Skip to main content

الفَصلُ الثامِن رَسائِلُ بُطرُس – ثلاثَةٌ من بُطرُس

في العهدِ الجديد، نلتَقي بثلاثَةِ أوجُهٍ مُختَلِفة لبُطرُس. هُناكَ بطرُس الذي نَلتَقيهِ في الأناجيل؛ وبطرُس الذي نَلتَقيهِ في سفرِ الأعمال، وهُناكَ بطرُس الذي نَلتَقيهِ في رسالتَيه. في الأناجيل، يقُولُ بطرُس، "سمعان، سِمعان! هُوّذا الشيطانُ قد طلَبَكُم لَكَي يُغربِلَكُم. ولكنِّي صَلَّيتُ من أجلِكَ لِكَي لا يفنَى إيمانُكَ؛ وأنتَ متى رجعتَ، ثَبِّت إخوتَكَ." (لُوقا 22: 31- 34).

يُعتَبَرُ هذا المقطَعُ الذي يذكُرُ الحوار بينَ يسُوع وبطرُس لُغزاً، بسبب كلمة "رجعتَ"، ويُثيرُ المقطَعُ سُؤالَين: ما هُوَ الرُّجُوع، ومتى رجعَ بطرُس؟

يَعني الرُّجُوع: "أن يكُونَ لدينا تحوُّلاً أو إنقِلاباً كامِلاً." فالرُّجوعُ أو التجديدُ لا يعني أن ننضَمَّ إلى كنيسةٍ أو أن نعتَمِدَ. الرُّجُوعُ هُو أن ننقَلِبَ رأساً على عَقِب. فبعدَ أن أنكَرَ بطرُسُ يسُوعَ، خرجَ إلى خارج وبكى بُكاءً مُرَّاً. تعلَّمَ أنَّهُ لا أحد بدُونِ المسيح.

بعدَ القِيامَة، ظهَرَ يسُوعُ لبُطرُس. كانَ هذا عندما سألَ يسُوع، "هل تُحِبُّني أكثَر من هَؤُلاء؟" سبعَةٌ من الرِّجالِ الذين كانُوا حاضرينَ في العُلِّيَّة عندما إفتَخَرَ بطرُس أنَّهُم قد يُنكِرُونَ يسُوعَ أمَّا هُوَ فلا، كانُوا حاضِرينَ عندما سألَ يسُوعُ بطرُسَ، "أَتُحِبُّني أكثَر من هَؤُلاء؟" إستَخدَمَ يسُوعُ الكلمة اليُونانِيَّة "آغابِّي" التي تعني ذلكَ الإلتِزام الكامِل من المحبَّة.

أجابَ بطرُس بالإيجاب، مُستَخدِماً الكلمة اليُونانِيَّة "فيلِيُو" التي كانَ يقُولُ من خلالها، "أنتَ تعلَمُ أنَّ محبَّتي لكَ ترقَى فقط إلى مُستَوى المحبَّة." إنَّ بطرُس لم يعُدْ يفتَخِرُ الآن، لأنَّهُ أصبَحَ مكسُوراً. فأجابَهُ يسُوع، "إرعَ غَنَمي، يا بطرُس!" الذي يقُولُهُ يسُوعُ هُوَ، "أُريدُ شخصاً مثلَكَ، يعرِفُ ماذا يعني الفَشَل في رِعايَةِ غَنَمِي."

ثُمَّ سألَهُ الرَّبُّ، "يا بطرُس، أتُحِبُّني؟" ليسَ أكثَر من هؤُلاء، بل مُجرَّد سُؤال: أَتُحِبُّني؟ هُنا إستخدَمَ يسُوعُ مُجدَّداً كلمة "آغابِّي." أجابَ بطرُس، "أنتَ تعرِفُ الجواب. أنتَ تعرِفُ أنَّ محبَّتي لكَ هي مُجَرَّدُ محبَّة فيليُو." فقالَ الرَّبُّ، "إرعَ غَنَمي، يا بطرُس." ثُمَّ قالَ يسُوعُ ثانِيَةً، "أُريدُ شخصاً يعرِفُ ماذا يعني الفشَلُ كراعٍ لِخِرافِي."

