Skip to main content

الميثاق الجديد

8: 1- 12

 

1وَأَمَّا رَأْسُ الْكَلاَمِ فَهُوَ أَنَّ لَنَا رَئِيسَ كَهَنَةٍ مِثْلَ هَذَا، قَدْ جَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ الْعَظَمَةِ فِي السَّمَاوَاتِ 2خَادِماً لِلأَقْدَاسِ وَالْمَسْكَنِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي نَصَبَهُ الرَّبُّ لاَ إِنْسَانٌ. 3لأَنَّ كُلَّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ يُقَامُ لِكَيْ يُقَدِّمَ قَرَابِينَ وَذَبَائِحَ. فَمِنْ ثَمَّ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا أَيْضاً شَيْءٌ يُقَدِّمُهُ. 4فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى الأَرْضِ لَمَا كَانَ كَاهِناً، إِذْ يُوجَدُ الْكَهَنَةُ الَّذِينَ يُقَدِّمُونَ قَرَابِينَ حَسَبَ النَّامُوسِ، 5الَّذِينَ يَخْدِمُونَ شِبْهَ السَّمَاوِيَّاتِ وَظِلَّهَا، كَمَا أُوحِيَ إلى مُوسَى وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَصْنَعَ الْمَسْكَنَ. لأَنَّهُ قَالَ: «انْظُرْ أَنْ تَصْنَعَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ الْمِثَالِ الَّذِي أُظْهِرَ لَكَ فِي الْجَبَلِ». 6وَلَكِنَّهُ الآنَ قَدْ حَصَلَ عَلَى خِدْمَةٍ أَفْضَلَ بِمِقْدَارِ مَا هُوَ وَسِيطٌ أَيْضاً لِعَهْدٍ أَعْظَمَ، قَدْ تَثَبَّتَ عَلَى مَوَاعِيدَ أَفْضَلَ. 7فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الأَوَّلُ بِلاَ عَيْبٍ لَمَا طُلِبَ مَوْضِعٌ لِثَانٍ. 8لأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ لاَئِماً: «هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ الرَّبُّ، حِينَ أُكَمِّلُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً. 9لاَ كَالْعَهْدِ الَّذِي عَمِلْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَثْبُتُوا فِي عَهْدِي، وَأَنَا أَهْمَلْتُهُمْ يَقُولُ الرَّبُّ. 10لأَنَّ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَعْهَدُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي أَذْهَانِهِمْ، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً. 11وَلاَ يُعَلِّمُونَ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ قَائِلاً: اعْرِفِ الرَّبَّ، لأَنَّ الْجَمِيعَ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إلى كَبِيرِهِمْ. 12لأَنِّي أَكُونُ صَفُوحاً عَنْ آثَامِهِمْ، وَلاَ أَذْكُرُ خَطَايَاهُمْ وَتَعَدِّيَاتِهِمْ فِي مَا بَعْدُ». 13فَإِذْ قَالَ «جَدِيداً» عَتَّقَ الأَوَّلَ. وَأَمَّا مَا عَتَقَ وَشَاخَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الاِضْمِحْلاَلِ

وتتميم الكلام إن لنا رئيس كهنة كهذا قد جلس إلى يمين عرش العظمة في السموات. وهو خادم المقدس والمسكن الحقيقي الذي نصبه الرب لا الإنسان. لأن كل رئيس كهنة إنما يقام لكي يقدم قرابين وذبائح. فمن ثم لا بد أن يكون لهذا أيضاً شيء يقدمه فلو كان على الأرض، ما كان كاهناً على الإطلاق إذ هنالك من يقدمون القرابين بمقتضى الشريعة. ممن يخدمون ما هو شبه السَّمَاوِيَّاتِ وَظِلَّهَا كَمَا أُوحِيَ إلى مُوسَى وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ ينشئ الْمَسْكَنَ إذ قَالَ: «انْظُرْ أَنْ تَصْنَعَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ الْمِثَالِ الَّذِي أُظْهِرَ لَكَ فِي الْجَبَلِ». وأما الآنَ فقَدْ حَصَلَ عَلَى خِدْم أجلّ بِمِقْدَارِ مَا هُوَ وَسِيطٌ لِعَهْدٍ أفضل قد شنّ على مواعيد أفضل. فإنه لو كان ذلك العهد الأول بلا عيب لم يلتمس موضع لثانٍ. لأنه يقول لهم عائباً إياهم: «هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ الرَّبُّ
أنشئ مَعَ آل إِسْرَائِيلَ وَمَعَ آل يَهُوذَا عَهْداً "جَدِيداً". لاَ كَالْعَهْدِ الَّذِي قطعته مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أخذت بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لأَنَّهُمْ لَمْ يَثْبُتُوا على عَهْدِي، فأَهْمَلْتُهُمْ أنا يَقُولُ الرَّبُّ. لأن هذا هو العهد الذي أعاهد به آل إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب إني أجعل شرائعي في أذهانهم وأكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي أمة. ولا يعلّم بعد كل واحد قريبه وكل واحد أخاه قائلاً اعرف الرب. لأن الجميع سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم. لأني أكون صفوحاً عن آثامهم ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد". فبقوله "جديداً" جعل الأول عتيقاً. وإن ما كان عتيقاً وشائخاً فهو موشك على الفناء.  

بعد أن أسهب الكاتب في وصف كهنوت المسيح وأثبت كونه أزلياً فائقاً لكهنوت هرون أنتقل إلى الكلام عن أمر آخر وهو خدمة ذلك الكاهن ووظيفته وبدأ برسم صورة لخدمة رئيس الكهنة العظيم فقال "وتتميم الكلام" وفي الأصل اليوناني "وتاج الكلام" وفي ذلك إشارة إلى أن الكاتب أراد أن يضيف إلى أقواله السابقة قولاً آخر لا يكون بمثابة تكرار للأقوال السابقة بل تدرج إلى فكر جديد هو بيت القصيد في مقاله. وذلك الفكر هو "أن لنا رئيس كهنة كهذا قد جلس إلى يمين عرش العظمة في السموات" ومرة أخرى يستمد الكاتب فكره من مزمور 110 الذي تأمله ملياً ونراه الآن يفكر في الآية الأولى من المزمور. فالمسيح لم يرتفع إلى يمين العظمى فقط بل "جلس" هنالك رمزاً إلى استوائه على عرش الملكوت. أما قوله "يمين العظمى" فليس المراد منه جهة من الجهات الست بل هو إشارة إلى كمال السلطة. وكثيراً ما تستعار الذراع اليمنى للدلالة على القوة. فالمسيح الممجد- كلمة الله الأزلي- هو قوة الله النافذة. هذا هو "تتميم الكلام" الذي أشار إليه الكاتب "وهو خادم المقدس" أي قدس الأقداس السموي. وهنا غذاء دسم للتفكير. فالذي يجلس على العرش يخدم! فالمسيح يخدم ولو أنه يملك، ويملك في الخدمة. وتمثل الكلمتان ناحيتي شخصه وعمله- جلاله الإلهي، ومحبته غير المحدودة. والكلمة المترجمة هنا "خادم" تنصرف في اليونانية إلى المعينين خصيصاً لنوع خاص من العمل، ومن ثمَّ انصرفت إلى الخدمة التي يقوم بها المفرزون لخدمة الآلهة في الهيكل الوثني، أو خدمة الله في الهيكل اليهودي أو الكنيسة المسيحية. ومن هذه الكلمة اليونانية المترجمة "خدمة" اشتقت الكلمة التي خلعتها الكنائس الشرقية على أعظم الخدمات الدينية المسيحية وهي "قداس leitourgia أو liturgy"

"والمسكن الحقيقي" ترى لِمَ يقارن الكاتب المقْدس السمائي بذلك المسكن المصنوع من الجلود، ذلك البناء المؤقت الذي كان أشبه بخيمة أقامها بنو إسرائيل في تيه البرية، ونقلوها إلى حيثما ارتحلوا؟ كان الأولى أن يقارنه بأمجاد هيكل أورشليم الثابت على صخرته، الذائع الصيت في العالم، المتلمع بالذهب الوهاج. ولتعليل هذا نرجح أن الكاتب أراد أن يفكر في دين الإسرائيليين في أطهر أوضاعه، حينما كانوا يتلقون الوحي السمائي من الجبل المقدس. وكان "مسكن" البرية في نظر الكاتب صورة للقدس السمائي أطهر من الهيكل العظيم في أورشليم "الذي نصبه الرب" منذ الأزل. لأن حضور الله يتخذ لنفسه مقدساً "لأن الإنسان" الذي بنى المسكن الزمني للإسرائيليين "لأن" وفي الكلام تعليل لنسبة الخدمة إلى المسيح الممجد "كل رئيس كهنة" كهذا "إنما يقام لكي يقدم قرابين وذبائح" إتماماً للخدمة التي هو منوط بها. وكان على رئيس كهنة اليهود أن يقدم فرباناً، ليمكنه بواسطة الدم الدخول إلى حضرة الله في يوم الكفارة العظيم "فمن ثم لا بد" بطبيعة الحال "أن يكون لهذا أيضاً" أي للمسيح "شيء يقدمه" وذلك الشيء هو ذاته الطاهرة كما سنرى بعد الفراغ من الكلام عن "المسكن الحقيقي" غير المصنوع بالأيدي وعن دخول المسيح ذلك المسكن

"فلو كان على الأرض" أي لو لم يرتفع إلى المقدس السموي "ما كان كاهناً على الإطلاق" أي أن ذلك الكاهن الأعظم ما كان يليق إذ ذاك للخدمة الأرضية! ولماذا؟ "إذ هنالك من يقدمون القرابين بمقتدى الشريعة" بحيث لا تكون حاجة إلى آخرين ولا يوجد مركز لخادم جديد "ممن يخدمون ما هو شبه السمويات" أي لا السمويات نفسها "وظلها" لا جوهرها. والإشارة هي إلى كهنة الهيكل اليهودي. وتبرز حقيقة إيمان الكاتب في كلمات كهذه. فهو لم يكن ممن يؤمنون، كما حاول أن يفهمنا بعض الفلاسفة إن كل الأشياء الأرضية أحلام وخداع. ولكنه يؤمن إيماناً قوياً عميقاً في حقيقة الله بحيث يرى النظام الحقيقي في العالم الأزلي وفي هذا العالم المستمد حقيقته من ذاك، وهو أقل حقيقة، بل هو في الواقع ظلُّ لتلك الحقائق الناصعة. والظلّ يدل على وجود شيء أثبت منه بقاء، فلا وجود له بدون الشيء الذي يحدثه. ويفكر كثيرون من الناس أن الأشياء الأرضية حقائق ثابتة، وأشياء العالم السمائي ليست إلاَّ ظلالاً رقيقة. وهنا نرى أنه يجب أن نقلب طرائق تفكيرنا! وقد استشهد الكاتب بآية من الكتاب تدل على أن الأرضيات المقدسة إنما هي ظلال، أشباهها السمويات. فقال "كما أوحى إلي موسى وهو مزمع أن ينشئ المسكن" في البرية "إذ قال" له الله "أنظر أن تصنع كل شيء" من المقدس ومتعلقاته "حسب النموذج الذي أنت مُراه في الجبل" أنظر خروج 40:25 و30:26 و8:27 وأعمال 44:7. والذي رآه موسى في الجبل المقدس لم يكن إلا نموذجاً. وما نظن أن موسى شهد السمويات كما هي. ولكنه رآها بقدر ما يستطيع الإنسان البشري، المقيد بحدود وقيود الطبيعة البشرية، أن يرى. والأشياء السمائية التي سُمح لموسى أن يراها أعطته نموذجاً، تحت الإرشاد الإلهي، يمكن النسج على شاكلته في الأرض. وقد راق لليهود، كما راق للعرب، أن يفكروا بشوق في معاني الأسماء الشخصية. وراق في نظر فيلو الفيلسوف اليهودي السكندري أن يقول أن الرجل الذي صنع أثاث خيمة الاجتماع تحت إرشاد موسى على نسق ظلال السمويات، أطلق عليه لقب عبراني "بزالائيل" الذي معناه "في ظل الله"

فمهمة موسى إذ كانت ثانوية- أي مهمة ناسخ مقلد لا صانع أصلي. وبعد ذلك يعود الكاتب إلى عالم الحقيقة، العالم العلوي حيث دخل المسيح ليخدم إلى الأبد "وأما الآن فقد حصل" المسيح "على خدم أجل" من الخدم التي رسمها موسى "بمقدار ما هو وسيط لعهد أفضل" متسامياً فوق جميع العهود القديمة التي قطعت مع نوح (تكوين 20:8 و12و8:9- 17) ومع إبرهيم (تكوين 9:15- 11 و17 و22) ومع موسى (خروج 5:24- 17) متسامياً فوق جميع هؤلاء وهو لم يسمُ عليه أحد. لأن العهد مع الله، كما فهم العبرانيون منه، كان نظاماً جليلاً لصلة دينية بدأت في حادث تاريخي بتقديم ذبيحة لله. فكان من الطبيعي إذاً أن يتكلم الكاتب عن يسوع كوسيط لعهد جديد، إذ قدم ذاته أساساً لهذا العهد، وبهذه الذبيحة مهد السبيل لإخوته بني البشر إلى صلة جديدة مع الله وحرية الدخول إلى لدنه وعهده الجديد "سن على مواعد أفضل" (وسيقدم لنا الكاتب بعد قليل نموذجاً منها) لأن كل عهد يتضمن مواعد. وأفضلية هذه المواعد تثبت أفضلية العهد الذي عقده المسيح، وأفضلية العهد تثبت أفضلية الخدم الكهنوتية التي تعهد بها يسوع

