المقدمة
توجد طريقتان لتقديم الحق الإلهي إلينا, الأولى تعليمية والثانية عملية. على أنه ليس الغرض هنا هو عقد مقارنة بين القيمة النسبية لكل من الطريقتين فقد سَّر الله أن يستخدم كليهما وقد وُجدَ بصفة عامة أنه حيث الاستهانة وعدم الاكتراث بالحقائق التعليمية نتيجة تمسك البعض بهذه الحقائق تمسكاً رسمياً بالأنفصال عن شخص ربنا يسوع المسيح الذي هو درس الله الأعظم. فهناك التزعزع وعدم الثبات غير أنه أمر ملذ للغاية أن يشاهد التقدم عن شخص قبل الحق تعليماً ثم بدأ يقرنه بالرب يسوع في نفسه فهو من الجهة الواحدة لا ينكر الحق بل يعترف به اعترافاً كاملاً وفي أدق صوره التعليمية ومن الجهة الأخرى قد أصبح الحق عنده شيئاً حياً.فمحبة الله واختياره ودعوته الفعالة وتعيينه الأزلي للتبني وكمال النعمة وثبات مركز القديسين الأبدي كل هذه الحقائق العجيبة لم تعد عنده فيما بعد مجموعة حقائق مجردة بل قد صارت مجسمة في نفسه بفضل معرفته لصفات الله التي تجلت في الفداء وبهذه الكيفية تحررت النفس من الجدل والمناقشة حول مثل هذه الحقائق فهي تعرفها تماماً لأنها تعرف الله وهذه المعرفة بالله هي التي تعطي السلام الحقيقي. ولن تكون هناك ثقة حقيقية ما لم تعرف النفس أن محبة الله قد جعلتنا حتى ونحن في هذا العالم كالمسيح تماماً أمامه في السماء. هذا هو ثمر الفداء الذي في المسيح يسوع لكل من يؤمن.
ولما كانت معرفة الله بهذه الكيفية هي الحياة (يو3:17) فإننا نجد النفس تلقائياً تتصرف داخلاً وخارجاً بمقتضى نفس التعاليم التي سبق أن قبلتها كحق. ولكنها الآن قد صارت جزءاً من حياتها وكيانها حتى وإن كانت لا تذكرها بالشفاه. فإنها تعترف بها عملياً وباستمرار. والواقع أنه من الأمور العجيبة أن ندرك كم من الأمور الإلهية تثبتت بالضرورة في أعماق النفس بمجرد معرفتها لله. في نسبته كالآب فكم من مؤمن حديث عرف الله بهذه الصفة بالإيمان بالمسيح يسوع (1يو13:2) نجده وقد جمع في نفسه جميع عناصر المبادىء المسيحية حتى ولو تعثر حيناً بسبب الطريقة الرسمية النظامية التي تم بها تلقينه تعاليم النعمة. فكمولود أصبح يحيا ويتحرك ويوجد بالله. وبدلاً من التساؤل عن الله صار يهنأ بالعيشة مع الله. وعندما تكون هذه هي الحالة فهناك سهولة جميلة في المسيحية فهي ليست فيما بعد مجهوداً مرهقاً ونيراً ثقيلاً بل حياة طبيعية ميسورة ولذيذة. والحق إننا لنجد نعمة الله الحقيقية في الوصية كما نجدها في الوعد لأن الوصية تفترض الفداء ووجود علاقة بالله. وهنا نقول أن الوصية تفترض الفداء ووجود علاقة بالله. وهنا نقول أن الوصية في الحقيقية لا توافق إلا شخصاً مولوداً من الله ويتمتع بسكنى الروح القدس. فمثلاً القول ((كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل)) (مت84:5) يفترض قبل كل شيء وجود معرفة يقينية بالفداء الكامل بمعنى أن النفس استراحت تماماً فيما يتعلق بحالتها أمام الله على أساس كفارة المسيح. قبل أن نحاول تنفيذ هذه الوصية وإنها في القيام بتنفيذها إنما نتعلم المزيد عن عرض وطول وعمق وعلو محبة الله. وبهذه الكيفية تتعرف عملياً بنعمة الله في كل خطوة تخطوها في سبيل الطاعة لعمل مشيئته.
ونحن نرى الآن أن كثيراً من أجزاء الكتاب المقدس قد صارت مهملة أو متروكة من الكثيرين لظنهم أنها لا تتناول الحق التعليمي. بينما هي في الواقع استعراض لنفس هذا الحق بطريقة عملية في حياة الأشخاص.
فالرسالة إلى فيلمون موضوع تأملنا هي أحد هذه الأجزاء. فهي ليست رسالة تعليمية بالمعنى العام, ومع ذلك فلم يكن في الإمكان أن يكتبها إلا شخص قد احتضنت نفسه تعليم المسيح كله- حتى صارت حياته وأفكاره تفيض بهذا التعليم وتعبر عنه. وإنه لمن دواعي اغتباطنا وشكرنا العظيم لإلهنا المنعم. لأنه اختار بحكمته العالية مثل هذه الأساليب المؤثرة. لتوصيل حقه المبارك إلينا وغرسه في أعماق نفوسنا. وإننا نتضرع إليه تعالى أن يمنحنا ونحن نحاول أن نتتبع فكر المسيح في الرسول بولس وهو يكتب لفيلمون أن تكون لنا شركة معه في هذا الفكر السامي العجيب.
إننا في الرب يسوع شخصياً. نجد كل الحق مجسماً وحياً فهو الحق. وفي الرسول نجد النتيجة المباركة للشركة مع الحق وتقديم فكر المسيح هذا هو نصيبنا وامتيازنا ((لنا فكر المسيح)) وهذا ما يجعلنا نعرف كيف يجب أن نتصرف لنرضي الله في كل شيء. فدستور السلوك المسيحي ليس هو ((أقول لعبدي أذهب فيذهب)) بدون معرفة سبب الوصية والأمر, بل هو القدرة على معرفة لياقة الوصية ذاتها كشيء مناسب للحالة التي نحن فيها. ولهذا فإن الطاعة المسيحية ليست هي طاعة عمياء بل طاعة كاملة مستنيرة أو كما عبر عنها واحد (ليست طاعة أعمى يقود أعمى ولا حتى مبصر يقود أعمى بل مبصر يقود مبصراً). وهذا هو الحال حتى في ذات الأمور التي تتعارض على خط مستقيم مع كل ما هو طبيعي. إن الله بكل حقه وسلطانه كصاحب الأمر والنهي يأمرنا كعبيد أن نقوم بعمل مشيئته ولكنه في غنى نعمته يعاملنا كأصدقاء وكأحباء. إذ يخبرنا ويرينا ما هو مسر أمامه. حتى إذا عرفنا تكون لنا شركة معه في تنفيذ مشيئته بالطاعة كأولاده الأمر الذي ما كنا نستطيع عمله. لو أنه عاملنا كعبيد... والآن نتقدم لتوضيح هذه الأمور من رسالة بولس إلى فيلمون.
- عدد الزيارات: 7458