الأصحاح الثالث
في الأعداد 1- 8 يريد الجامعة أن يبين أن عناية الله ترتب وتدبر حياة الإنسان بكل دقائقها وهو يستعرض في ع 1 هذا الترتيب بصفة إجمالية. ثم يوضحه بالتفصيل في ع 2- 8.
"لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ وَقْتٌ" (ع 1).
زمان هنا بمعنى موسم, وهي فرصة معينة محدودة كما يُقال موسم الحصاد. وفي كلمة الله نرى مواسم معينة هامة لها ارتباطها الخطير بأبدية الإنسان التي ليس فيها سنين وأيام. وأول زمان مُلفت للنظر جداً هو الزمان الذي جاء فيه الخالق إلينا ليصنع بنفسه الفداء والكفارة الإلهية "لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة" (غل 4: 4)- هذا هو الأساس والقاعدة الوحيدة لكل الأزمنة التي في فكر الله لأنه زمان افتقاد الله بالنعمة لجنسنا المسكين ولذلك يسمى بتدبير نعمة الله (أف 3) وهذا الزمان سينتهي قريباً باختطاف الكنيسة الحقيقية إلى السماء. وحينئذ سيبتدئ زمان رهيب لمدة 7 سنوات يسمى زمان ضيق (دا 12) وزمان انتقام (إر1 5) وزمان إثم النهاية (حز 21) والزمان الرديء (عا 5). وبانتهاء السبع سنين هذه يأتي زمان الملك الألفي للمسيح على الأرض وبه ستكمل الأزمنة (أف 1)و وبعد الملك الألفي تبدأ الأبدية التي لا سنين فيها أو أزمنة.
"لِلْوِلاَدَةِ وَقْتٌ وَلِلْمَوْتِ وَقْتٌ لِلْغَرْسِ وَقْتٌ وَلِقَلْعِ الْمَغْرُوسِ وَقْتٌ" (ع 2).
كلمة وقت تأتي 28 مرة في 14 "ثنائي" وهي تشمل كل ظروف الإنسان التي تحت الشمس من مولده إلى موته. وقصد الحكيم أن كل ظرف من ظروف الحياة تحت الشمس له وقته, لكن هناك ظرفاً آخر مضاداً له تماماً. والخلاصة طالما الأمر كذلك فلا منفعة لتعب الإنسان تحت الشمس. ولكن شكراً لله لأجل الحكمة الأزلي عندما اخذ صورة إنسان وجاء تحت الشمس, استخدم الوقت بروعة وجلال لمجد الله ولبركة ملايين النفوس التي اقتربت منه.
ما أروع تقرير إنجيل مرقس- إنجيل الخادم والعبد الكامل, عن كلمة للوقت 42 مرة, ليوضح كم كان وقته ثميناً وغالياً ولم تكن في حياته الغالية الكريمة لحظة واحدة إلا بحسب قصد الآب وفكره تماماً.
الثنائي الأول
للولادة وقت وللموت وقت- هنا نرى بداية إنسان تحت الشمس ككائن عاقل مفكر ناطق, يولد في هذه العائلة البشرية المميزة من الله على كل المخلوقات بل هو تاج الخليقة كلها.
"نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك 1: 26) وهكذا تبدأ كتابة قصة حياة الإنسان على الأرض وكل يوم يمر, يكتب فيه الإنسان صفحة من صفحات حياته إلى أن تنتهي القصة, وذلك بالكلمة الخطيرة "وللموت وقت". وما أتعس الإنسان الذي تدور به العجلة ولا يفهم قصد الله الذي كونه وصوره في أحشاء أمه وأنشأه ولاحظه ودبر له كل ظروف حياته. ولذلك أول حديث للرب يسوع المسيح بعد بدء خدمته في إنجيل يوحنا عن هذا الأمر الخطير, لقد وضح له المجد للرئيس الديني للأمة اليهودية- نيقوديموس- كما أنه بالولادة الحرفية الجسدية يبدأ الإنسان كيانه على الأرض طبقاً لرغبات الأرض, هناك ولادة روحية من فوق تعطي الإنسان طبيعة روحية جديدة في داخله, وهذه يسكن فيها الروح القدس ليحرك الإنسان طبقاً لرغبات السماء مع أنه لازال عائشاً على الأرض "لا تتعجب أني قلت لك ينبغي أن تولد من فوق. المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح" (يو 3: 6) وهذا يكشف الحقيقة الخطيرة أن الولادة الجديدة التي من فوق, ليست تحسين أو تجديد الطبيعة الساقطة المولود بها الإنسان, التي ليس لها محور تدور حوله إلا ذات الإنسان وتعظيمها في تجاهل كامل لحق الله, وطعامها وشرابها هو رغبات وشهوات الجسد. وكل الفلسفات الدينية التي في العالم تدور حول تحسين هذا الكيان الساقط الرهيب الموروث إما بالتهذيب وإما بالتعذيب والتقشف. وقد أُغلق الباب تماماً في وجه هذه المحاولات الساقطة وذلك بقوله الكريم "الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت السموات" (يو 3: 3), كما جاءت إشارات كثيرة في الكتاب المقدس إلى هذه الحقيقة (إر 13: 23, اش 48: 8, أم 26: 25, 27: 22). وهناك أمثلة عملية واضحة في الطبيعة, إذا رأيت إنساناً عبقرياً فذاً في الرياضيات هذا ليس إلا لأنه مولود بذهن رياضي يجري نحو الرياضيات منذ طفولته وحداثة سنه. كذلك أيضاًً الموسيقار والرسام, لذلك ينبغي أن يحصل الإنسان من المسيح السماوي على هذه الطبيعة السماوية لتصبح ميوله وأفكاره كلها سماوية وينطبع هذا على كلامه وتصرفاته وكل نواحي حياته بين الناس هنا- راجع قصة خلاص زكا لو 19 والعشار لو 18 والسجان أع 16 والسامرية يو 4.