يقدم كاتب الرسالة الآن موعداً من المواعد التي قام بها "العهد الجديد" ويختاره ليلقى نوراً على طبيعة ذلك العهد الجوهرية. تصوّر في خيالاتك مرة أخرى القراء الأولين لهذه الرسالة: هم عبرانيون نشأوا على التفاخر بأنهم الأمة الوحيدة التي قطع معها الله سبحانه وتعالى عهداً. وكان اليهود في نظر محمد نبي المسلمين، بعد هذا التاريخ بستة قرون، "أهل الكتاب" ولو سألتهم عن معنى هذا اللقب في نظرهم، لأجاوبك: "أجل، أهل كتاب العهد" (خروج7:24). فهل قُضى على أولئك المسيحيين العبرانيين أن يفقدوا، بإتباعهم المسيح، ما اعتزت به النفوس التقية، وما أحسَّت به في انتمائها إلى "شعب خاص" قطع الله معه عهداً عربوناً عن صلة لا نظير لها؟ أن كاتب الرسالة يبين لهم من كتبهم أن عهداً آخر، أعظم وأعمق وأكثر تغوراً إلى النفوس، سبق أن قطعه الله، والمسيح هو المرشد والدليل في هذا العهد الجديد الأفضل. فهم "أهل العهد" ما زالوا.

"فأنه لو كان ذلك العهد الأول" الذي توسط به موسى "بلا عيب" وبالتالي لائقاً أن يدوم إلى الأبد "لم يلتمس موضع لثانٍ" ولكن هل حصل ذلك الإلتماس؟ ولو حصل هل كان هنالك ما يسوغه؟ نعم أنه حصل في الكتاب نفسه بل أن الله نفسه هو الذي قام به "لأنه" أي الله "يقول لهم" أي للذين أعطوا العهد الأول "عائباً إياهم" لاحظ أن العيب لم يقع على العهد نفسه بل على أصحاب العهد. وإنما وجه إلى العهد نظراً لفشل أهله. والإشارة هنا إلى ارمياء 31:31- 34

وكتب ارمياء النبي، الذي يقتبس عنه الكاتب الآن، في أزمنة الضيق الخانقة من تاريخ شعبه. فكان نصف أمته (إسرائيل) قد حُمل مسبياً إلى أرض وثنية غريبة، والنصف الآخر (يهوذا) على وشك أن يقفوا أثره إلى المنفى الذليل. وكان الفريقان قد تجاهلا عهد الله وحنثا به، العهد الذي قطعه لموسى. فأهمله الله (أنظر آية9) ونشأ عن ذلك هذه النتائج المحزنة الأليمة. وفي فترة الدينونة الرهيبة يرسل الله نبيه ارمياء برسالة الرجاء في عهد جديد يخالف العهد الأول. "هوذا أيام تأتي" في مستقبل عصر ارمياء- حيث العهد الأول "يقول الرب" الكلام صادر عن كائن أعظم من أرميا "أنشء مع آل إسرائيل وآل يهوذا عهداً جديداً" وجدة ذلك العهد هي الأمر المهم فأنه تنبأ عن عهد جديد "لا كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أخذت بيدهم لأخرجهم من أرض مصر" الإشارة هي إلى العهد الأول القديم الذي قطعه الله مع بني إسرائيل على يد موسى. "لأنهم لم يثبتوا على عهدي" أن عدم ثباتهم على العهد هو الذي اقتضى أحداث تغيير في ذلك العهد "فأهملتهم أنا يقول الرب" وهم الآن في عصر ارمياء (حوالي 800 سنة بعد موسى ونحو 600 سنة قبل المسيح) تحزُّ في قلوبهم النتائج الأليمة الناجمة عن فشلهم في الاحتفاظ بعهد الله. ولكن حتى الآن أبّان ذلتهم وانكسارهم يعدُّ لهم الله عهداً أفضل وأعمق، تكون فيه النعمة- لا شريعة- أساس الصلة بالله، عهداً يقوم على دعائم جديدة كما سنرى في الآيات التالية: "لأن هذا هو العهد الذي أعاهد به آل إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب أني أجعل شرائعي في أذهانهم (مستودع الأفكار وحياة العقل) "واكتبها على قلوبهم" (مستودع حياتهم الشخصية، حياة المحبة والإرادة والشعور) بخلاف العهد الأول فأن وصاياه كانت منقوشة نقشاً مادياً وكثيراً ما كان القلب يعجز عن أن يعيها "وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي أمة" وذلك نتيجة العهد الجديد وأفضليته على العهد القديم باعتبار روحانيته. فإذا رسخت مبادئه في قلوب المؤمنين أصبحوا في الحقيقة أمة لله. هكذا كان المنتظر لأن خلاصة العهد الجديد كانت إتمام العلاقات الداخلية بين النفس والله. وهذا يأتي بنا إلى الأمر الآخر وهو "ولا يعلّم بعد كل واحد قريبه وكل واحد أخاه قائلاً أعرف الرب" أي أن التعليم لا يكون خارجياً فلا يلقن المعلم تلاميذه "لأن الجميع سيعرقونني من صغيرهم إلى كبيرهم" فيكون التعليم منتشراً عاماً بين أولاد العهد الجديد الذين متى حصلوا عليه كانوا كأنهم قد ولدوا ثانية ودخلوا العهد من باب التوبة كما ترى مما يلي: "لأني أكون صفوحاً عن آثامهم ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم فيما بعد" وهذا أساس العهد الجديد فأن الله يغفر خطايا الخاطئ ويهديه ويعدُّه للطاعة فيكون خاضعاً للشريعة الجديدة- شريعة المحبة لله والإنسان. هذه هي الشريعة المشار إليها في كلام ارمياء وقد أنبئ صريحاً قبل إتمامها بستة قرون. وقد علق الكاتب عليها بقوله "فبقوله جديداً" أي بقوله "أنشئ مع آل إسرائيل... عهداً جديداً" "جعل الأول عتيقاً" كما هو المعقول منطقياً. فيكون العهد القديم إذاً قد زال "وأن ما كان عتيقاً وشائخاً فهو موشك على الفناء" ليس المعنى أنه يجب نقضه بل أن دوره قد تم. فالمسيح لم يأت لينقض الناموس بل ليتممه. كما أن الدودة عندما تصبح فراشة فالفراشة لا تنقض الدودة بل تكملها وتتمم الغاية التي وجدت من أجلها. فالمسيح بإتمامه عهد المحبة والنعمة الجديدة نبذ قشر الناموس الموسوي. هذا هو الدرس الذي كان العبرانيون لا يزالون يحتاجون إليه. فهم ارتاعوا لزوال الشريعة وطقوس الهيكل والكهنوت والتقدمات والصلوات وغيرها من الشعائر فكان لا بد من تطمين عقولهم

سل القديسين الذين حاولوا أن يعيشوا في أي دين: "ما الهَدف في الدين الحق!" يجيبوك: "هو الاعتراف بالله والأنس معه المقرونان بمعرفته، مما لا يتهيأ إلاَّ للذين ثبتوا في إرادته ورضوا بها. ولن يكون هذا إلاَّ بإظهار رحمته في الغفران التام". هذا نتيجة العهد الذي قام يسوع وسيطاً له

رأينا من شرح الفصول السابقة (1) أن هنالك كاهناً وشفيعاً أزلياً و (2) أن العهد المعقود بين الله والإنسان بواسطة الشفيع هو عهد أزلي. ونأتي الآن إلى أمر ثالث وهو وظيفة ذلك الكاهن فيما يختص بالتقدمات

ويبدأ وصفه بتذكير قارئيه بشكل المقْدس ونوع الخدمات التي استمتعها شعب إسرائيل تحت العهد الأول في أبهى عصوره المبكرة. لأن هذه الأشياء، على حد قوله، كانت ظلالاً ونماذج لحقائق العالم السمائي. ولذلك نرى الكاتب يفكّر ملياً في ذخائر الماضي المقدسة الثمينة: ولم تكن تلك عديمة القيمة، فإنها ختمت بخاتم الله، ولا يجوز إغفالها إلاَّ بإحلال حقيقة أكثر منها مجداً وأكثر امتلاء بالله. فتقول الرسالة أن في شعائر العبادة الموسوية الشيء الكثير من الجلال والروعة والجاذبية، وهذا ما أحسَّ به العبرانيون المسيحيون إحساساً صادقاً مرهفاً، والمسيحيون في كل البلدان والعصور لا بد يشاركونهم في هذا الإحساس، فأنهم كلما ازدادوا إدراكاً لجمال تلك النماذج والعهود وما انطوت عليه من معان، ازداد حبهم وفهمهم لجمال الإنجيل ومعانيه، الذي يكملها

9: 1- 10

 

1ثُمَّ الْعَهْدُ الأَوَّلُ كَانَ لَهُ أَيْضاً فَرَائِضُ خِدْمَةٍ وَالْقُدْسُ الْعَالَمِيُّ، 2لأَنَّهُ نُصِبَ الْمَسْكَنُ الأَوَّلُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ «الْقُدْسُ» الَّذِي كَانَ فِيهِ الْمَنَارَةُ، وَالْمَائِدَةُ، وَخُبْزُ التَّقْدِمَةِ. 3وَوَرَاءَ الْحِجَابِ الثَّانِي الْمَسْكَنُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ «قُدْسُ الأَقْدَاسِ» 4فِيهِ مِبْخَرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَتَابُوتُ الْعَهْدِ مُغَشًّى مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بِالذَّهَبِ، الَّذِي فِيهِ قِسْطٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ الْمَنُّ، وَعَصَا هَارُونَ الَّتِي أَفْرَخَتْ، وَلَوْحَا الْعَهْدِ. 5وَفَوْقَهُ كَرُوبَا الْمَجْدِ مُظَلِّلَيْنِ الْغِطَاءَ. أَشْيَاءُ لَيْسَ لَنَا الآنَ أَنْ نَتَكَلَّمَ عَنْهَا بِالتَّفْصِيلِ. 6ثُمَّ إِذْ صَارَتْ هَذِهِ مُهَيَّأَةً هَكَذَا، يَدْخُلُ الْكَهَنَةُ إلى الْمَسْكَنِ الأَوَّلِ كُلَّ حِينٍ، صَانِعِينَ الْخِدْمَةَ. 7وَأَمَّا إلى الثَّانِي فَرَئِيسُ الْكَهَنَةِ فَقَطْ مَرَّةً فِي السَّنَةِ، لَيْسَ بِلاَ دَمٍ يُقَدِّمُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ جَهَالاَتِ الشَّعْبِ، 8مُعْلِناً الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَذَا أَنَّ طَرِيقَ الأَقْدَاسِ لَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ، مَا دَامَ الْمَسْكَنُ الأَوَّلُ لَهُ إِقَامَةٌ، 9الَّذِي هُوَ رَمْزٌ لِلْوَقْتِ الْحَاضِرِ، الَّذِي فِيهِ تُقَدَّمُ قَرَابِينُ وَذَبَائِحُ لاَ يُمْكِنُ مِنْ جِهَةِ الضَّمِيرِ أَنْ تُكَمِّلَ الَّذِي يَخْدِمُ، 10وَهِيَ قَائِمَةٌ بِأَطْعِمَةٍ وَأَشْرِبَةٍ وَغَسَلاَتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَفَرَائِضَ جَسَدِيَّةٍ فَقَطْ، مَوْضُوعَةٍ إلى وَقْتِ الإِصْلاَحِ

ثم أنه حتى العهد الأول كانت له فرائض عبادة ومقدس هو ديني. لأنه نصب المسكن الأول الذي يُقال له القدس وفيه المنارة والمائدة وخبز التقدمة: ووراء الحجاب الثاني المسكن الذي يقال له قدس الأقداس. له مبخرة من ذهب وتابوت العهد يغشيه الذهب من كل جهة وفيه قسط من ذهب فيه المن وعصا هرون التي أفرخت ولوحا العهد. ومن فوقه كروبا المجد يظللان الغطاء. الأمور التي لا يمكن تفصيل الكلام عنها الآن.

