يتجزأ من كيان النفس.

(ج) وإذا استعرنا لغتى الصوفية والوجودية ، يكون ايمـان الخلاص هو اختراق النفس للحجاب (۲) واتصالها بالله ، ثم حصولها منه على الخلاص المذكور مع البركات المترتبة عليه ، بدرجة تجعلها تختبر هذه البركات وتتمتع عمليا بها . وقد أشار الى هذه الحقيقة كثير من المتصوفين والفلاسفة ، فقال القديس يوحنا المتصوف الإسباني ، " إن الإيمان هو اتصال النفس بالله واتحادها به " ، وقال كيركجارد فيلسوف الوجودية " إن الإيمان هو امانة النفس العتيقة ، أو " انا " المادية المتمردة ، ثم بعث هذه النفس في " أنا " روحية جديدة ، تكون مقترنة بالله اقترانًا تامًا ..

وقال برجسون الفيلسوف المشهور " الإيمان هو عمل النفس الفاعلة بذاتها ، وتفاعلت مع الله فى حالة الانسجام الكلي معه . وهو وثبة ترقى بالنفس الى مجال فسيح الأرجاء ، وانجذاب نحو عالم أفضل يجعلها لا ترى إلا عظائم الأمور، وقال غيره " إن أول الايمان لقاء مع الله وآخره لقاء مع الله "

- معنى الإيمان من الناحية الدينية : والإيمان بلغة الكتاب المقدس هو (أ) عودة الإنسان إلى حالة الطفولة التي تتجلى فيها النفس ببراءتها وبساطتها ، ثم تصديقه وهو في هذه الحالة " ما قام به المسيح من خلاص وما يعطيه من بركات ، تصديق الأطفال الذي لا يشوبه شك أو ريب . ولذلك قال المسيح لنا " الحق الحق أقول لكم،

ان لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد ، فلن تدخلوا ملكوت السموات (متى ۱۸ : ۳) . وقال الرسول " لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أي ليحدر المسيح (منها إلى الأرض) ، أو من يهبط الى الهاوية ، أي ليصعد المسيح من الأموات . لكن ماذا يقول الكتاب ، الكلمة قريبة منك، في فمك وفي قلبك (١) ، أي كلمة الإيمان التي نكرز بها . لأنك إن اعترفت وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت"  (رومية ١٠ : ٦ - ١٠) أي يجب ألا يشك المرء في ما قاله الله عن بفمك بالرب يسوع ، خلاص المسيح لنا ، بل أن يصدقه كل التصديق ، كما يصدق الأطفال كل ما يقوله لهم أبوهم الطيب القلب.

(ب) وعدا المعنى السابق ، يعبر عن إيمان الخلاص في الكتاب المقدس بـ " قبول المسيح ". فقد قال " وأما الذين قبلوه ، فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله ، أى المؤمنين باسمه " (يوحنا ۱ : ۱۲) .

وقبول المسيح لا يراد به فقط قبول عقيدة الخلاص الذي عمله على الصليب (كما يظن بعض الناس) ، بل وأيضا قبول شخصه في النفس قبولا روحيًا كاملًا . ومن البديهي أن يكون الأمر كذلك ، لأن مجرد قبول العقيدة لا يخلص ، إذ أن العقيدة فى حد ذاتها ليست إلا تعبيرا عن موضوع خاص ، والتعبير ليست له قوة فى ذاته ، أما المسيح فله في ذاته قوة الخلاص والأحياء معا (متى ١ : ٣١ ، يوحنا ۱۰ : ۱۰) ، ولذلك فإن بقبول النفس له تخلص من الخطية وتتمتع بالحياة الأبدية.

ولتوضيح المعنى المراد بقبول المسيح إلى حد ما ، نقول : لنفرض أن رجلًا ثريًا فاضلا أراد أن يتبنى لنفسه غلامًا يتيمًا مسكينًا . فهذا الغلام له أن يرفض أبوة الرجل المذكور ، أو يقبلها مرغمًا ، أو يقبلها برضى وسرور. فإن قال فى نفسه 

(مثلا) أنى أخشى أن يعاملني هذا الرجل بقسوة ، أو يحرمني من الحرية التي أتمتع بها في حياتي ، أو يمنعني من الطعام الذي تشتهيه نفسي ، أو… أو ... ، فإنه لا يقبل أبوة هذا الرجل ، ومن ثم يظل في فقره وجهله وإن قبل أبوته مرغمًا ، يعيش حياته منغصًا ومن ثم ربما يترك الرجل المذكور يوما من الأيام ، لا يفيد منه بفائدة تستحق الذكر . لكن إذا ضرب بظنونه عرض الحائط وسلم أمره برضى وسرور لمن أراد أن يتبناه ، واثقا أنه سيرعاه ويعتنى به ، وأنه لو عامله يوما بشدة أو قسوة ، فإن هذه المعاملة ستكون لخيره وفائدته ، ومن ثم يقبل أبوة هذا الرجل دون قيد أو شرط ، فإنه سيتمتع بثروته كل التمتع ، كما سيفيد من تهذيبه وتعليمه كل الفائدة .