أما القول بأن الإنسان يولد في هذا العالم وهو يحمل البذرتين, البذرة السماوية والبذرة الشريرة, وبالتدريب
والتهذيب تنمو الأولى وتذبل الثانية, فقد توضح لنا من كلام الرب السابق مع نيقوديموس بطلان وجهل هذا القول بالإضافة إلى الشواهد التي تؤكد أن الإنسان يولد وبجملته كتلة شريرة مز 14, 53, رو 3, مز 51: 5.
فالولادة من فوق- الولادة الثانية- الولادة الجديدة, عملية إلهية بحتة, وليس على الإنسان إلا الارتماء على مصدرها الوحيد وواهبها الوحيد, المسيح السماوي القدوس المبارك, والإقرار من القلب بأنه كان لأجلي على الصليب, وأنه سدد كل مطاليب عدالة الله المطلقة "إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غل 2" 20) "قد محا عند الصليب دم ربي إثمي وعن القلب الكئيب زال كل الهم".
بقيت نقطة وهي كما أن الولادة الطبيعية الجسدية يتبعها موت جسدي حرفي كذلك أيضاً الولادة الروحية الجديدة السماوية مرتبطة بموت أسمى وأنبل وأشرف وهو موت الذات البشرية الساقطة. ما أروع تقرير الرب له المجد "إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني" (مت 16: 26, مر 8, لو 9).
ما أروع تقرير الرسول "مع المسيح صُلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ" (غل 2: 20). لا ننسى أنه بالولادة الجديدة يخرج الإنسان من دائرة الموت الحرفي ملك الأهوال, بل يصبح الموت خادماً للمؤمن "لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح" 0في 1: 21).
والخلاصة ما أتعس الإنسان الذي تدور به عجلة سليمان- للولادة وقت وللموت وقت, وهكذا يدخل إلى الأبدية بلا نهاية بدون مغفرة خطاياه "وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة" (عب 9: 27).
الثنائي الثاني
للغرس وقت ولقلع المغروس وقت- الغرس في الكتاب المقدس له 3 معانٍ
الأول: الغرس الحرفي للنباتات تك 2
الثاني: وضع الشعب اليهودي قديماً في أرض فلسطين ليسكن فيها "كرمة مصر نقلت وطردت أمماً وغرستها" (مز 80: 8).
الثالث: غرس الحق الإلهي في القلب كما يقرر المسيح له المجد (مت 15: 13) "كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يُقلع" وهذا للغرس للحق الذي لا يمكن اقتلاعه يأتي كحلقة أخيرة في تعامل الله مع نفس الإنسان:-
الحلقة الأولى: اجتذاب نفس الإنسان إلى المسيح كما يقرر له المجد "لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ" (يو 6: 44).
الحلقة الثانية: الإعلان الإلهي في القلب- من هو هذا المسيح المبارك كابن الله الحي «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ لَكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (مت 16: 17).
الحلقة الثالثة: اجتذاب نفس الإنسان إلى عمل المسيح الكفاري على الصليب "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ" 0يو 12: 32).
الحلقة الرابعة: غرس هذا الحق عميقاً في نفس الإنسان بعمل إلهي لا يمكن اقتلاعه.
الحلقة الخامسة: مقترناً بهذا الغرس إعطاء الطبيعة الجديدة التي سبقت الإشارة إليها في الثنائي الأول. والروح القدس في كل هذه الحلقات لا يستخدم إلا واسطة واحدة التي هي كلمة الله (عب 4: 12, ار 23: 29, اش 55: 8, يو 3: 5, لكن في العالم اخترع العدو في أذهان البشر أنواعاً أخرى من الغرس:
أولاً- غرس ما يسمى المبادئ النبيلة في الإنسان عن طريق الفلسفة, أي التفكير المنطقي العميق, وقد وضح الرسول فساد هذه المدرسة (رو 1: 22) "وبينما هم يزعمون أتهم حكماء صاروا جهلاء لذلك أسلمهم الله في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم".
ثانياً- غرس أقوال الآباء أي التقليد, وقد وضح الرب للفريسيين بطلان هذه المدرسة وغباوتها فقال له المجد لهم "فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ اللَّهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ, يَا مُرَاؤُونَ حَسَناً تَنَبَّأَ عَنْكُمْ أشعياء قَائِلاً يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هَذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ وَيُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ" (مت 15: 6).
ثالثاً- غرس المبادئ التقشفية وتعذيب الإنسان نفسه, لكي في توهم باطل يقمع الشر الكامن فيه, وذلك بصيامات مفروضة قاسية, وعدم وضع موسى على جسده ليحلق شعره, وقد وضح الكتاب بطلان هذه المدرسة وحماقتها إر 2: 22.
"فَإِنَّكِ وَإِنِ اغْتَسَلْتِ بِالنَطْرُونٍ وَأَكْثَرْتِ لِنَفْسِكِ الأَشْنَانَ فَقَدْ نُقِشَ إِثْمُكِ أَمَامِي يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ".
وكل هذه المدارس تتجاهل خراب الإنسان الكامل وعجزه وفساده والسر هو تجاهل كلمة الله "ها قد رفضوا كلمة الرب فأية حكمة لهم" (إر 8: 9).
لذلك كل هذا الغرس لا بد له من النتيجة الحتمية "لقلع المغروس وقت" لأن كل غرس بشري لا يؤثر شعرة واحدة على الشجرة الردية المولود بها الإنسان وتحتوي على كل عناصر طبيعة الشيطان لذلك لا بد من اقتلاع الإنسان بجملته من أمام الله وطرحه في مكان الانفصال الأبدي عن الله "هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" ولكن الغرس الإلهي في ربنا يسوع المسيح هو موضوع سرور الله وله هذه الأوصاف الجميلة:-
- أولاً "ويدعون أشجار البر غرس الرب للتمجيد" (أش 61: 3)- ذات المعنى في اش 60: 21 "وشعبك كلهم أبرار إلى الأبد يرثون الأرض غصن غرسي عمل يديّ لأتمجد" أي أن كل واحد من أولاد الله يُشار إليه بشجرة بر تُظهر كل صلاح الله كما أظهره على الوجه الأكمل ربنا يسوع المسيح في حياته الغالية هنا على الأرض, كيف كان يجول يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس.
