الأصحاح 30
حين تكلم موسى بما ورد في الأصحاح كان الله ينتظر أن تتواجد روح التكريس في شعبه. والتأمل الذي ورد في الأصحاحين السابقين كان عن أمور تخص خدمة الله حيث تتحرك مشاعر المؤمنين نتيجة عمل نعمته فيهم، ولا شك أن الله يسر بمثل هذه الحركات الروحية، وهنا نراه يريد أن يخضعها للتنظيم الإلهي منعاً من اتجاهها في نواح مختلفة ليست بحسب فكره.
وكل هذا الأصحاح فيما عدا عدد واحد فقط مشغول بالمرأة التي تنذر ولكن هذا العدد الواحد الذي يتكلم فيه عن نذر الرجل له أهمية كبرى لأنه يرمز للمسيح "إِذَا نَذَرَ رَجُلٌ نَذْرًا لِلرَّبِّ أَوْ أَقْسَمَ قَسَمًا أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ بِلاَزِمٍ فَلاَ يَنْقُضْ كَلاَمَهُ. حَسَبَ كُلِّ مَا خَرَجَ مِنْ فَمِهِ يَفْعَلُ" (ع 2) وفي هذا العدد لا نجد شيئاً قابلاً للإلغاء، كل ما قاله يثبت، وهذا ما تم في المسيح، فيه تحقق تماماً النذر الذي نذر به، جاء إلى هذا العالم وهذه الكلمات العجيبة في فمه "حينئذ قلت هنذا جئت. بدرج الكتاب مكتوب عني أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت وشريعتك في وسط أحشائي" (مز 40: 7، 8)، فتحت الأذنان (مز 40: 6) للطاعة، وليس للطاعة فقط بل اقترن التكريس بالطاعة، مما جعله يجد سروراً فيها، وهكذا كان في الروح الحقيقية للنذر. ونستطيع أن نرى الفرق بين الطاعة وروح النذر حين كانت له اثنتا عشرة سنة وذهب مع مريم المطوبة ويوسف إلى العيد، وأكملا الأيام المفرزة في الهيكل وتمما كل ما كان مطلوباً منهما حسب الناموس، وكان الرب يسوع وهو صبي معهما في كل هذا، وبدأت رحلة عودتهما، وبعد مسيرة ثلاثة أيام لم يجداه معهما إذ بقي هو في أورشليم، وكان مكرساً للآب إذ حين سألاه قال "ينبغي أن أكون فيما لأبي" (لو 2: 41- 51) لم يكن هناك إلزام عليه أن يفعل ذلك، كان دافعه في هذا محبته لأبيه، كان في روح النذر.
وكان أيضاً كالعبد العبراني الذي أتم ما كان عليه من خدمة، وكان يستطيع أن يخرج حراً، ولكنه أخذ على نفسه خدمة أخرى دائمة ذات أساس آخر "ولكن إن قال العبد: أحب سيدي وامرأتي وأولادي. لا أخرج حراً يقدمه سيده إلى الله ويقربه إلى الباب أو إلى القائمة ويثقب سيده أذنه بالمثقب "فيخدمه إلى الأبد" (خر 21: 5)، لم يكن مرغماً على ذلك بل كان عبداً في خدمة المحبة التي ربطته إلى سيده وامرأته وأولاده، وكان كفواً لكل شيء أخذه على نفسه في محبة وقدرة، لم يكن في روح يفتاح الذي قال "فتحت فمي إلى الرب ولا يمكنني الرجوع" (قض 11: 35) لقد اندفع في نذره، ولم يكن يعرف حقيقة ما نذر به، لكن الرب يسوع له المجد كان يعرف حقيقة ما نذر به تماماً، وتمم كل ما نذر به نحو الآب ونحو المؤمنين إذ أسلم نفسه لأجل الكنيسة، وقدس نفسه من أجلها لكي تتقدس في الحق ويتم إحضارها لنفسه كنيسة مجيدة (أف 5) وكل شيء يعتمد على ثمر تكريسه ومحبته الأمر الذي تعهد به منذ البداية فهو يدعى "أميناً وصادقاً" (رؤ 19: 11) "وهو القدوس الحق" (رؤ 3: 7) و "إن كنا غير أمناء فهو يبقى أميناً لن يقدر أن ينكر نفسه" (2 تيمو 2: 13) ومهما كانت عدم أمانة الكنيسة لكن كان فيه هو الثبات في ما خرج من فمه لإتمامه.
