Skip to main content

خِدْمَةُ الرُّوْحِ القُدُسِ الثُّلاثِيَّةُ الأَوْجُه

مع وصولنا الى هذه الأعدادِ منَ الإصحاح السادس عشر وإنهاء هذا الإنسحاب الأخير الذي قام به يسوع، والذي نسمّيه عظة العُلِّيَّة، نقرأ ما قاله يسوع لهؤُلاءِ الرِّجال: "وَأَمَّاْ الآنَ فَأَنَاْ مَاْضٍ الى الذِيْ أَرْسَلَنِيْ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَسْأَلُنِيْ الى أَيْنَ تَمْضِيْ. لَكْنْ لأَنِّيْ قُلْتُ لَكُمْ هَذَاْ قَدْ مَلأَ الحُزْنُ قُلُوْبَكُمْ. لَكِنِّيْ أَقُوْلُ لَكُمُ الحَقَّ إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ. لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لا يَأْتِيْكُمُ المُعَزِّيْ. وَلَكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ. وَمَتَىْ جَاْءَ ذَاْكَ يُبَكِّتُ العَاْلَمَ عَلَىْ خَطِيَّةٍ وَعَلَىْ بِرٍّ وَعَلَىْ دَيْنُوْنَةٍ. أَمَّاْ فَعَلَىْ خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُوْنَ بِيْ. وَأَمَّاْ عَلَىْ بِرٍّ فَلأَنِّيْ ذَاْهِبٌ الى أَبِيْ وَلا تَرَوْنَنِيْ أَيْضاً. وَأَمَّاْ عَلَىْ دَيْنُوْنَةٍ فَلأَنَّ رَئِيْسَ هَذَاْ العَاْلَمِ قَدْ دِيْنَ.

"إِنَّ لِيْ أُمُوْراً كَثِيْرَةً أَيْضاً لأَقُوْلَ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تَسْتَطِيْعُوْنَ أَنْ تَحْتَمِلُوْا الآنَ. وَأَمَّاْ مَتَىْ جَاْءَ ذَاْكَ رُوْحُ الحَقِّ فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ الى جَمِيْعِ الحَقِّ لأَنَّهُ لا يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ كُلُّ مَاْ يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُوْرٍ آتِيَةٍ. ذَاْكَ يُمَجِّدُنِيْ لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّاْ لِيْ وَيُخْبِرُكُمْ. كُلُّ مَاْ لِلآبِ هُوَ لِيْ. لِهَذَاْ قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّاْ لِيْ وَيُخْبِرُكُمْ. بَعْدَ قَلِيْلٍ لا تُبْصِرُوْنِيْ. ثُمَّ بَعْدَ قَلِيْلٍ أَيْضَاً تَرَوْنَنِيْ." (يُوحَنَّا 16: 5- 16)

لقد أُصِيبَ الرُّسُلُ بالحُزنِ، لأنَّ يسُوعَ أوضَحَ لهُم أنَّهُم كانُوا على وشكِ فُقدانِهِ. ولكن في هذا الإطار، نَجِدُ واحِداً من أعظَمِ تصريحاتِهِ عنِ الرُّوحِ القُدُس. "خَيرٌ لكُم أن أنطَلِق. لأنَّهُ إن لم أنطَلِقْ لا يأتِيكُمُ المُعَزِّي." (16: 7) طريقَةٌ أُخرى للتَّعبِيرِ عن هذا المَفهُوم هي: "الحقَّ أقُولُ لكُم إنَّهُ من أجلِ خَيرِكُم أنا أمضِي بعيداً، لأنَّني إن لم أمضِ بعيداً، لن يأتِيَكُم المُعَزِّي. ولكن إن مَضَيتُ، سأُرسِلُهُ إليكُم."

هل سبقَ وفكَّرتُم بشخصِيَّةِ يسُوع التَّارِيخيَّة الجذَّابَة والساحِرة بمواهِبِهِ، وماذا كانَ يعني أن يَكُونَ الإنسانُ معَ يسُوع عندما كانَ معَ تلاميذِهِ بالجَسَد؟ وهل سبقَ وفكَّرتُم قائِلينَ في أنفُسِكُم، "كُنتُ أتمنَّى لو أنَّني كُنتُ مع يسُوع"؟ أُحِبُّ أن أتأمَّلَ بشَكلِهِ الجَسَدِيّ. بإمكانِنا تجميعَ بعضِ المُلاحَظات عن شَكلِهِ، عندما نَجِدُ في هذه الأناجيل وفي الأنبِياء، وأن نُكَوِّنَ صُورَةً تجريبيَّةً عن شكلِ يسُوع الجسديّ المَنظُور.

نعلَمُ أنَّ يسُوعَ الذي نتعرَّفُ عليهِ في الأناجيل هُوَ رَجُلٌ في الثَّالِثَةِ والثَّلاثِين منَ العُمر. ويُمكِنُ تعريفُهُ بِبَساطة بأنَّهُ يَهُودِيّ. يُخبِرُنا الأنبِياءُ أنَّهُ سَيَكُونُ رَجُلَ أوجاعٍ ومُختَبِرُ الحزن. ويَقُولُونَ أيضاً أنَّ "منظَرَهُ كانَ مُفسَداً أكثَرَ منَ الرَّجُل، وصُورَتُهُ أكثَر من بَني آدم." (إشعياء 52: 14). المُؤَرِّخُ اليَهُودِيُّ يُوسيفُوس كتبَ يَقُولُ أنَّ يسُوعَ كانَ أطوَلَ قامَةً من صَيَّادِي السَّمَك الطَّويلي القَامة أمثال بُطرُس، الذين مَشَوا معَهُ لأكثَرِ من ثلاثِ سنواتٍ، لأنَّهُ كانَ يُمكِنُ أن يُرى يسُوعُ فوقَهُم جميعاً لأنَّهُ كانَ أطولَ قامَةً منهُم.

نتعجَّبُ نَوعاً ما عندَما نقرَأُ أنَّ مظهَرَهُ كانَ بِشَكلِ رَجُلٍ سَعيد. لقد إنتُقِدَ يسُوعُ لكَونِهِ يأكُلُ ويشرَبُ معَ العَشَّارينَ والخُطاة. فالمَظهَرُ الخارِجيُّ كثيراً ما يَدُلُّ على شَخصِيَّةِ الإنسان. لدَيَّ صُورَةٌ ليسُوع الشَّاب مُعَلَّقَةً على جِدارِ مكتَبِي، بوجهٍ ضاحِكٍ بَسَّام. وعُنوانُ الصُّورَةِ المُدَوَّنُ أسفَلَها يَقُولُ: "يسُوعُ الضَّاحِك."