لكن الأساس واضح لأنهم غرس الرب أي غرس إلهي للتمجيد, أي أن هذا هو الغرض ليتمجد الله بهذا الغرس الذي تظهر ثماره أمام الناس "بهذا يتمجد أبي أن تأتوا بثمر كثير فتكونون تلاميذي" (يو 15: 8).
- ثانياً : الصديق..... مغروسين في بيت الرب في ديار الهنا يزهرون" (مز 92: 12) هنا الوجه الثاني, فهم كجماعة مغروسين في بيت الرب للسجود والعبادة والتسبيح.
الثنائي الثالث
للقتل وقت وللشفاء وقت- مخترع مدرسة القتل في العالم هو قايين أول قاتل, والدافع هو الذات البغيضة التي لم تحتمل أن الله يقبل تقدمة شقيقه هابيل ويرفض تقدمته. وبكل تأكيد كان هابيل رقيقاً وديعاً لأن شهادة المسيح عنه تقرر ذلك (راجع مت 23: 35) وبكل يقين لم تصدر منه أية كلمة أو تصرف مثير, لكن هي الذات التي لا تقبل أي رفعة للآخرين, ومن عب 11 نفهم أن الإعلان الإلهي كان واضحاً للشقيقين على لسان أبيهما آدم عن كيفية الاقتراب إلى الله عن طريق ذبيحة دموية لتكفر عن خطية الإنسان. وواضح أن هابيل صدق الإعلان وقايين لم يصدق وقدم تقدمات ليست بحسب فكر الله فرُفضت.
وواضح أن غارس مدرسة القتل في القلب البشري هو الشيطان كما قال المسيح له المجد لليهود "أنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَذ الْبَدْءِ" (يو 8: 44) وكل الحروب الدامية في كل التاريخ هو من ورائها. والرسول يوحنا يكشف لنا أمراً رهيباً فيقول "كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس" (1 يو 3: 15)- فهو يتناول الأمور من أصولها ومن جذورها الدفينة لأن روح الإنسان المبغض أخاه هي روح قاتلة من حيث المبدأ شأنه شأن الرجل الذي يصفه المسيح بأنه زان لتركه الشهوة تعمل في قلبه بدلاً من أن يدينها ويتذلل من أجلها, ومن هذا نتعلم أن الله يتعامل مع القلب وليس مع الظواهر.
ثم يضيف الرسول "وأنتم تعلمون أن كل قاتل نفس ليس له حياة أبدية ثابتة فيه", أي أنه لم يتعرّف برئيس الحياة ربنا يسوع المسيح, وهكذا يصل الرسول إلى الخلاصة أن مثل هذا هو ابن ابليس الصانع الحقيقي لكل بغضة والمثير الحقيقي لكل قتل.
وهنا يأتي السؤال هل مِن شفاء من هذه المدرسة الرهيبة مدرسة البغضة والقتل؟ شكراً لله ها هو تقرير الحكيم "وللشفاء وقت" ما أدق الوحي الكريم, فكنا ننتظر القول "للانتقام من القاتل وقت", ما أروع إعلان الله عن طبيعته, ليس الانتقام هو سروره لكن بالعكس هو العمل الغريب على طبيعته (أش 28: 21) لكن ما تسر به طبيعته هو انتصار النعمة وتغيير المشهد تماماً من بغضة قاتلة إلى محبة باذلة "كما ملكت الخطية في الموت هكذا تملك النعمة بالبر للحياة الأبدية بيسوع المسيح ربنا" (رو 5: 20).
وكلمة الله تتكلم باستمرار عن المدرستين, مدرسة العدو وطابعها وصفاتها وكيفية الخلاص منها وشفاء القلب جذرياً من كل أركانها والانتقال إلى مدرسة الله حيث العَلَمُ المرفوع هو المحبة والبذل, وعلى سبيل المثال نتذكر ذلك الاناء المختار- الرسول بولس, ما هو تقرير الروح القدس عنه قبل أن يتقابل مع الرب يسوع؟ نقرأ في أع 9 "وأما شاول فكان لم يزل ينفث تهدداً وقتلاً على تلاميذ الرب", أي قمة الأمة اليهودية في القسوة والقتل وبكل قوته يجري في البحث عن تلاميذ المسيح ليفتك بهم وفجأة سمع ذلك الصوت الوديع "شاول شاول لماذا تضطهدني", ومن تلك اللحظة تغيَّر ذلك اليهودي العنيد وأصبح في المسيح خليقة جديدة أي تم شفاؤه تماماً من مدرسة القتل وأصبحت له أحشاء المسيح الفياضة بالمحبة والعطف والرقة والنبل والتضحية لأجل اسم ربنا يسوع المسيح.
ولا ننسى أن كلفة هذا الشفاء هي آلام حمل الله القدوس المبارك على الصليب ما أروع تقرير أشعياء "كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا.. مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِجبُرِهِ شُفِينَا" (أش 53: 5, 6) أيضاً ذات تقرير الرسول بطرس "الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة.. الذي بجلدته (آلامه) شفيتم" (1 بط 2: 21) وكما قال هو بفمه الكريم "روح السيد الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب" (لو 4, اش 61).