وإذ كان ذلك على هذا الترتيب فالمسكن الأول كان يدخله الكهنة في كل حين لإتمام شعائر العبادة. وأما الثاني فرئيس الكهنة فقط وذلك مرة في السنة. ولا يدخل إلا بالدم الذي يقربه عن نفسه وعن جَهَالاَتِ الشَّعْبِ. وبذلك يشير الروح القدس إلى أن طريق الأقداس لم يُعلن بعد ما دام المسكن الأول قائماً. الذي هو مثال للوقت الحاضر إذ يقرب فيه تقادم وذبائح غير قادرة على تكميل العابد من جهة الضمير وإنما هي قائمة بمأكولات ومشروبات وأنواع غسل وفرائض جسدية سنت حتى زمان الإصلاح. 

"ثم" إذا تركنا مسألة العهدين القديم والجديد والتفتنا إلى وظيفة المسيح الكهنوتية نجد "أنه حتى العهد الأول كانت له فرائض عبادة متنوعة" ولها فوائد "ومقدس هو دنيوي" أي من العالم المنظور فهو وقتيّ زائل، مع أن المسيح يخدم في عالمي الملكوت والجبروت غير المنظورين

وقبل أن نأتي على الوصف التفصيلي الذي أدلى به الكاتب عن المَقْدس القديم وما كان فيه، نرجو أن يدرس القارئ الكريم الرسم التالي:

فالحرف (أ) يشير إلى الحوش والرقم (1) يدل على موضع المذبح والرقم (2) يدل على الغطاء والحرف (ب) يشير إلى القدس. والرقم (3- 3) يدل على الحجاب. والرقم (4) على المنارة الذهبية. والرقم (5) على المائدة وخبز الوجوه. والرقم (6) على المذبح الذهبي. والرقم (7- 7) على الحجاب الثاني. والحرف (ج) يشير إلى قدس الأقداس. والرقم (8) يدل على تابوت العهد وعليه الكروبان

"لأنه نصب المسكن الأول" وكان هذا المسكن مؤلفاً من خيمتين أقيمتا في الفناء الخارجي حيث كانت تقدم الذبائح، ومنه كان يدخل الكاهن من مدخل مسجوف "الذي يقال له القدس" المسكن الأول. "وفيه" أي في القدس "المنارة والمائدة وخبز التقدمة" أنظر خروج 23:25- 31

وهذه الأشياء الثلاثة دلَّت على الشكر والصلاة، على مجد النار المطهرة الممثَّلة لتسبيح عناصر الطبيعة، والخبز اليومي الذي هو تقدمة عرق الإنسان وجهاده في عمله اليومي وشكره على الخبز اليومي، ومذبح البخور الذي مثَّل دخانه المعطر بالرائحة صلوات شعب الله الصاعدة إلى السماء والممتزجة بعبادة الأجناد السمائية "ووراء الحجاب الثاني" الذي كان يفصل بين الردهتين أو المقصورتين بحيث كانت الأولى بمثابة منفذ من الحوش إلى الخيمة "المسكن الذي يقال له قدس الأقداس" لأنه كان رمزاً إلى حضور الله "له مبخرة من ذهب" ولم يقل "فيه" مبخرة من ذهب لأن المبخرة كانت في المسكن الأول. وفي الخيمة الخارجية تحدّث كل شيء عن عبادة الإنسان وتسبيحه وسائر المخلوقات الأخرى وهنا دلَّ كل شيء على الحضور الإلهي كما رأينا. وقد قيل أنها من متعلقات قدس الأقداس، لأن العبادة الروحية الممثلة بالبخور (كما رأينا) كانت متجهة على حضرة الله المقدسة. وكانت المبخرة على شكل صندوق من الخشب مطعم بالذهب. كان يُحرق فيها البخور كمذبح. فلم تكن هذه إذاً داخل قدس الأقداس بل من متعلقاته فقط، والأشياء المذكورة هي التي كانت بداخله: "وتابوت العهد يغشيه الذهب من كل جهة" وكان هذا صندوقاً ذهبياً حوى الذخائر التي ذكّرت الشعب بوحي الله وإعلان صلاحه وعنايته بهم، كما أن كلاًّ منها أقترن بقصة عن عصيان الشعب وفشله "وفيه قسط من ذهب" كان قد وضع "فيه المنّ" كذكرى لعناية الله الأبوية المقيتة (أنظر خروج ص 16) وكذلك أيضاً كان في التابوت "عصا هرون" ذكرى لاقتراب الشعب لله بواسطة نظام الكهنوت في نسل هرون (أنظر سفر العدد ص 16و17 "ولوحا العهد" القديم ذكرى لإعلان الله فوق جبل سيناء وإعطاء شعبه شريعة وعهداً لإرشاد حياته وجعله شعباً مختاراً له (أنظر خروج 16:25 و21 وتثنية 9:9 و1:10) "ومن فوقه كروبا المجد يظللان الغطاء" وهما أقرب رمز إلى الله. راجع ما جاء في جواهر القرآن للغزالي صفحة 13 وهو قوله:

"والملائكة السموية وأعلاهم الكروبيون وهم العاكفون في حظيرة القدس، لا التفات لهم إلى الآدميين، بل لا التفات لهم إلى غير الله تعالى لاستغراقهم بجمال الحظرة الربوبية وجلالها فهم قبل الله إشارة إلى مرموزات معينة"

 وكانت السحابة تستقر عادة "بين الكروبيم" وهي التي كانت تدل على حضور الله وسط شعبه في مقدسه (أنظر خروج 22:25 وعدد 89:7 واشعياء 16:37 ومزامير 1:80 و1:90 الخ). ودعي غطاء التابوت المظلل بأجنحة الكاروبيم "كرسي الرحمة"

ومما نلاحظ في هذا الوصف المثلث تكرار كلمة "ذهب" للدلالة على بهاء تلك العبادة القديمة وروعتها. وكان رئيس الكهنة يقوم بكل الواجبات المفروضة عليه يوم عيد الكفارة العظيم، وهو متشح بملابسه الذهبية

واستأنف الكاتب كلامه فقال أن الأشياء التي أشار إليها هي من "الأمور التي لا يمكن تفصيل الكلام عنها الآن" مما يدل على أن لكل منها مغزى روحياً

وصمت كاتب الرسالة عن الإشارة إلى معنى هذه الأشياء كلها التي أثارها في عقول قرائه، إنما يرجع إلى شديد رغبته واهتمامه في شرح مغزى الحجاب الثاني وقدس الأقداس "وإذا كان ذلك على هذا الترتيب" المرسوم من قبل الله إشارة إلى مرموزات معينة "فالمسكن الأول" أي القدس "كان يدخله الكهنة" جميعاً "في كل حين" أي يومياً "لإتمام شعائر العبادة" ولا سيما تقديم الصلوات اليومية عن الشعب بهيئة بخور يقدم على المذبح الذهبي. أنظر لوقا 8:1 وما بعده "وأما الثاني فرئيس الكهنة فقط" إذ لم يكن يسمح لغيره أن يدخل إلى ما وراء الحجاب "وذلك مرة في السنة" في يوم الكفارة الذي كان رأس السنة اليهودية "ولا يدخل إلا بالدم"

والذي كان مصرحاً له بالدخول دون سواه، لم يكن ليسمح له ذلك بدون حمل الدم من الذبيحة المقدمة في الفناء الخارجي "الذي يقرب عن نفسه وعن جهالات الشعب" أنظر لاويين 11:16- 17 وكان رئيس الكهنة يأخذ من دم الثور الذي كان يعد ذبيحة عن خطايا نفسه، ويحمله إلى ما وراء الحجاب ثم يرشه سبع مرات أمام كرسي الرحمة. وبعد ذلك يأخذ من دم العنزة التي كانت ذبيحة عن خطايا الشعب. ويحمله إلى ما وراء الحجاب ويرشه كما فعل بدم الثور "وبذلك" أي بهذه القيود التي ذكرناها وهي قيود الحجاب والكهنوت وقصر الدخول على رئيس الكهنة فقط دون سواه وما صحب هذا الدخول من الرسوم والطقوس التي أسلفنا "يشير الروح القدس" الذي يوحي ويعلن "إلى أن طريق الأقداس لم يعلن بعد" حتى يسلك جميع المؤمنين ويدخلوا إلى حيث الحضرة الإلهية

وكان بنو إسرائيل الذين نصبوا خيامهم في البرية حول خيمة الله، يذكرون دائماً حضرة الله في وسطهم. ومع ذلك فأنهم حين كانوا يدخلون الخيمة ويرون أمامهم الحجاب قائماً فلا يجوز لأحد الدخول إلى ما ورائه، كانوا يذكرون أن الحضرة الإلهية الداخلية لم تكن مباحة للكل. ولم يكن بدُّ من هذا "ما دام المسكن الأول قائما" لأن ذلك المسكن الأول كان مقراً لطقوس الذبائح الخارجية التي لم تكن إلاَّ نماذج للذبائح الحقيقية. ولم يكن الحاجز الذي حال دون دخول الإنسان إلى الحضرة الإلهية من الله، بل من الإنسان نفسه بسبب خطيته. كما يقول المتصوفة بحق أن الحجب التي لا يمكن إزالتها هي في قلب الإنسان ذاته. لذلك لم يكن ممكناً لنظام الذبائح الخارجية أن تفتح الطريق إلى حضرة الله الداخلية، بل كان ذلك المسكن الخارجي بطقوسه بمثابة حاجز يمنع الدخول إلى قدس الأقداس، كما أن من الممالك الصغيرة ما يقف حاجزاً أو سداً منيعاً بين مملكتين عظيمتين متجاورتين. فالمسكن الأول وأن كان لا يزال يومئذ قائماً بالمعنى المادي فأن المسيح كان قد هدمه بالمعنى الروحي وذلك في اليوم الذي هجره (أنظر متى 38:23) وانشق الحجاب الداخلي (متى 51:27) وهكذا تم خراب ذلك المسكن "الذي هو مثال للوقت الحاضر" "والوقت الحاضر" في عرف الكاتب يُقارن "بالدهر الآتي" (ص 6 آية 5). فالوقت الحاضر يمثل هذا العصر، العالم المنظور المحيط بنا، والحياة على هذه البسيطة حيث نرى الأشياء السماوية كمثال فقط. وأما الدهر الآتي فيمثل عالم الحقيقة السمائية التي نبدأ بالدخول إليها الآن، بوساطة المسيح، والتي نفوز في نهايتها بالحياة الكاملة في تماس مع الحقيقة ذاتها، لا الأمثال والرموز

9: 11- 20

 

11وَأَمَّا الْمَسِيحُ، وَهُوَ قَدْ جَاءَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ لِلْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ، فَبِالْمَسْكَنِ الأَعْظَمِ وَالأَكْمَلِ، غَيْرِ الْمَصْنُوعِ بِيَدٍ، أَيِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْخَلِيقَةِ. 12وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إلى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً. 13لأَنَّهُ إِنْ كَانَ دَمُ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ وَرَمَادُ عِجْلَةٍ مَرْشُوشٌ عَلَى الْمُنَجَّسِينَ يُقَدِّسُ إلى طَهَارَةِ الْجَسَدِ، 14فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا اللهَ الْحَيَّ! 15وَلأَجْلِ هَذَا هُوَ وَسِيطُ عَهْدٍ جَدِيدٍ، لِكَيْ يَكُونَ الْمَدْعُّوُونَ - إِذْ صَارَ مَوْتٌ لِفِدَاءِ التَّعَدِّيَاتِ الَّتِي فِي الْعَهْدِ الأَوَّلِ - يَنَالُونَ وَعْدَ الْمِيرَاثِ الأَبَدِيِّ. 16لأَنَّهُ حَيْثُ تُوجَدُ وَصِيَّةٌ يَلْزَمُ بَيَانُ مَوْتِ الْمُوصِي. 17لأَنَّ الْوَصِيَّةَ ثَابِتَةٌ عَلَى الْمَوْتَى، إِذْ لاَ قُوَّةَ لَهَا الْبَتَّةَ مَا دَامَ الْمُوصِي حَيّاً. 18فَمِنْ ثَمَّ الأَوَّلُ أَيْضاً لَمْ يُكَرَّسْ بِلاَ دَمٍ، 19لأَنَّ مُوسَى بَعْدَ مَا كَلَّمَ جَمِيعَ الشَّعْبِ بِكُلِّ وَصِيَّةٍ بِحَسَبِ النَّامُوسِ، أَخَذَ دَمَ الْعُجُولِ وَالتُّيُوسِ، مَعَ مَاءٍ وَصُوفاً قِرْمِزِيّاً وَزُوفَا، وَرَشَّ الْكِتَابَ نَفْسَهُ وَجَمِيعَ الشَّعْبِ، 20قَائِلاً: «هَذَا هُوَ دَمُ الْعَهْدِ الَّذِي أَوْصَاكُمُ اللهُ بِهِ».