وعلى هذا القياس مع الفارق الذى لا بد منه، نقول : ان من يقبل المسيح بمحبة وسرور ، لكي يكون مخلصًا لنفسه وحياة لها ، فإنه يخلص من قصاص خطاياه ويصبح مبررًا أمام الله ، وفى الوقت نفسه يتمتع بحياة المسيح السامية فى نفسه . أما من يرفض المسيح أو قبله قبولا اسميا أو عقليا فحسب ، فانه يحرم نفسه من الخلاص والتبرير كما يحرمها من حياة المسيح فيها - وهذا هو الشقاء الأبدي بعينه.

 (ج) والإيمان بالمسيح يمكن أن يعبر عنه أيضا في الكتاب المقدس بالاتكال على المسيح والاعتماد عليه ، أو بالحري براحة القلب والعقل على شخصه الكريم . فقد قال النبي لله " يا مخلص جميع المتكلين عليك " (مزمور ۱۷ : ۷) . كما قال له " ويفرح جميع المتكلين عليك إلى الأبد " (مزمور ٥ : ١١) . وقال أيضا " الرب فادي نفوس عبيده ، وكل من اتكل عليه لا يعاقب " ( مزمور ٣٤ : ۲۲ ) . لأن المرء عندما يتكل على المسيح لا يتخلى عنه المسيح بل يمتعه للتو بخلاصه ، ومن ثم يستريح هذا المرء كل الراحة ويطمئن كل الاطمئنان .

فالإيمان إذا يختلف عن الرجاء كل الاختلاف ، لأن الرجاء هو توقع الحصول على البركة في المستقبل، أما الإيمان فهو تملك البركة المنشودة والحصول عليها في الوقت الحاضر .

٤- الإيمان الحقيقي الإيمان الشكلي : مما تقدم يتضح لنا أن الإيمان أو بالحرى الإيمان الحقيقى ، ليس هو مجرد تصديق رسالة المسيح كحقيقة أعلنها الوحي وأيدها اختبار الرسل والقديسين ، لأنه إن وقف ایمان إنسان عند هذا الحد ، يكون إيمانا شكليا فحسب . والإيمان الشكلي وان كان ينشىء فى النفس اقتناعا بحقيقة الخلاص، لكنه لا يهيء لها سبيل الافادة منه . فمثل الإيمان الشكلى والحالة هذه ، مثل اقتناع الأعمى بجمال الطبيعة ، فإنه وإن كان يعطيه صورة ذهنية عنه ، لكنه لا يهيء له السبيل للتمتع العملي به وقد أعلن الوحي عدم فائدة هذا النوع من الإيمان فقال عن الشياطين أنهم يؤمنون ويقشعرون (يعقوب ۳ : ۱۱)، ومع ذلك لا خلاص لهم على الإطلاق .

والإيمان الحقيقي ليس هو أيضا اعتناق المسيحية لسمو مبادئها أو عظمة معجزاتها، فإن سيمون الساحر اعتنق المسيحية لسبب من هذين السببين ، ومع ذلك لم يكن قلبه مستقيما امام الله ، وكان في مرارة المر ورباط الظلم (أعمال ۸ : ۹ - ۲۳) .

كما أن القيام بالأعمال الصالحة أو الترنيم والصلاة ، أو الوعظ والإرشاد ، ليس دليلا على وجود الإيمان الحقيقى بأي حال من الأحوال، إذ من الجائز أن يقوم إنسان بكل هذه الأعمال بدافع من الشفقة الطبيعية أو الغريزة الدينية أو الغيرة الطائفية فحسب ، وتكون ديانته ديانة ذاتية بعيدة عن الله كل البعـد (۱) . وقول المسيح لبعض الذين كانوا يتنبأون باسمه ويخرجون الشياطين باسمه " أني لم أعرفكم قط " (متى ۷ : ۲۳) (۱) خير شاهد على هذه الحقيقية .