الثنائي الرابع
للهدم وقت وللبناء وقت- في الكتاب المقدس نرى, للهدم, أولاً المعنى الحرفي هدم البيوت وهدم المدن. لكن أيضاً له المعنى التصويري إذ يصور عمل الشيطان الذي بكل جهده يهدم نفس الإنسان لكي يخور ويستسلم تماماً لأفكاره وهكذا ينتهي به إلى ذات مصيره الذي هو الهلاك الأبدي. كم ظل يحوم حول أفكار يهوذا الخائن ويلمّع له بريق الفضة حتى باع سيده وهكذا استلمه في يأس قاتل حت هدمه إلى الأبد.
كم ظل يحوم حول أفكار هامان ويلمّع له منظر تعظيم ذاته جداً في إبادة الجنس اليهودي انتقاماً لكرامته حتى انتهى به المطاف على رفعه على الخشبة. وهذا يصل بنا إلى الخلاصة: إن وقت الهدم الذي يقول عنه سليمان هنا هو في الحقيقة وقت البُعد عن الله عندما تكون أفكار الإنسان وميوله وكل كيانه فريسة للشيطان للهدم "وأنتم إذ كنتم أمواتاً بالذنوب والخطايا التي سلكتم فيها قبلاً حسب دهر هذا العالم حسب رئيس سلطان الهواء الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية" (أف 2: 1, 2).
لكن شكراً لله في لحظة التقاء النفس مع محرر النفوس الوحيد ربنا يسوع المسيح يتغير اتجاه القلب فيرجع في ندم وتوبة وإيمان بفدائه العظيم على الصليب. من هذه اللحظة يبدأ البناء للنفس وهو ذات ما يقرره الكتاب "إن رجعت إلى القدير تُبنى" (أي 22: 23) فلا بناء للنفس إلا بالرجوع للقدير, وبعيداً عنه لا يوجد إلا الهدم والتحطيم كما كان المجنون يجرّح نفسه ليلاً ونهاراً بالحجارة (مرقس 5) وكل نفس رجعت إلى الله محتمية في ذبيحة ربنا يسوع المسيح اختبرت بناء الله لها وكل قدرة القدير وكل وسائط نعمته تعمل لهذا الغرض, وفي كلمة الله نرى هذه الوسائط المباركة لبنيان المؤمن:
أولاً: ذات كلمة الله ودراستها والتأمل فيها (أع 20: 32) لأنها كما وضّحت لي كفاية ذبيحة المسيح وأقنعتني بالاحتماء فيها, هي ذات الكلمة التي تعلمني الكمالات الإلهية كما ظهرت في حياة ربنا يسوع المسيح, وبقوة الروح القدس أتعلم كيف أسير عملياً في سلوكي في ذات خطواته له المجد (1 يو 2: 6).
ثانياً: الصلات وسكب القلب طويلاً عند قدمي الرب "وأَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ فَابْنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمُ الأَقْدَسِ مُصَلِّينَ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ" (يه 20), إذ في فرص الصلاة يخرج المؤمن من ذاته ويتجه بكل قلبه إلى عرش نعمة المسيح لكي يطلب للآخرين- يصلي لأجل إخوته في ظروفهم ومشاكلهم لاسيما المتعطلة شركتهم, ويصلي لأجل الخطأة الذين ما زالوا في قبضة الشيطان, ويصلي لأجل كلمة الله لكي تُجرَى لكي يكمل العدد, ويصلي لأجل السلطات الرتبة من الله... إلخ 5 كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيِّينَ كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ، بَيْتاً رُوحِيّاً، كَهَنُوتاً مُقَدَّساً، لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ اللهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ.
ثالثاً: الالتفاف حول الرب لتقديم السجود والتسبيح له "كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيِّينَ كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ بَيْتاً رُوحِيّاً كَهَنُوتاً مُقَدَّساً لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ اللهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ ربنا" (1 بط 2: 5)- "فما هو إذاً أيها الإخوة متى اجتمعتم فكل واحد منكم له مزمور له تعليم..... فليكن كل شيء للبنيان" (1 كو 14: 26).
الثنائي الخامس
للبكاء وقت وللضحك وقت- أول مرة يأتي ذكر البكاء في الكتاب في تك 23 عند موت سارة, هناك بكى إبراهيم أبو المؤمنين على شريكته في حياة الإيمان. من هنا يتضح أن البكاء يرتبط بالموت, وواضح أنه مرتبط بالسقوط "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ" (رو 5: 12).
وعندما نتقدم في سفر التكوين نجد البكاء في مشهد لقاء يوسف مع اخوته ومعهم شقيقهم الأصغر بنيامين, عندئذ لم يستطع أن يضبط أحشاءه, وطلب مكاناً ليبكي فدخل المخدع وبكى. ثم مرة أخرى في مشهد إعلان نفسه لإخوته (تك 43, 45)- وواضح أننا نرى في المشهد نتيجة أخرى للخطية وهو تمزيق ذات الأسرة الواحدة والقسوة بين أبناء الأب الواحد.
فالخطية بالموت جلبت البكاء المرير وبالتمزيق جلبت أيضاً البكاء, وإذا رجعنا إلى كل ينابيع البكاء المرير الذي يملأ العالم في كل مجالاته, نجدها جميعاً تنبع من هذه الكلمة الخطيرة- الخطية- أي انحراف القلب عن الله, الذي فيه وحده الفرح الأزلي الأبدي الثابت.
وهنا يأتي السؤال الهام: بما أن سقوط الإنسان في الخطية كان بسماح من الله, هل إذاً قصد الله البكاء للجنس البشري هنا على الأرض ثم البكاء الذي لا ينتهي في الأبدية؟ حاشا, لكن قصد اله باستمرار أن يُظهر غنى نعمته وعظمة محبته وأنه في قدرته العجيبة أن يُخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة. ففي ذات مشهد السقوط وتعدي الإنسان على الله نسمع أول وعد بمجيء ربنا يسوع المسيح متجسداً كنسل المرأة بدون رجل, لكي يسحق الشيطان ويُبطل الخطية بذبيحة نفسه. وهكذا تغّير المشهد تماماً بالنسبة للإنسان كابن آدم الترابي الذي ليس له إلا الأرض, إلى إنسان مُعّد له مكان في السماء.