في المرَّةِ الثالِثة، إستَخدَمَ الربُّ كلمة "فيلِيُو." بكلماتٍ أُخرى، "يا بُطرُس، هل أنتَ تُحِبُّني محبَّةَ الأصدِقاء؟" في هذا المرحلة كانت رُوحُ بطرُس مكسُورَةً فقال، "أنتَ تعرِفُ يا رَبُّ أنَّني أُحِبُّكَ على الأقلّ كصديق." قالَ لهُ الرَّبُّ مُجدَّداً، "إرعَ غنمي يا بُطرُس!" عندما ظهَرَ يسُوعُ لبُطرُس بعدَ القِيامَة وأقنَعَهُ أنَّهُ رُغمَ فشَلِهِ، ولكنَّهُ كانَ مُؤهَّلاً ليرعى ويُغذِّي غنمَ يسُوع، تعلَّمَ عندَها بطرُس أنَّهُ كانَ أحداً ذا قيمَة.

في سفرِ الأعمال، إكتَشَفَ بطرُسُ والعالَمُ أجمَع ماذا يُمكِنُ أن يعمَلَهُ اللهُ معَ أحدٍ تعلَّمَ أنَّهُ لا أحد. فلماذا إستخدَمَ الرُّوحُ القدُسُ بُطرُسَ يومَ الخَمسين؟ لأنَّ بطرُس عرفَ هذه الأسرار الرُّوحِيَّة الأربَعة، أفضَلَ من كُلِّ شخصٍ آخر كانَ حاضِراً:

"لستُ أنا المُهِم، بَل الرَّبُّ هُوَ المُهِم، وأنا فيهِ وهُوَ فيَّ." "أنا لا أستطيعُ ولكنَّهُ هُوَ يستطيعُ، وأنا فيهِ وهُوَ فيَّ." "أنا لا أُريدُ، ولكنَّهُ هُوَ يُريدُ، وأنا فيهِ وهُوَ فيَّ." "أنا لم أفعَلْ بَل هُوَ الذي فعل، وأنا كُنتُ فيهِ وهُوَ كانَ فيَّ."

لدينا ثلاثَةُ أوجُهٍ مُختَلِفَةٍ عن بطرُس في العهدِ الجديد. إنَّ الحياةَ الرُّوحيَّة لبطرُس الذي نجدُهُ في الأناجيل، مملووءَةٌ بالتقلُّبات، ولكن بطرُس الذي نلتَقي بهِ في سفر الأعمال هُوَ مُختَلِفٌ تماماً. فبُطرُس هُنا أصبَحَ شخصاً مُستَقِرَّاً ثابِتاً. بعدَ يوم الخمسين، لا يبدو على بطرُس أنَّهُ كانت لديهِ مراحِلُ إنحطاطٍ أو تقلُّب.

لقد قُلتُ كُلَّ ما سبقَ لأقُولَ التالي: عندما تقرَأُونَ رسائِلَ بطرُس، تلتَقُونَ بِوجهٍ ثالِث لبُطرُس. هذا هُوَ بطرُس الشيخ. لقد عرفَ بطرُس أنَّهُ لا أحد، وعرفَ ما يُمكِنُ أن يعمَلَهُ اللهُ من خِلالِ شخصٍ يعرِفُ أنَّهُ لا أحد لوقتٍ طويلٍ جداً. كانَ قد أصبَحَ راعِياً طاعِناً في السِّنّ عندما كتبَ هاتَينِ الرِّسالَتين.

