Skip to main content

الفصلُ الثالِث "الكِرازَةُ بالإنجيل"

(1كُورنثُوس 1: 18- 2: 5)

لو فهِمَ مُستَلِمُو هذه الرِّسالة وطبَّقُوا ما كتبَهُ لهُم بُولُس في هذه الأعداد التي سبقَ ونظرنا إليها (1: 10- 17)، لما تحلَّقُوا حَولَ قادَتِهم، ولما كانت بينهم إنشقاقات.

في العدد 18 يشرحُ بُولُس ما هي كرازَةُ الصليب، وكيفَ يتجاوَبُ الناسُ معَ هذه الرِّسالة: "فإنَّ كَلِمَةَ الصليب عندَ الهالِكِينَ جهالَة وأمَّا عندَنا نحنُ المُخَلَّصِين فهِيَ قُوَّةُ الله." عندما قالَ بُولُس أنَّهُ جاءَ إلى كُورنثُوس ليكرِزَ بالإنجيل، الكلمة التي إستخدَمها للكرازة تعني أنَّهُ جاءَ وأعلنَ الإنجيلَ ببساطَةٍ، كما يُبوِّقُ الحارِسُ المَلَكي ليُعلِنَ مرسُوماً مَلَكيَّاً.

عندما يُعلِنُ بُولُس أنَّهُ صَمَّمَ أن لا يعرِفَ بينَهم إلا يسُوعَ المسيح وإيَّاهُ مَصلُوباً، تُساعِدُنا الخلفِيَّةُ التاريخيَّة التي نتعلَّمُها من سفرِ الأعمال لكَي نُقدِّرَ قيمةَ هذه الكلمات التي نطقَ بها بُولُس للكُورنثوسيِّين. الإصحاحُ السابِع عشر من سفرِ الأعمال يَصِفُ إختبارَاً إجتازَهُ بُولُس في أثينا، الذي أثَّرَ بعُمقٍ على خدمتِهِ في كُورنثُوس.

فعندما كانَ في أثينا، دُعِيَ ليَعِظَ في الأريُوباغُوس، وهوَ مكانٌ شَهير ذُو رونَقٍ ثقافِيٍّ فكريٍّ عريق، يُطِلُّ على أثينا، وكانَ يُدعى إليهِ المُفكِّرُونَ والسِّياسِيُّونَ والخُطباء المشهُورون، ليتجادَلُوا حولَ القضايا الفَلسَفِيَّة الهامة في تلكَ الأيَّام، أو لكي يُعلِّمُوا هُناك.

يعتَقِدُ بعضُ المُفسِّرين أنَّ بُولُس إستَسلمَ للضُّغُوطات الحضاريَّة في ذلكَ المكان، وللتشديد على الفلسفة والمجادلات الفكريَّة. فألقى عظةً عظيمةً هُناك على تَلَّةِ مارس، آخِذاً نصَّهُ الذي وعظَ منهُ من قولٍ مكتُوبٍ تحتَ أحدِ تماثيلهم، وخاتِماً عظتَهُ بإقتباسٍ من الفلاسفة والشُّعراء اليُونان. كانت العظةُ رائعةً، أمَّا النتائِجُ فهزيلَة. فلا نجد رسالَةً من بُولُس للأثينيِّين، ونجدُ أنَّهُ لم يُؤسِّس كنيسةً هُناك. قَليلُونَ فقط تجاوَبُوا معَ عظتِهِ العقلانيَّة.

إنتَقَلَ بُولُس إلى كُورنثُوس مُباشَرةً بعدَ هذا الإختِبار في أثينا: "لا تَخَفْ بل تكلَّمْ ولا تسكُتْ. لأنِّي معكَ ولا يَقَعُ بكَ أحَدٌ لِيُؤذِيَكَ. لأنَّ لي شعباً كثيراً في هذه المَدينة." (أعمال 18: 9- 10) وعظَ بُولُس بالإنجيل في كُورنثُوس لمُدَّةِ سنَةٍ ونِصف.

إقرأْ ما كتبَهُ بُولُس للكُورنثُوسيِّين عن وعظِهِ بالإنجيل في كُورنثُوس، آخِذاً بعينِ الإعتِبار الإطارَ التاريخيّ الذي نتعلَّمُهُ من سفرِ أعمالِ الرُّسُل عن خدمةِ بُولُس في كُورنثُوس (أعمال 17- 18). في كُورنثُوس، لم يستَخدِمْ بُولُس أقوالاً منقُوشَة على الأصنام كَنَصٍّ يعِظُ منهُ. ولم يقتَبِس من فلاسفةِ اليُونان وشُعرائِها. بل أعلنَ ببساطة حقيقَتين عن يسُوع المسيح. لقد كرزَ بالإنجيل. لم يُجادِل بالإنجيل ولم يُدافِعْ عنهُ. بل إكتَفى بمُجرَّدِ إعلانِهِ (1كُورنثُوس 2: 1- 5).