وما أروع كلمات الرب يسوع وهو مُقبل إلى الصليب "فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ.. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً معي (يو 14: 1, 3).
وفي سفر الرؤيا آخر أسفار الوحي, نرى المؤمنين بالمسيح, في منظر شيوخ- أي كمال الأدراك والفهم- ولهم ثياب بيض- أي أنهم في مقام كهنة, ولهم أكاليل من ذهب- أي أنهم ملوك. ولذلك نسمع في أول السفر تلك الترنيمة الحلوة "يَسُوعَ الْمَسِيحِ الشَّاهِدِ الأَمِينِ الْبِكْرِ مِنَ الأَمْوَاتِ وَرَئِيسِ مُلُوكِ الأَرْضِ الَّذِي أَحَبَّنَا وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ وَجَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلَّهِ أَبِيهِ، لَهُ الْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ آمِين" (رؤ 1: 5, 4: 2, 3).
"يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الِاسْتِقْصَاءِ لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً أَوْ مَنْ سَبَقَ فَأَعْطَاهُ فَيُكَافَأَ لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاء لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ آمِينَ" (رو 11: 33- 36). ثم, من البكاء المري من لحظة الولادة في هذا العالم إلى قصد الله العجيب في المسيح الذي هو الضحك الوفير الذي هو من صنع الله القدير, لذلك هو فرح حقيقي وغامر للقلب وهذا هو الطابع المميز لبشارة نعمة الله, فنقرأ في لو 15 عن الأقانيم الثلاثة, كل في دوره يبحث عن الإنسان الخاطئ المفقود في الخطية. وإذ يوجد, ما أروع التعبير الذي يملأ كل المشهد, هكذا يكون فرح السماء بخاطئ واحد يتوب لذلك نرى الفرح يغمر كل الفصل, وتتكرر كلمة فرح 9 مرات, هذا هو قلب الله. الإنسان بالسقوط أدخل البكاء- للبكاء وقت- لكن الله بالفداء أدخل فرحاً من صنع الله يثبت ثبات الله "وللضحك وقت".
سؤال أخير قد يسأله الإنسان غير المولود من الله: كيف أنتقِل من دائرة البكاء إلى دائرة الضحك الحقيقي الذي أعده الله للإنسان في المسيح؟ لا يوجد إلا طريق واحد وهو المجيء بهذا البكاء إلى قدمي المسيح شخصياً وهناك يكون البكاء على شيء واحد وهو خطاياي التي أهانت شخصه المعبود والتي من أجلها علق هو على الصليب, وهذه هي دموع التوبة والندم. كم ظهر هذا في تلك المرأة الخاطئة التي جاءت من وراء الرب وعند قدميه كانت تبلل قدميه بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها ولم تكف عن تقبيل قدميه, وما أروع الاستجابة الفورية: إذهبي بسلام إيمانك قد خلصك وهكذا تم فيها القول للبكاء وقت وللضحك وقت.
الثنائي السادس
للنوح وقت وللرقص وقت- ما أروع الترتيب الدقيق الحكيم لكلمة الله في معانيها العميقة وانسجامها الكامل مع الاختبار العملي لأولاد الله في كل العصور والأجيال من بدء التاريخ إلى النهاية, فحصول النفس على الفرح بالخلاص الأبدي على حساب دم المسيح يُدخلها إلى مدرسة الله وتتعلم أحشاء الله وقلبه الرقيق من جهة البشر وهم مطروحون صرعى الخطية طرحت كثيرين جرحى وكل قتلاها أقوياء" (أم 7: 26). لذلك تبدأ النفس تتعلم كيف تقف بجانب الله وبهذا يبدأ شيء جديد لم تعرفه من قبل, وهو الخروج من الذات تماماً والمشغولية بالآخرين. وتتقدم أكثر في مدرسة الله فتمتلئ بالحزن العميق على حالة النفوس المحرومة من نعمة المسيح والتي يدوسها ويسحقها الشيطان وهكذا يأتي النبوح المقدس "للنوح وقت".
ما أروع صليب المسيح! ما أعجب دم المسيح, ليس فقط المطهر من كل خطية لكن أيضاً المحرر من الذات والاتجاه بكل الأحشاء إلى الآخرين, والنوح والدموع أمام الله لأجلهم. هنا نعمة الله, هنا قلب الله, هنا مسيح الله الذي جعل قلب الإنسان الذي كان يعبد ذاته هكذا يطرح الذات تماماً, ويمتلئ من قلب الله.
ما أروع ما عمله ربنا يسوع المسيح في ذلك الطرسوسي العنيد, يهودي متعصب ينفث تهدداً وقتلاً على تلاميذ المسيح, وإذا به أمام صليب المسيح وقوة قيامة المسيح يلبس ذات قلب المسيح فيقرر له الروح القدس في رو "أَقُولُ الصِّدْقَ فِي الْمَسِيحِ لاَ أَكْذِبُ وَضَمِيرِي شَاهِدٌ لِي بِالرُّوحِ الْقُدُسِ أِنَّ لِي حُزْناً عَظِيماً وَوَجَعاً فِي قَلْبِي لاَ يَنْقَطِعُ لأَجْلِ إِخْوَتِي أَنْسِبَائِي حَسَبَ الْجَسَدِ".
