الأصحاح 17
وصل الشر في ص 16 إلى قمته ويرمز إلى العصيان في أيام المسيحية التقليدية التي على وشك أن يحل عليها القضاء الرهيب، ولكن في ص 17-20 نرى كيف أن الله في نعمته جهز ما هو مناسب له في حالات الضعف والعصيان التي ظهرت في الشعب خلال الأربعين سنة التي تكلم عنها ص 14: 34، وعبر الكتاب على هذه السنين، ولم يعطنا تفاصيل عدم الإيمان، لأنه سبق وأعطانا الكثير عنها ليظهر صفتها الحقيقية، والذي يذكره الكتاب هو نهايتها الأكيدة حين أصبح العصيان ارتداداً عاماً، وهو مثال لما هو عتيد أن يحدث في المسيحية.
عندما أتت نهاية الأربعين سنة سر الله أن يعطي شهادة عما كان في فكره بالنسبة للمدعوين منه لدخول الأرض، وهؤلاء فيهم الجسد، ولم يكن هذا الجسد أفضل من الجسد الذي كان في الذين هلكوا في البرية، واستدعى هذا بالضرورة أن يتعلموا هذه الحقيقة تعرضوا للأخطاء والضيقات والتجارب، ولكن سوف نرى في الأصحاحات التي أمامنا تجهيزاً من الله لكل ما كان يثأر منهم واضعاً أمامه تنفيذ كل ما في مقاصده نحوهم، كما نرى في هذه الأصحاحات ملامح خاصة من نعمته لم تكن معروفة سابقاً وهي أمور نبوية عن طرق نعمة الله في أيامنا الحاضرة.
ويرينا تاريخ الكنيسة وهي سائرة في البرية أن ما كان من الشعب القديم قد تحقق في الكنيسة حيث نرى نفس صور عدم الإيمان، ولكن الله له مدعوون الذين يحفظهم بقوته. نحن الآن في الأيام الأخيرة من شهادة الكنيسة على الأرض، واستحضر الله أمامنا بطرق متنوعة معاملات نعمته مع الشعب في صورة رمزية، استحضر أمامنا كهنوت المسيح، لأنه كما كان هرون في وقوفه بين الموتى والأحياء رمزاً للمسيح في عمله الكفاري، فإن عصا هرون التي افرخت رمز له في قيامته لأن العصا نالت الحياة في هذه الليلة، وهكذا وجدت الحياة بكل ملئها إذا أخرجت فروخاً وأزهرت زهراً وانضجت لوزاً، ونجد هذا الثمر في المؤمنين لأنهم أقيموا من الأموات، كما أن قيامة إسرائيل روحياً ضمن هذا الثمر، وكان هذا التجهيز لازماً للشعب في البرية حيث نقرأ في عب 9: 4 أن تابوت العهد كان فيه "قسط من ذهب فيه المن وعصا هرون التي أفرخت ولوحا العهد" كان شعب الرب يحتاج إلى المن باستمرار، كما كان يحتاج إلى الخدمة الكهنوتية وهذا ما تشير إليه عصا هرون، ولكن في واحد ملوك 8: 9 نقرأ "لم يكن في التابوت إلا لوحا الحجر اللذان وضعهما موسى هناك في حوريب" ظل اللوحان فقط في التابوت بعد دخوله الأرض وذلك لأن الرحلات البرية قد مضت وأصبح المجد الذي تكلل به عهد سليمان يرسل أشعته المتألقة على الأرض التي تشير إلى الملكوت حيث لا توجد حاجة سوى لشريعته العادلة، ونحن لا نحتاج إلى كهنوته سوى في البرية، ويوجد فرق بين عصا موسى وعصا هرون التي هي ارتعدت أرض الفراعنة من هولها، وتلبية لتلك العصا المحدودة توالت الأوبئة على مسرح الحوادث، وانشق ماء البحر الأحمر أمامها، كانت عصا القوة والجبروت ومع ذلك لم تفلح في تسكين تذمرات الشعب، ولم تفلح مع الشعب في البرية لأن ذلك لا يناسبه والذي يناسبه هناك هو النعمة فقط التي ساندت وعضدت وسددت الأعواز والاحتياجات وهذا ما نراه في عصا هرون, إن الفروخ والأزهار واللوز خير بيان على قوة الله المُحبة, وهي رمز لكل خدمة تقدم في العهد الجديد, ونرى تعبيراً لها في قول الرسول "رسول لا من الناس ولا بإنسان بل بيسوع المسيح والله الآب الذي أقامه من الأموات" (غل 1: 1)، الكل من المسيح بالنعمة (أف 4: 7- 12).