وأما المسيح الذي جاء رئيس كهنة للخيرات المستقبلة فإنه دخل بالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بالأيدي أي الذي ليس من هذه الخليقة. وليس بدم تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ دخل الأقداس مرة واحدة فوجد فداء أبدياً. لأنه إن كان بدم تيوس وثيران ورماد عجلة يرش على المنجسين فيقدسهم لتطهير الجسد. فكم بالأحرى دم المسيح الذي بالروح الأزلي قدم نفسه لله بلا عيب يطهر ضمائركم من الأعمال الميتة لتخدموا الله الحي. ولذلك هو وسيط عهد جديد حتى أنه بعد وقوع الموت للفداء من المعاصي التي جرت تحت العهد الأول، ينال المدعوون موعد الميراث الأبدي لأنه حيث تكون وصية- والوصية عهد- غلا بد هناك من موت الموصي. لأن الوصية إنما هي نافذة على الموتى وإلا فلا عمل لها البتة ما دام الموصي حياً. فمن ثم لم يدشن حتى العهد الأول بلا دم. لأن موسى بعد أن تلا على جميع الشعب كل فرائض الشريعة أخذ دم العجول والتيوس مع ماء وصوف قرمزي وزوفا ورش على الكتاب عينه وعلى جميع الشعب قائلاً هذا هو دم العهد الذي فرضه الله عليكم.

وإلى هذا "الوقت الحاضر" ينتسب النظام الموسوي كله في الاقتراب لله عن طريق التقدمات الخارجية "إذ يقرب فيه تقادم وذبائح غير قادرة على تكميل العابد من جهة الضمير" إذ لا تستطيع أن تمنح الضمير راحة ولا أن تجعل صاحب ذلك الضمير مكملاً. والمقصود من التكميل هنا تكميل غرض التقدمة. لأنها كلها متعلقة بحياة الحواس الخارجية، الأشياء التي تُلمس وتذاق وترى

وقد اكتفى الكاتب بما قاله عنها هنا وأردفه بقوله "وإنما هي قائمة بمأكولات ومشروبات وأنواع غسل" وجميعها أمور ظاهرة محسوسة "وفرائض جسدية" لا تأثير لها في الضمير. وكانت قد "سنت حتى زمن الإصلاح" تمهيداً له ورمزاً إليه كما قال بولس الرسول في غلاطية 24:3 "قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح"

وهاك الآن أوجه الفرق:

"وأما المسيح الذي جاء رئيس كهنة للخيرات المستقبلة" قوله "المستقبلة" هو بالنسبة إلى تلك الأزمنة التمهيدية وعبارة "الخيرات المستقبلة" يمكن أن تُقارن "بقوى الدهر الآتي" (أنظر فصل 6 آية 5) فتلك "القوى" يمكن أن تذاق هنا الآن، كذلك "الخيرات المستقبلة" ولو أنه لا يمكن الاستمتاع بها استمتاعاً كاملاً إلاَّ في العالم الأبدي، الذي هو موطن المسيح. "فأنه دخل بالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بالأيدي" والإشارة هنا إما إلى عالم الملكوت المقابل للقدس (بحيث يكون قدس الأقداس مقابلاً لعالم الجبروت الذي تتمثل فيه الحضرة الإلهية) أو إلى أن المسكن في حد ذاته يشير إلى الحضرة الإلهية "أي الذي ليس من هذه الخليقة" بمعنى أنه ليس من الخليقة الدنيوية أو غير مخلوق البتة "وليس بدم تيوس وعجول" كما كان يفعل رئيس الكهنة في يوم الكفارة "بل بدم نفسه" الذي أهرقه حباً بالجنس البشري فكان أثمن كفارة "دخل قدس الأقداس" السموية "مرة واحدة" بدون اضطرار لتجديد الفريضة دائماً كما يفعل رؤساء الكهنة "فوجد فداء أبدياً" لأن العمل تم بفعل عناصر أبدية فكانت النتيجة أبدية. فالمسيح الكاهن، والتقدمة، معاً دخل بدمه إلى قدس الأقداس ومكث هناك وسيظل ماكثاً إلى الأبد لأن كفارته أبدية. فأنظر الفرق بين الكفارتين "لأنه إن كان دم تيوس وثيران ورماد وعجلة يرش على المنجسين فيقدسهم لتطهير الجسد" أنظر لاويين 16 وعدد 19. وكان الإسرائيلي إذا لمس جسداً ميتاً يتنجس فيفرز عن الجماعة ولا يشترك معهم في فروضهم الدينية، ولا يتطهر إلا بطرق معينة إذا عمل بموجبها سمح له بالعودة إلى مصاحبة شعب الله. قال كاتب الرسالة إذا كانت تلك الطرق أو الوسائل تستطيع أن تطهر الإنسان "فكم بالأحرى دم المسيح" الذي لا يقدر بثمن (1) لأنه دم الإنسان الكامل والابن المتجسد و (2) لأن اهراقه كان دليلاً على طاعته حتى الموت ومحبته التي لا تثمن. فأنه لم يقدم نفسه اعتباطاً بل هو "الذي بالروح الأزلي قدم نفسه لله بلا عيب" عن شعور كامل وإدراك تام بقوة روحه الأزلي غير القابل للفناء. فتقدمته كان لها أسمى قيمة وقربانه "يطهر ضمائركم" أيها العبرانيون وليس أجسادكم فقط. كانت الذبائح القديمة خارجية، أما هذا فذبيحة داخلية، ذبيحة نفسه واهراق الدم الخارجي أيضاً. وهذا في مكنته أن يتغور إلى ما هو أبعد من أجسادكم، إلى حياتكم الداخلية ويطهركم "من الأعمال الميتة" أي الخطايا التي تدنس النفس كما كان لمس الأجساد الميتة تدنس الإسرائيليين قديماً. فموت المسيح كفارة يذهب بذلك الدنس ويطهر الضمائر "لتخدموا الله الحي" بقلوب حية. لأن الإله الحي لا يتعبده إلا ذوو القلوب والضمائر الحية

"ولذلك" أي لأن عمل المسيح يطهر الضمير ويصلح العلاقة بين الله والإنسان "هو وسيط عهد جديد" بل هو الخاتمة التي تسد ما كان في العهد الأول من نقص وقصور، وتعوض عنه بعهد كامل مستديم كما يتضح من الآية التالية. ويعود المؤلف بفكره إلى ذلك الموعد النبوي في عهد جديد، فيه تُكتب شرائع الله المقدسة على قلوب شعبه، ويكون للجميع حق الوصول إليه "ويعرفونه... من صغيرهم إلى كبيرهم" (أنظر فصل 8 آية 8-12). وهو يبين الآن كيف كان موت المسيح المطهر، الوسيلة الوحيدة التي هيأت السبيل لتحقيق العهد الموعود به في ارتباط القلوب بالله. وذلك لأن كل العهود التي عرفها العبرانيون تقدمها، كما رأينا، ذبائح انطوت على الموت "حتى أنه بعد وقوع الموت" أي موت أي شيء ذي أهمية حقيقية "للفداء من المعاصي التي جرت في العهد الأول" فأن ذلك الفداء كان يسري على الماضي وهي خاصة مهمة من خواصه، لأنه إذا كان دم الحيوانات لا يستطيع أن يطهر روحياً في أيام العبرانيين، فمن الطبيعي أنه كان على مثل ذلك العجز في الأيام التي قبلها "ينال المدعوون" في ذلك الزمن وأبداً "موعد الميراث الأبدي" أي الراحة الدائمة كما جاء في الفصول السالفة- تلك الراحة المقرونة بالمغفرة والسلام والنصرة. وقد ذكر كاتب الرسالة في موضع آخر أن نفس قديسي العهد القديم ظلوا غير مكملين حتى تمام عمل المسيح (عبرانيين 40:11) والعهد الجديد أيضاً يشير إلى هذه الحقيقة بطرق متنوعة

والآية التالية هي في الحقيقة جملة معترضة وهي تبين حالة أخرى من حالات "بعد وقوع الموت" قال "لأنه حيث تكون وصية- والوصية عهد-" أن للفظتي وصية وعهد في الأصل اليوناني لفظة واحدة تقارب معنى "عهد"

9: 21- 28

 

21وَالْمَسْكَنَ أَيْضاً وَجَمِيعَ آنِيَةِ الْخِدْمَةِ رَشَّهَا كَذَلِكَ بِالدَّمِ. 22وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيباً يَتَطَهَّرُ حَسَبَ النَّامُوسِ بِالدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ! 23فَكَانَ يَلْزَمُ أَنَّ أَمْثِلَةَ الأَشْيَاءِ الَّتِي فِي السَّمَاوَاتِ تُطَهَّرُ بِهَذِهِ، وَأَمَّا السَّمَاوِيَّاتُ عَيْنُهَا فَبِذَبَائِحَ أَفْضَلَ مِنْ هَذِهِ. 24لأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إلى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ الْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إلى السَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ الآنَ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ لأَجْلِنَا. 25وَلاَ لِيُقَدِّمَ نَفْسَهُ مِرَاراً كَثِيرَةً، كَمَا يَدْخُلُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ إلى الأَقْدَاسِ كُلَّ سَنَةٍ بِدَمِ آخَرَ. 26فَإِذْ ذَاكَ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَأَلَّمَ مِرَاراً كَثِيرَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلَكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ. 27وَكَمَا وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّيْنُونَةُ، 28هَكَذَا الْمَسِيحُ أَيْضاً، بَعْدَ مَا قُدِّمَ مَرَّةً لِكَيْ يَحْمِلَ خَطَايَا كَثِيرِينَ، سَيَظْهَرُ ثَانِيَةً بِلاَ خَطِيَّةٍ لِلْخَلاَصِ لِلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَهُ

بل المسكن أيضاً وجميع أدوات الخدمة رش عليها من الدم. ويكاد كل شيء يتطهر بالدم حسب الشريعة وبدون سفك دم لا مغفرة. فكان ينبغي أن أمثلة الأشياء التي في السموات تطهر بهذه، وأما السمويات عينها فبذبائح أفضل من هذه. لأنه ليس إلى أقداس مصنوعة بالأيدي رموزاً للحقيقة دخل المسيح، بل إلى السماء بعينها ليتراءى الآن أمام وجه الله من أجلنا. ولا ليقرب نفسه مراراً كما يدخل رئيس الكهنة كل سنة إلى الأقداس بدم غيره. وإلا كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم. ولكنه الآن عند انقضاء الدهور قد أظهر مرة واحدة لإبطال الخطية بذبيحة نفسه. وكما حتم على الناس أن يموتوا مرة واحدة ثم بعد ذلك الدينونة. هكذا المسيح أيضاً بعد ما قرب مرة واحدة لرفع خطايا الكثيرين سيظهر ثانية للخلاص منفصلاً عن الخطية للذين يتوقعونه.

وقد حاول الكاتب أن يبين أن ما يصدق على العهد يصدق أيضاً على "الوصية" بعد الموت فأنه "لا بد هناك من موت الموصي" أي أنه لا بد من وقوع الموت لكي يكون هنالك وصية "لأن الوصية إنما هي نافذة" بحرفيتها "على الموتى. وإلا فلا عمل لها البتة ما دام الموصي حياً" فبهذا الاعتبار أيضاً نجد أنه قد كان لا بد للسيد المسيح من الموت. لأنه ترك لنا وصية هي ميراث ثمين إذ قال "وصية جديدة أنا أعطيكم. أن تحبوا بعضكم بعضاً. كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً". فهذا العهد هو وصية أكثر منه أمراً وقد كان لا بد للسيد من الموت حتى يبين لنا جلياً معنى قوله "كما أحببتكم أنا" فموت يسوع المسيح كان ضرورة أدبية روحية مهما تكن الاعتبارات التي ينظر إليه بها. وقد انتقل كاتب الرسالة من الكلام عن الوصية إلى الكلام عن وجوب الموت لإنشاء العهد فقال "ومن ثم" أي مما رأينا فيما سبق من العلاقة بين الموت وبين مزايا الوصية أو العهد، ننتقل إلى الأمر الواقع في العهد الأول- أي العهد الموسوي- الذي "لم يدشن حتى العهد الأول بدون دم" فأن ذلك العهد على رغم ضعفه يجب تدشينه وأن يكن فقط رمزاً إلى حقيقة مستقبلة "لأن موسى بعد أن تلا على الشعب كل فرائض الشريعة" راجع ما جاء في خروج ص 20-23 "أخذ دم العجول والتيوس مع ماء وصوف قرمزي وزوفا ورش على الكتب" أي سفر العهد الذي كتبه موسى. أنظر خروج 4:24 "ورش على الكتاب عينه وعلى جميع الشعب" راجع خروج 8:24 "قائلاً هذا هو دم العهد الذي فرضه الله عليكم" خروج 8:24 وقد أشار المخلص إلى هذه الآية في العشاء الأخير في ليلة موته إذ أخذ الكأس المملوَّة من عصير العنب وقال "لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا" (متى 28:26) وقد أشار بهذه الآية إلى دمه الذي كان موشكاً أن يهدر وقد رمز إليه بعصير العنب الأحمر. وكان ذلك اليوم لتدشين العهد الجديد. فما أبلغ هذا التوافق بين آيات الكتاب. ثم أن الدم لم يرش على الكتاب فقط "بل المسكن أيضاً" ولم يُذكر في التوراة أن المسكن نفسه رُشَّ بالدم. ولكن يوسيفوس المؤرخ اليهودي المعاصر لكاتب الرسالة يقول أن هذه كانت العادة المتبعة (أنظر تاريخ اليهود .6.8. Antiquities of the Jews TTT) ونرى هنا نقطة أو نقطتين من المسائل التفصيلية يذكرهما الكاتب دون أن يكون لهما سند في التوراة. ويجب ألا يفوتنا أنه قد توافر للكاتب- كما توافر للمؤرخ يوسيفوس- شيء كثير من الأحداث اليهودية وكتابات الحكماء والمؤرخين علاوة على أسفار الكتاب المقدس "وجميع أدوات الخدمة رش عليها بالدم. ويكاد كل شيء يتطهر بالدم حسب الشريعة" كما يظهر من أهمية الدم في أسفار الخروج واللاوين والعدد "وبدون سفك الدم لا مغفرة" لخص الكاتب الحقيقة بهذه الآية مبيناً أن الدم هو قوام الحياة فسفك الدم يعني بذل النفس. ولا يخفى أن أجرة الخطية هي الموت. والخلاص من هذه النتيجة لا يتم إلى إذا بذل البار نفسه في سبيل ذلك. وهذه التضحية الدالة على منتهى الحب هي للجميع بشرط أن يقبلوها بالإيمان. والإيمان يغير النفس وينصرها على الخطية وليس فقط يجنبها عن نتائجها الوخيمة

