المصالحة مع الله
ثمرتان شهيتان جادت بهما المصالحة: (2: 17و 18)
-أ-أولاهما: بشرى السلام (2: 17)
-ب-والثانية: فتح طريق تقدمنا إلى الله (2: 18)
عدد 17 :
17فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ الْبَعِيدِينَ وَالْقَرِيبِينَ.
-أ-الثمرة الأولى: بشرى السلام: "فجاء وبشركم بسلام أنتم البعيدين والقريبين". في هذا العدد, جمع بولس بين نبوتين وردتا ضمن نبوات إشعياء, وحاك منهما نسيجاً واحداً لخيمة السلام –ألم يكن هو في صناعته خياميا.ً النبوة الأولى وردت في إشعياء 57: 19 "خالقاً ثمر الشفتين. سلام سلام للبعيد وللقريب. قال الرب وسأشفيه". ووردت الثانية في إشعياء 52: 7 "ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر بالسلام المبشر بالخير, المخبر بالخلاص القائل لصهيون قد ملك إلهك". والظاهر أن الرسول استقى كلمة "بشركم" من كلمات النبوة الأولى –حسبما وردت في الترجمة السبعينية.
(1)حامل البشرى: "فجاء". المسيح –"وبشركم". إن مجيء المسيح للبشرى, لا يشير إلى مجيئه عند التجسد, ولا إلى مدة كرازته على الأرض قبل الصلب, بل يشير إلى بشرى المسيح المقام, والمرفوع, والممجد, التي قام بها بشخصه (يو 20: 19و 20) وبواسطة روحه الأقدس العامل في رسله وأتباعه (2كو 5: 20, أعمال 10: 36, أعمال 3: 36).
(2)موضوع البشرى: "السلام" :وهو يعني هنا, الوئام الداخلي الذي أقيم بين عنصري كنيسته الأولى –اليهود والأمم, وهو يشير أيضاً إلى المصالحة التي تمت بين الله والبشر بدم المصلوب.
(3)أصحاب البشرى: "أنتم البعيدين والقريبين" أما "القريبون" فهم "الإسرائيليون الذين لهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد" (رو 9: 4و 5). أما "البعيدون" فهم "الأمميون الذين كانوا قبلاً أجنبيين عن رعوية إسرائيل" (أفسس 2: 12و 13). وقد ابتدأ الرسول "بالبعيدين" لأن المكتوب إليهم أمميون.
عدد 18 :
18لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى الآبِ.
-ب-الثمرة الثانية: فتح طريق تقدمنا إلى الله "لأن به لنا كلينا قدوماً في روح واحد". ترتسم أمامنا في هذا العدد, صورة شخصين كانا قاصدين قصراً ملكياً, ثم ضرب عدو الخير بينهما بسهم من العداوة والشقاق, فتناحرا, وتنابذا, حتى أوصد دونهما باب القصر الملكي. وإذا بسيد كريم, لقيهما فألفاهما على هذه الحال, فتحنن عليهما, وضحى بأعز ما عنده في سبيل مصالحتهما, فسار وإياهما إلى ذلك القصر الملكي, وإذ وجد الباب موصداً دونهما بسبب عدم استحقاقهما, مسّ ذلك الباب بيده المغموسة بدم تضحيته, فانفتح الباب من تلقاء ذاته, فأدخلهما –واضعاً يد كل منهما في يد أخيه- إلى حضرة الملك العظيم, فقبلهما وجعلهما من أبناء ذلك القصر.
(1)فريقا المصالحة: "كلينا...الآب" –هما اليهود والأمم. وقد تمثلهما الرسول في شخصين, فقال "كلينا". إن ذلك النزاع القديم الذي كان قائماً بين اليهود والأمم, قد مُحى بالصليب فأمحت كل آثاره. في البداية كان اليهودي والأممي أخوين, ثم فرّق بينهما عدو الخير والسلام فجعلهما عدوين, وأخيراً جاء رب السلام فألف بين قلبهما وجعلهما أخوين كما كانا بل أفضل, إذ خلق منهما "جسداً واحداً, وإنساناً واحداً"
هذا من جانب. ومن الجانب الآخر, نرى اليهود والأمم مكوّنين معاً فريقاً واحداً متعادياً مع الله. فكان باب التقدم إلى الله موصداً دون وجوه اليهود والأمم على السواء: "لأن الجميع زاغوا وفسدوا معاً". "فأغلق الكتاب على الكل تحت الخطية".