إن كل مؤمن مميز يستطيع أن يعرف أنه في أوائل القرن السابق تم إحياء هذا الحق في بيت الله، وصارت هناك رغبة ملحة لدى الكثيرين لممارسة الخدمة الروحية التي تنطبق على هذا البيت، وهي كلها ترتبط بالمسيح ككاهن، ولا يوجد اقتراب إلى الله إلا به "كاهن عظيم على بيت الله" (عب 10: 21) هذا الحق هو أحد خدمات الروح القدس في هذه الأيام الذي يجذب الأنظار للمسيح ككاهن.
كان هناك تذمر لدى جماعة الشعب في البرية بسبب الافتراض أن كل الجماعة مقدسة، وأن الرب ساكن بينهم، ولذلك لم يكن في نظرهم ضرورة أن يتسلط موسى وهرون عليهم، وقضى الله على هذا الشر، والتذمر شيء عادي بالنسبة للجسد الذي يريد أن يعظم نفسه بالافتراض أنه مميز إلهياً، وكانت هذه هي خطية اليهود، أنهم شعب الرب وأن الرب في وسطهم، وهي كلها امتيازات تعطي أهمية للجسد الذي يبرر التذمر مستخدماً ما أعده الله لشعبه، وهي فكرة شيطانية ماكرة. ولكن الروح القدس يكشفها هنا لأعيينا ويرينا حقيقة الناس الذين نتعامل معهم، وبالنسبة لنا فإن كلمة الله بالروح القدس تساعدنا على إدانة الجسد مهما كانت الامتيازات التي أسبغها الله علينا في المسيح.
في خر 28، 29 نرى دعوة هرون ليكون كاهناً وما هو لازم لتقديسه، ونرى تقديسه الفعلي في لا 8، وكل هذا كان فيه إعلان لفكر الله للشعب. وقد يقدم الحق للشعب ولكن لا يستوعب إن لم يعرف اختبارياً، وفي هذا الأصحاح نرى طرقاً إلهية مستخدمة بالنعمة لاستحضار الشعب إلى خط تفكيره حتى يتوقف عن التذمر.
استحضر بنو إسرائيل أمام الرب ممثلين في اثني عشر عصا، عصا لكل سبط وكتب اسم هرون على عصا لاوي "فَالرَّجُلُ الَّذِي أَخْتَارُهُ تُفْرِخُ عَصَاه.... وَفِي الْغَدِ دَخَلَ مُوسَى إِلَى خَيْمَةِ الشَّهَادَةِ وَإِذَا عَصَا هَارُونَ لِبَيْتِ لاَوِي قَدْ أَفْرَخَتْ أَخْرَجَتْ فُرُوخًا وَأَزْهَرَتْ زَهْرًا وَأَنْضَجَتْ لَوْزًا" (ع 5، 8)- وهكذا أصبح واضحاً أنه بالنسبة للشهادة كانوا كلهم أمواتاً وبهم عقم باستثناء واحد فقط أصبح مميزاً بسمة الحياة، وليست الحياة العادية، ولكن الحياة من الموت. إن شجرة اللوز هي أول كل الأشجار التي تفرخ في موسم الشتاء، ويشير اسمها بالعبرية إلى هذا الأمر ولذلك فهي تشير إلى القيامة، لكن بالنسبة للإفراخ والأزهار والنضج فاللوز يخرج هنا من عصا ميتة، وكأن الله يريد أن يقول لنا: إن الكهنوت لا يرتبط بالإنسان العادي أو الإنسان حسب الجسد، بل يخص المسيح المقام والممجد في السماء، وسوف يظل هكذا بقوة حياة لا تزول (عب 7: 16).