كان رئيس الكهنة في زمن العهد القديم ينقل دم الذبيحة من المذبح إلى قدس الأقداس. وقد كان هذا الطقس رمزياً تم في المسيح الذي سفك دمه ونقل إلى قدس الأقداس الروحي أي إلى السماء. قال الكاتب "فكان ينبغي أن أمثلة الأشياء التي في السموات" والإشارة بقوله "أمثلة" هي إلى خيمة الاجتماع والأثاثات أو الأشياء الأخرى المستعملة في العبادة والتي ذكرت في بداية هذا الفصل. ولكن كيف تحتاج هذه الأشياء الجامدة غير الحية إلى التطهير بالدم (وهو الذي يرمز دائماً إلى الحياة المبذولة)؟ كانت كل هذه بلا خطية، ولا يمكن أن تخطئ. أجل هذا حق. ولكنها كانت ترمز إلى اقتراب الإنسان لله في عبادته، وتقدماته من قوى الخليقة، ونور النار، وكفاحه في الحياة، وغذائه، وإلهامه الروحي. ولأن هذه كلها اقترنت بالإنسان الساقط وعبادته، لا بد أن تطهر هي أيضاً. قارن هذا بما جاء في سفر التكوين 17:3 واشعياء 5:24 ورومية 20:8 و21 وكأن عدوى الخطية السارية في عالمنا كله قد استوجبت أن يشمل تطهير الكاهن، لا العابدين فقط، بل المقدس الأرضي بكل مشتملاته التي "تطهر بهذه" الذبائح الحيوانية "وأما السمويات عينها فبذبائح أفضل منها" قوله "ذبائح" بصيغة الجمع هو للتعميم لا للكثرة. والمقصود منه ذبيحة المسيح

والسمويات معناها مقدس العبادة الروحية المرفوعة لله في العلاء، طريق الاقتراب الروحي إلى قدس الأقداس الذي هو الحضرة الإلهية. وهذا يجب تطهيره لأن الروح التي تعبد، وخدمتها الروحية، وعبادتها- هذه يجب أن تطهر أولاً قبل أن تفتح الطريق إلى قدس الأقداس الذي هو إعلان الله لذاته. وهذه الفكرة، فكرة تطهير العبادة الروحية التي يجوز بها الإنسان إلى العالم الأزلي غير المنظور، العبادة التي هي جزء من السمويات ولو أنها تقدم هنا محوطة بالظروف الأرضية- ذائعة جداً في طقوس العبادة المسيحية الأولى التي اشتملت دائماً على طلبات وأدعية لأجل ذلك التطهير. والحق أن جميع الذين سعوا وراء الله قد أحسوا بحاجتهم إلى هذا التطهير في حركات حياتهم الروحية المقدسة، ما قال ربيعة العدوية: "أني ألتمس من الله غفراناً لعدم إخلاصي حين أتقدم إليه لالتماس الغفران"

"لأنه" تفسير لما قبله "ليس إلى أقداس مصنوعة بالأيدي" كالأقداس التي صنعها موسى "رموزاً للحقيقة دخل المسيح بل إلى السماء بعينها" بل إلى قدس الأقداس الذي هو مظهر إعلان الله وتقدمة ذاته، على مقدس الإنس والتوحيد "ليتراءى الآن" وكل أوان "أمام وجه الله" وهذا لم يفعله من قبل أحد سواه لا نبي ولا كاهن. وكان رئيس الكهنة الهاروني، عند ما يدخل إلى المقدس الداخلي القاتم مرة واحدة في السنة، لا يجد مظهر الله الصريح، بل السحابة القائمة فوق عرش الرحمة. قارن هذا بقصة موسى الذي طلب أن يرى مجد الله (خروج 18:33)

"من أجلنا" نحن الذين نؤمن بإسمه ومن أجل العالم أجمع لكي تنتشر كلمة البشارة. "ولا ليقرب نفسه مراراً كما يدخل الكاهن كل سنة إلى الأقداس بدم غيره" أن اعتماد الكاهن على دم غيره وتكرار الدخول إلى الأقداس مما يدل على عجز ذبيحته وأفضلية ذبيحة المسيح "وإلا فأنه كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم" لأن المنفعة المعزوة آنفاً إلى موت المسيح لم يكن يمكن حصولها بناء على هذا الفرض ولا كان يمكن حصول ذلك في المستقبل. فأما أن خطايا الملايين من السنين كانت تظل غير مغفورة أو أن الفادي كان يجب أن يموت كل سنة بعد السقوط!! "ولكن الآن" والحالة هذه "عند انقضاء الدهور قد أظهر" لأن مجيء المسيح الأول كان ختام عهد قديم وبدء عصر أزلي نحن الآن عائشون فيه منتظرين أن توضع أعداؤه تحت موطئ قدميه. وكلمة "أظهر" تدل على وجوده سابقاً "مرة واحدة" وليس مراراً "لإبطال الخطية" أي لمحوها والشفاء من أدوائها "بذبيحة نفسه" لا بذبيحة شاة بل بتضحيته نفسه وحياته الثمينة. وبذل النفس أعظم ضحية يستطيع أن يقوم بها الإنسان وقد أعطانا المسيح قدوة حسنة ببذله نفسه الكريمة عنا. فما أثمن تلك التضحية!

وأن في إتمام عمل رئيس الكهنة الهاروني فكرة أخرى. فأنه بعد إتمام عمل الكفارة يعود رئيس الكهنة مرة أخرى بين الشعب. هكذا أيضاً سيعود المسيح. وسيعقب موته وبذل نفسه، إظهار بره في دينونة الله. وكما أن كل بشر حي يذوق الموت ويجوز إلى الدينونة، فأن من شارك البشر في الدم واللحم واختبار الموت مع الخلائق البشرية الذين لم يخجل أن يدعوهم إخوة (أنظر فصل 2 آية 11 و14) ينبغي أن "يشبه إخوته" أيضاً في معاناة الدينونة الإلهية، التي سوف لا تكون بالنسبة له إلاّ تزكية وعنواناً لطهارته الفائقة ومجده العظيم أمام الخليقة كلها (أنظر رؤية 7:1) ثم يظهر منفصلاً عن كل ظل للخطية قائماً في قوة للخلاص

ثم انتقل الكاتب إلى العصر الحاضر. ترى هل يختم ذلك العصر؟ قال "وكما حتم على الناس أن يموتوا مرة واحدة" هذه الآية تدل على بطلان مذهب التناسخ "ثم بعد ذلك الدينونة" أي أن بعد الموت حادثة واحدة وهي تقرير نهاية الإنسان الأبدية "هكذا المسيح أيضاً بعدما قرب مرة واحدة" بموته كخاطئ مع أن موته كان "لرفع خطايا الكثيرين" أو كما تعني الكلمة في الأصل "يحمل خطايا الكثيرين". لأن هذا هو العبء الذي حمله إلى الصليب من كان هو نفسه بلا خطية. والعبارة، كما فهمها القراء العبرانيون، صدى لكلمات أحد أنبيائهم (أنظر أشعياء 12:53) وهو إذ قد مات مثل زملائه بني الإنسان ينتظر الحادثة العظمة المقبلة إلا وهي أنه "سيظهر أيضاً للخلاص" وذلك نصر ختامي وإنما يختلف ذلك الظهور عن ظهوره في المرة الأولى إذ يكون "منفصلاً عن الخطية" ففي ظهوره الأول كان عرضة لا شنع ما قد تفعله الخطية ومات "حاملاً خطايا كثيرين" أما في ظهوره الثاني فسوف لا تكون أية علاقة بين شخصه المقدس وبين الخطية التي رفعها سوى رغبته أن يبيدها في الهاوية لئلا يصارعها ويخضع لشوكتها كما فعل في المرة الأولى. لأن ذلك تم وانقضى ولا محل لتكراره بل أنه متى ظهر في مجيئه فسيأتي لدينونة أولئك الذين يفضلون الخطية وسيبادون معها. نعم أن تهوره سيكون لأجل الخلاص للذين قد ماتت فيهم الخطية بسبب إيمانهم بالمسيح وبعمله التام. وبعبارة أخرى أنه سيظهر "للذين يتوقعونه" بمحبة وثقة ورجاء وطمأنينة. قال المسيح "الحق الحق أقول لكم أن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلي فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحيوة"

10: 1- 10

 

1لأَنَّ النَّامُوسَ، إِذْ لَهُ ظِلُّ الْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ لاَ نَفْسُ صُورَةِ الأَشْيَاءِ، لاَ يَقْدِرُ أَبَداً بِنَفْسِ الذَّبَائِحِ كُلَّ سَنَةٍ، الَّتِي يُقَدِّمُونَهَا عَلَى الدَّوَامِ، أَنْ يُكَمِّلَ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ. 2وَإِلاَّ، أَفَمَا زَالَتْ تُقَدَّمُ؟ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْخَادِمِينَ، وَهُمْ مُطَهَّرُونَ مَرَّةً، لاَ يَكُونُ لَهُمْ أَيْضاً ضَمِيرُ خَطَايَا. 3لَكِنْ فِيهَا كُلَّ سَنَةٍ ذِكْرُ خَطَايَا. 4لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنَّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ خَطَايَا. 5لِذَلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إلى الْعَالَمِ يَقُولُ: «ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلَكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً. 6بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ. 7ثُمَّ قُلْتُ: هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ». 8إِذْ يَقُولُ آنِفاً: «إِنَّكَ ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً وَمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُرِدْ وَلاَ سُرِرْتَ بِهَا». الَّتِي تُقَدَّمُ حَسَبَ النَّامُوسِ. 9ثُمَّ قَالَ: «هَئَنَذَا أَجِيءُ لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ». يَنْزِعُ الأَوَّلَ لِكَيْ يُثَبِّتَ الثَّانِيَ. 10فَبِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً.

لأن الشريعة إذ لها ظل الخيرات المستقبلة لا صورة الأشياء بعينها لا تقدر بنفس الذبائح التي يقربونها كل سنة على الدوام أن تكمل الذين يبغون الاقتراب. وإلا أفما كان تقريب الذبائح يبطل لكون العابدين وهم تطهروا مرة واحدة لم يعد لهم شعور بالخطايا. والحالة أن فيها تذكيراً كل سنة بالخطايا. والحالة أن فيها تذكيراً كل سنة بالخطايا. لأنه لا يمكن أن دم الثيران والتيوس يرفع الخطايا. لذلك قال عند دخوله إلى العالم "ذبيحة وقرباناً لم تشأ ولكنك هيأت لي جسداً. ولم ترض بالمحرقات ولا بذبائح الخطية. حينئذ قلت: هأنذا آت (فقد كتب عني في درج الكتاب) أن أعمل بمشيئتك يا الله". فبقوله آنفاً أنك ذبيحة وقرباناً ومحرقات وذبائح خطيئة لم تشأ ولا رضيت بها (وهي التي تقرب حسب الشريعة) قال أيضاً هأنذا آت لأعمل بمشيئتك يا الله. فقد نزع الأول ليثبت الثاني. فبهذه المشيئة قد قدّسنا بتقدمة جسد يسوع المسيح مرة واحدة.

