Skip to main content

رحلتا المجد

صرخة داوية هتكت سكون الروح ، صرخة الإثم تحتضر بنجيعها ، صرخة التائه امام درب النور والحق والحياة.

صرخة اخترقت جدار المحسوس لتدبّج ابجدية الإيمان والتوبة على صفحة الخلود.

 ارحمني اللهم انا الخاطئ 

وانطلق شعاع من قلب الفادي ؛ تنازل الله المحبة ، الله الرحمة ، وبلمسة شافية تغير الخاطيء المسرف بالشر دون هوادة ، والنفس المتشحطة بأوحال الذل ، إلى

مؤمن هدفه صليب وحياته برّ ورجاؤه سعادة الأبد.

ترك سليم الاجتماع تلهب خطواته الطريق ؛ يختلج قلبه غبطة وتصدح موسيقى السماء في حناياه ألحانًا عذابا ، إنه طاهر، انتقل من الموت إلى الحياة من عبودية الخطية الى حرية الروح، من خضم العار الى آفاق السمو ، من ابن للشيطان أثيم ، إلى ابن الله قديس.

وصل البيت ، قرع الباب ، ففاجأه اخوه نبيل معاتباً : " ابتدأت الحفلة وانا اتقلب على نار الانتظار ... هيا بنا " ...

سلیم : " لن ادخل الملهى فيما بعد يا نبيل ، نهجت السبيل الافضل والدرب الامثل والهدف الاسمى ، دعني احيا للرب واخط حروفاً ذهبية خالدة على قدسية التاريخ ، ولدت جديداً .... وامتلكت قوة تدك حصون ابليس وتحطم قيوده ".

خرج نبيل شاتماً : " دعني امتع الطرف بالخمرة وأغوص في إكسيرها ، فهي عبير عطر فيه من الورد اريجه ومن الصنبر ريحه ومن المسك طيبه ومن اقاح الكرمة روحه ومن كوثر الحياة جوهره " .

انقلاب عجيب في حياته ، ثورة جموحة قلبته رأساً على عقب، و لا ارتاد الملهى فيما بعد ؟؟  هل طار صوابه ؟؟ هل فقد وعيه ؟؟ هل أصابه مس من الجنون ؟؟ .

ولج نبيل المرقص مبعث الشر والفساد ، يغوص في اللهو والترف ، تئن روحه تحت هجمات الجسد الشعواء، وترتعش عيناه إزاء سفور الخلاعة البشعة. لكن سليما جاث على ركبتيه، شغوف بعالم الامجاد، يفتر ثغره عن صلوات ساذجة تفتح مصاريع الملكوت وتتصاعد بخوراً مقدساً امام عرش الرب .

 في الثالثة ليلًا ، يدخل نبيل - يستيقظ سليم - حرقة في الفؤاد وكآبة في الروح وتأثر على محيا يسطع نوراً وحباً وايمانًا .

 - نبيل ، اين انت ؟.. تتمرغ في مستنقع آسن ، تطلب الغبطة من عمق الحزن والاباء من حضيض العار ، والسمو من خنوع الذل ؟!.

 حياتك نسيج من رداء الزمن وسينتهي وتخلد نفسك في الظلمة الابدية فانظر البعيد حيث منبر الديان.

دع عنك هذه المهاترات . الوجود فرح والحياة لذة عابرة والروح فناء تندثر في طيات العدم .

و نام نبيل متناسياً انين الضمير وصراخه ، ويقظة الحياة الابدية . ها سليم يلقي النظرة الاخيرة على الطائرة المحلقة وسط جيوش الضباب تشق رحابها ، يودع اخاه….