هذه الصُّورَة تصدِمُ الكثيرِين منَ الذينَ يَرونَها. فكثيرُونَ يُصَوَّرُونَ يسُوعَ مُسِنَّاً أكثَرَ جدَّاً مِمَّا كانَ بالفِعل، فيُصَوَّرُونَ شخصاً حزيناً مُتَجَهِّماً، يبدُو وكأنَّ ثِقلَ العالَمِ قد أُلقِيَ على عاتِقَيه. يطرَحُ كِتابٌ عُنوانُهُ "يشُوَاع" السُّؤال، "كيفَ كانَ سيَكُونُ شَكلُ يسُوع لو عاشَ بينَنا اليوم؟" النُّقطَةُ التي شدَّدَ عليها المُؤلِّفُ هي أنَّنا سنتعجَّبُ كثيراً بسببِ التَّحيُّز المُسبَق الذي نحمِلُهُ في عُقُولِنا حيالَ كيفَ نَرَى يسُوع.

ولكنَّ كَلِمات يسُوع الأخيرة لهؤلاء الإثنَي عشَر تَقُولُ لهُم أنَّ هُناكَ ما هُوَ أفضَل من أن يَكُونُوا معَهُ، لأنَّهُم رافَقُوهُ وكانُوا معَهُ لثلاثِ سنواتٍ. فقالَ لهُم ولنا ما جَوهَرُ معناهُ: "من أجلِ خَيرِكُم؛ خيرٌ لكُم أن أترُكَ جَسَدِي وأرجِعَ إليكُم بِشَخصِ المُعَزِّي."

عندما عاشَ يسُوعُ بالجَسَد، تخلَّى يسوع بإرادته عن بعض الأوصاف الإلهيّة التي كان يتمتّع بها، مثل الوجود الكلّي. كانَ يمكنه أن يكون في مكانٍ واحدٍ في آنٍ واحدٍ. لكن بعد حدوث هذا التغيير، وذلك لمصلحة التلاميذ والكنيسة، يمكنه أن يكون في كلّ مكانٍ يتواجد فيه مؤمنٌ ما، وفي كلِّ أنحاء العالم في الوقت عينه. وهذا ما يقصده هنا يسوع. فهو يقصد ما يلي: "إن لم أنطلق ولم أتخلَّ عن شكل هذا الجسد، لا يمكن أن يأتيَ المعزّي إليكم. لكن إذا تخلّيتُ عن هذا الجسد، سأرسله إليكم وهذا أفضل لكم. إنَّهُ من أجلِ خَيرِكُم. إنَّهُ خَيرٌ لكُم أن أنطَلِق لأنَّهُ إن لم أنطَلِق لا يأتيكُم المُعَزِّي". (يُو 16: 7)

وقد شرح يسوع لِمَ ذلك خيرٌ لنا: "وَمَتَىْ جَاْءَ ذَاْكَ يُبَكِّتُ العَاْلَمَ عَلَىْ خَطِيَّةٍ". (8) وثمّة ترجمة أوضَح تَقُول: "سوف يفضَحُ ذَنبَ العالم". فالذَّنبُ ليسَ دائماً إختباراً عاطِفيَّاً سَلبِيَّاً. ثمّة معنًى يكون فيه الذَّنبُ جيّداً. فإن كان لدى شخصٍ شُعُورٌ بالذَّنب، فأوّل أمرٍ تعرفونه حول ذلك الشخص هو أنّه يتمتّع بسلامة العقل. فلِكَي يشعُرَ الشَّخصُ بالذَّنب – أي أنَّ لدَيهِ مُطلقاتٌ أخلاقِيَّة – فهذا يعني أنَّهُ يُؤمِنُ بأنَّ بعضَ الأُمُورِ هي صحيحة تماماً، والبَعضُ الآخر هي خَطأ تماماً. الإنسانُ الذي لا يشعُرُ بالذَّنبِ بتاتاً هُوَ شَخصٌ لا يُبالِي بما هُوَ صوابٌ أو خطأ. ويُمكِنُ إعتِبارُهُ شَخصاً لا يُؤمِنُ بالثَّوابِتِ الأخلاقِيَّة.

هذا ما يُوصَفُ غالِباً بالنِّسبِيَّةِ الأخلاقِيَّة، التي يُمكِنُ أن تَكُونَ طريقَةً أُخرى للقَولِ بأنَّهُ لا تُوجَدُ ثوابِت أخلاقِيَّة مُطلَقَة. يُحاوِلُ الكَثيرُونَ التَّهرُّب من شُعُورِهِم بالذََنب أو من ذَنبِ الآخرين اليوم، بالقَولِ أنَّهُ لا يُوجَدُ ما يُسَمَّى بالصَّوابِ والخَطأ. ولكن، هذا يُشبِهُ رَشَّ الماء على تورُّمٍ خَبيثٍ يحتاجُ إلى الإستِئصال.

أُحِبُّ أن أقرأ عن نهضَةِ القرن الثامن عشر،خاصَّةً عن مشاهير الوعَّاظ المُبَشِّرين أمثال George Whitfield و Wesleys و  Jonathan Edwardsبالإنجيل في أميركا، فجاؤُوا بنتائِجَ خارِقَة للطَّبيعة. ثمّة وصفٌ لمُزارعٍ في New England قد سَمِعَ وعظَ المُبَشِّر George Whitfield في ذلك الوقت عندما أتى الى New England في أميركا ليبشّر. كتبَ المُزارِعُ يَقُول "عندما بدأ يتكلّم، شعرتُ بألمٍ كبيرٍ في قلبي. فوقعتُ على ركبتيّ في الحقل وشرعتُ بالبكاء والإعتراف بخطاياي، وبالتوبة ونَبْذِ خطاياي".

بهذه الطَّريقَة يفضَحُ الرُّوحَ القُدُسَ الخَطايا والذُّنُوب في هذا العالم. فلماذا قد يشعر مزارعٌ بألمٍ كبيرٍ في قلبه عندما يسمع هذا الرجل ذو الوجه الملائكيّ يبشّر بالإنجيل؟ بحَسَبِ قَولِ يسُوع، هذه إحدى وظائف الروح القدس وخدماته. كَثيرُونَ ما كانُوا ليَشعُرُون بأيِّ ذَنبٍ بتاتاً في ذلكَ الحقل، وبعض الناس ضحكوا عندما سمعوا ذلك الرجل يعظ من الإنجيل، ولم يشعروا بخطيئتهم.

كجزءٍ من تلك النَّهضَة الرُّوحيَّة، ألقَى Jonathan Edwards تلك العظة الرائعة تحت عنوان: "خُطَاةٌ في يد إلهٍ غاضبٍ". وبعد أن قدّم تلك العظة في كنيسته المحلِّيَّة في New England، تبكّت الناس كثيراً على خطاياهم لدرجةٍ أنّهم تمسّكوا بالمقاعد التي كانت أمامهم، وشعروا كأنّهم ينزلقون الى الجحيم، وذلك بسبب شعورهم بخطاياهم، وبأنَّ الطريقَة الوحيدة للنَّجاةِ منَ الجحيم كانت بالإعتِرافِ بِخطاياهُم وبإختِبارِ الخلاص.