ختَمَ هذه الرِّسالة بإعلانٍ للإنجيل وكيفَ كرزَ بهِ في كُورنثُوس (15: 1- 4). آمنَ بُولُس أنَّهُ عندما كرزَ بالإنجيل – أنَّ المسيحَ ماتَ من أجلِ خطايانا وقامَ من الموت بحَسَبِ الكُتُب– كانَ الرُّوحَ القُدُسَ سيُعطِي هِبَةَ الإيمان لبعضِ الذين سمِعُوا الإنجيل. أُولئكَ الذين آمنُوا كانُوا الذينَ قصدَهُم اللهُ عندما قالَ لبُولُس أنَّ لهُ شعباً كثيراً في كُورنثُوس.


لماذا يُؤمِنُ البَعضُ؟

لماذا يُؤمِنُ البعضُ فقط بالإنجيل عندما يُكرَزُ بهِ، والبعضُ الآخرُ لا يُؤمِنُونَ؟ ليس أنَّ الذين يُؤمِنُونَ هُم أغبِياء والذين لا يُؤمِنُونَ هُم أذكِياء. وليسَ لأنَّ الذين يُؤمِنُونَ هُم أذكِياء والذين لا يُؤمنُونَ هُم أغبِياء. يُخبِرُنا بُولُس أنَّ الإيمانَ هُوَ عَطِيَّةٌ أو هِبَةٌ يمنَحُها الرُّوحُ القُدُسُ للذين يُؤمنُونَ عندما يسمَعُونَ الكِرازَة بالإنجيل. فالرُّوحُ القُدُسُ يُحَرِّكُ هؤلاء ليعرِفُوا أنَّ ما يسمَعُونَهُ هُوَ حقيقيٌّ. فهُم يُؤمِنُونَ لأنَّهُم مُنِحُوا عَطيَّةَ الإيمان (أفسُس 2: 8؛ وفيلبِّي 1: 29).

في العدد 19 يقتَبِسُ بُولُس من النَّبِيِّ إشعياء: "أُبيدُ حكمَةَ الحُكماء وأُخفي فهمَ الفُهماء." (إشعياء 29: 14) في العدد 19 من الإصحاحِ الثالِث، يقتَبِسُ بُولُس من سفرِ أيُّوب: "الآخِذُ الحُكماءَ بحيلتِهم فتَتَهوَّرُ مَشُورَةُ الماكِرين." (أيُّوب 5: 13) كانَ اللهُ يتنبَّأُ من خلالِ إشعياء بأنَّ فكرَ الإنسان سيُسبِّبُ خرابَهُ. وكدليلٍ على تحقُّقِ هذه النُّبُوَّة، يسألُ بُولُس، "أينَ الحكيمُ؟ أينَ الكاتِبُ؟ أينَ مُباحِثُ هذا الدَّهر؟ ألم يُجَهِّلِ اللهُ حكمةَ هذا العالم؟ (1: 20) بدأَ اللهُ حوارَهُ معَ الإنسان بِسُؤالِهِ، "أينَ أنت؟" ثُمَّ سألَ قايين، "أينَ أخُوكَ؟" وفيما بعد، سألَ اللهُ إبراهِيم، "أينَ زَوجَتُكَ؟" والسؤالُ هُنا هُوَ "أينَ الحَكيمٌ؟" والمقصُودُ بهذا السؤال هُوَ، "أينَ الإنسانُ الحَكيمُ رُوحيَّاً؟"

لماذا تُعتَبَرُ حِكمَةُ هذا العالم جهالةً عندَ الله؟ أجابَ بُولُس "العالَمُ لم يعرِفِ اللهَ بالحكمة." (1: 21) اللهُ يعلَمُ أنَّ الحكمَةَ تبدَأُ بِخَوفِ ومعرِفَة الله خالِقنا. (أمثال 9: 10)

لخَّصَ بُولُس الطريقة التي بها يقتَرِبُ اليَهودُ من الله عندما قالَ، "اليَهودُ يطلُبُونَ آيَةً." وفسَّرَ الطريقَة التي بها كانَ أهلُ كُورنثُوس يقتَرِبُونَ من الله، أو غَيرِهِ، عندما قالَ، "واليُونانِيُّونَ يطلُبُونَ حكمَةً." لهذا يُعتَبَرُ الإعلانُ البَسيط لإنجيل يسُوع المسيح المَصلُوب، عثرَةً لليَهود. هذا لا يُعطيهم آيَةً أكبَرُ من الآيَة التي ينالُها كُلُّ واحِدٍ عندما يسمَعُ الإنجيل.

يظُنُّ اليونانِيُّونَ أنَّ الإنجيلَ "جهالَة"، لأنَّهُ لا يتوجَّبُ عليكَ أن تكُونَ مُفكِّراً أو عالِماً لتفهمَ الإنجيل. ولكن بالنِّسبَةِ للأشخاص المَدعُوِّين – بِغَضِّ النظَر عمَّا إذا كانُوا يهوداً أم يُونانِيِّين – فإنَّ الوعظَ بإنجيلِ المسيح المَصلوب هُوَ حكمَةُ الله وقُوَّةُ الله، وهُوَ الذي يُنجِزُ مُعجِزَةَ الخلاص في حياتِهم عندما يسمَعُونَ ويُؤمِنُون.

  • عدد الزيارات: 6564