أشار الكاتب فيما سلف إلى إتمام عمل المسيح الكهنوتي الخالد الذي أتاه مرة واحدة، مقارناً إياه بالخدمة الرائعة السنوية التي عرفها أولئك المسيحيون العبرانيون الذين يكتب لهم- الخدمة الدينية التي كانت تجرى كل سنة في يوم الكفارة. وأبان أن المسيح قدم نفسه مرة واحدة عن خطايا البشر. وسيعلن في الوقت المناسب، عن مجيئه من الحضرة الإلهية، ختام عمله العظيم وبلوغه ذروة الكمال. والآن تمتد الفكرة من الذبيحة الرمزية العظمى إلى النظام الكفاري كله في الشريعة الموسوية، لأن تلك الشريعة وتلك الذبائح شهدت إلى شيء لم يكن مدمجاً فيها، وقد أذاعت رسالتها المرة تلو المرة وهي ترمز أبداً دائماً إلى شيء آخر غيرها أوفر حقاً وأكثر عمقاً

"لأن الشريعة" الموسوية إجمالاً لا تفصيلاً فقط "إذ لها ظل الخيرات المستقبلة" وهي إذ ذاك متصفة بالضعف الذي يتصف به كل ما هو ظل "لا صورة" والكلمة المترجمة "صورة" تعني الشكل الجامد الثابت الذي يلقي الظلَّ المشار إليه آنفاً "لأشياء بعينها" كالكفارة والمصالحة والتطهير والاقتراب والتقديس والتوحيد والأنس وهلم جراً "لا تقدر بنفس الذبائح التي يقربونها كل سنة على الدوام" أي بنظام مستمر "أن تكمل الذين يبغون الاقتراب" ليس الكلام هنا إشارة إلى الكمال الأدبي مبدئياً بل المقصود منه إبلاغ الإنسان حالة مرضية قدام الله فأن هذا هو غرض التقدمة. ومتى تم لا بد أن يليه الكمال الأدبي في حينه. على أن الأمر المهم هنا هو الخطوة الأولى وقد دلنا عليها في النص بقولنا "يبغون الاقتراب" وذلك أتم من قولنا المقتربين والمتقربين أو المقدمين، لأن الأصل اليوناني يقصد به عمل لم يتم. فهم مقتربون ولكنهم لم يقتربوا بعد وما زالوا يبغون الاقتراب "وإلا" أي لو كانت تلك الذبائح الشرعية قد أكملت العابدين وأبلغتهم الحالة المشار إليها آنفاً "أفما كان تقريب الذبائح يبطل" أي يُوقف "لكون العابدين وهم قد تطهروا مرة واحدة لم يعد لهم شعور بالخطايا" لأن تقرير الحالة المشار إليها يتم دفعة واحدة ولا حاجة فيه إلى التكرار. كما أن الذي يلتمس جنسية أجنبية لا يحتاج إلى تكرار التجنس كل سنة مثلاً. فإذا علمت ذلك اتضح لك معنى قوله "شعور بالخطايا" وليس المعنى أن الذي يدخل في العهد الجديد لا يعود يخطئ ولا أن الذي يخطئ لا يشعر بخطيئته، بل أنه يعلم ويدرك أن خطاياه الماضية قد غفرت ومحيت فلا حاجة به أن يقلق لما يترتب (1) عليها (وهذا معنى قوله الشعور بالخطايا) بل يتقدم إلى حالة أحسن وأكثر اطمئناناً "والحالة" تختلف كل الاختلاف إذ "أن فيها" أي في الذبائح الموسوية "تذكيراً كل سنة في الخطايا" أي أن تكرار تلك الذبائح سنة بعد أخرى دليل مثلث على أن الخطية لم تمح بعد وأن الحالة غير مرضية. وليس ذلك فقط بل أن الثقة في فائدة كل ذبيحة سابقة تتزعزع "لأنه لا يمكن" مبدئياً "أن دم الثران والتيوس يرفع الخطايا" لكونه في الحقيقة عديم القيمة. وقد أنفذ الكاتب هنا أحد مهم من جعبته فأظهر أن تلك الذبائح لم يكن لها حتى فائدة سنوية بل لم يكن لها فائدة على الإطلاق. وإن كان لها نفع ما فهو اكتسابي لا أصلي كشعاع القمر الضئيل المكتسب من نور الشمس المقبلة

ينتقل الكاتب الآن ليبين الفارق بين الذبيحة الناشئة عن موت الحيوان الذي لا يفهم ما صُنع به، والذبيحة التي هي موت يسوع التي انطوت على قبول كلَّ ما فرضه الله للتكفير عن الخطية البشرية "لذلك" أي سبب تقصير تلك الذبائح "قال" بلسان الحال "عند دخوله العالم" بمجيئه وسيرته بعد مجيئه "ذبيحة وقرباناً لم تشأ" الآية مقتبسة من مزمور 40 ومن الترجمة اليونانية للمزمور شأن كل الاقتباسات المأخوذة من العهد القديم في هذه الرسالة. واليونانية تختلف هنا قليلاً عن العبرانية ولكن المعنى العام واحد في اللغتين والإشارة هي إلى ذبائح معينة وليس إلى الذبيحة من حيث هي "ولكنك هيأت لي جسداً" لكي يكون وسيلة خاصة للذبيحة الكاملة "ولم ترض بالمحرقات ولا بذبائح الخطية" أي أن تلك المحرقات والذبائح لم تقع لديك موقع القبول لعدم وفائها بالغاية "حينئذ قلت" الضمير عائد على كلمه الله المتجسدة "هانذا آت" لأن الجميع عجزوا "فقد كتب عني في درج الكتاب" أن مجيئي ليس فقط اختيارياً بل قد كتب عنه في سفر الله. لذلك أنا آت "أن عمل مشيئتك يا الله" "أي لأتمم ما يريده الله بخصوص هذه الذبيحة بعد أن ظهر عجز الذبائح السابقة- هذه هي النبوة العجيبة في سفر المزامير وقد اقتبسها كاتب الرسالة لما لها من الأهمية "فبقوله آنفاً" في الآية المقتبسة "انك ذبيحة وقرباناً ومحرقات وذبائح لم تشأ ولا رضيت بها" وقد علق عليها الكاتب بقوله "وهي التي تقرب حسب الشريعة" ومع ذلك صرح الله بأنها لم تقع عنده موقع الرضى والقبول! "قال أيضاً" المسيح بعد ذلك النفي الصريح "هانذا آت لأعمل بمشيئتك يا الله" أي لأكتب ذلك الرضى وتلك النعمة لكونهما من امتيازات الذبيحة الكاملة "فقد نزع" الله بهذه الكلمة الأمر "الأول" السابق ذكره أي الذبائح الموسوية "لكي بثبت الثاني" أي ذبيحة ذلك الذي قال أنه آت "فبهذه المشيئة" والرضى المكتسبين بواسطة الذبيحة، لأن المسيح لم يجئ إلى العالم ليكون رجلاً صالحاً. فليس لهذا قد أعدَّ له الجسد. بل جاء ليكون كاهناً أعظم، وقد أعدَّ له الجسد حتى يستطيع، بتقدمته طائعاً مختاراً، أن يضع الخطاة في علاقة دينية كاملة مع الله. ومن ثمَّ يقول الكاتب عن اختباره واختبار قرائه "قد قدسنا" أي أصبحت حالتنا مرضية "بتقدمة جسد المسيح" الذي هيئ له "مرة واحدة" لأن الذبيحة الكاملة لا حاجة إلى تكرارها بسبب كمالها. وبفكرة الأثر القوي الكامل في ذبيحة المسيح كما اختبرها الكاتب وقراؤه، يرفع الكاتب قلبه إلى ملكه وكاهنه في السماويات، ويضيف تعليقاً منه على كلمات اقتبسها في بداية رسالته (أنظر فصل 1 آية 3و13) ولم يكن قد شرح تفصيلاً عن المسيح الذي "جلس" أو "استوى" على عرش المجد "وبينما كل كاهن يقف كل يوم خادماً ومقرباً مراراً نفس الذبائح التي لا تستطيع أبداً أن تنزع الخطايا" وبالنتيجة هي عديمة النفع "فأن هذا بعد أن قرب ذبيحة واحدة عن الخطايا" وهي ذبيحة نفسه الثمينة لا ذبيحة غيره التافهة "على الدوام جلس" بخلاف الكهنة الأقدمين الذين كانوا "يقفون" كل يوم ويعيدون طقوسهم "عن يمين الله" أي في مركز الجبروت الإلهي. وجلوسه هذا دليل على السلطان الملكي، لأنه لا يجلس على العرش إلاَّ الملك أما الآخرون فيقفون أمامه، وعلى تمام العمل واستراحة الله "منتظراً بعد ذلك حتى تجعل أعداؤه موطئاً لقدميه" أي منتظراً نتيجة لا ساعياً إليها بتكرار الكفارة

والاقتباس، كما رأينا في الفصل الأول، مأخوذ عن مزمور 110 وقد شرح بولس آية المزمور هذه (أنظر1كور 25:15 و26) وهناك يصف جلوس المسيح جلوس ملك يحكم ناشطاً ويعمل دائباً لهزيمة أعدائه "وآخر عدو يبطل هو الموت". وتتجه الفكرة هنا بالأكثر إلى إتمام عمله الكهنوتي في تقديس شعبه "لأنه بتقدمة واحدة جعل المقدسين كاملين إلى الأبد" فيما يختص بالحالة والحظوة لدى الله

10: 11- 20

 

11وَكُلُّ كَاهِنٍ يَقُومُ كُلَّ يَوْمٍ يَخْدِمُ وَيُقَدِّمُ مِرَاراً كَثِيرَةً تِلْكَ الذَّبَائِحَ عَيْنَهَا، الَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ الْبَتَّةَ أَنْ تَنْزِعَ الْخَطِيَّةَ. 12وَأَمَّا هَذَا فَبَعْدَ مَا قَدَّمَ عَنِ الْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إلى الأَبَدِ عَنْ يَمِينِ اللهِ، 13مُنْتَظِراً بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى تُوضَعَ أَعْدَاؤُهُ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْهِ. 14لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إلى الأَبَدِ الْمُقَدَّسِينَ. 15وَيَشْهَدُ لَنَا الرُّوحُ الْقُدُسُ أَيْضاً. لأَنَّهُ بَعْدَ مَا قَالَ سَابِقاً: 16«هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَعْهَدُهُ مَعَهُمْ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي قُلُوبِهِمْ وَأَكْتُبُهَا فِي أَذْهَانِهِمْ» 17وَ: «لَنْ أَذْكُرَ خَطَايَاهُمْ وَتَعَدِّيَاتِهِمْ فِي مَا بَعْدُ». 18وَإِنَّمَا حَيْثُ تَكُونُ مَغْفِرَةٌ لِهَذِهِ لاَ يَكُونُ بَعْدُ قُرْبَانٌ عَنِ الْخَطِيَّةِ. 19فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إلى «الأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ، 20طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيّاً، بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ

وبينما كل كاهن يقف كل يوم خادماً ومقرباً مراراً نفس الذبائح التي لا تستطيع أبداً أن تنزع الخطايا. فإن هذا بعد أن قرب ذبيحة واحدة عن الخطايا على الدوام جلس عن يمين الله. منتظراً بعد ذلك حتى تجعل أعداؤه موطئاً لقدميه. لأنه بتقدمة واحدة جعل المقدسين كاملين إلى الأبد. والروح القدس أيضاً شاهد لنا. لأنه بعدما قيل سابقاً هذا هو العهد الذي أعاهدهم به، بعد تلك الأيام يقول الرب: "أجعل شرائعي في قلوبهم وأكتبها في أذهانهم. ولن أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد". وإنه متى حصلت مغفرة لهذه، فلا تقدمة بعد عن الخطيئة. إذن أيها الإخوة إذ لنا ثقة بمدخل الأقداس بدم يسوع. (المدخل) الذي دشنه لنا طريقاً حياً جديداً في وسط الحجاب أي جسده.