أحياناً أَظُنُّ أنَّنا إذا ألقَينا تلكَ العظة نفسَها اليوم، ولكن بِدُونِ مسحَةِ الرُّوحِ القُدُس التي كانت على جُوناثان إدواردز، فإنَّ النَّاس سيَظُنُّونَها كُوميديا. الفَرقُ يكمُنُ في خدمَةِ وعَمَلِ الرُّوحِ القُدُس، كما يُظهِرُهُ يسُوعُ خلالَ وصفِهِ ما سيعنيهِ حُلُول الرُّوح المُعَزِّي على خدمَةِ الوعظ التي يَقُومُ بها أُولئكَ الذين يُطِيعُونَ المأمُوريَّةَ العُظمَى. نجدُ هذا التَّجاوُبَ نفسَهُ معَ الوعظِ بالإنجيل كما نقرَأُ في سِفرِ الأعمال. إبتداءً من وعظِ بُطرُس يوم الخَمسين، وعبرَ كُلِّ تاريخِ ذلكَ الجيل الأوَّل منَ الكنيسة، نجِدُ إشاراتٍ إلى تجاوُبٍ خارِقٍ للطَّبيعَة معَ وعظِ الإنجيل. (أعمال 2: 37؛ 10: 44- 46).

لطالما كانت لدينا إجابةٌ مختلطةٌ عن إنجيل المسيح وعن المسيح بحدّ ذاتهِ، كما نرى هنا في الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنّا. لكن ما الذي يعمَلُ هذا الفَرق؟ لِمَ قد يضحك البعض، والبعض الآخر يشعر بحزنٍ عميقٍ في قلبهِ، فيصرُخُ إلى اللهِ طالِباً الخلاص؟ منَ الواضِحِ أنَّ خدمَةَ وعملَ الرُّوحِ القُدُس هُوَ الذي يعمَلُ فرقاً بينَ هذينِ التَّجاوُبَين.

قال يسوع لتلاميذِهِ أنّه عندما يأتي المُعَزِّي، سيُبَكِّتُ العَاْلَمَ عَلَىْ خَطِيَّةٍ، أو سيفضحُ ذَنبَ العالم، على ثلاثَةِ مُستَويات: الخطيَّة، البِرّ والدَّينُونَة. "أَمَّاْ عَلَىْ خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُوْنَ بِيْ. وَأَمَّاْ عَلَىْ بِرٍّ فَلأَنِّيْ ذَاْهِبٌ الى أَبِيْ وَلا تَرَوْنَنِيْ أَيْضاً. وَأَمَّاْ عَلَىْ دَيْنُوْنَةٍ فَلأَنَّ رَئِيْسَ هَذَاْ العَاْلَمِ قَدْ دِيْنَ". (يُوحَنَّا 16: 9- 11) وقال إنّ الروح القدس سيبكّت العالم بثلاثِ طرقٍ على الخَطيَّة أو سيفضَحُ الذََنب. بِحَسَبِ يسُوع، سيبكّت الرُّوحُ الناس على خطيّةٍ لأنّهم لم يؤمنوا به. تذكّروا الإصحاح الثالث من هذا الإنجيل، عندما قدَّمَ يسوع أكثَرَ تصريحٍ عقائِديٍّ لهُ، إذ قالَ لنيقوديموس إنّه إبن اللهِ الوحيد الذي سيُرْفَعُ على الصليب، والمخلِّص الوحيد الذي أرسله اللهُ، والحلّ الوحيد الذي يملكه اللهُ لمشكلة الخطايا في العالم. (يُوحَنَّا 3: 14- 21) وبعد أن أخبر نيقوديموس بذلك التَّصريحِ العقائِدي الحاسِم، أضاف يسوع تصريحاً عقائِديَّاً أكثَر حسماً، عندما قالَ ما معناهُ: "من آمنَ بهذا تكُونُ لهُ الحياةُ الأبديَّة. وكلُّ من لا يُؤمن سيُدان – ليسَ بِسَبَبِ خطاياهُ فحَسب، بل لأنَّهُ لم يُؤمِنِ بي عندما أقُولُ أنَّني إبنُ اللهِ الوحيد والمُخَلِّصُ الوحيد المُرسَل منَ الله. (3: 18)

يُخبِرُنا الرسول بولس في مقطعٍ رائعٍ، أنّ اللهَ كانَ في المسيح يصالح العالم لِنَفسِهِ، غيرَ حاسِبٍ لهُم خطاياهُم. ولقد أَوْكَلَنَا بنشر رسالة المصالحة وخدمتها. فعلينا أن نذهب الى كلّ أنحاء العالم ليس لنخبرهم بأنّهم سيذهبون الى الجحيم بسبب خطاياهم، بل لنخبرهم أنّه ليس عليهم أن يذهبوا الى الجحيم بسبب خطاياهم. ففي اللحظة التي مات يسوع فيها على الصليب، لم يَعُدِ اللهُ الآبُ يتّهم الناس بخطاياهم، بل حسبَ كُلَّ هذهِ الخطايا على إبنهِ الوحيد يسُوع المسيح. (2كُورنثُوس 5: 13- 6: 2).

إذا فهِمنا وآمنَّا بهذه الكلمات التي تكلَّمَ بها يسُوعُ وبُولُس،، عندئذٍ علينا أن نُدرِك أنّ اللهَ لا يرسل الخُطاةَ الى الجحيم بسبب خطاياهم - ولا حتّى أدولف هتلر. أعتقد أنّ أدولف هتلر لن يذهب الى الجحيم بسببِ الخطايا التي إرتَكَبَها، لكنّه سيذهب الى الجحيم بسبب خطيئةٍ واحدةٍ وهي الآتية: أنَّهُ لم يؤمن بيسوع المسيح. بَل هَزِءَ بيسوعَ المسيح وبقِيَمِهِ وتعليمه وفلسفته. لهذا السبب سيذهب الى الجحيم، لأنَّهُ لم يؤمن بيسوع المسيح.

