Skip to main content

۳ الإيمان والحياة الروحية الإلهية

ذكرنا فيما سلف أننا لا نحتاج فقط الى الخلاص من قصاص خطايانا ، بل نحتاج أيضا الى حياة روحية تسمو بنا فوق قصورنا الذاتي وتؤهلنا للتمتع بالله والتوافق معه فى صفاته العلوية السامية . وبالرجوع الى الكتاب المقدس نرى أن هذه الحياة يمنحها الله لنا أيضا مجانا بواسطة الإيمان الحقيقي بالمسيح، وأنها تشمل : الولادة من الله، والحصول على الروح القدس ، وصيرورتنا أولاد الله وأعضاء في جسد المسيح الروحي . ومن أبرز نتائج الحياة المذكورة ، النصرة على الخطية والقدرة على السلوك بالقداسة التي يريدها الله فى العالم الحاضر ، كما يتضح مما يلى :

١ - الولادة من الله : هذه الولادة - ليست هي إصلاح الطبيعة البشرية العتيقة بالصوم والصلاة ، أوالوعظ والإرشاد (على فرض أنها تصلح بهذه الوسائل ، كما يقول بعض الناس) ، كما أنها ليست هي بدء صحيفة جديدة من الحياة بواسطة التوبة عن الخطية والابتعاد عنها ، أو الانضمام الى طائفة دينية وقبول المعمودية والتناول من العشاء الرباني ومزاولة بعض النشاط الدينى فيها ، ودراسة الكتاب المقدس ومحاولة العمل بكل ما جاء فيه ، فضلًا عن ذلك ، ليس كل من يرنم لله بفرح وابتهاج أو يحصل منه مرة أو مرات على استجابة للصلاة ، أو يرى أحلامًا تبعث الى قلبه بالسلام والاطمئنان ، أو ينذر لله نذورًا ويفي بها ، أو يشعر بسرور عند قيامه بأى طقس من الطقوس الدينية ، هو مولود من الله - بل الولادة من الله ، هى الحصول منه بواسطة الإيمان الحقيقي على حياة روحية تؤهل المرء للتوافق مع الله في صفاته العلوية السامية كما ذكرنا . ومثل الحياة الروحية التي ينالها المؤمن من الله (إن جاز التشبيه) مثل الحياة التي تدب فى الأشجار الخريفية الميتة فتجعلها تزهر وتثمر، أو الحياة التي تدب في الميت فتجعله ينهض ويعمل. وإذا كان ذلك كذلك ، أدركنا أن الأعمال الصالحة ، التي يقوم بهــــا المجردون من هذه الحياة ، مثلها أمام الله ، مثل الزهور الصناعية التي لا حياة فيها ولا رائحة لها . أما الأعمال الصالحة التي يقوم بها الحاصلون على الحياة المذكورة ، فمثلها مثل الزهور الطبيعية التي تدب فيها الحياة ولها رائحتها الذكية ، أمام الله والعارفين بالله ولإيضاح أهمية الولادة من الله نقول : كما أننا بالولادة من آبائنا وأمهاتنا نحصل على صفاتهم وخصائصهم ، ونبدأ حياتنا على الأرض معهم ، ويكون لنا حق التمتع بهم وبكل ما لديهم من خير – هكذا الحال من جهة الولادة من الله ، فإن بها دون غيرها نبدأ علاقتنا الحقيقية مع الله ، ونحصل على حياته فينا بما في هذه الحياة من خصائص أدبية سامية . كما نصبح بهذه الولادة أبناء له يمكننا الدنو منه والتمتع به وبكل ما لديه من بركة ، ليس في هذا العالم فقط بل وفي الأبدية أيضا والولادة من الله هذه ليست وهما أو بعض وهم ، بل هي حقيقة واقعة لها الأدلة الكافية على وجودها . وقد اهتم كثير من علماء النفس بدراستها، لا سيما في الأشخاص الذين كانوا يرتكبون الجرائم و يدمنون المخدرات من قبل، فهالهم أمرها واعترفوا بأحقية وجودها (۱) وأهميتها وهذه الولادة هي ما أشار الوحي إليها في الآيات الآتية " كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح ، فقد ولد من الله" ، (١ يوحنا ٥ : ١٠) . وان " الله ولدنا ثانية لرجاء حيّ بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات " (۱ بطرس ۱: ۳) . وأنه " شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه " (يعقوب ۱: ۱۸)  وأن المؤمنين ولدوا " ثانية لا من زرع يفنى ، بل مما لا يفنى ، بكلمة الله الحية الباقية الى الأبد" (۱ بطرس ۱ : ۲۳) . وأنهم « ولدوا ليس من لحم (۱) ، ولا من مشيئة جسد (۲) ، ولا من مشيئة رجل (۳) بل من الله (۱) " ( يوحنا۱ : ۱۳) .