 

واختتم الكاتب هذا الفصل من كلامه بتبيانه أهمية كلام اقتبسه سابقاً من ارمياء ص 31 وهو قوله: "والروح القدس أيضاً شاهد لنا. لأنه بعد ما قيل سابقاً هذا هو العهد الذي أعاهدهم به، بعد تلك الأيام يقول الرب "أجعل شرائعي في قلوبهم واكتبها في أذهانهم ولن أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد" قوله "في ما بعد" مهم جداً لأن عدم ذكر الله لخطاياهم وتعدياتهم هو نسيانه إياها وذلك رجوع إلى الحالة الأولى قبل الخطية وهي حالة البر. فوالحالة هذه لا معنى لتكرار أي ذبيحة بعد "وأنه متى حصلت مغفرة" تامة بهذار المقدار "فلا تقدمة بعد عن الخطية" قد أبان الكاتب أن بواسطة المسيح يجوز شعبه إلى الحضرة الإلهية، وهو الآن يحمل هذه الرسالة إلى حياة الذين يكتب إليهم رسالته. فليس الأمر عنده حقيقة نظرية، بل حقيقة أختبارية في حياته وحياة قرائه

"إذن" أي بناء على ما ورد في هذه الرسالة كلها "أيها الإخوة" الخطاب يدل على رقة متناهية وملخص الكلام مبني على عبارتين وهما "إذ لنا ثقة بمدخل الأقداس" أي الاقتراب من الله نفسه. وكأنه يقول: أيها العبرانيون المسيحيون: أتخشون أن تفقدوا مزايا الطقوس اليهودية القديمة؟ أنظروا هوذا لكل واحد منكم الحق لأن يكون رئيس كهنة، ويجوز إلى المكان الذي لن يقدر على الدخول إليه إلاَّ رئيس الكهنة. وكما كان رئيس الكهنة يدخل إلى المقدس بدم غيره، كذلك أنتم تدخلون "بدم المسيح" الذي يمحو كل خطية تحول دون وصول الإنسان إلى الله "المدخل الذي دشنه لنا طريقاً" مفعول ثان لدشَّن أو بيان للمدخل لكي يكون لنا سبيل دائم نسير فيه إلى الله "حياً" لا صناعياً معرضاً للفناء والزوال "جديداً" وجدّته قائماً بكونه أزلياً "في وسط الحجاب أي جسده" أن الطريق يتصل بالحجاب وذلك الحجاب هو جسده. وقد قلنا سابقاً أن بين قدس الأقداس والشعب في العهد القديم حجاباً. ولكن الحجاب انشق في الدقيقة التي مات فيها المسيح على الصليب. راجع متى 50:27 و51 ويوحنا 34:19 فتجد أن الحجاب الذي كان يفصل الإنسان عن الله أزيل وأن موت المسيح فتح الباب لكي يدخل المؤمن إلى الله. فما دام للمسيح حياً بالجسد غير الممجد فأن عمله لم يكن تاماً سواء باعتبار حالته أو حالة البشر عموماً. فكان لا بد له من الموت ليفتح لنفسه (بصفة كونه بشراً) طريقاً ليصل منها إلى يمين العظمة. ومتى فتح ذلك الطريق لنفسه فقد فتحه لغيره. وهذا لا ينفي أن يكون له أو لنا جسد ممجد أو أن يكون جسده الممجد قد تحول إلى تلك الحال عن جسد غير ممجد. فأن شرط ذلك كان أن يحول جسده عن حالته الأولى بواسطة الموت. فالجسد الأول كان حجاباً حقيقياً يرمز إلى الحاجز الفاصل بين الله والإنسان. وكذلك جسدنا الحالي هو أيضاً حجاب يجب أن نخترقه بالموت حتى نستطيع رؤية الله. أما فيما يختص بالاقتراب الروحي فأن الطريق مفتوحة "ولنا كاهن عظيم على بيت الله" وهو وسيط قدير يشفع بجميع المؤمنين. أنظر ص 6:3 "فلنتقدم" والفعل هو بذاته المستعمل في فصل 6 آية 16 والآن بعد كل ما جرى تصلنا الدعوة بقوة أعظم، وهي بالحق الدعوة النهائية. فأن غرض المسيح كله كان أن يقربنا من الله بعد أن كنا بعيدين عنه. فلنتقدم إليه تعالى "بقلب صادق" خال من الرياء "في ملء الإيمان" بعيد عن الشكوك التي تفضي إلى الرياء "وقد طهر الرش" كما كان يطهر الشعب قديماً برش دم الذبيحة، وليس الرش الآن خارجياً بل رش روحي أي رش دم المسيح الذي يطهرنا حالما نؤمن بصليب المسيح، ويغسل "قلوبنا" لأن إجراء ذلك يكون روحياً لا مادياً. على أنه يتم بشعائر وعلامات محسوسة مرتبة من قبل الكنيسة "وغسل الماء النقي أجسادنا" إشارة إلى فريضة العماد التي تخولنا التمتع بثمرة أعمال المسيح. أما الواو في قوله "وقد" فهي حالية ومعناها بما أن هذه الأمور قد تمت فلماذا نتأخر؟ وليس المعنى أنه يجب أن نتمم تلك الأمور ثم نتقدم، بل لنتقدم لأنها قد تمت

10: 21- 30

 

21وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ، 22لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ. 23لِنَتَمَسَّكْ بِإِقْرَارِ الرَّجَاءِ رَاسِخاً، لأَنَّ الَّذِي وَعَدَ هُوَ أَمِينٌ. 24وَلْنُلاَحِظْ بَعْضُنَا بَعْضاً لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ، 25غَيْرَ تَارِكِينَ اجْتِمَاعَنَا كَمَا لِقَوْمٍ عَادَةٌ، بَلْ وَاعِظِينَ بَعْضُنَا بَعْضاً، وَبِالأَكْثَرِ عَلَى قَدْرِ مَا تَرَوْنَ الْيَوْمَ يَقْرُبُ، 26فَإِنَّهُ إِنْ أَخْطَأْنَا بِاخْتِيَارِنَا بَعْدَ مَا أَخَذْنَا مَعْرِفَةَ الْحَقِّ، لاَ تَبْقَى بَعْدُ ذَبِيحَةٌ عَنِ الْخَطَايَا، 27بَلْ قُبُولُ دَيْنُونَةٍ مُخِيفٌ، وَغَيْرَةُ نَارٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَأْكُلَ الْمُضَادِّينَ. 28مَنْ خَالَفَ نَامُوسَ مُوسَى فَعَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يَمُوتُ بِدُونِ رَأْفَةٍ. 29فَكَمْ عِقَاباً أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقّاً مَنْ دَاسَ ابْنَ اللهِ، وَحَسِبَ دَمَ الْعَهْدِ الَّذِي قُدِّسَ بِهِ دَنِساً، وَازْدَرَى بِرُوحِ النِّعْمَةِ؟ 30فَإِنَّنَا نَعْرِفُ الَّذِي قَالَ: «لِيَ الاِنْتِقَامُ، أَنَا أُجَازِي، يَقُولُ الرَّبُّ». وَأَيْضاً: «الرَّبُّ يَدِينُ شَعْبَهُ».

ولنا كاهن عظيم على بيت الله. فلنتقدم بقلب صادق في ملء الإيمان وقد طهر الرش قلوبنا من ضمير شرير وغسل الماء النقي أجسادنا. ولنتمسك باعتراف الرجاء راسخاً لأن الذي وعد هو أمين. ولنلاحظ بعضنا بعضاً للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة. غير مهملين اجتماعنا كعادة البعض بل واعظين بعضنا بعضاً وبالأكثر على قدر ما ترون اليوم يقترب.

 

(هنا تنتهي، بكل أسف، الترجمة التي قام بها المرحوم الكانن جردنر بالاشتراك مع الأستاذ سليم عبد الأحد، وكان لها فضل كبير في إخصاب فهمنا للأشياء، فإن المنية عاجلت الكانن جردنر قبل أن يتمها، وكان قد كتب خلال مرضه الأخير معبراً عن أمله للاستمرار فيها حتى النهاية. وليس لنا الآن إلا أن نتم شرح الرسالة مستندين إلى الترجمة القيمة المعروفة، المتداولة بين أيدينا، التي هي من مآثر مطبعة بيروت الأمريكية).

 

"ولنتمسك باعتراف الرجاء راسخاً" تكلم الكاتب عن مياه المعمودية، التي دخل بها أصدقائه العبرانيون المسيحيون أمة المسيح والآن يذكرهم باعترافهم الذي قطعوه عند المعمودية. فإن كان بعضهم يحنُّ بشغف إلى الامتيازات اليهودية، أو يحار لأن المسيح لم يجيء من السماء سريعاً، فأن معلمهم يبين لهم في رسالته علة هذا ليدركوا أن اعترافهم بالمسيح كان اعتراف رجاء، بل يقول عنه "اعتراف الرجاء" أليس هو اعترافاً لأكبر رجاء وعدنا به كاهننا الأعظم في الأمجاد السمائية؟ ولكن الرجاء قد يكون أسرع العواطف زوالاً، فهو قوي متى أحسسنا بالغبطة، ضعيف هزيل متى شعرنا بالعناء والتعب، ما لم يُروض بفعل التدريب الروحي. لذلك نراه يستعمل فعلاً قوى المعنى. فلا يكتفي بالقول "لنختزن رجائنا هذا كإحساس داخلي" بل "لنتمسك" به كاعتراف خارجي نقوم به نحن المؤمنين جماعة واحدة، وكعمل مشترك تأتيه الكنيسة، نردده في كل مرة نتلو فيها قانون الإيمان أو أي قول خطير آخر من أقوال الإيمان. وهذا الاعتراف المشترك هو الذي يجعل رجائنا راسخاً. ولنا ما يبرر هذا التمسك "لأن الذي هو وعد أمين" وهو الله الذي أعد طريقاً لخلاص الإنسان منذ البدء "ولنلاحظ بعضنا البعض" ملاحظة حبية "للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة" لأنه إذا تأخر أحدنا ولاحظ غيره فيستطيع أن يحرضه بطريقة حبية على الأعمال الحسنة. وقد كان العبرانيون متأخرين بهذا الاعتبار إذ لم يكونوا يحرضون بعضهم بعضاً. ولعل سبب ذلك قلة اجتماعاتهم معاً كما يؤخذ من الآية التالية وهي قوله "غير مهملين اجتماعنا كعادة البعض" في المحافل الدينية والاجتماعية وربما أخذ بعض العبرانيون يخجلون من إيمانهم الجديد لأنه كان غير مرغوب فيه. وربما أحسَّ بعضهم أنه أرقى تهذيباً من بعض إخوانهم الذين اشتركوا معهم في العبادة ولذا لم يهتموا كثيراً أن يحضروا تلك الاجتماعات القليلة العدد. أو ربما يكونون قد ملوا احتمال التضحيات والأتعاب والمخاطر التي عانوها بسبب انتمائهم للمسيح. لذلك يقول الكاتب: "لا تفعلوا بعضكم ببعض ما لن يرضى أن يفعله الله بكم" لأنه يذكرهم في فصل 8 آية 5 بكلمة قالها الله "لا أهملك" إذاً فلا نكوننَّ مهملين "بل واعظين بعضنا بعضاً وبالأكثر على قدر ما ترون اليوم يقترب" وترى أي يوم هذا؟ ظاهر جلياً أنه يوم من أيام دينونة الله. وقد ظنَّ أن يوم الرب العظيم لخراب أورشليم الذي كان يقترب. وفي هذه الحالة تكون الرسالة كتبت بعد أن دخلت الجيوش الرومانية الأرض المقدسة لقمع الثورة اليهودية. ويظن آخرون أن هذا اليوم المشار إليه هو اليوم العظيم الذي سيظهر فيه أبن الله في كل مجده (فصل9 آية 28) وهو يوم فرح للذين عرفوه، ويوم دينونة رهيبة للذين صمّوا آذانهم عن استماع ندائه

وذكر "اليوم" يوجّه أنظارنا إلى الشدة المحزنة التي انطوى عليها التحذير التالي. فأن الكاتب يبين كيف كان إيمانه الديني عميقاً خاشعاً ملتزماً جانب الأخلاق، وكيف يفزع ويرتجف من مجرد الارتكان على رحمة الله وشفقته وعفوه. والإنسان المتساهل المتهاون الذي لا يأخذ الامور جدياً يظن الله متساهلاً متهاوناً، فلا يعبأ كثيراً بواجباته الدينية ويزعم أن الله لا يعيرها التفاتاً جدّياً، ولكن كاتب الرسالة إلى العبرانيين يقول أننا نعرف أفضل من هذا "فأنه إن أخطأنا" والكلمة اليونانية لا تعني عملاً خاطئاً واحداً، بل الإنغماس الغارق في الخطية "باختيارنا" أي عامدين مدركين تماماً ما نفعله

وتوافر هذين الشرطين (أي الاختيار العامد والاستمرار في الخطية) منطو على الردّة عن المسيح إذا أصررنا على انتهاج هذا المسلك الرهيب "بعد ما أخذنا معرفة الحق" أي الحق المعلن في يسوع. وهنا نرانا أمام إحدى العبارات التي اصطلح عليها المسيحيون الأولون للدلالة على "الدخول في المسيحية" (قارن1 تيموثاوس 3:4 وكولوسي 6:1 وبطرس 21:2 الخ). ولقد جرت العصور والبلدان المختلفة على استعمال مصطلحات متباينة للدلالة على هذا "الدخول"- منها "التجديد" أو "الانضمام إلى الكنيسة" أو "الانضواء تحت لواء قبيلة الله" كما هو الحال في إفريقيا في الرقاع التي ما فتئت القبيلة فيها وحدة الجماعة. وهذه العبارة المألوفة في العصر الأول "معرفة الحق" أو "قبول معرفة الحق" كأن يُنطق بها عادة عند ما كان ذكر اسم الرب خطراً على الناطقين به. والكاتب باستعماله صيغة المتكلم يدمج نفسه مع قارئيه في تحذيره الرهيب، فيقول أنه إذا تهكم الناس على ذبيحة المسيح بعد ما عرفوها واختبروها "لا تبقى بعد ذبيحة الخطايا بل" يكون عوضاً عن الذبيحة المفتدية المخلّصة "قبول دينونة مخيف" ذلك لأنهم أهملوا الذبيحة الوحيدة التي تخلص البشر من الدينونة. والكلمة اليهودية الدالة على دينونة الله للخطية هي "نار" النار المخيفة الآكلة لكل هو ما شر، كما تأكل النيران الفضلات المهملة في المدينة. ومن ثمَّ نرى كاتبنا يردد بعبارته هذه صدى أقوال أنبياء اليهود (أنظر اشعياء 11:26 وصفنيا 18:1) ويقول أن أولئك المرتدين يصيبون إذ يخشون دينونة الله الرهيبة