فَبِحَسَبِ يسُوع، الخَطِيَّةُ التي تَدينُنا هي خطِيَّةُ عدَمِ إيمانِنا بيسُوع المسيح كالمُخَلِّصِ الوَحيد الذي أرسلَهُ اللهُ لخلاصِ نُفُوسِنا. بهذه الكلمات، يُعَزِّزُ يسُوعُ التَّصريحَ العقائِديّ الذي قدَّمَهُ لِنيقُودِيمُوس، عندما أخبرَ الرُّسُلَ قائِلاً أنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سيُبَكِّتُ على خَطِيَّةِ عدَمِ الإيمانِ بهِ. وسيبكّتهم الروح القدس على ثلاثة أمورٍ: الخطيئة والبِرّ والدينونة. أمّا على الخطيئة فلأنّهم لا يؤمنون بِيسُوع أنَّهُ المَسيح وأنَّهُ مُخَلِّصُنا ورَبُّنا الشَّخصِيّ: "وأمّا على البرّ فلأنّه ذاهبٌ الى الآب." (10) فكيفَ نعرِفُ ما هُوَ صَوابٌ مِمَّا هُوَ خَطأ؟ وهل يُوجَدُ مِعيارٌ مُطلَقٌ لما هُوَ صَوابٌ وخَطأ؟  يُجيبُ أَتباعُ المسيح الأتقِياء على هذا السُّؤال بالتَّفكيرِ بالوصايا العَشر وبالمَوعِظَة على الجَبَل. فبِحَسَبِ بُولُس الرَّسُول، "كُلُّ الكتابِ هُوَ مُوحَىً بهِ منَ الله، ونافِعٌ للتَّعليمِ والتَّوبِيخ، للتَّقويمِ والتأدِيب الذي في البِرّ." (2تيمُوثاوُس 3: 16، 17). يُرينا الكِتابُ المُقدَّسُ بأكمَلِهِ ما هُوَ صوابٌ وما هُوَ خَطأ.

لكن، في مقدّمة هذا الإنجيل، كتبَ يُوحَنَّا أنَّ لا أحد قد رأى اللهَ يوماً إلاَّ الإبن الوحيد الذي هو في حضن الآب قد خبّر. لقد أَظْهَرَ يسُوعُ اللهَ بالكامل للإنسان بقدر ما يستطيع العقل البشريّ أن يفهم اللهَ. هكذا تمّ إظهار اللهِ من خلال يسوع المسيح. إنّ يسوع الذي نلتَقي بهِ في هذا الإنجيل كالكلمة الحيّة، هُوَ مِعيارُ اللهِ المُطلَق للبرّ. وتشكّل حياة يسوع التعريف الحَيّ المُطلَق لِما هو صحيحٌ وخطأ.

كتبَ أحدُ الشُّعراءِ البَريطانِيِّين قَصيدَةً تَصِفُ جُندِيَّاً خاطِئاً جداً، وقُتِلَ في المعرَكة، ثُمَّ ذَهبَ خطأً إلى السماء. عندما إلتَقى بيَسُوع، لم يَسَعْهُ أن يحتَمِلَ أن ينظُرَ إليهِ، فطَلَبَ منهُ بِحُزنٍ شديد، "يا سَيِّد، هل بإمكانِي أن أذهَبَ إلى الجَحيم؟" إنَّ حياةَ وهيئَةَ يسُوع كانت نَقِيَّةً ومُقدَّسَةً جدَّاً عندما كانَ هُنا في عالَمِنا، لدَرَجَةِ أنَّهُ لم يَكُنْ فقط المعيار المُطلَق للبِرّ. بل وأيضاً وبَّخَ النَّاسَ على خطاياهُم. عندما نقرَأُ العهدَ الجَديد، فإنَّ الحياةَ البارَّةَ التي عاشَها يسُوع المسيح التَّاريخيّ لا تزالُ حتَّى الآن تُبَكِّتُنا على خطايانا وآثامِنا الشَّخصِيَّة.

ويبدو أنّه يقول هنا إنّ الروح القدس سوف يبكّت العالم على البرّ لأنّه "ذَاْهِبٌ الى أَبِيْهِ وَلن يَرَوْهُ أَيْضاً". (16، 17، 19) وطالَما كانَ في العالم، فإذا أردتُم أن تعرِفُوا ماذا كانت القِيم الصَّحيحة، فبإمكانِكُم بِبساطَة إتِّباع يسُوع، وعندما يُعلِنُ قِيمَةً، فبإمكانِكُم الإعتِراف بِصِحَّةِ هذه القِيمَة أو المبدأ. وإذا أردتُم معرفةَ فلسفة الحياة الصحيحة، فبإمكانِكُم الإصغاء إليهِ عندما أعطَى تعليمَهُ البَسيط والعميق هذا.

وإذا أردتُم أن تعرفوا أموراً حول أيِّ نوعٍ من البرِّ، إنّ حياة يسوعَ المسيحِ كانتِ المعيارَ المثاليَّ لِما هو صحيحٌ. لكنّه الآن يقصد ما يلي: "أنا ذاهبٌ. سأعود الى الآب. لن تروني بعد الآن. وعندما أُصبِحُ غائِباً عنكُم هُنا، فإنَّ الرُّوحَ القُدُس سيُبَكِّتُ النَّاسَ في هذا العالم على ما هُوَ صوابٌ وما هُوَ خطأ" (7- 8).

ومن ثمّ، يقول إنّ الروح القدس سيبكّت العالم على الدينونة، لأنّ رئيس هذا العالم قد دِيْنَ. هُنا يُوضح يسوعُ أنّ الشيطانَ قد هُزِم! وأنّ ما من قوّةٍ على الأرض أعظم من قوّة إسم يسوع المسيح. وعلى الرَّغم من أنَّ قُوَّةَ الشيطان قد تكون تُسَيطِرُ على مُعظَمِ ما يجري في العالم، لكن بالنِّسبَةِ للتِّلميذِ المُقاد بِالرُّوحِ القُدُس وبالمسيح المُقام، ما من قوّةٍ على الأرض أعظم من يسوع المسيح الحَيِّ المُقام.

وما يقوله هو إنّ "رئيس هذا العالم" (11) يُمكِنُ أن يُهزَمَ بِالرُّوحِ القُدُس. كانَ الرَّسُولُ يُوحَنَّا يُفَكِّرُ بكلماتِ المسيح هذه عندما كتبَ يَقُولُ: "الذي فيكم هو أعظمُ من الذي في العالم". (1يُوحَنَّا 4: 4) التَّطبيقُ الشَّخصِيُّ هُوَ أنَّهُ يجب ألّا تغلبَنا قوّة الشيطان أو تُسَيِّرَنا. يعطينا يسوع وصفاً عظيماً لخدمة الروح القدس بينما يتكلَّمُ بهذه الكلمات.

ويقول يسوع في العدد الثاني عشر: "إِنَّ لِيْ أُمُوْراً كَثِيْرَةً أَيْضاً لأَقُوْلَ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تَسْتَطِيْعُوْنَ أَنْ تَحْتَمِلُوْا الآنَ". لدينا هنا تصريحٌ عميقٌ جدَّاً، ويمكننا كتابَة صفحاتٍ كاملةٍ عن كُلِّ عددٍ من هذه الأعداد.