وأن الله وهبهم كل ما هو للحياة والتقوى لكي يصيروا شركاء الطبيعة الالهية (الأدبية) (۲) هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة (۲ بطرس ٣ : ٤) - أى أن الله وحده هو الذي يلد نفوس المؤمنين الحقيقيين ولادة ثانية ، وبهذه الولادة يشتركون معه في طبيعته الأدبية ، كما يشترك الأبناء في طبائع والديهم.

والولادة من الله يعبر عنها أيضا بالخليقة الجديدة ، فقد قال الرسول " اذا ان كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة · الأشياء العتيقة قد مضت . هوذا الكل قد صار جديدا" (٢ كورنثوس ٥ : ١٧) . كما قال عن نفسه وعن المؤمنين " لأننا نحن عمله (أي عمل الله) . مخلوقين فى المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها " (افسس ۲ : ۱۰) - ونظرا لأننا نخلق الآن بواسطة الله خليقة جديدة ، أو نولد الآن منه ولادة ثانية بالإيمان بالمسيح ترد الأفعال الخاصة بذلك فى صيغة الماضي أو الحاضر .

- الحصول على الروح القدس في نفوسنا : فقد قال الرسول للمؤمنين " إذ آمنتم ، ختمتم بروح الموعد القدوس " (أفسس ۱ : ۱۳) و " أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم " (١ كورنثوس ٣ : ١٦) . و " أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذى فيكم ، الذي لكم من الله (١ كورنثوس ٦ : ۱۹) - ونظرًا لأن روح الله يحل في قلوبنا بالايمان بالمسيح ، لذلك ترد الأفعال الخاصة بحلوله فينا في صيغة الماضي أو الحاضر .

٣- البنوة الروحية لله : فقد قال الرسول للمؤمنين " بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه الى قلوبكم صارخا (أو هاتفًا) يا آبا الآب " (۱) (غلاطية ٥ : ٦) . و" أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله . فإن كنا اولادًا ، فإننا ورثة ايضًا ، ورثة الله (۲) و وارثون مع المسيح " (رومية : ١٥ و ١٦) . "انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله (۳) (١ يوحنا ٣ : ٥) . "فلستم بعد غرباء ونزلاء ، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله " (أفسس ۲ : ۱۹) - ونظرا لأننا نصبح الان أولادًا لله وأبناء له بالإيمان بالمسيح ، لذلك ترد الأفعال الخاصة بولادتنا من الله وبنوتنا له في صيغة الماضي أو الحاضر .

٤- الاتحاد الروحي بالمسيح ، وحلوله الروحي في نفوسنا : فقد قال الوحي عن المؤمنين أنهم أعضاء جسمه من لحمه وعظامه (۱) (أفسس ٥ : ٣٠) . وعن المسيح أنه رأسهم (كولوسي ۱ : ۱۸) . وانه فيهم وهم فيه (يوحنا ۱۷ : ۲۳ ، ۱۰ : ۳) . وأنه حياتهم (كولوسي ٣ : ٤) . وأنه يحيا فيهم (غلاطية ٢ : ٢٠) - ونظرا لأن اتحادنا بالمسيح يتم الآن بالإيمان بشخصه ، لذلك ترد الأفعال الخاصة بهذا الاتحاد في صيغة الماضي أو الحاضر .

٥ - الخلاص من سلطة الخطية والغلبة عليها . فقد قال الرسول للمؤمنين " فمن ثم يقدر (المسيح) أن يخلص أيضا الى التمام الذين يتقدمون به الى الله " (عبرانيين ٧ : ۲٥) . و" لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه ، فبالاولى كثيرا ونحن مصالحون نخلص بحياته " (رومية ٥ : ١٠) . و" هذه هي الغلبة التي (تغلب  أهواء) العالم ايماننا " (١ يوحنا ٥ : ٤  و " من هو الذي يغلب العالم ، الا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله " (١ يوحنا ٥ : ٧) . و " يعظم انتصارنا بالذي أحبنا " 

(رومية ٨ : ٣٧) . والرسول الذي اختبر هذه الحقيقة قال " أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني " (فيلبي ٤ :  ۱۳) - ونظرا لأننا نتمتع الان بهذا الخلاص بواسطة الايمان بالمسيح (۱) لذلك ترد الأفعال الخاصة به في صيغة الحاضر .