قبل المصالحة كان اليهودي عدو الأممي, وكان كلاهما عدواً لله ولكن بعد أن تمّت المصالحة, وضع اليهودي يده في يد الأممي, وأصبح كلاهما في عداد بني الله, أيدخل إلى حضرة أبيه بغير استئذان. هذا حق مجيد لا يتمتع به اليهود والأمم ككتلة بل كأفراد. هذه هي حرية امتياز أولاد الله, وامتياز حريتهم: "أنا هو الباب إن دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى" (يوحنا 10: 9). هذا هو التقدم الذي ذكره الرسول في قوله: "لأن به لنا كلينا قدوماً... إلى الآب".
(2)فاعلية المصالحة: "قدوماً" –يستفاد من هذه الكلمة, كما وردت في الأصل, أن المؤمنين –من الأمم واليهود- لم يتمتعوا بحرية التقدم إلى الله إلا بواسطة شفيع كريم, قدمهم إلى الآب, وأن هذه الحرية لا تقوم إلا بدوام فعل وساطة هذا الشفيع العظيم "الذي هو حي في كل حين ليشفع فينا".
وقد وردت هذه الكلمة عينها: "قدوماً" –في الأصل- مرتين أخريين في العهد الجديد (أفسس 3: 12, رومية 5: 2).
(3)وسيط المصالحة: "به... في روح واحد". إن ضمير الهاء "الغائب" في "به" يشير إلى المسيح "الحاضر" في كل مكان وكل زمان, الذي به تمت مصالحة اليهود بالأمم, وأقيم السلام بين اليهود والأمم من جانب, والله من الجانب الآخر. ولقد أتم المسيح هذه المصالحة بصليبه. وبعد صعوده أرسل روحه القدوس إلى كنيسته ليستقر فيها ويبشر بهذا السلام بواسطة رسله القديسين. هذا هو الروح القدس المقصود بقول الرسول: "في روح واحد" ومن الملاحظ, أن العبارة: "في روح واحد" جاءت مقابلة لقول الرسول: "في جسد واحد" (عدد 16). فهذا الجسد الواحد الذي هو كنيسة المسيح الواحدة مفعم حياة بالروح الواحد, لأن المسيح وجدنا كلنا عظاماً مبعثرة كتلك التي رآها حزقيال, فنفخ فينا من روحه. فلبس الروح عظامنا فتقاربنا من بعضنا البعض, وصرنا كلنا جسداً روحياً واحداً (2كو 13: 14, 1بط 1: 2, يهوذا 20و 21). وقد جاءت كلمة "واحد" بعد "روح" مقابلة لكلمة "كلينا". فإذاً قد صار الفريقان ذاتاً واحدة, وإنساناً واحداً.
(4)مآل المصالحة: "إلى الآب". مع أن لتقريب اليهودي من الأممي مكاناً ممتازاً في برنامج الفداء, إلا أن تقارب اليهودي من الأممي يعتبر عملاً ابتدائياً بالقياس إلى تقرّب الناس من الله –هذا هو المآل النهائي للمصالحة: "إلى الآب".
إن هذه الكلمة القدسية الجليلة "الآب" تصف صلة الله, الأقنوم الأول في اللاهوت, بالمسيح الابن- الأقنوم الثاني في اللاهوت. لاحظ أن الثالوث الأقدس ذُكر في هذا العدد: -"به"- الأقنوم الثاني. روح "واحد" –الأقنوم الثالث. "الآب" الأقنوم الأول.
فما أجل هذه الصلة القدسية وما أعمقها. فقد تاهت عنها كل تخيلات أساطير الأقدمين, وقصرت عنها حكمة المتقدمين والمتأخرين. إذ كانوا ينظرون إلى الله نظرة المتهم المجرم إلى قاض عادل. واقف له بالمرصاد وعلى فمه النطق بالإعدام. أو كمهندس عظيم خلق آلة الكون, ثم تركها واستوى على عرشه ليراقب سيرها عن كثب.إلى أن جاء المسيح, فكشف لنا نحن الأطفال عن هذا السر الدفين الذي ظل مخفي عن الحكماء والفهماء نعم عرف اليهود قديماً شيئاً عن هذه النسبة الجليلة في كتابات الزابوري إلا أنهم عرفوا الله أباً للأمة كمجموع. ولكن المسيح وحده هو الذي أعلمني أنا الإنسان الترابي الساقط إني ابن لهذا الإله الأعظم.
غير أن بنوة المسيح لله غير بنوة البشر له تعالى, بدليل قوله: "أبي وأبيكم" (يو 20: 17), وكان في إمكانه أن يقول "أبينا", لو كانت هذه البنوة واحدة. فهي تختلف عنها في النوع وفي الرتبة.
ولكن مالنا من نصيب في هذه النسبة الجليلة, يكفينا ويفضل عنا, ويزيد!!
- عدد الزيارات: 5157