كُلُّ واعِظٍ أو مُعَلِّمٍ عليهِ أن يُدرِكَ أنَّ أُولئكَ الذين يُصغُونَ إليهِ، لديهم قُدرَة محدُودَة على التَّعلُّم، في كُلِّ مرَّةٍ يسمَعُونَ فيها كَلِمَةَ الله. فالكَثيرُ منَ الوعظِ والتَّعليم في مُناسَبَةٍ واحِدَةٍ قد يكُونُ لهُم مفعُولٌ عَكسِيٌّ غير مُنتِج. لقد كانَ يسُوعُ المُعَلِّمَ الأعظم في صناعَةِ التَّلاميذ. وطريقَتُهُ كانت أنَهُ في فتراتٍ زمنيَّةٍ قصيرة، كانَ التَّلاميذُ يتعلَّمُونَ بالعَمَلِ ما كانُوا يسمَعُونَهُ بالقَول. مُعظَمُ ثقافَتِهِم كانت عمليَّةً، لأنَّ يسُوعَ ألقَى عليهِم القَليلَ منَ الخُطَب. لهذا شجَّعَ يسُوعُ طرحَ الأسئِلَةِ وإثارَةَ النِّقاشاتِ معَ هؤُلاء الرِّجال. منَ الواضِحِ أنَّهُ كانَ لدَيهِ فهمٌ كامِل لمقدارِ قُدرَتِهِ على التَّعلُّم في وقتٍ مُحدَّد.

وبعدَ أن أوضَحَ نُقطَتَهُ بأنَّهُ كانَ واعِياً لمحدُودِيَّةِ قُدرَتِهِم على التَّعلُّمِ في ذلكَ الزَّمانِ والمكان، قال: "وَأَمَّاْ مَتَىْ جَاْءَ ذَاْكَ رُوْحُ الحَقِّ فَهُوَ يُرْشِدُكُم إلى جميعِ الحَقِّ، ... ويُخبِرُكُم بأُمُورٍ آتِيَة" (يُوحَنَّا 16: 13) هذه النُّبُوَّة عن مُستَقَبلِ خِدمَةِ الرُّوحِ القُدُس تحتَوي بالتأكيد على ما علَّمَهُ يسُوعُ عن الأحداثِ المُستَقبَلِيَّة التي ستُرافِقُ مجيئهُ الثَّانِي، في العديدِ من أمثالِهِ، وفي تعاليمِهِ مثل عِظتِهِ على جَبَلِ الزِّيتُون (متَّى 24 و25). ولكنَّها تتعلَّقُ أيضاً بالحقيقَةِ القاسِيَة أنَّ هؤُلاء الرِّجال كانُوا يتحرَّكُونَ نحوَ مُستَقبَلٍ مَليءٍ بالمخاطِرِ والغُمُوض.

لقد عرفُوا أنَّهُم لَرُبَّما سيَكُونُونَ جميعُهُم شُهداء لأجلِ يسُوع – ولقد كانُوا بالفِعلِ كذلكَ، بإستِثناءِ كاتبِ هذا الإنجيل. ولكن كيفَ كانُوا سيَعرِفُونَ ستراتيجيَّة وخُطَّةَ يسُوع لتطبيقِ المأمُوريَّةِ العُظمَى، في حضارَةٍ كانت مُعادِيَةً تجاهَ رَبِّهِم وتجاهَ الإنجيل الذي كلَّفَهُم رَبُّهُم بالكِرازَةِ بهِ؟ وماذا كانُوا سيفعَلُونَ إذا تمَّ توقيفُهُ وإعدامُهُ. كانَ جوابُهُ على هذا أنَّهُ في المُستَقبَل، عندما سيُؤخَذُ منهُم، الرُّوحُ القُدُسُ سيُعلِمُهُم بما يحتاجُونَ مَعرِفَتَهُ.

خلالَ قِراءَتنا لِسفرِ الأعمال، نرى هذا الوصف التَّنبُّئِي الواضِح عن دَورِ الرُّوحِ القُدُس وعملِهِ المُستَقبَلِيَّين، بينما يتحقَّقانِ حرفِيَّاً. فعندما جاءَ الرُّوحُ القُدُسُ يومَ الخَمسين، عندما لم يَعرِفْ التلاميذُ ماذا عليهِم فِعلُهُ، أعطاهُم الحكمة التي كانُوا يحتاجُونَها والنَّعمة والشجَّاعَة للقِيامِ بالعَمَل. وأعطاهُم الرُّوحُ القُدُسُ النِّعمَةَ لِتَطبيقِ الحكمَةِ التي أعطاهُم إيَّاها. وأظهَرَ لهُم ما سيحدُثُ في المُستَقبَل. فالرُّوحُ القُدُسُ هُوَ المُؤلِّفُ الحقيقيُّ للرَّسائِلِ المُوحى بها التي كتبَها الرُّسُل، والتي تُخبِرُنا بطُرُقٍ عجيبة عن مُستَقبَلِ هذا العالم.

هذا هُوَ التَّطبيقُ الشَّخصِيّ، التَّعبُّدِيّ والعَمَلِيّ بالنِّسبَةِ لكَ ولي:فالرُّوحُ القُدُس نفسهُ الذي تكلَّمَ عنهُ يسُوعُ نبَويَّاً بهذه الكلمات، يُمكِنُهُ أن يَقُومَ بهذا الدَّورِ وأن يعمَلَ هذا العمل في حياتِنا اليوم. وبإمكانِهِ أن يُرينا أُمُوراً آتِيَة مُتَعلِّقَة بمجيءِ المسيحِ ثانِيَةً، من خلالِ دراسَتِنا لكلمةِ الله. وبإمكانِهِ أن يَقُودَ حياتَنا ويُوجِّهها، اليوم، غداً، وبعدَ غَد، بإعطائِنا الحكمة التي نعرِفُ أنَّنا لا نتمتَّعُ بها، والنِّعمَةَ والشَّجاعَةَ لنُطَبِّقَ الحكمَةَ التي يَمنَحُنا إيَّاها. عندما لا نعلَمُ ما يتوجَّبُ علينا أن نعمَل، يَحُضُّنا يعقُوبُ أن نطلُبَ منَ اللهِ حكمَةً، "إن كانَ أحدٌ تُعوِزُهُ حِكمَةٌ، فَليَطلُب منَ اللهِ الذي يُعطي الجميعَ بِسخاءٍ ولا يُعَيِّر، وسيُعطَى لهُ." (يعقُوب 1: 5).

عندَما نُدرِكُ أنَّنا لا نستَطيعُ تطبيقَ هذه الحِكمة بِدُونِ مُساعَدَةِ الله، سيُعطينا الرَّبُّ أيضاً النِّعمَةَ لنُطَبِّقَ الحكمَةَ التي يُعطينا إيَّاها. يُؤكِّدُ بُولُس الرَّسُول في عددٍ مليءٍ بأفعَلِ التَّفضِيل أنَّ اللهَ سيُعطينا أيضاً فيضاً منَ النِّعمَةِ التي نحتاجُها عندما نُدرِكُ أنَّنا لا نستطيعُ تطبيقَ هذه الحكمة بِدُونِ مُساعَدَتِهِ: "واللهُ قادِرٌ أن يَزيدَكُم كُلَّ نِعمَةٍ لِكَي تَكُونُوا ولَكُم كُلُّ إكتِفاءٍ كُلَّ حِينٍ في كُلِّ شَيءٍ تزدادُونَ في كُلِّ عَمَلٍ صالِحٍ." (2كُورنثُوس 9:8).