والمرأة التي تنذر مشاعر التكريس التي توجد في القديسين كجماعة وهي تماثل المشاعر التي في الرب يسوع له المجد. والمرأة التي في بيت أبيها أو بيت زوجها فإن نذورها تثبت حين يصادق عليها أبوها أو زوجها، ولا تثبت حين لا يصادق عليها أبوها أو زوجها، ولأنها تشير إلى الكنيسة فإن أي مشاعر تكريسية في القديسين كجماعة ينبغي أن يصادق عليها الآب أو الرب يسوع المسيح له المجد، وتصير هذه المشاعر تحت التدريب في الجماعة، وقد ينجح التدريب ويصل بها إلى الإتمام من جانب الجماعة وفي هذه الحالة تثبت روح النذر للجماعة، وقد لا تنجح الجماعة في إتمامها وعندئذ يثبت النذر ضدها إذ قد تكون هذه المشاعر لمسرة النفس لأننا لا نعرف حقيقة أنفسنا أو مقدارها، وأحياناً تختلط الرغبة للخدمة بمشاعر فوق إمكانياتنا والنتيجة أننا لا نستطيع أن نتمم ما رغبنا فيه، نخدم ولكن ليس في حرية إذ لا نكون كفاة لنذرنا، وكثيراً ما يكشف خدام الرب أنهم غير أكفاء لما يظهرون به علناً، والرب لا بد أن يمد يد المعونة لنا لما هو مطابق للحق أو يتنازل إلينا بتدريب يصل بنا إلى النقطة التي فيها يعيننا معونة كاملة حتى نخدم في حرية كاملة إذ ينبغي أن يكون نذرنا متوافقاً مع ما هو في فكر الله، وقد لا يسمح أن يُثبت نذرنا بحسب ما هو في فكرنا وقلبنا ولكن بصورة تختلف قليلاً أو كثيراً عن ذلك، وعلى أي حال يجب أن نرتمي على أبينا أو سيدنا حتى نتخلص من الصعوبات التي قد نستحضرها لأنفسنا.
أما الأرملة أو المطلقة التي ليس لها من يثبت نذرها أو يعطله فهي تمثل الذي يفقد الشعور برئاسة المسيح بعد أن كان في هذا الموقف، وفي هذه الحالة تثبت كل نذوره ضده. إنه أمر خطير أن تكون هناك رغبات بعيدة عن المسيح. أما الاجتماع الذي يتمسك بالمسيح كالرأس ويظل أميناً وصادقاً لعلاقته به كالعريس فإن نذوره تثبت له. وكلمات الرب للكنائس في رؤيا 2، 3 ترينا هذه الكنائس وهي في وضع النذور ولكن ليس لها قيمة في نظره فكنيسة أفسس التي تركت محبتها الأولى حذرها الرب بأن يأتي إليها إن لم تتب ويزحزح منارتها أي يصبح وصفها العلني أنها ليست شاهدة للمسيح وعندئذ تكون قد وصلت إلى وضع الأرملة أو المطلقة، ونرى هذا الوضع بصورته المتكاملة في كنيسة ثياتيرا حيث يخاطب الرب بقية منها حيث أظهرت عدم أمانة بكثرة، وأنه سوف يرفضها، وهذا شيء خطير أن يرفض المسيح من كانوا في وضع الاعتراف به، لذلك فنذور هذه الكنيسة تثبت ضدها.
والمسيحيون في المسيحية الاسمية لا يعرفون السلام المتضمن في الفداء الذي بالمسيح. وعوضاً عن ذلك فإن لديهم الكثير من الرغبات الجسدية والممارسات الطقسية يقدمونها كأنها نذور عليهم، ولا بد أن تثبت تلك النذور ضد من أعطاها.
ويقول الرسول بولس عن المؤمنين في مكدونية "أنهم قد أعطوا أنفسهم أولاً للرب ولنا بمشيئة الله" (2 كو 8: 5). كان هذا منهم نذراً حقيقياً إذ وصلوا إلى ما وراء تطلعات الرسول. وتقديم أجسادنا ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله (رو 12) هو نتيجة مباشرة لمعرفة مشاعر الله ونستطيع أن نرى روح النذر بصورة جميلة في الرسول بولس إذ يقول "لأن محبة المسيح تحصرنا إذ نحن بحسب هذا أنه إن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذ ماتوا. وهو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام" (2 كو 5: 14) أي أن الثبات الداخلي للفكر لا يمكن تحوله بسبب أية عقبة داخلية أو خارجية، ويريدنا الرسول أن نثبت واضعين أمام عيوننا أفكار الله تجاه شعبه. ليت الأمر يكون كذلك في أن يكون لنا الرغبة في التمثل بالمسيح. ولا شك أن عدد 30 كان في فكر الرسول حين قدم تلك التحريضات السابقة وأيضاً حين قال "أيها الإخوة أنا لست أحسب نفسي إني قد أدركت. ولكني أفعل شيئاً واحداً إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام. أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع" (في 3: 13- 15).
وتشير النذور عامة إلى ما يقصد القلب أن يقدمه لله وهو في إدراك لنعمته. ونستطيع أن نقول أن ذبيحة السلامة (لا 7: 16) وهي تقود إلى شركة القديسين وهم يستحضرون شيئاً لمسرة الله إنها نذر، وهذه النذور يجب استحضارها إلى جماعة الرب في صورة تقدمات روحية وتستحضر وقتئذ إثراء روحياً للجماعة ورائحة سرور للآب. وفي (مز 22: 25) "أوفي بنذوره قدام خائفيه" نرى تعبيراً عن مشاعر المسيح تجاه الله في الوقت الحاضر.
والاضطراب الذي قد يسمح به الله ونجتاز فيه لا بد أن تكون له نتيجة سارة إذ يقودنا إلى نذر ننطق به، وما أقل ما تتجه نفوسنا إلى الله في نذر بدون اضطراب إذ في هذه الحالة نتعلم الاتكال عليه وعندئذ تنبع في قلوبنا الأفكار المتجهة بالمشاعر الحسنة نحو الله لا سيما حين يخرجنا الله من الضيق.
- عدد الزيارات: 1594