قال الرجلان ذوي الثياب البيضاء اللامعة عند القبر "لماذا تطلبن الحي بين الأموات ليس هو ههنا لكنه قام" (لو 24: 5، 6) ولكن كيف يمكن أن يكون الإنسان حياً إذ لم يخرج خارج دائرة سلطان الموت- هو الحي هناك، هو الكاهن لحسابنا بتعيين من الله وهذا ينبغي أن نتعلمه من الدرس هنا.
"فَكَلَّمَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُوسَى قَائِلِينَ إِنَّنَا فَنِينَا وَهَلَكْنَا. قَدْ هَلَكْنَا جَمِيعًا. كُلُّ مَنِ اقْتَرَبَ إِلَى مَسْكَنِ الرَّبِّ يَمُوتُ أَمَا فَنِيْنَا تَمَامًا" (ع 12، 13).
يظهر هذان العددان الأخيران من هذا الأصحاح أن درس العصى قد استوعب تماماً ولو من الناحية السلبية، لم تكن تجهيزات النعمة في مستوى مداركهم ليفهموها ولكن كان لديهم الشعور فقط بالحاجة إليها. وهذه هي الخطوة الأولى في تقدير النعمة، ولذلك لا عجب أن قالوا هذه الأقوال عندما استحضر موسى هذه العصى من أمام الرب ووضعها أمامهم وأخذ كل واحد عصاه (ع 9) ولا شك أن كل واحد تطلع إلى عصاه وعرفه، وعرف أنها عقيمة وميتة، وهذا هو الدرس الذي يجب أن يتعلمه كل واحد منا إذا أردنا أن نستفيد من كهنوت المسيح أننا في ذواتنا أموات وعقماء، إنه درس رومية 7 الذي يمكن استيعابه في هذا الرمز بالارتباط مع خيمة الشهادة، إذ نستطيع أن نقترب من خيمة الرب بمعونة المسيح وخدمته الكهنوتية، ولا ينبغي أن يمون لنا الفكر أننا نقدر أن نصلي صلاة مقبولة أو نسبح أو نقدم سجوداً بدون المسيح ككاهن الحي، وإذا فعلنا ذلك فسوف يكون الأمر تذمراً ضد الترتيب الإلهي، وعلينا عندئذ أن نتعلم عقمنا ونتطلع إلى عصينا الميتة، أما عصا هرون فتبقى الشاهد الثمين لقوة حياة المسيح المقام والممجد في السماء، وحياته حياة الشفاعة المستمرة لحسابنا. وقف هرون بين الأحياء والأموات ولا يزال هذا هو موقف المسيح لأنه يوجد كثيرون الأن في دائرة الاعتراف المسيحي الذين يدعون خدمة الله، ولكن الخدام الحقيقيين هم الإحياء المقامون بحياة المسيح كالكاهن، والذين تعلموا موت عصيهم من خلال اختبارهم هذا وصلوا إلى تقدير نعمة امتياز المسيح الحي.
ليس فقط أن الكفارة عُملت كما رأينا في نهاية الأصحاح السابق، بل أيضاً يوجد كاهن حي مقام من الأموات معين من الله، وهو تعبير عن حياة الأفراح والأزهار والنضج، كانت كلها هناك في طريق ثمر لله، من خلال كهنوت المسيح فإن ثمر الحياة والخدمة مضمون للأطفال والأحداث والآباء، كل منهم له مقياسه، ولكن الكل بمعونة كهنوت المسيح مقبول كلياً لله.