من الفصول السالفة يتضح لنا أن المسيحية تتميز عن الأديان التي تؤمن مثلها بوحدانية الله بالاعلانات الآتية :

۱- ان الله وان كان عظيما كل العظمة ، ومحاطًا بجلال ليس بعده جلال ، لكنه ليس الإله المتكبر الذي يترفع عن الاتصال بالناس ، أو الذي يبعث الرعب والخوف الى نفوسهم ، أو يتحكم في أعمالهم ومصائرهم، بل انه الاله الذى يفيض بالحب نحوهم والعطف عليهم ، ولذلك فهو بمثابة الأب الطيب الذى يسر بأبنائه ويدعوهم للاقتراب منه والتمتع به .

۲- إن العلاقة بالله ليست علاقة خارجية قائمة على ممارسة الفرائض والواجبات الدينية ، بل علاقة باطنية قائمة على قداسة النفس وطهارتها وتوافقها التام مع شخصه . ولذلك تعلن المسيحية أن بعض الذين يقولون انهم يحفظون وصايا الله ، هم بعيدون عنه بعدا عظيما (متی ۱۹ : ۲۰) . 

وأن بعض الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ، يرتكبون جرائم النهب والقتل دفاعا عن الدين كما يظنون (أعمال ۱۹) ، الأمر الذي يدل على أن التدين ( أو بالحرى التدين البشري) شيء ، والتقوى ، أو بالحرى التوافق مع الله فى صفاته العلوية ، شيء آخر .

۳- إن الشيء الوحيد الذي يمنعنا من الاتصال بالله والتمتع به هو الخطية، والخطية ليست فقط هي فعل الشر ، بل إنها أيضا مجرد انحراف الفكر عن الله والانشغال بالعالم أكثر من الانشغال به تعالى أو بالحرى عدم محبة الله من كل القلب ومن كل النفس ومن كل الفكر ومن كل القدرة

٤ - ان كل الاعمال الصالحة التي يمكن أن يقوم بها الإنسان لا تستطيع أن تكفر عن خطية واحدة من خطاياه وذلك لثلاثة أسباب رئيسية (الأول) إن هذه الأعمال ليست فضلا منا تستحق عنه جزاء بل هي واجب اذا قصرنا فى أدائه نكون خطاة أمام الله (الثاني) إن الأعمال الصالحة كثيرا ما تكون ملطخة بنقائص وعيوب الطبيعة البشرية العتيقة ولذلك تكون هذه الأعمال نفسها فى حاجة إلى غفران الله. (الثالث) أن الأعمال الصالحة مهما كثرت ، فإن قيمتها محدودة ، وحق الله الذي أسيء إليه بسبب الخطية لا حد لقدره ، والأشياء المحدودة لا تستطيع أن تفى مطالب حق لا حد لقدره ، ولذلك فإن الغفران لا يكون إلا هبة مجانية من الله.

ه ـ ان الله كما أنه رحيم كل الرحمة ، هو أيضا عادل كل العدالة، لذلك فالغفران لا يكون بالأمر السهل كما يتصور بعض الناس ، إذ أنه لا يمكن أن يتحقق إلا بعد إيفاء مطالب عدالة الله التي لا حد لها . وبما أنه لا يستطيع أن يفي هذه المطالب إلا الله وحده ، لذلك فإن الغفران يكون على أساس إيفاء الله لنفسه مطالب عدالته التي لا حد لها، أو بالحرى على أساس تحمله كل نتائج خطايانا فى نفسه عوضا عنا .

٦- إننا لا نحتاج الى غفران من الله فحسب، بل وأيضا الى حياة روحية منه ، لأننا أن حصلنا على الغفران دون أن تكون لنا هذه الحياة لا نستطيع التمتع بشخصه على الإطلاق وذلك لسببين رئيسيين (الأول) ان الله أسمى من نفوسنا بدرجة لا حد لها ، ومهما سعينا اليه بمجهودنا الذاتى لا نستطيع أن نصل الى شيء من مستواه الأدبي (الثاني) ان السماء ليست لذات ومتعا جسدية يمكن أن نلهو بها بعيدا عن الله ، بل هى عين التوافق مع الله فى صفاته العلوية السامية ، ولا سبيل إلى هذا التوافق إلا بواسطة الحصول منه على الحياة الروحية المذكورة.

۷- إن الحياة الروحية التى ننالها من الله لا تؤهلنا فقط للتمتع به ، بل تؤهلنا أيضا للتسامى فوق الخطية والقيام بالأعمال الصالحة التي تتوافق مع كماله تعالى . ولذلك فإن المسيحية لا تطلب فقط من اتباعها أن يحيوا حياة القداسة والصلاح ، بل إنها قبل كل شيء تبعث فيهم روح القداسة والصلاح.