لكن الإيمان الحقيقي هو عمل باطني يشغل قوى الإنسان الروحية كلها ، فالعقل الواعي يصدق المسيح ، والشعور يتأثر به والارادة تقبله ، والعقل الباطن يستريح له ويفيد منه . وبذلك تولد النفس (ذلك الجوهر السري الكامن في أعماق الإنسان) ولادة روحية تحصل بها على حياة جديدة تؤهلها لمعرفة الله والتوافق معه والسلوك حسب مشيئته - ولذلك فإن الإيمان الحقيقي عمل شخصي لا يستطيع إنسان قام به أن يعطيه لغيره على الاطلاق . فهو يشبه من هذه الناحية تناول الطعام واستنشاق الهواء ، فإن هذين العملين لا يفيدان إلا من يقوم بهما بنفسه.

وقد أشار الأستاذ ك .سامبسون بجامعة كامبردج (۲) الى الحقيقة السابقة فقال " إن الإيمان لا يتم بواسطة العقل فقط ، بل بواسطة النفس بأسرها، ومن ثم فانه يشبع كل احتياجاتها " . كما قال " أن الوجدان السليم يشترك مع العقل في إيمان. فالآباء البررة (مثلا) يحبون أبناءهم، ليس لأن العقل فقط يتطلب ذلك ، بل لأنه يوجد ميل خفى فى نفوسهم يدعوهم الى محبة أبنائهم " - وقد يكون هذا الوجدان هو الحاسة السادسة في الإنسان ، التي ترى وتسمع وتدرك ما لا تراه أو تسمعه أو تدركه العيون والآذان والعقول الجسدية . فقد قال الرسول للمؤمنين القدماء عن المسيح 

" الذي وإن لم تروه تحبونه ، ذلك وإن كنتم  لا ترونه الآن ، لكن تؤمنون به، فتبتهجون بفرح لا ينطق به ومجيد "  ( ۱بطرس ۱ : ۸)

 ه ـ اشتراك المؤمنين الحقيقيين في الإيمان على السواء : نظرًا لأن الخلاص من قصاص الخطية وسلطانها هو بواسطة المسيح دون سواه ، ونظرا لأن كل الناس خطاة ولا خلاص لهم إلا بشخصه ، لذلك فإن أعظم الرسل وأصغر المؤمنين يتساوون جميعا في الإيمان الذي ينالون به هذا الخلاص . ولذلك قال بطرس الرسول مرة للمؤمنين الذين نادي لهم الى الذين نالوا معنا ايمانًا ثمينًا مساويًا لنا ببر إلهنا بالإنجيل والمخلص يسوع المسيح " (۲ بطرس ۱:۱) . وقال بولس الرسول عن هذا الايمان انه " إيمان واحد ، أى واحد لكل الناس (أفسس ٥:٤). كما قال لتلميذه تيطس عنه أنه " الإيمان المشترك " أي الذي يشترك فيه جميع المؤمنين الحقيقيين على السواء - أما ما يتفاوت فيه المؤمنون الحقيقيون فليس هو ايمان الخلاص، بل هو ثمر هذا الايمان أو عمله . وثمر الإيمان أو عمله ليس هو السبيل الى الخلاص ، بل انه السبيل الى تقدمنا في الحياة الروحية ، وما يترتب على ذلك من الحصول على جزاء خاص من الله ، كما ذكرنا في الفصل السابق.

ثانيًا - تأثير الإيمان الحقيقي في النفس

۱ - التغيير الروحي : ان للايمان الحقيقي تأثيرا عظيما في النفس ، فالمرء بمجرد أن يؤمن بالمسيح إيمانًا حقيقيًا ، أو بالحرى يقبله في أعماق نفسه ربًا وفاديًا ، تتولد فيه حياة روحية لا عهد له بها من قبل فيتجه إلى الله ويهواه ، ويتوق للاتصال به والسير معه . كما يتولد فيه عالم روحي جديد مملوء بالثقة واليقين ، والسلام والاطمئنان ، والحكمة والفهم ، والفرح والابتهاج ، والإقدام والشجاعة ، والطهارة والقداسة والتواضع والوداعة ، والبذل والتضحية ، وغير ذلك من القـوى الروحية التي تنير كيانه الداخلي بنور سماوى ، الأمر الذي لا تستطيع أن تفعله المساعي الشخصية ، أو النظريات الاخلاقية والدينية جميعا.