وما أروع العينات التي يسجلها الوحي عن الذين امتلأوا بهذا النوح المقدس. اسمع ما يقرره ارميا "يَا لَيْتَ رَأْسِي مَاءٌ وَعَيْنَيَّ يَنْبُوعُ دُمُوعٍ فَأَبْكِيَ نَهَاراً وَلَيْلاً قَتْلَى بِنْتِ شَعْبِي" "أَحْشَائِي أَحْشَائِي تُوجِعُنِي جُدْرَانُ قَلْبِي. يَئِنُّ فِيَّ قَلْبِي لاَ أَسْتَطِيعُ السُّكُوتَ" (ار 9: 1, 4: 19), وأيضاً دانيال يقول " كُنْتُ نَائِحاً ثَلاَثَةَ أَسَابِيعِ أَيَّام لَمْ آكُلْ طَعَاماً شَهِيّاً وَلَمْ يَدْخُلْ فِي فَمِي لَحْمٌ" (دا 10: 2), وأيضاً عزرا "فَلَمَّا سَمِعْتُ بِهَذَا الأَمْرِ مَزَّقْتُ ثِيَابِي وَرِدَائِي وَنَتَّفْتُ شَعْرَ رَأْسِي وَذَقْنِي" (عز 9: 3), وكذلك نحميا وكل رجال الله, موسى ويشوع, وعلى رأس الكل النموذج الكامل- الرب يسوع المسيح- لما جاء إلى أرضنا نظر إلى أورشليم الرافضة شخصه الكريم وبكى عليها وقال "يا أورشليم يا أورشليم" (مت 23) هذا هو النوح المقدس لأجل النفوس الشاردة والبيوت الممزقة والأطفال المشردين الذين يتربون في جو خصام وكلمات قاسية, لكن شكراً لله ما من نوح مقدس إلا وله رقص مقدس. ما أجمل التقرير "الَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِالدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِالاِبْتِهَاج الذَّاهِبُ ذِهَاباً بِالْبُكَاءِ حَامِلاً مِبْذَرَ الزَّرْعِ مَجِيئاً يَجِيءُ بِالتَّرَنُّمِ حَامِلاً حُزَمَهُ" (مز 126: 5, 6)- قريباً جداً سوف ينتهي وقت نوح القديسين الذين صارت لهم أحشاء ربنا يسوع المسيح من جهة صرعى الخطية, وهكذا يأتي وقت الرقص وهو تعبير في الكتاب يعبر عن الفرح الغامر الناتج بصفة خاصة عن الانتصار, وهذا نفهمه من مشهد خروج النساء وراء مريم بدفوف ورقص قائلاتِ "الفرس وراكبه طرحهما في البحر" (خر 15) وهذا هو أول رقص يُذكر في الكتاب المقدس.
فالمشهد الآن كان الحق مغلوب والجولة للشيطان الذي يهدم كل فضيلة ويحاول بكل جهده أن يُبعد الله والأبدية عن مخيلة الناس ويجعلهم غارقين في ملذات الحياة ومطاليب أمور الزمان الحاضر, لكن سوف تأتي اللحظة المجيدة عندما يُقيّد الشيطان ويطرح في الهاوية ويظهر المسيح بهيئته الإنسانية الممجدة وله كل جلال الله ومجده وكرامته, ويتم القول "ويخرج حجر الزاوية بين الهاتفين كرامة كرامة له" (زك 4: 7). كم سيكون الهتاف جليلاً طويلاً بلا نهاية, كم سيكون عالياً, كم سترتفع الهللويا لشخصه الكريم. الآن هو الوقت للنوح ولكن الأبدية بفضل دم المسيح ستكون الأفراح بلا نهاية.
الثنائي السابع
لتفريق الحجارة وقت ولجمع الحجارة وقت.
من الأمور الرائعة في كلمة الله وصف الكتاب لعمل من أعمال الزمان الحاضر وإذا بهذا العمل ينطبق بكيفية مجيدة على أمر روحي من أمور الله الأبدية.
من المعروف في بناء المنشآت من الأحجار أن يُقطع الحجر من المحجر وتسوّى كل واجهاته فيُزال كل نتوء أو خشونة أو اعوجاج فيستقيم من كل جهة وتحدد كل زواياه وأطرافه لكي يتوافق تماماً مع باقي الأحجار التي سبقته هذا هو وقت تفريق الحجارة, فكل حجر يكون على حده حتى يُعالج تماماً في كل واجهاته وأحرفه وزواياه ويصبح في مخطط الاستقامة والانسجام وإذ تتم هذه الخطوة يأتي وقت جمع الحجارة في مكان البناء. وقبل هذه العملية كان المحجر كله قطعة واحدة بلا شكل ولا منظر ولا يمكن استخدامه, لكن بقطع الحجر أصبح له كيانه الشخصي لكن مهياً للانسجام الكامل مع سابقيه.
هذا بالضبط ما يعمله البناء الأعظم المعبود الذي قال "وعلى هذه الخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" (مت 16: 16), وهو يتعامل بالروح القدس وبالكلمة الإلهية مع النفوس الغارقة والتائهة والضائعة والتي بلا كيان في محجر هذا العالم وإذ تقتنع النفس بحتمية التوبة والاحتماء في دم المسيح للحصول على الغفران الإلهي الأبدي لكل الخطايا, توجد في سلام مع الله, في الحال يبدأ الروح القدس بإحياء هذه النفس بخلق طبيعة جديدة مقدسة مستقيمة هي ذات طبيعة الله الأدبية, إذ تحتوي على كل عناصر الاستقامة والكمال الذي في الله "لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية " (2 بط 3: 4), وإذ تصبح هذه النفس خليقة جديدة في المسيح, هكذا يجمعها الرب إلى أحبائه "وكان الرب يضم إلى الكنيسة كل يوم الذين يخلصون" (أع 2). لكن هناك معنى آخر هاماً وهو بدخول خلاص الله في المسيح إلى فرد في أي عائلة, فهذا الفرد المخلّص يكشف حالة الأسرة كلها كمن هي في قبضة الشيطان. وهنا يحدث الانقسام وتثور العائلة كلها عليه "لتفريق الحجارة وقت", وتفريق الأسرة بسبب خلاص المسيح, أشار هو له المجد إليه في مت 10: 34 " لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً بَلْ سَيْفا,ً فإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ وَ الابنة ضِدَّ أُمِّهَا وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ", لكن كما لم يؤمن أقرباء الرب يسوع به أولاً (مر 3: 21) نعلم أن منهم إن لم يكن جميعهم آمنوا به بعد ذلك, وكما أثار أهل مدينة جدعون عليه لكي يقتلوه, لكن لما ضرب بالبوق كانوا هم أول المجتمعين وراءه للحرب معه 0قض 6: 30, 34)- وهكذا لجمع الحجارة وقت.
