رسالة الصليب قوة الصليب
قبلما ارتفع يسوع إلى السماء أرسل تلاميذه واوصاهم برسالة صريحة، كان عليهم أن يكرزوا بموته على الصليب وقيامته بعد ثلاثة أيام ، وبأنه هو الحي المقام من الأموات رباً ومخلصاً.
قد تظهر هذه الحقائق لنا بسيطة وجميلة ! هكذا حمل التلاميذ هذه الرسالة، واكثر من هذا فانهم اعلنوا ان المسيح سوف لا يراه أحد من العالم إلا عند مجيئه ثانية - الوقت المجهول حتى بالنسبة لهم - وكان من الطبيعي أن العالم يزدري برسالة كهذه.
لكن ما يستدعي الغرابة أكثر من هذا أن التلاميذ إطاعة لأمر سيدهم كان عليهم أن يقدموا هذه الرسالة.
فمع أنه هو رب المجد لم يخلص نفسه من ميتة حقيرة على أيدي الرومان ،
ميتة الصليب.
إن هذه الرسالة لم تسدّ مطاليب اليهود الذين سألوا آية ولا مطاليب اليونانيين الذين طلبوا حكمة !
أي نوع من الآيات كان على التلاميذ أن يظهروا لليهود ؟ لم يكن في وسعهم
أن ينزلوا ناراً من السماء كما فعل ايليا. كما لم يسمح لهم أن يدخلوا أيديهم في عبابهم ويخرجوها برصاء كما فعل موسى أو يقذفوا بعصيهم إلى الأرض لتنقلب
الى حيات .
أن الآية الوحيدة التي كان بوسع التلاميذ أن يقدموها كانت آية الصليب.
فاليهود يتذكرون ولا شك قصة حياة قصيرة مليئة بالآلام والتي قضى عليها خارج ابواب اورشليم ، حيث صلب يسوع من الناحية التاريخية ، كمجدّف معلقًا بين لصّين . إنها الآية الوحيدة التي وجب أن يتوقعوها.
أما من الناحية الأخرى فإن اليونانيين كانوا من طلاب المعرفة التي تصل بالإنسان الطبيعي إلى أعلى قمة الكبرياء . ماذا كان بإمكان التلاميذ أن يقدموا لغطارسة وجهابذة هذا العالم ؟ هل يقدمون لهم معلماً لم يؤلف كتاباً ؟ ولم يزر أثينا ولا روما مرة واحدة ؟ بل هو ربيب بيت فقير متواضع ادهش العالم بتعاليمه. ومع كل هذا، فان الاشخاص الذين خاطبهم وشفي مرضاهم قد تنكروا له ورفضوه، وكثيرون منهم كانوا بين الجماعة التي استهزأت به وصرخت قائلة " اصلبه اصلبه" نعم حتى لليونانيين أيضا كان عند التلاميذ رسالة واحدة يقدمونها : مسيحاً مصلوباً قام من الأموات .
لكن يتبادر الى الاذهان سؤال مهم : أين هو الآن يسوع الحي ؟ عندما وعظ الرسول بولس فوق تلة آريوس باغوس عن يسوع المقام ظهر كمهذار ينقل حكايات خرافية. ويغلب الظن أن هذا هو الدافع الكتابة ١كورنثوس ٢٣:١ و ٢٤، " ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوبا لليهود عثرة ولليونانيين جهالة، وأما للمدعوين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله "
مع أن ظاهر هذه الرسالة جهالة وضعف فإنها قوة الله . أما معنى هذه القوة فظاهر في دفاع الرسول بولس في القسم الأول من الرسالة الأولى الى كنيسة كورنثوس إذ يقدم لنا ثلاث حجج تظهر سر القوة في الكنيسة الأولى.
اولاً : إن هذه الرسالة عندها قوة كافية لتهدم حكمة هذا العالم ، اذ انها تعمل بطريقة تختلف كليا عن قوى العالم ؛ نرى أن الإنجيل يتعامل مع الإنسان فيما يختص باساس كيانه وله امكانية تغيير مجرى حياته.
يكتب الرسول بولس بخصوص رسالة الصليب فيقول : " فان كلمة الصليب عند الهالكين جهالة واما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله " (١ كو ۱۸:۱) .
إن الصليب جاء بالإنسان الطبيعي إلى نهاية الموت ، ويسوع أوجد نفسه متحداً مع الإنسان الطبيعي مشتركا معه في اللحم والدم.
وكنائبنا جاء بالخليقة جمعاء إلى الموت موته لأجلنا – واصبح موته في نظر الله موت من جعل خطية - موت بشرية متعدية . أما قيامته فقد أصبحت قيامة انسان جديد في المسيح يسوع .
أما طريقة قبول المسيح هذا فهي بواسطة الاتحاد مع المسيح المرفوض المصلوب؛ أن الحكومة الرومانية لم تجد طريقة للتحقير والاهانة تعبر بها عن شدة القصاص اقوى من طريقة الصلب. ومع كل هذا فإن المسيح لم يختر إلا هذه الطريقة - طريقة الصليب.
ربما لا يوجد رسالة لا تتجاوب معها طبيعة الإنسان المتصلّفة كرسالة الصليب . أن الكبرياء الدينية خجلت من رسالة كهذه. ونحن أبناء القرن العشرين قد زينا الصليب و اظهرناه جميلاً براقاً . حاولنا أن نظهره محترماً للعالم . مع كل هذا فالرّسالة الوحيدة التي تحمل القوة الديناميكية هي الرسالة التي تهدف اخيراً إلى الصليب وحده .