۲ - التمتع ببركات السماء من الآن : فضلا عن ذلك فان المؤمن الحقيقي يستطيع التمتع الى حد كبير ببركات السماء وهو لا يزال على الأرض، لأنه وإن كان لم يدخل السماء بعد ، لكنه بالايمان يستطيع أن يراها في قلبه ، إذ أن الإيمان يلاشى الزمن ويمحو المسافة ويجعل الأمور المستقبلة حاضرة أمامنا وفي قبضة أيدينا . حقا قال الوحي عن المجد السماوى أنه " ما لم تر عين ، ولم تسمع به أذن ، ولم يخطر على بال انسان " (۱ كورنثوس ۲ : ٩) . لكن هذا المجد ليس مخفيا عنا ، بل معلن بالروح لنا ، فقد قال الوحى بعد هذه العبارة مباشرة إن الله أعلنه لنا بروحه، إذ أن روح الله يرفع الستار عن هذا المجد ، ومن ثم نستطيع التمتع به فى قلوبنا ونحن لا نزال على الأرض . وما الحياة التي نحياها الآن مع الله بالروح (رومية ٨ : ١) الا فاتحة الحياة الأبدية في السماء . (۱ تسالونيكي ٤ : ١٧) ، وما السلام الذي نشعر به الآن على أساس الفداء الكريم (رومية ٥ : ١) إلا بشير السلام الأبدي الكامل الذي سنتمتع به هناك (رؤيا ٢١ : ٤ - ٥) ، وما الأفراح الروحية التي تجيش في نفوسنا الآن بواسطة عمل الروح القدس فيها ( فيلبي ٤ : ٤) إلا باكورة الأفراح الأبدية التي تنتظرنا هناك (يوحنا ١٦ : ٢٢) ، وما التسابيح التي تنطلق من قلوبنا الان الا طلائع التهليل بالقيثارات الذهبية فى السماء (رؤيا ٥ : ٨ - ١٠) ، وما عناقيد العنب التي نراها ونأكل روحيا منها الآن (عدد ۲۲:۱۳) الا عينة للمتع الروحية التى لنا هناك ( نشيد ١ : ٤)

۳- مثال لتأثير الإيمان في النفس وعمله فيها قرأت عن نابليون أنه كان يقوم مرة باستعراض جيش له ، فأفلت لجام الحصان من يده ولذلك أسرع الحصان في الركض ، وكاد الامبراطور يسقط على الأرض فاخترق أحد جنوده الصفوف بسرعة البرق واعترض طريق الحصان ، وأعاد اللجام الى نابليون · فسر نابليون بهذا الجندي ، وقال له " أشكرك أيها القائد ، فرد عليه الجندي قائلا " فى أى فرقة ياسيدى" ؟ فازداد سرور نابليون بهذا الجندى لأنه آمن بكلمته ، وقال له " في فرقة الحرس الإمبراطوري ".

وحينئذ ترك هذا الجندي رفقائه ، ووقف فى مقدمة الحرس المذكور . ولما انتهره بعض ضباطه بالقول " لماذا تقف أيها الجندي أمام ضباط الحرس الامبراطوري ؟" أجابهم بكل ثبات " أنا قائد هذا الحرس" فسخروا منه وقالوا له " من أقامك قائدا له؟"  فأشار الجندي إلى الامبراطور وقال لهم " هذا هو الرجل الذي أقامني"

فالجندى المذكور آمن بكلمة الامبراطور وصدقها ، ومن ثم تبوأ في الحال مركز القائد وتصرف التصرف الذي يليق به ، غير مبال بالثياب العادية التي كانت عليه ، أو بعدم صدور القانون الذي يعلن ترقيته الى الرتبة التي أعطيت له ، أو بتجاهل الضباط له وسخريتهم منه ، اذ كان يكفيه اقتناعا بأحقيته في مركزه الجديد ، أن نابليون نفسه هو الذي قال له انه قائد الحرس المذكور . وبعد ذلك بقليل أعطى نابليون هذا الجندي ملابس القائد وشارته وامتيازاته في حفل عظيم.

وفي ضوء هذه الحادثة نقول : إذا كان هذا الجندي ، بناء على كلمة من نابليون ، آمن أنه أصبح قائدا لأعظم حرس في بلاده ، وشغل في الحال هذا المركز ، فكم يجب أن يكون موقفنا نحن إزاء أقوال الله المدونة لنا بكثرة فى كتابه العزيز، والتي تعلن لنا أن المسيح كفر عن خطايانا ، و أعطانا حياة أبدية ، وأننا أصبحنا من الان أولادا لله يسكن فينا روحه القدوس ! أما يليق بنا أن نؤمن كل الإيمان بحصولنا على هذه الامتيازات ، وأن نتمتع بها منذ الآن الى أقصى حد تصل اليه مداركنا . وأن تتصرف في حياتنا التصرف الذي يليق بمركزنا الجديد.