"وغيرة نار عتيدة أن تأكل المضادين" ولم يكن في هذه فكرة جديدة لدى العبرانيين المسيحيين، لأنهم عرفوا خطورة الخطية العامدة ضد الناموس القديم وعرفوا جيداً أن "من خالف ناموس موسى" أي الشريعة الموسوية "فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة" وهو يشير إلى القانون الوارد في سفر التثنية 9:13 و7:17 وقبل كتابة هذه الرسالة بسنوات نفذ هذا القانون في استفانوس الشهيد الأول (أنظر سفر الأعمال 57:7). فإذا كان هذا شأن من يتهكم على شريعة موسى، فكيف يكون حال من يتهكم على محبة الكاهن الملك السماوي وذبيحته؟ "فكم عقاباً أشر تظنون أنه يُحسب مستحقاً" وهنا يلجأ إلى حكم أصدقائه الذين يقرأون الرسالة على الانسان الذي يصفه بقوله "من داس ابن الله" وهذا أول مظهر من مظاهر ثلاث لهذه الخطية العامدة المصرّة. والفعل اليوناني المترجم "داس" كان يستعمل في حالة الحنث باليمين، وكأن الحانث يدوس الحق تحت موطىء قدميه. فإذا استعملت عن شخص، كان معناها الاحتقار المزري. ومن التجارب التي تعرض لها المسيحيون في العصر الأول على أيدي الحكّام غير المسيحيين إن كانوا يخيرون بين الموت الأليم أو الدوس بالقدم على صليب من خشب، الذي هو شعار محبة مخلصهم. ولقد أثر كثيرون الموت على الاستسلام لهذه التجربة. أما الدوس المشار إليه في هذه الآية فيختلف كل الاختلاف عن الدوس على صليب خشبي. "ودوس الابن" هنا يشير إلى إظهار الاحتقار الخارجي المنبعث عن احتقار داخلي، كما يتبين من الوصف التالي في قوله "حسب دم العهد الذي قدس به دنساً" فهو قد تطهر وأجيز له الدخول إلى حضرة الله، لا بواسطة رئيس كهنة رشه بدم عنزة، بل بواسطة من سفك دمه مسوقاً إلى ذلك بقوة محبته للأنفس التي يريد تقريبها إلى الله. ومع ذلك يزدرى هذه الذبيحة، والدم الذي سفك لأجله كل شيء في نظره، والموت الذي ماته لأجله لا يحسبه إلا موتاً عادياً كأنه لا يعنيه من أمره شيئاً، لذلك يحسب هذا القديس دنساً. وهذا الجحود الداخلي للمحبة المهيأة عصيان روح الانسان، ليس ضد شريعة خارجية منظورة كشريعة موسى، بل ضد روح الحبة، روح الله كما يقول "وازدرى بروح النعمة". وكما دعي "عرش الله" في هذه الرسالة (عرش النعمة) (16:4) كذلك دعي "روح الله" في غير هذه المكان من العهد الجديد "روح الحق" و "روح المجد" (1 بطرس 14:4) و "الروح القدس" (يوحنا 14: 17 وأفسس 30: ) وأسماء أخرى غير هذه، وهنا يطلق عليه "روح النعمة". والعبارة معناها "الروح الذي به تستعلن نعمة الله". ويؤخذ من منطوق الكلام أن كاتب الرسالة الذي تشبع عقله بأسفار العهد القديم يفكّر هنا في سفر زكريا ص12 حيث وردت "روح النعمة" في آية 10 وهو الوضع الوحيد الذي جاءت فيه كل أسفار الكتاب المقدس. وبعد ذلك يعود ليذكّر قارئيه بمثائل تعلموها عن ذات الله وصفاته من الأسفار اليهودية، فيقتبس آيتين من سفر التثنية 35:32 و36 ويقول:

"فأننا نعرف الذي قال لي الانتقام أنا أجازي يقول الرب، وأيضاً الرب يدين شعبه" وهو يقتبس الآيتين ليبين لقرائه أن الله الذي فعل كثيراً لشعبه حباً لهم، هو بعينه الإله الذي يدينهم. وستكون الدينونة وفقاً لما صنعوا. وتبدو هذه الفكرة عينها في بشارة لوقا 47:12 و48 ثم يختتم هذا التحذير الخطير بعبارة تحسب من أشد آيات الكتاب المقدس روعاً ورهبة "مخيف هو الوقوع في يدي الله الحي" وليست تنطوي العبارة على إنكار الحقيقة أننا دائماً في قبضته، فأن العبارة "وقع في يديه" تعني الوقوع بين يديه العتاب كما يقع المحكوم عليه في يدي سجانه أو المنفذ فيه عقوبة الموت

وينتقل الكتاب من التحذير الخطير إلى التشجيع المستند إلى ما يعرفه عن تاريخ الجماعة التي يكتب إليها. وكأنه يقول: "لماذا تحيدون عن ريق ماضيكم المجيد؟ لم يبق أمامكم طويل وقت في هذه المثابرة الصابرة، فاثبتوا قليلاً". وهو يذكرهم باختبارين جديرين بالثناء فيقول "ولكن تذكروا الأيام السالفة التي فيها بعد ما أنرتم" أي بعد ما أنرتم بنور المسيح كما يشير إلى ذلك في فصل 6 آية 4 والترجمة السريانية "بعد ما اعتمدتم" "صبرتم على مجاهدة" والكلمة المترجمة هنا مأخوذة في أصلها اليوناني عن تعبير متعلق بالمصارعات الرياضية، وتحمل إلى ذهن القارئين المصارعات التي يجوزها اللاعبون، بعد التدريب الطويل الشاق، في الألعاب العامة مثل الركض أو حمل الأثقال، أو المصارعة. والمجاهدة عند أولئك العبرانيين المسيحيين لم تكن في مصارعة بل في "آلام كثيرة" عانوها لأجل المسيح. وكانت تلك المجاهدات على نوعين: "من جهة مشهورين" والكلمة اليونانية معناها "استعرضتم في المسرح" مثل ذلكم القوم الذين كانوا يُحضرون عراة لتهجم عليهم الحيوانات الضارية، أو يتقاتلون معاً بالسيوف أما جماهير النظارة في مسرح روماني. ومن ثمَّ كان أولئك المسيحيون "مشهورين" أمام كل العالم "بتغييرات وضيقات" والواقع أنه لم يبلغ الحال بأولئك المسيحيين العبرانيين إلى سفك دمائهم كما يستدل من فصل 12 آية4 ولكنهم عانوا "تغييرات" قاسية تجعل الإنسان يشعر بالخزي والخجل. وتهكماً وسخرية وتهماً باطلة في ارتكاب الجرائم والرذائل تسوّد الاسم والأخلاق أمام الملأ. و "ضيقات" بسبب ما ينالهم من أذى مثل مصادرة بضائعهم وسلب أموالهم (أنظر آية 24) وبلا شك الدسائس والمكائد العادية لحرمانهم من الوظائف أو حقهم في الترقيات استناداً إلى أسباب وتهم باطلة، مما يقترن عادة بالاضطهاد في كل بلد

وأما الأمر الجليل الثاني الذي أراد الكاتب أن يذكره أولئك العبرانيون من ماضيهم فهو شجاعتهم في العطف على الآخرين المضطهدين مثلهم "ومن جهة صائرين شركاء الذين تُصرّف فيهم هكذا" فهم لم يتنحوا عن زملائهم المسيحيين، بل قد اتحدوا معهم ببسالة. ويذكر الكاتب على سبيل التمثيل نموذجاً من شجاعتهم هذه في زيارة المسيحيين المسجونين (وكان الأصدقاء في ذلك الزمن يفتقدون أصدقاءهم المسجونين ويقدمون لهم الطعام) والحدب عليهم "لأنكم رثيتم لقيودي أيضاً" ولم تذكر كلمة "قيودي" في أغلب النسخ الخطّية، ولعله من الصواب أن تقرأ "قيود المسجونين". وحينما حاقت بهم الخسائر بسبب إيمانهم أبدي أولئك المسيحيون العبرانيون أكثر من مجرد الصبر، فأنهم أظهروا الفرح "وقبلتم سلب أموالكم بفرح"- أنظر أعمال 41:5- وقد بهر هذا الفرح أعين العالم القديم وكان له أثر بالغ في اكتساب المؤمنين وإدخالهم إلى المسيحية، كما هو حادث في هذا العصر في بلاد الصين وغيرها من البلدان. وبعد ذلك يذكر الكاتب علّة هذا الفرح الغريب فيقول "عالمين في أنفسكم أن لكم مالاً أفضل في السموات وباقياً" انظر عن هذه الكلمة الأخيرة ما جاء في بشارة متى 20:6- ومن ثمَّ نرى الكاتب يذكّر المسيحيين بعظات الماضي المجيد لكي يجاهدوا صابرين في المستقبل، وهو واثق من أنهم سيثابرون في احتمال العناء

في الفصل الثالث (6:3) ناشد الكاتب قراءه أن يعتصموا بالثقة والشجاعة اللاحقة التي أظهروها. وهنا يكتب كأنه يرى خطراً حقيقياً يهدد هذه الثقة، لا عن طريق انحلالها فقط، بل عن طريق طرحها كلية. لذلك يتوسل إليهم قائلاً "فلا تطرحوا ثقتكم التي لها مجازاة عظيمة" هذه الثقة التي ملأتكم غبطة حتى في أشق المتاعب وأضناها، يجب أن تصير قوة في الاحتمال الصابر على الرغم من استطالة الزمن الذي بقي فيه المسيحيون غير محبوبين عرضة للعسف والظلم "لأنكم" أيها الإخوة المسيحيون العبرانيون المدعوون إلى معاناة هذه المتاعب يوماً فيوماً "تحتاجون إلى الصبر" وحذار أن تفكروا في الصبر كخلّة الضيف العاجز أو كفضيلة سلبية. فأنكم تحتاجون للصبر، لا لتحتملوا فقط ما يفعله الآخرون بكم، بل لتصنعوا أنتم أنفسكم مشيئة الله ببسالة "حتى إذا صنعتم مشيئة الله تنالون الموعد" موعد الحياة الخالدة في حضرة المسيح، في معرفة الله. وبعد ذلك ينتقل الكاتب إلى اقتباس بعض ألفاظ من نبوة قديمة، لينفذ درسه إلى قلوب قارئيه، فأنه في العصر القديم كان واجباً على المؤمنين أن ينتظروا إعلان خلاص الله، هكذا أيضاً مع المسيحيين العبرانيين، وإن كان الزمن لا يطول "لأنه بعد قليل جداً"- والعبارة مأخوذة من الترجمة اليونانية لسفر اشعياء ص 20:26- "سيأتي الآتي ولا يبطئ" وهذه مأخوذة من الترجمة اليونانية لسفر حبقوق النبي ص 3:2 وكان الآتي المرتقب عند كتابة هذه النبوة إله إسرائيل الذي كان عتيداً أن يظهر لا هلاك الكلدانيين. وقد نفذ الحكم وتمَّ الموعد، ولكن ليس بالطريقة التي ارتجاها الناس. وههنا أمثولة رائعة للعبرانيين المسيحيين، فالله يُشعر الناس بمجيئه، ولكن وأنتم تترقبون هذا، تفتقرون إلى ما هو أكثر من الصبر أو الاحتمال، تفتقرون إلى ضوء سماوي، إلى الإيمان الذي ينتج فضائل الصبر والاحتمال في هذا العالم، لأنه مثبت في الأشياء العلوية. لذلك يقتبس الكاتب بعد هذا الآية التالية من سفر حبقوق، التي شغف بها بولس الرسول كثيراً "أما البار فبالإيمان يحيا" ثم يردد بعدها صدى آخر لهذا النبي في إلماعه إلى الكارثة التي تنشأ عن الفشل "وأن ارتد لا تسر به نفسي" ولكنه ينتقل من هذه الأفكار، وبرنا الأقدام والفوز يعلن ثقته في أصدقائه المسيحيين العبرانيين، الذين يجعل نفسه واحداً معهم تشجيعاً لهم فيقول "وأما نحن فلسنا من الارتداد للهلاك، بل من الإيمان لاقتناء النفس" وسيعود الكاتب مرة أخرى فيما بعد إلى نصح إخوانه المسيحيين العبرانيين، ولكنه يقف الآن هنيهة ليسيطر بقلمه أروع المثائل التي خطرت بعقله عن الكلمة "إيمان"

  • عدد الزيارات: 2197