ثانياً : يقدم بولس هذه القوة بقالب آخر إذ يقول: " وأما للمدعوين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله " (١كو ٢٤:١) ، هنا نرى القوة في الإنسان . ان يسوع يأتي ويسكن في قلوب الذين يقبلون هذه الرسالة . إن كنا نقبل يسوع المرفوض ، يحق لنا أن نتذوق قوة المسيح نفسه . قبلما ذهب للصليب كان قوياً ، حتى في لحظات ضعفه كان اقوى من أعظم قوى الإنسان ، فهو قد " تعيّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات " (رو٤:١) .
هكذا نستطيع نحن الأشخاص الضعفاء ، المملوئين بالخوف أن نتذوق قوة قيامته ، مع العلم ، انه لا يوجد قوة قيامة قبل اختبار تلك القوة الغريبة فوق الجلجثة التي تحول كل واحد منا إلى خليقة جديدة في المسيح يسوع ، كما يقول
"هيوجل"، مؤلف كتاب "عظم من عظامه " ، إذ يدعو رسالة المسيح المصلوب (راديوم) الجلجثة ، أنها خفية وبدون صوت لكنها مؤثرة تأثيراً هائلاً . إن رجل الجلجثة هو رجل القيامة ، وهو الذي بيده كل سلطان في السماء وفي الأرض.
أما الطريقة الثالثة التي بها تظهر هي قوة كلمة الصليب ، نراها في هذه الكلمات:
" وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الانسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة" (١کو ٤:٢) .
لقد قدم بولس رسالة الله عن يسوع المسيح وإياه مصلوباً، والروح القدس الذي لم يخجل بهذه الرسالة شهد لها .
يحاول الإنسان أن يلغي هـذه  الرسالة ، او ان يجعلها لائقة وجديرة بالاحترام ؛ لكن هذه المجهودات لا ترضي الله ، اذ ان الله يشهد للرسالة التي تقدم كما اعطاها هو فقط ! فإذا كنا في انسجام مع فكر وطريقة الله وإذا كنا شهوداً أمناء هذه الرسالة فإن الروح القدس سيدعم ويؤيد هذه الرسالة بدلائل قوته وعمله .
إن الرسالة هي الصليب ، والإنسان هو المسيح، والبرهان المقنع هو برهان الروح والقوة . لماذا بشر بولس بهذه الطريقة؟ هنا نجد الجواب في ١ كو٥:٢ إذ يقول " لكي لا يكون إيمانكم بحكمة الناس بل بقوة الله ". إن قوة الله هذه هي قوة كلمة الصليب، قوة المسيح الحي ، قوة تأييد الروح القدس .
عندما يؤمن الناس بواسطة هذه الرسالة ، فهذا يعني أنهم يبنون على أساس راسخ. لماذا ؟ لأن هذه الرسالة هي إعلان مقاصد قلب الله - إنها الرسالة التي تتفق مع كيانه الأزلي ، ليست رسالة اعتباطية وجدها الله مناسبة للاستعمال ، أو أنها بين أفضل الوسائل والأساليب ، بل لا يوجد رسالة أخرى تسد الحاجة ، وتغير قلب وحياة الانسان المتكبر الاناني .
يجب أن نوافق من كل قلوبنا على رسالة الله ، وننصرف عن الحكمة الإنسانية لئلا تتعطل رسالة صليب المسيح وتصبح بدون فاعلية .
فلو فرضنا أن مؤسسة كبيرة ولها فروع في عدة مدن ارسلت احد ممثليها من المركز الرئيسي إلى مدينة لتأسيس فرع لها ، فلا يحق لهذا الشخص المرسل من قبلها أن يمثل مصالحه الخاصة إذا كانت تختلف مع مصالح المؤسسة ، واي اتفاقية مالية أو عقد عمل يعقده هذا الشخص الذي يمثل الشركة يجب أن يكون بحسب مقررات مجلس إدارة المؤسسة . واذا
علمت هذه المؤسسة أن ممثلها يهتم بما يوافقه ويعمل على هواه ولا يتقيد بقوانين ومقرّرات المؤسسة فسوف لا تمده بالمال اللازم ، ثم تضطر أن تسحب منه الصفة الرسمية وتلاحقه قضائياً .
ان هذا التشبيه يطبق على موضوع الكرازة بكلمة الصليب ربوبية المسيح يسوع ، فإن كنا ننحصر بهذه الرسالة بمعناها الكامل فإن الله سيمدّنا برأس المال ، والإمكانيات ؛ وعلى العكس تماماً ، إن كنا نساوم على حق ما هذه الرسالة أو نتحول عنها فيتخلى عن مساعدتنا وتأييدنا بالروح القدس.
وعندما علم بولس هذه الحقيقة أصبح شعاره " لم أعزم أن أعرف شيئًا بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً وانا كنت عندكم في ضعف وخوف ورعدة كثيرة ، وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الانسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة لكي لا يكون إيمانكم بحكمة الناس بل بقوة الله" (١ کو ٢:٢-٥) .
هذه هي الرسالة التي بشر بها بولس ، الرسالة التي أيّدها الله بقوة الروح القدس، الرسالة التي ولدت ايماناً في قلوب الناس مزوداً بالامدادات السماوية، فليتنا نكون مخلصين نحو هذه الرسالة !..
- عدد الزيارات: 12