أخيرًا نقول أن كل ما ذكرناه في هذا الفصل ، ما هو إلا محاولة لشرح معنى الإيمان وتأثيره في النفس ، أما شرحه شرحا وافيا فلا يكون بلغة الكلام بل بلغة الاختبار . فهو يشبه من هذه الناحية الصحة التي تسرى في أجساد الأصحاء ، والسعادة التي تسري في نفوس السعداء، فإننا مهما تحدثنا عنهما للضعفاء والبؤساء لا يمكن أن يدركهما واحد منهم على الإطلاق ، إذ أن الذي يدركهما، هو فقط الذي يتمتع فعلا بهما .. ولذلك اذا اتجه القراء بكل نفوسهم الى المسيح الآن وقبلوه مخلصا وحياة لهم ، يمكنهم أن يدركوا ما هو الإيمان، وما هي البركات العظيمة التي تترتب عليه إدراكًا حقيقيًا.

_____________________________________________

(۱) العقل البشري (كما يرى العلماء) يتكون (أولا) من العقل الواعي وهو العقل الذي نفكر به ونريد عندما نكون في حالة اليقظة (ثانيا) العقل السلبي ، وهو مستودع الغرائز والميول المكبوتة . وهذا العقل " ينفس" ، عما فيه من موضوعات عندما نكون في حالة النوم ، أو عندما يكون العقل الواعي مقهورا أو فى غفلة (ثالثًا) العقل الباطن هو ما يسمى فى الكتاب المقدس "الإنسان الباطن"  ، ، وهو موطن قوى النفس ومواهبها ، ويظهر فى النبوغ والتسامي والاختراع عند بعض الأشخاص ولعل العقل السلبي هو ما يسمى فى الكتاب المقدس " الإنسان العتيق" الذي يتصف بشهوات الغرور (أفسس ٤ : ٢٢) ، والعقل الباطن هو ما يسمى " الانسان الباطن " الذي فيه يؤيدنا الله بالقوة بواسطة الروح القدس 

(أفسس ٣ : ١٦ - ١٩) .

 أما الطبيعة الجديدة التي تتكون في الإنسان الباطن ، فهي " الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه (کولوسي ۳ : ۱۰)

(۱) وقد أشار الوحى الى أهمية العقل الواعي من الناحية الروسية فسجل عن المسيح أنه فتح أذهان تلاميذه لكي يفهموا الكتب المقدسة (لوقا ٢٤ : ٤٥) وسجل عن الرسول بولس أنه كان يصلي لكي تستنير عيون أذهان المؤمنين حتى يعلموا ما هو رجاء دعوة الله (أفسس ۱ : ۱۸) ، والفهم والعلم هما أهم أعمال العقل الواعي.

(۲) " الحجاب " هو ما يحجب النفس عن الله ، وما يحجب النفس عن الله هو الطبيعة البشرية العتيقة ، التي لا تتوافق معه في شيء من صفاته العلوية السامية. فاختراق الحجاب اذا هو الانصراف عن الجسد بما فيه من شر أو خير (ان كان فيه ثمة خير) ، لكي تكون النفس تحت تأثير الله دون سواه.

_____________________________________________

(۱) أى أن كلمة الخلاص مقدمة لكل انسان باللغة التي يفهمها ، ويشعر في أعماق قلبه بحاجته إليها.

__________________________________________________________________________________________

(۱) لأن الشفقة الطبيعية قد توجد في الحيوان ، والغريزة الدينية والغيرة الطائفية قد توجدان عند عبدة الأوثان، (۱) ولا غرابة في ذلك ، فيهوذا الاسخريوطي كان يعمل معجزات مثل باقي التلاميذ ، ويوجد بين رجال الدين أشخاص أشرار يعظون عظات رنانة يتأثر بها كثير من الناس ، فيتوبون إلى الله ويرحمهم بينما يهلك الى الأبد الأشخاص الذين وعظوهم - وبهذه المناسبة نقول أن بعض السحرة يستخدمون فى أعمالهم المزامير والصلاة الربانية فيظن بعض البسطاء أن هؤلاء السحرة يقومون بأعمالهم بقوة الله والحال أنهم يقومون بها بقوة الشيطان الذى يعمل في الخفاء وفق أنظمة وخطط يعلنها لأتباعه بطرق خاصة حتى يحولوا الناس عن الاتكال على الله والسير بالإيمان معه.

The Faot of christ, p 80 - 82


_____________________________________________

  • عدد الزيارات: 3

شارك