بَعدَ المُشارَكَة بهذا الوصفِ لخدمَةِ الرُّوحِ القُدُس المُستَقبَلِيَّة، قالَ يسُوعُ للرُّسُل: "بَعْدَ قَلِيْلٍ لا تُبْصِرُوْنِيْ. ثُمَّ بَعْدَ قَلِيْلٍ أَيْضَاً تَرَوْنَنِيْ". (يُوحَنَّا 16: 16) منَ الواضِحِ أنَّهُ كانَ يستَدرِجُهُم ليطرَحُوا عليهِ أسئِلَةً. ولكنَّهُم تساءَلُوا فيما بَينَهُم: "مَاْ هُوَ هَذَاْ الذِيْ يَقُوْلُهُ لَنَاْ بَعْدَ قَلِيْلٍ لا تُبْصِرُوْنَنِيْ ثُمَّ بَعْدَ قَلِيْلٍ أَيْضَاً تَرَوْنَنِيْ وَلأَنِّيْ ذَاْهِبٌ الى الآبِ. فَقَاْلُوْا مَاْ هُوَ هَذَاْ القَلِيْلُ الذِيْ يَقُوْلُ عَنْهُ. لَسْنَاْ نَعْلَمُ بِمَاْذَاْ يَتَكَلَّمُ".

كما أشَرتُ سابِقاً، من خلالِ هذه العِظَة قالَ يسُوعُ أنَّهُ سيَمُوتُ، وأنَّهُ بعدَ مَوتِهِ ستَكُونُ علاقَتُهُم بهِ أكثَرُ حميميَّةً ممَّا كانت عليهِ من قَبل. من وُجهَةِ نظَرِنا، منَ السَّهلِ أن نفهَمَ ما كانَ يُخبِرُهُم بهِ. ولكن، إذا وضعَتُم أنفُسَكُم مكانَ هؤُلاء الرِّجال، هل بإمكانِكُم أن تَرَوا كم كانَ صعباً عليهِم أن يفهَمُوا ما كانَ يسُوعُ يُعَلِّمُهُم بِهِ.

بينما كانُوا يسألُونَهُ عن مَعنى قَولِهِ: "بَعْدَ قَلِيْلٍ لا تُبْصِرُوْنِيْ. ثُمَّ بَعْدَ قَلِيْلٍ أَيْضَاً تَرَوْنَنِيْ.." إستَخدَمَ يسُوعُ إيضاحاً جَميلاً عنِ المرأةِ التي تَلِدُ طِفلاً. (21- 22) هذه إستِعارَةٌ مجازِيَّةٌ عنِ الحقبَةِ القَصيرَة التي كانت ستمضِي، والتي يَروهُ بعدها – أي عندَما يُؤخَذُ منهُم، ويُصلَبُ ويُدفَنُ قَبلَ قيامَتِهِ.

خلالَ الأربعينَ يَوماً التي قضاها يسُوعُ على الأرضِ بعدَ القِيامَة، عندما كانَ يُظهِرُ لهُم نفسَهُ حَيَّاً، مُبَرهِناً لهُم قيامَتَهُ ببراهِينَ لا تُدحَض، فَرِحُوا فرحاً عظيماً، كذلكَ الفرَح التي تشعُرُ بهِ المرأَةُ بعدَ ولادَتِها طِفلاً جديداً إلى هذا العالم. وكما يُؤَدِّي فرَحُ الأُمِّ بِولادَةِ طفلِها إلى نِسيانِها لِكُلِّ الآلام التي عانَت منها، سَيَكُونُ لدَى التَّلاميذ فَرحٌ سيُنسِيهم الحُزنَ الذي شعرُوا بهِ عندَ مَوتِ يسُوع على الصَّليب. وهذا الفَرَحُ لن يُنزَعَ منهُم بتاتاً. ويُضيفُ يسُوعُ على هذه الإستِعارَة الجميلة المُلاحَظة التي تَقُولُ بأنَّهُم لن يسألُوهَ شيئاً بعدَ ذلكَ.

كما في صلاةِ التَّلاميذ ("أبانا الذي في السَّماواتِ"، متَّى 6: 9- 13)، يُعَلِّمُهُم يسُوعُ أنَّهُ عليهم أن يُخاطِبُوا الآبَ عندَما يُصَلُّونَ، وأن يُوجِّهُوا طلباتِهِم للآبِ بإسمِ يسُوع المسيح. ولقد علَّمَهُم بالحقيقَةِ أنَّهُ عليهم أن يُقَدِّمُوا طلباتِهم للآبِ بإسمِهِ. هذا المقطع هُوَ في غايَةِ الأهمِّيَّة، لأنَّهُ يُعطِينا البُرُوتُوكول الصَّحيح لصلاتِنا الفَردِيَّة والجَماعِيَّة. فعندَما نُصَلِّي كما عَلَّمَ رَبُّنا هؤلاء الرُّسُل أن يُصَلُّوا، علينا أن نُخاطِبَ الآبَ (وليسَ يسُوع)، وأن نتكلَّمَ معَ الآبِ بإسمِ الإبن يسُوع المسيح.

ومن خلالِ أعدادٍ مُتَفَرِّقَةٍ في العهدِ الجديد، منَ المُمكِنِ أن نُكَوِّنَ الإنطِباع أنَّ الصَّلاةَ هي قَضِيَّةُ مَجيءٍ إلى المخدَع ونحنُ حامِلينَ لائِحَةَ تَسَوُّقٍ، فنُرسلُ اللهَ ليَشتَريَها لنا. إن كانَت هذه هي فِكرَتُنا عنِ الصَّلاة، فنحنُ لا نفهَمُ جوهَرَ الصَّلاة المُتَشبِّهَة بالمسيح، إلى أن نتعلَّمَ ماذا يعني أن نُصَلِّي بإسمِ يسُوع. فأن نُصَلِّي بإسمِ يسُوع، يعني أن نُصَلِّي بإنسِجامٍ معَ جَوهَرِ مَنْ وما كانَ يسُوعُ وما هُوَ عليهِ الآن. لقد كانت صَلاةُ يسُوع النَّموذَجِيَّة، "لِتَكُن لا إرادَتي، بل إرادَتُكَ." (متَّى 26: 39) أن نُصَلِّي كما عاشَ يسُوع وصَلَّى يعني أن نُصَلِّي بإنسجامٍ معَ مَشيئَةِ الله.