لم يكن المسيح في وظيفة الكاهن أيام جسده هنا على الأرض، لكنه أخذ هذه الوظيفة بعد أن قام وتمجد في السماء، لكن في أيام جسده كشف عن نعمة الكهنوت بطريقة رائعة في أثناء سيره، لم يظهر فقط الشفاعة بالنعمة لكن أيضاً المشاركة والرثاء الكهنوتي والعطف، كان يعين ويصحح مسار المؤمنين الذين تعاملوا مع شخصه المبارك، أسرع إلى معونة تلميذه بطرس الذي كان يغرق بسبب ضعف الإيمان، وكان يقوي ويعضد الإيمان الذي كان يفشل في الحصول على معونة. كل هذا ترسمه النعمة أمامنا في خط سيره هنا، أما الآن وهو في الأعالي فهو على استعداد كامل لتقديم المعونة أكثر مما كان في أيام جسده، تستطيع الملايين الآن أن تستفيد من معونته في نفس اللحظة في جميع أنحاء العالم.
ونلاحظ أن عصا هرون لم تكن له شخصياً بل لبيت لاوي (ع 8) والنعمة التي هي للمسيح ككاهن تشمل كل العائلة الكهنوتية اللاوية، وهم في هذا رمز لكل مؤمني العهد الجديد. إن خدمته الشفاعية والكهنوتية متاحة لكل القديسين وهي متاحة لهم بواسطة مؤمنين آخرين. فالمؤمن يرثي ويشارك أخاه المؤمن في أتباعه وأثقاله، يحمل المؤمنون أثقال بعضهم البعض، وهي كلها نابعة من خدمة المسيح الكهنوتية، وهو هناك كما كان هما يعمل على عزل المؤمنين عن الجسد بتذمراته وعصيانه ويربطهم بمشاعر كلها تقدير للمسيح حتى يستفيدوا من حياته هناك التي هي لحسابهم. كتب الرسول إلى العبرانيين لتثبيت المؤمنين في معرفة المسيح كشفيع وكاهن واستحضارهم إلى كل ما صار لهم في المسيح ككاهن "وأما رأس الكلام فهو أن لنا رئيس كهنة عظيم مثل هذا قد جلس في يمين عرش العظمة في السماوات خادماً للأقدس والمسكن الحقيقي الذي نصبه الرب لا إنسان" (عب 8: 1). وعندما نستفيد بما لنا في المسيح ككاهن نبتعد عن التذمر والعصيان ويجهز الله في قلوبنا مكاناً كان فيه قبلاً العصيان والتذمر.
كان موسى من سبط لاوي، وكانت العصا لكل بيت لاوي، وفي ص 20 لم يستفد موسى وهرون من هذا الأمر وأظهرا عدم تصديقهما لقول الرب كما أظهر عدم طاعة بأن ضرب موسى الصخرة بدلاً من أن يكلمها كما قال الرب له الأمر الذي يرينا تذمره، أعوزهما مجد الله ولم يقدساه أمام أعين بني إسرائيل ولذلك فشلا في الاستحضار الجماعة إلى الأرض، ارتحلا في لحظة عما كان يمجد الرب. وكانت النتائج خطيرة بالنسبة لهما. إن كهنوت المسيح يستحضرنا إلى خط النعمة وتصديق الله في كل ما يقوله فنقدسه أمام شعبه.
في ختام ص 17 نرى كيف أن القلب البشري لا يثبت على حال بل يتحول من الضد إلى الضد. في الأصحاح السابق نرى غطرسته في حضور جلال الرب حيث يقول "إن كل الجماعة بأسرها مقدسة" بينما في نهاية هذا الأصحاح لا يدركون النعمة الإلهية "إننا فنين وهلكنا". ولكن الرب يحول أخطاء شعبه إلى خير ويخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة.
- عدد الزيارات: 2002