رجع ترافقه مواكب التأمل ، الرحمة تحيط به ، والقلب يخفق حبـاً واشفاقاً فيصلي :

ايها المسيح فادي الانسانية - ايها السرمدي الذي يدور التاريخ في فلكه وتندثر الأجيال عند قدميه - أيها المحبة الذي فلسف الفداء في مبدأ المجانية ايها الجريح الذي يضمد جراح البشرية - هلا ترسل جذوة عن غفرانك وتلهب قلب نبيل ؟؟ وتبعث شعاع حب وتنير كيانه الداجن ؟

تنطوي الليالي وسليم المتفكر بأخيه ، يروي الثرى دموعاً وينبش الأجواء تضرعاً ويستصرخ عرش النعمة ملحاً.

تتحفّز الآمال في فكر نبيل وقفزة الزمن تسامره وتفاؤل الايام يسره ، انفتاح المستقبل الضاحك يدغدغ خياله ! سيعمل ، ويخلق الفرح والهناء لكنه ما عتم أن رافق شباباً اختاروا الملاهي مقراً ، والحانات منتزها ، يكد نهاراً ويبذل امواله ليلاً . رفيق الطاولة الخضراء ، يعبد الخمرة الحبيبة ويهيم بها ثمولاً . فالحياة كأس خمر وسكرة ولهى ، وشهوة تجوع ....

يدخل المصنع صباحاً منهوك القوى، خائر العزيمة، متهادياً متمتعاً تتصاعد منه رائحة المسكرات . يبدأ عمله وبعد برهة يطويه النعاس وهكذا دواليك حتى عرف المسؤول مسلكه المتهور.

لم تمس الرحمة قلبه ولا حنت احشاؤه على الشاب الذّليل فصارحه بالحقيقة

المؤلمة بطرده من العمل...

وقف نبيل يائساً : يبكي الامل الضائع والحقيقة الواقعة ... يستنكر حكم الدهر الحؤول متناسياً ضعف إرادته واستسلامه لاهوائه الطامعة...

يتخضب مخدع سليم بالدموع، يصرخ الى الرب ليملأه بالروح القدس ليرفع راية الإيمان في مجاهل العالم وينقش خلاصه على قلوب هدّ كيانها ابليس، حطّمها وطوَّح بها ورماها صريعة ارادته ، تتكسَّر آمالها على صخرة الفشل جاءه صوت الرب : اذهب.


 وقف الاخوة على الشاطيء يبعثون نعمة الله مع سليم المبشر ، وبعد عناق اخوي رفعت صلاة شكر للرب ليؤيّده بالقوة العلوية.

صعد سلم الباخرة باسمًا مطمئناً ، تضج طاقات الروح في كوامنه وتزخر أبدية القوة في جوارحه وحيوية الإيمان تسري في عروقه.

 سار هدفه الخدمة ، والنفوس مطمح آماله ، الجلجثة محط رحاله والصليب مرمى آفاقه ، المصلوب مصدر إلهامه ، أغرودة الألم المقدس على شفتيه.

 وداعاً حميمًا كان وغاب سليم عن الأبصار سارت الباخرة فراح يروي على الأمواج والمسافرين قصة المحبة الباذلة ، عجيبة الألم المعطاء ، قصة التضحية والدم مطهر ادران البشرية.

ثم يتراءى طيف أخيه نصب عينيه فيصرخ : نبيل فلذة الدهر الشرودة ، خلجة الروح البائسة ، العوبة الزمن المشؤومة .

على أرض المرفأ استيقظ من غيبوبته فهناك نفوس ترزح تحت ثقل الخطية مستعبدة لنير الشيطان؛ نبذتها الحياة المثلى فباتت حزينة تتأرجح بين الضعف والتلاشي. حفزه روح الرب للجهاد فأخذ يزرع الهضاب نوراً والآكام حقاً والبطاح ايماناً سماوياً ، يكرز وذراع الرب تمده قوة وانمل الفادي يرسم معالم طريقه الدامي.

ها هو عند خاله يتلمس حقيقة نبيل فوقعت كلمات خاله المتلجلجة عليه كالصاعقة، نبيل المولع بالمسكر ، الغارق باللذات القبيحة ترك البيت ولن يعود ..