لقد كتبَ بطرُس لأتباعِ المسيح من أصلٍ يهُودِيٍّ، الذين كانُوا مُشتَّتِينَ في أرجاءِ آسيا الصُّغرى، أي ما يُسمَّى اليوم بتُركيَّا. لقد تشتَّتُوا من جرَّاءِ الإضطِّهاد. كانَ بطرُس في رُوما. عندما أشارَ إلى بابِل، كان يقصُدُ بها رُوما. ولقد كانَ بطرُس يعرِفُ أنَّ الإضطِّهاد في رُوما يتفاقَمُ، وسينتَشِرُ ليَعُمَّ المُقاطعات حيثُ كان أتباعُ المسيح من اليهود مُشتَّتِين. إنَّ السبب الأساسي الذي من أجلِهِ كتبَ بطرُس رسالتَهُ، هو أنَّهُ كَراعٍ، أرادَ أن يُعزِّيَ ويُشجِّعَ هؤلاء المُؤمنين في آلامِهم. يبدو أنَّ هذا كانَ تشديدهُ الأساسِيّ لهاتَينِ الرِّسالَتين.

قبلَ أن تقرَأَ رِسالَتي بطرُس، أودُّ أن أُشارِكَ معكَ فكرَةً أُخرى. فبُطرُس لم يكُن يُحسِنُ القِراءَةَ والكِتابَة. لهذا كانَ عليهِ أن يقُولَ لنا في نهايَةِ إحدى هاتَينِ الرِّسالتَين: "بِيَدِ سِلوانُس الأخ الأمين كما أظُنُّ كَتَبتُ إليكُم بكلماتٍ قَليلَة." (1بطرُس 5: 12).

بينما تقرَأُ رِسالَتي بطرُس، لن تَجِدَ حُجَّةً أو موضُوعاً عقائِديَّاً مُنظَّماً. فتِّشْ عن بعضِ الشَّذَرَات الروحيَّة الجميلة والعميقة والتعبُّدِيَّة، عن الحقِّ الذي يُواجِهُ حقيقَةَ معرِفَةِ الله ويسُوع المسيح. أحياناً يقفِزُ بطرُس من مَوضُوعٍ إلى آخر، وأحياناً يُشارِكُ حقائِقَ رُوحيَّة يصعُبُ فهمُها جداً.

مثلاً: يتكلَّمُ بطرُس عن أنَّ يسُوعَ كرزَ للأرواحِ التي في السِّجن. قالَ مارتِن لُوثر، "لا أحد يعرِفُ ماذا يعني هذا المقطَع." بعدَ كتابَةِ هذا المقطع الصعب، يُغَيِّرُ بطرُس فجأَةً الموضُوع ويتكلَّم عن نُوح والطُّوفان. ثُمَّ يقُودُهُ هذا للحَديثِ عن موضُوع المَعمُوديَّة. ويُشارِكُ معنا أفكارَهُ المُوحى بها عن المعمُوديَّة. تذكَّرُوا أنَّ بطرُس لم يكُن يكتُب بيدِهِ، بل كانَ يُشارِكُ بما في قَلبِهِ.

إنَّ يُوحنَّا هُوَ رَسُولُ المحبَّة. وبُولُس هُوَ رَسُولُ الإيمان. أمَّا بطرُس فهُوَ رَسُولُ الرَّجاء. إنَّ رِسالتَي بطرُس تُعطِيانِ الرَّجاء للذينَ يتألَّمُون.

إنَّ بطرُس الذي نلتَقي بهِ في الأناجيل كانَ لَرُبَّما شخصاً غَيرَ مُتَدَيِّنٍ عندما إلتقى بيسُوع. ولم تكُن كلمة "ثَمين" تنتَمي إلى قامُوس الكلمات التي يستَخدِمُها بُطرُس في تِلكَ المرحلَة من حَياتِه. إن كلمة "ثَمين" هي كَلِمَةٌ يستَخدِمُها رَجُلٌ عجُوزٌ. إن بُطرُس الذي نلتَقي بهِ في رِسالَتَيهِ هُوَ الراعي العجوز بطرُس، الذي أصبَحَ اللهُ ثميناً بالنسبَةِ لهُ، وكلمةُ اللهِ ثمينةً، والخلاصُ ثميناً، وشعبُ اللهِ ثميناً.

  • عدد الزيارات: 3421