وتصوير المؤمنين بحجارة جمعها الباني الأعظم, جاء في رسالة الرسول بطرس الأولى ص 2: 5 "كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيِّينَ كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ بَيْتاً رُوحِيّاً كَهَنُوتاً مُقَدَّساً لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ اللهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ".
الثنائي الثامن
للمعانقة وقت وللانفصال عن المعانقة وقت.
المعانقة والتقبيل في كلمة الله لها هذه المعاني:
أولاً : المصالحة وهي دليل وبرهان الصفح الكامل. وفي قصة رجوع الأبن الضال (لوقا 15) بمجرد رجوعه ركض أبوه ووقع على عنقه وقبلّه, وفي هذا توضيح مدى استعداد الآب السماوي لقبولنا وترحيب قلبه بنا وغمرنا بمحبته في حالة التوبة. أيضاً في مز 2 نداء داود إلى ملوك الأرض لكي يتعقلوا ويتصالحوا مع الله فيوجه نظرهم بالذات إلى أقنوم الأبن لأنه في تدبير الله المثلث الأقانيم في الأزل أن يكون أقنوم الأبن هو المختص بهذا الأمر- أي المصالحة, لأنه الأقنوم الذي كان مزمعاً أن ينزل ويتجسد ويصنع بنفسه الفداء والكفارة, لذلك نقرأ في 1 تي 2: 5 "لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ", وأيضاً في 2 كو 5: 19 "أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ", وفي رو 5: 11 "وَلَيْسَ ذَلِكَ فَقَطْ بَلْ نَفْتَخِرُ بِاللَّهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي نِلْنَا بِهِ الآنَ الْمُصَالَحَةَ".
وفي المصالحة نلاحظ باستمرار الكلمة الخطيرة "الآن" في مزمور 2: 10 "فَالآنَ يَا أَيُّهَا الْمُلُوكُ تَعَقَّلُوا.. قَبِّلُوا الاِبْنَ لِئَلاَّ يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ الطَّرِيقِ لأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ يَتَّقِدُ غَضَبُهُ. طُوبَى لِجَمِيعِ الْمُتَّكِلِينَ عَلَيْهِ", وفي أع 17: 30 نقرأ "فَاللهُ الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا", وفي 2 كو 6: 1 "هوذا الآن وقت مقبول هوذا الآن يوم خلاص"- فلماذا دائماً "الآن" لأن فرصة المصالحة محدودة وقد تنتهي في أية لحظة بانتهاء حياة الإنسان, وهكذا يدخل إلى الدائرة الرهيبة دائرة غضب الله إلى الأبد. فإذا كان الآن هو وقت المعانقة مع الله, فإن الأبدية التي لانهاية لها هي وقت الانفصال عن الله.
وفي قصة رجوع الابن الضال المُشار إليه نجد بعد المعانقة ان الآب يأمر بأن يلبسوه الحلة الأولى وذبح العجل المسمّن لعمل وليمة فرح, وهذا ظل الحقيقة, ففي ذبيحة المسيح وجد الله كل كفايته ومطاليب عدله وقداسته وفيّت, ولذلك أمكنه أن يعانق الإنسان التائب ويُلبسه الحلة الأولى التي هي ربنا يسوع المسيح نفسه.
ثانياً: المعانقة تعني الترحيب وشركة المحبة, لكن على أساس السلوك في النور حسب الحق, وهذا أمر هام في العلاقة بين المؤمنين. فإذا أخطأ أخ فلا بد من علاجه أولاً وتعريفه خطئه بكل وداعة وهذه هي مرحلة الانفصال عن المعانقة وإذ يقبل العلاج ويعترف بخطئه حينئذ يأتي دور المعانقة. لقد أخطأ داود النبي العظيم إذ تسرّع بعاطفته وعانق ابنه أبشالوم قبل أن يتوب ويندم ولذلك فقده إلى الأبد إذ استمر في تخطيطه القاتل حتى قُتل. ليتنا نفهم قصد الكتاب فلا نسكت عن الشر في إخوتنا لكن بكل تواضع نتقدم لعلاجهم حتى يمكن أن نعانقهم بضمير صالح.
ثالثاً: المعانقة تعني المحبة الفائضة. وهذا ما عبّرت عنه المرأة الخاطئة في لو 7 إذ لم تكف عن تقبيل قدميه وكانت هذه قبلات الامتنان والحب الخالص, وشهد لها الرب أنها أحبت كثيراً.