واحسرتاه على زهرة ذابلة في روعة الربيع قوة محطمة في صراع الفتوة، قلب ذليل في ذخر الانفة.

ارتفع مساءً صوت سليم : ايتها الرحمة اللامتناهية .. ايها الحنان العارم...ايتها المحبة الازلية - حباً بذبيحة الصليب ، مهلاً على نفس تائهة احبتها السماء ورمقتها بشعاع الحب، ارسل قبس الإيمان اليها، ثورة على الباطل اخلق فيها وغير الدوافع الباطنية لتتوب .

في مستشفى قريب يذهب سليم ويسكب بلسم الروح في المرضى ، يحثهم منطلقاً

بهم نحو عرش الألم ، ثم ينعكف على دروب البشارة ، درب الورود اشواكاً…. طريق المجد جهاداً … و طريق التضحية دماً ... طريق يسوع عمق محبة أبدية خلاص .... ويقفل مع الغروب، فيتصور أفول حياة أخيه على أفق الهاوية وشفق الجحيم فيصيح : نبيل أغنيه النار الأبدية …. رقصة العذاب المبرح.

صباح يوم مع اطلالة سحر الربيع وجماله، تثاءبت المدينة على تفتق الفجر. ليل يلملم اهداب وشاحه ، حبال الشمس تسطع على غرفة سليم الجاثي في زاويتها يصعد زفرات الامل وانات الرجاء عند اقدام المصلوب .

بدء نهاره انطلاق نبلة من کنانته يصيب نفوساً واهية تعبى ، يفتر ثغره ايمانًا فيعود ثقل اثمارٍ يانعة.

 يدخل المستشفى ، يتفقد محطمي النفوس تحت السقم المرير، تتقلب حياتهم على أشواك العذاب ويدور تاريخهم على عوامل الخوف ، نبذتهم الحياة ورمتهم فريسة الداء العضال ، يرون الصحة تاجاً صعب المنال.

هنيهة ، يعكر صفو المكان شغب ، اربعة فتيان يحملون شاباً خبّه الدم أثخنته الجراح، تتصاعد انفاسه متقطعة ، يطلق الرمق الأخير.

 يُدخَل غرفة الجراحة ، يهرع الأطباء مرتدين البستهم ، الجريح ينتفض انتفاضة الموت.

يركع سليم ، يستمد قبس نور من مصدر الأنوار ونفحة حياة من واهبها ، يسبغها على المنازع ليلقنه بشارة الخلاص زاداً ، والإيمان رفيقاً في شعوبات الدروب الثانية.

يخرج الأطباء… يقلبون الشفاه … يرتسم خيال الموت على محياهم ....

انه يحتضر ..! يدخل سليم مسرعاً ، ملهوف القلب مترجرج الامل يهتز حزناً على نفس شقية ، يدخل ليسكب في داخلها رسالة الناصري .

فجأة أخذته رعبة قوية ، اضطراب كهربائي يجتاح نفسه الرّاعشة ، موقف صدع عقله المتزن وحس بالصراع المتلظّي في تلك الثواني ..


هو نبيل .. يصارع الموت متخبطاً بدمه ...

نبيل ؟؟ اخي ؟؟ حبيبي !! هذا انت ؟؟

لم يستسلم لليأس، غير منجرف بتيار التأثير العاطفي ؛ واغتنم السويعات القليلات، بل لقن المحشرج فداء الرب يسوع ، بشره بالخلاص.

ومع الأنفاس المحتضرة .. من غمرة الآلام .. أطلق الجريح صيحة مفعمة

رجاء ختمتها شهقة الموت :

" ارحمني انا الخاطئ "


وهكذا بدأ نبيل رحلته الخالدة الى الامجاد السماوية ؛ ويجوب سليم الكون

يحمل مشعل الإيمان ساطعاً على كل تل وجبل ... !

  • عدد الزيارات: 12