الصَّلاةُ بإسمِ يسُوع ليسَ دَعوَةً لنطلُبَ منَ اللهِ أيَّ شَيءٍ بإسمِهِ، وكأنَّهُ هُناكَ تركيبَةٌ سِحريَّةٌ تفتَحُ قَلبَ الله. إنَّها تعليمٌ لنَجعَلَ تضَرُّعاتِنا حِيالَ الحاجاتِ التي لَدَينا، لنجعَلَها تَكُونُ مُنسَجِمَةً معَ مقاصِدِ الله. هذا هُوَ المبدأُ نفسُهُ الذي علَّمَ عنهُ بُولُس الرَّسُول عندما أعطانا الوعدَ العَظيم بأنَّ "كُلَّ الأشياء تعمَلُ معاً لِلخَير للذين يُحِبُّونَ اللهَ، المدعُوُّونَ حسبَ قَصدِهِ." (رومية 8: 28)

مثلاً، عندما نُطِيعُ مأمُوريَّتَهُ العُظمَى ونبني كنيستَهُ كجزءٍ من إتمامِ إرسالِيَّتِهِ العُظمى في هذا العالم، عندَها بإمكانِنا أن نطلُبَ أيَّ شَيء ينسَجِمُ معَ إرادَةِ اللهِ، فنَنالُهُ. وسيَكُونُ فَرَحُنا كامِلاً عندما يُؤمِنُ النَّاسُ بالإنجيلِ، ونَكُونُ في علاقَةٍ معَ المسيحِ المُقام، بينما يبني هُوَ كنيستَهُ في هذا العالم. هذا هُوَ كُلُّ ما نحتاجُهُ إذا أردنا أن نَكُونَ تلاميذَ حقيقيِّينَ ليسُوع.

وعندما إختَتَمَ تعليمَهُ هذا قال،""قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَاْ بِأَمْثَاْلٍ بَلْ أُخْبِرُكُمْ عَنِ الآبِ عَلانِيَّةً. فِيْ ذَلِكَ اليَوْمِ تَطْلُبُوْنَ بِاسْمِيْ. وَلَسْتُ أَقُوْلُ لَكُمْ إِنِّيْ أَنَاْ أَسْأَلُ الآبَ مِنْ أَجْلِكُمْ. لأَنَّ الآبَ نَفْسَهُ يُحِبُّكُمْ لأَنَّكُمْ قَدْ أَحْبَبْتُمُوْنِيْ وآمَنْتُمْ أَنِّيْ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَرَجْتُ. خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ الآبِ وَقَدْ أَتَيْتُ الى العَاْلَمِ وَأَيْضاً أَتْرُكُ العَاْلَمَ وَأَذْهَبُ الى الآبَ.

"قَاْلَ لَهُ تَلامِيْذُهُ هُوَذَاْ الآنَ تَتَكَلَّمُ عَلانِيَةً وَلَسْتَ تَقُوْلُ مَثَلاً وَاْحِداً. الآنَ نَعْلَمُ أَنَّكَ عَاْلِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَلَسْتَ تَحْتَاْجُ أَنْ يَسْأَلَكَ أَحَدٌ. لِهَذَاْ نُؤْمِنُ أَنَّكَ مِنَ اللهِ خَرَجْتَ. أَجَاْبَهُمْ يَسُوْعُ الآنَ تُؤْمِنُوْنَ. هُوَذَاْ تَأْتِيْ سَاْعَةٌ وَقَدْ أَتَتِ الآنَ تَتَفَرَّقُوْنَ فِيْهَاْ كُلُّ وَاْحِدٍ الى خَاْصَّتِهِ وَتَتْرُكُوْنَنِيْ وَحْدِيْ. وَأَنَاْ لَسْتُ وَحْدِيْ لأَنَّ الآبَ مَعِيْ.

"قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَاْ لِيَكُوْنَ لَكُمْ فِيَّ سَلامٌ. فِيْ العَاْلَمِ سَيَكُوْنُ لَكُمْ ضِيْقٌ. وَلَكِنْ ثِقُوْا. أَنَاْ قَدْ غَلَبْتُ العَاْلَمَ". (يُوحنَّا 16: 25- 33) بهذه الطريقةِ ختمَ يسوعُ عظةَ العُلِّيَّة.

عندما أخبَرَ يسُوعُ الرُّسُلُ أنَّهُ كانَ يتكلَّمُ بِصُورَةٍ مجازِيَّة، كانَ يُشيرُ إلى أمثالِهِ الكثيرة وإستِعارَاتِهِ العميقَة المُتعدِّدَة. لقد إستَخدَمَ بإستِمرار الإستِعارَةَ، والمَثَل، والمجاز واللُّغَةَ الرَّمزِيَّة. ولكن الآن هُوَ يَعِدُ بأنَّ الوقتَ حانَ حيثُ سيتكلَّمُ علانِيَةً (25). أنا أجِدُ هذا مُحَيِّراً، أنَّهُ علَّمَ تلاميذَهُ العديدَ منَ الحقائِقِ العميقَة في هذه المَرحَلة، رُغمَ أنَّهُم لم يفهَمُوها.

ولكنَّهُم قالُوا لهُ: "الآنَ تَتَكَلَّمُ عَلانِيَةً وَلَسْتَ تَقُوْلُ مَثَلاً وَاْحِداً. الآنَ نَعْلَمُ أَنَّكَ عَاْلِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَلَسْتَ تَحْتَاْجُ أَنْ يَسْأَلَكَ أَحَدٌ. لِهَذَاْ نُؤْمِنُ". (29) أعتقدُ أنّ ثمّة روحَ نكتةٍ في هذا الأمرِ. ومُجَدَّداً، كما هي الحالُ معَ تجاوُبِ يسُوع معَ تبجُّحِ بُطرُس بأنَّهُ ولو شَكَّ فيهِ الجميعُ فإنَّ بُطرُس لن يَشُكّ، مجدّداً نحنُ لا نعلمُ تعابيرَ وجهِه، ولا نبرةَ صوتِه، أي لا نعلمُ لغةَ الجسدِ التي استخدَمَها يسُوعُ عندما أجابَ على هذا القول الذي قالَهُ التَّلاميذ – أنَّهُم بعدَ ثلاثِ سنواتٍ منَ العلاقَةِ الوثيقة والتَّدريب الحيويّ – أنَّهُم الآن يُؤمِنُون. أنا مُقتَنِعٌ أنَّهُ بحبٍّ عظيمٍ، وأظنُّ مع بريقٍ في عينَيه وابتسامةٍ في طَرَفِ فمِه، قالَ يسوعُ في العددِ الواحدِ والثلاثين ما يلي: "الآنَ تُؤْمِنُوْنَ".