۸- أخيرًا نقول أن المسيحية تجعل للحياة قيمة سامية كل السمو ، ان تجعل من المؤمنين الحقيقيين أبناء وأولادًا لله ، كما تضمن لهم امتياز التمتع بشخصه المبارك الى الأبد ، لأنها لا تبنى هذا الامتيان على أعمالهم بل على عمل الله لأجلهم ، وعمله المتواصل في نفوسهم : ولذلك يحيون طوال وجودهم على الأرض فى سلام ليس بعده سلام وفى سرور ليس بعده سرور.

حقا ان هذه البركات أسمى من أن يحيط بها العقل أو يصل اليها الخيال انها عظيمة جدا ، لأن الهنا عظيم جدا وهي عجيبة جدا ، لأنه لا مثيل له على الإطلاق . ولذلك لا يسعنا ازاءها ألا نقف مشدوهين مبهوتين ولسان حالنا " ما أكرم أفكارك يا الله عندنا ، وما أكثر جملتها !! " (مزمور ۱۳۹ : ۱۷) ، فشكرا لك على عطيتك التي لا يعبر عنها " (٢ كورنثوس ۹ : ١٥) .

 

____________________________________________

(۱) فالأستاذ دارموند عندما رأى آثارها فى الأشخاص المذكورين أعلاه ، اقتنع بوجودها ووصفها وبسط نتائجها في كتابه " علم النفس في خدمة الدين " . والعلامة ستوربوك عندما درس نتائج هذه الولادة في هؤلاء الأشخاص ، أسندها إلى حدوث تغيير كبير في نفوسهم ، وأصدر كتاب " علم النفس الديني " موضحا فيه أهميتها . والأستاذ بروننج وجد أن الولادة المذكورة لا تتم فى النفس بالتدريج بل دفعة واحدة ، لذلك شبه عملها السريع بالمحبة التي تربط بين قلبين وتجعلهما أحدا من أول مقابلة لهما وقال الأستاذ جويت أن الولادة الثانية لا تخضع لنواميس الإصلاح البشرية ، بل لناموس أسمى من هذه النواميس ، هو ناموس الله نفسه . والاستاذ سافينا رولا أطلق على هذه الولادة اسم "للحياة الخلاقة " لأنه وجد أنها تخلق البشر خلقًا جديدًا.

- عن كتابي

psychology in the Service of Religion & The Changed

Life, By Dr.Drummond)

وكتاب (التجديد للقس سويلم)

_____________________________________________

(۱) العبارة " ولدوا ليس من دم " معناها ليس بواسطة الولادة البشرية الطبيعية  لأن الدم هو الذي صنع الله منه البشر جميعا (أعمال ۱۷ : ٢٦)  وبناء على ذلك ليس من الضروري أن يكون الأبناء المولودون من المؤمنين الحقيقيين، أولادًا لله مثلهم . فقد يقيم الله من أبناء الأشرار أولادًا له، ان كانوا يؤمنون ايمانًا حقيقيًا ، ولذلك قال الوحي عن اليهود " ولا لأنهم من نسل ابراهيم هم جميعا أولاد " (رومية  ٩: ۷)  كما أن أولاد الله وإن كانوا من الناحية الجسدية قد صنعوا من هذا الدم مثل غيرهم من الناس، لكنهم لا يعتبرون من الناحية الروحية من عدادهم ، لأنهم بولادتهم مرة ثانية من الله ، يصبحون أولادا له ، ولذلك قال المسيح عنهم مرة أنهم " ليسوا من العالم" ، ( يوحنا ١٧ : ١٤)

(۲) " الجسد " في العبارة " ولا من مشيئة جسد" ، لا يراد به الجسد المادي (لأن هذا الجسد من حيث هو مادة ، ليست له مشيئة ما بل يراد به الطبيعة البشرية عامة ، كما هي الحال في الآيات الواردة في (رومية ٨ : ۱۳ ، ۲ كورنثوس ۱۰ : ۲) وغيرهما من الآيات . ومن ثم كون المراد بهذه العبارة أن البشر لا يصبحون أولادًا لله بناء على مشيئتهم الخاصة (أو بالحرى بناء على الأعمال الصالحة والفرائض الدينية التي يعتمدون عليها) ، بل بناء على مشيئة الله (أو بالحرى بناء على الإيمان الحقيقي بالمسيح، الذي شاء الله أن يكون الخلاص به دون سواه) . لذلك قال الوحي عن الخلاص الأبدى أنه " ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى ، بل الله الذي يرحم  (رومية ٩ : ١٦) ، أي أن هذا الخلاص ليس للذين يشاؤون ويسعون إليه بأعمالهم الذاتية ، بل للذين يعتمدون على رحمة الله ونعمته .

(۲) والعبارة، ولا من مشيئة رجل ، يراد بها أن البشر لا يكونون أولادًا الله بواسطة مشيئة رجل يقوم بالوعظ والإرشاد لهم ، لأن الوعظ والإرشاد وحدهما لا يستطيعان أن يجعلا إنسانًا ما من أولاد الله والدليل على ذلك أن بعض الذين يقومون بالوعظ والإرشاد ، هم أنفسهم بعيدون عن الله كل البعد - حقا يجب أن نسمع الوعظ ونتلقى الإرشاد لكن ان لم نؤمن بالمسيح إيمانًا حقيقيا ، لا يمكن أن نكون أولادا لله على الاطلاق . 

(۱) وإذا كان ذلك كذلك ، فكل مؤمن حقيقى له أب أرضي وأب سماوي ، وله مسقط رأس أرضي ومسقط رأس سماوي ، وله وطن أرضي ووطن سماوي ، وله تاريخ ميلاد أرضي وتاريخ ميلاد سماوي ، وله حياة أرضية وحياة سماوية و …. و…..و…..

(۲) فالله لم يعطنا بالولادة الثانية الطبيعية البريئة التي كانت في آدم قبل السقوط فى الخطية ، أو طبيعة الملائكة الأطهار الذين في السماء ، بل أعطانا طبيعته ، أو بالحرى طبيعة المسيح نفسه بكل ما فيها من قداسة وكمال ، الأمر الذي يفتح المجال أمامنا للتوافق مع الله في صفاته العلوية كل التوافق.

 ____________________________________________

(۱) " آبا" كلمة سريانية معناها " أب" ، ونظرا لشيوع استعمالها في نشأة المسيحية ، سجلت كما هى فى الكتاب المقدس ، وسجل بعدها معناها باللغة المترجم إليها هذا الكتاب ، ولذلك فإن هذه الآية تقرأ فقط "صارخا أيها الأب".

(۲) الوحى يكلمنا بلغتنا البشرية ، لأن الله لا يموت حتى نرثه نحن ، بل اننا نتمتع بمجده وهو معنا الى أبد الآباد.

(۳) مما تجدر ملاحظته أن محبة الله ونعمته ، وإن كانتا قد ظهرتا بصورة واضحة في البركات السابق ذكرها، لكن ظهرتا بصورة أوضح في جعله ايانا أولادًا له . وهذا ما دعا الوحي إلى القول " انظروا اية محبة اعطانا الاب حتى ندعى أولاد الله" . فهو تعالى لم يتبنانا لنفسه كما يتبنى إنسان بعض الأطفال ، بل ولدنا (أو بالحرى ولد نفوسنا) معطيًا إيانا طبيعته الأدبية بذاتها . وهذا هو الإحسان الذي لا يستطيع انسان فى العالم أن يجود بمثله على الإطلاق . لأننا نرى أنه إذا أراد إنسان كريم أن يتبنى لنفسه غلاما مطبوعا على الشر والفساد (مثلا) فانه يرسله الى ارقى المدارس والمعاهد ، أو يقدم له أفخر الأطعمة والملابس ، أو يوفر له كل أسباب الراحة والهناء . لكن مهما أوتى هذا الإنسان من حكمة وكرم ، لا يستطيع أن يلد الغلام المذكور مرة ثانية (أو بالحرى لا يستطيع أن يولد فيه ذات النفسية النبيلة التي يتمتع هو بها) ، ولذلك فإن هذا الغلام وإن كان يتثقف ذهنيًا وظاهريًا ، غير أنه يظل كما هو بنفسيته الشريرة التي طبع عليها ، لأن الطبع يغلب التطبع - لكن مالا يستطيع البشر قاطبة أن يعملوه ، قد عمله الله في نفوسنا بولادتها منه.

(۱) تعبيرات مجازية للدلالة على اتحاد نفوسنا بالمسيح اتحادًا وثيقًا.

_____________________________________________

(۱) فالمؤمنون يخلصون من دينونة الخطية بالإيمان ، ويخلصون من سلطة الخطية بالإيمان أيضا ، فهم يبدؤون علاقتهم مع الله بالإيمان ، ويسلكون طوال حياتهم على الأرض بالإيمان . وبذلك يختبرون في نفوسهم قول الوحى " لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة " (فیلبی ۲ : ۱۳) .

_____________________________________________

  • عدد الزيارات: 3

شارك