ومن ثمّ، توقّعَ أمراً ما سيحصلُ بعدَ وقتٍ قصيرٍ. فمن خلالِ الأناجيلِ الأخرى، نعلمُ أنّ يهوّذا أتى في تلك اللحظةِ مع رجالِ الدينِ والجنودِ، وتمَّ اعتقالُ يسوعَ. وعندَ حصولِ ذلك، لاحِظوا ما قاله يسوعُ: "هُوَذَاْ تَأْتِيْ سَاْعَةٌ وَقَدْ أَتَتِ الآنَ تَتَفَرَّقُوْنَ فِيْهَاْ كُلُّ وَاْحِدٍ الى خَاْصَّتِهِ وَتَتْرُكُوْنَنِيْ وَحْدِيْ. وَأَنَاْ لَسْتُ وَحْدِيْ لأَنَّ الآبَ مَعِيْ". علينا أن لا نَقسُوَ كثيراً على بطرس بِسبَبِ إنكارِه بأنَّهُ حتَّى يَعرِف يسُوع، لأنَّنا نقرَأُ أنَّهُ عندما تمَّ إلقاءُ القَبضِ على يسُوع، تركَهُ كُلُّ الرُّسُلِ وهَرَبُوا (متَّى 26: 56؛ مرقُس 14: 50) فعندَما أُوقِفَ يسُوع المسيح، أصبَحَ عددُ أعضاءِ كَنيستِهِ صِفراً.

لقد حدثَ الأمرُ عينُهُ مع الرسولِ بولسَ. كتبَ بولسُ في رسالتِه الثانيةِ الى تيموثاوسَ، التي تُعتَبَرُ وَصِيَّتَهُ الأخيرةَ، شهادتَه التاليةَ: "الجَمِيْعُ تَرَكُوْنِيْ. لا يُحْسَبْ عَلَيْهِمْ" (2تيمُوثاوُس 4: 16). ثُمَّ كَتَبَ أيضاً أنَّهُ لم يَكُنْ وَحيداً: "وَلَكِنَّ الرَّبَّ وَقَفَ مَعِيْ وَقَّوَاْنِيْ." وذكرَ يسوعُ أيضاً ما يلي: "وَتَتْرُكُوْنَنِيْ وَحْدِيْ. وَأَنَاْ لَسْتُ وَحْدِيْ لأَنَّ الآبَ مَعِيْ". (يُوحَنَّا 16: 32)

عندما قالَ يسُوع، "الآنَ تُؤْمِنُوْنَ!" كانَ جَوهَرُ تصريحِهِ يُمكِنُ أن يعني، "يبدُو أنَّكُم الآن أصبحتُم تُؤمِنُون؟" أو يُمكِنُ ترجمَةُ هذا القَول، "فهل أصبحتُم تُؤمنُونَ الآن؟" أعتَقِدُ أنَّهُ لأمرٌ جديرٌ بالمُلاحَظة أنَّ يسُوعَ كانَ يطرَحُ السُّؤال في خِتامِ سنواتِهِ الثَّلاث معَ هؤُلاء الرِّجال. فمتى آمنَ هؤلاءِ الرُّسُل؟ لقد تمَّ إعلامُنا في الإصحاحِ الأوّلِ من هذا الإنجيلِ أنّهم تعهَّدوا بأن يتبعوهُ. وعلى الرَّغمِ من ذلك، في الإصحاحِ الثاني، عندما ذُكِرَ أنّهم رأَوا الماءَ يتحوّلُ الى خمرٍ، أَظْهَرَتْ تلك العجيبةُ مجدَ يسوعَ، فآمنَ به تلاميذُه.

بَعدَ أن قضَوا معَهُ بعضَ الوقت، وبعدَ أن رأَوهُ يُنجِزُ المُعجِزات، وبعدَ أن إرتَعَبُوا بالرِّياحِ والأمواجِ التي عَصَفت بهِم ذاتَ ليلَة، سألُوهُ خائِفين، "يا مُعَلِّم، أما يَهُمُّكَ أنَّنا نغرَق؟" فأجابَهُم، "لماذ أنتُم خائِفُون؟ أليسَ لكُم إيمانٌ؟" بكلماتٍ أُخرى: "ألستُم تُؤمِنُونَ بي حتَّى الآن؟" (مرقُس 4: 40).

أتحيَّرُ أيضاً عندما أقرأُ في سفرِ أعمالِ الرُّسُل أنَّ بُطرُس، الذي أنكَرَ في الأناجيلِ ثلاثَ مرَّاتٍ، وأخذَ يلعَنُ ويَحلِفُ أنَّهُ لا يعرِفُ يسُوع، ولكنَّنا نراهُ بعدَ أسابِيع قائِداً شُجاعاً لا يعرِفُ الخَوف في قيادَتِهِ لأتباعِ يسُوع. نقرأُ أنَّ بُطرُس ويُوحَنَّا دُعِيا أمامَ السِّنهدريم – أي أمامَ رجالِ الدِّين اليَهُود. شكَّلَ السنهدريمُ حلقَةً حولَ الأشخاص الذينَ كانُوا يُدعَونَ للمُثُولِ أمامَهُ. فأينَما تطلَّعُوا، كانُوا يَرَونَ فَرِّيسيِّينَ ورابِيِّينَ وكتَبَة مُتَعصَّبينَ قُساةً، يتفرَّسُونَ فيهِم وهُم يطرَحُونَ عليهِم أسئِلَةً صَعبَة. ولو قدَّمُوا أجوِبَةً مغلُوطَةً على الأسئِلَة، كانُوا سيُضرَبُونَ ويُقتَلُون. كانَتِ الدَّعوَةُ لِلمُثُولِ أمامَ السَّنهَدريم إختباراً مُرعِباً.

نقرَأُ أنَّ هذين الرجلين اللذين لم يكونا مُتَعلّمينِ، لم يستطيعا تَعَلُّمَ القراءةِ والكتابةِ، ولَكِنَّهُما كانا يتمتّعان بشجاعةٍ وحكمةٍ وبلاغةٍ عظيمةٍ. نقرأُ أنَّ السِّنهَدريم تعجَّبَ أنَّهُ كانَ منَ الواضِحِ تماماً أنَّ هذينِ الرَّجُلَين كانا مع يسُوع. كانت هذه هي الطَّريقة الوحيدة التي كانَ بإمكانِهم تفسيرُ شهادَةِ هؤُلاء الرِّجالِ الذين كانُوا مُجَرَّدَ جُبناء عندما أُلقِيَ القَبضُ على يسُوع. (أعمال الرُّسُل 4)

لكن ما الذي حوَّلَ هؤلاءِ الرجالِ من خائِفينَ جبناءَ، كما نقرأُ عنهُم في الأناجيل، إلى رجالٍ شُجعانٍ وأقوياءَ كما نَراهُم بعدَ بِضعَةِ أسابيع في سفرِ أعمالِ الرسلِ؟ التَّفسيرُ الوَحيدُ المُمكِن هُوَ يومُ العنصرةِ، عندما تحقَّقَ الوعدُ بالمُعزِّي – الرُّوح القُدُس. السُّلوكُ العجائِبيّ لهؤُلاء الرُّسُل يُجيبُ أيضاً على السُّؤال الذي طرحناهُ عبرَ هذه الدِّراسَة لإنجيلِ يُوحَنَّا: "ما هُوَ الإيمانُ؟"

  • عدد الزيارات: 3156