الثنائي التاسع
للكسب وقت وللخسارة وقت:
المعنى الحرفي قائم وهو أنه في معاملات الله مع الإنسان هناك وقت للمكاسب والأرباح, والمقصود هنا بلا شك المكاسب التي تأتي من طريق مستقيم وليس فيها خداع أو غش أو اغتصاب, ولكن هناك وقتاً يسمح الرب بالخسارة رغم حرص الإنسان ومهارته وخبرته وذكائه, وفي كلتا الحالتين يتعامل الله مع الإنسان لعله يلتفت ويستفيق ويفهم يد القدير التي أعطت ويد القدير التي أخذت كما قال رجل الله أيوب "الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركاً". لكن الكسب والخسارة لهما معانٍ أعمق وأجمل في مدرسة ربنا يسوع المسيح: على سبيل المثال, كان في حياة شاول الطرسوسي وقت تحصيل وربح امتيازات عالية في اليهودية كما يقرر في غلاطية 1: 14 "كُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي"- لكنه إذ تقابل مع المسيح في طريقه إلى دمشق انكشفت الحقيقة وهي أن كل ما حصّله كان خسارة لأن هذه الامتيازات كانت تبعده عن المسيح وتحرمه من خلاصه المجيد وفدائه العظيم وتعطيه دعائم غاشة خادعة يتكل عليها أمام الله في عمى وجهل, لذلك نسمعه في فيلبي 3: 7 يقول "َلكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهَذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ خَسَارَةً بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللهِ بِالإِيمَانِ"- وهكذا بنعمة الله دخل هذا الإناء إلى مدرسة حساب المسيح الذي أعلن "لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه" (مت 16: 26) أي لو ربح العالم بكل مباهجه او تدينه وانتهت حياته بدون الاحتماء في دم المسيح الذي فيه الفداء الحقيقي المعين من الله كما أعلن هو له المجد بعدها مباشرة "أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه".
فكل ربح أو مكسب بدون معرفة المسيح هو في الحقيقة كسب وقتي لن هذا هو وقته المحدود, ولكن بانتهاء الحياة يخسر الإنسان كل ما تعب فيه وهكذا يدخل إلى الأبدية وما أتعسه وقت- "الخسارة الأبدية". ولكن بمعرفة المسيح فقد ربحت نفسي إلى الأبد يلي ذلك السعي لربح نفوس آخرين للمسيح وكذلك السعي لخدمة المؤمنين.
الثنائي العاشر
للصيانة وقت وللطرح وقت.
الله في نعمته وصلاحه ومحبته الكثيرة جعل الإنسان موضوع عنايته وصيانته "دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ لَقَّبْتُكَ وَأَنْتَ لَسْتَ تَعْرِفُنِي أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ لاَ إِلَهَ سِوَايَ نَطَّقْتُكَ وَأَنْتَ لَمْ تَعْرِفْنِي" (أش 45: 5) "الْمُحَمَّلِينَ عَلَيَّ مِنَ الْبَطْنِ الْمَحْمُولِينَ مِنَ الرَّحِمِ وَإِلَى الشَّيْخُوخَةِ أَنَا هُوَ وَإِلَى الشَّيْبَةِ أَنَا أَحْمِلُ" (أش 46: 3), وهذه الصيانة من وجوه متنوعة: أولاً حياته الحرفية هنا على الأرض ولكن لوقت محدود بحسب حكمة الله المنزهة عن الخطأ. وكم من أخطار تكاد تدمر حياة الإنسان سواء حوادث أو أمراض خطيرة والله في نعمته يتدخل ويصون حياة الإنسان " ليمنع نفسه عن الحفرة وحياته من الزوال بحربة الموت" (أي 33) "الله الذي بيده لمستك وله طرقك فلم تمجده" (داه)- "لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد" (أع 17)- هذا هو وقت صيانة الإنسان من جهة حياته هنا على الأرض, لكن لا بد أن ينتهي ويأتي وقت طرح الإنسان "هذه الليلة تُطلب نفسك منك" (لو 12) كل من يستمر في رفضه لنعمة المسيح.
ثانياً: من جهة أمواله ومقتنياته وحتى عمله الزمني, وكم من لحظات تعرّض فيها الكل للضياع ويفقد الإنسان كل شيء والله يتدخل ويصون ويحفظ.
ثالثاً: من جهة الشرور البشعة, فالإنسان بحسب طبيعته يعيش في الخطية والشر لكن هناك شروراً ومفاسد قاضية على سمعته بل وحتى حياته والله يتدخل ويصون كما قال الله في حلم للملك أبيمالك " وَأَنَا أَيْضاً أَمْسَكْتُكَ عَنْ أَنْ تُخْطِئَ إِلَيَّ لِذَلِكَ لَمْ أَدَعْكَ تَمَسُّهَا" (تك 20). لكن إذ يتهور الإنسان يأتي وقت الطرح وتظهر فيه أنواع المفاسد والشرور كما هو مكتوب في رو 1: 28 "وَكَمَا لَمْ يَسْتَحْسِنُوا أَنْ يُبْقُوا اللهَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ أَسْلَمَهُمُ اللهُ إِلَى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ لِيَفْعَلُوا مَا لاَ يَلِيقُ".
ولا ننسى أن الإنسان الطبيعي:
أولاً- مطروح أمام الشيطان والخطية "طرحت كثيرين جرحى وكل قتلاها أقوياء" (أم 7).
ثانياً- سوف يُطرح في البحيرة المتقدة بالنار والكبريت, أما المولودون من الله فلهم هذه المعاني من جهة الصيانة: الحياة الأبدية التي وصلت إليهم بالإيمان بربنا يسوع فهي مضمونة ضماناً إلهياً "وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي" (يو 10: 27).
- هو الحافظ لنا من الشرير "لست أسأل ان تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير", وذلك بطريقين رئيسيين, بقوة الروح القدس في قمع رغبات وميول الطبيعة الساقطة أو بتدبير عنايته برفع الظرف نفسه من أمامنا فلا نتعرض للشر (مز 125: 3) لكن لا ننسى الواجب الذي علينا وهو الصلاة باستمرار لئلا نعرّض أنفسنا للتجارب "اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة" (مت 26: 41), وقراءة الكلمة باستمرار "لا تتركها فتحفظك أحبها فتصونك" (أم 4: 6), "طُوبَى لِلْكَامِلِينَ طَرِيقاً السَّالِكِينَ فِي شَرِيعَةِ الرَّبِّ طُوبَى لِحَافِظِي شَهَادَاتِهِ؛ مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ يَطْلُبُونَهُ. أَيْضاً لاَ يَرْتَكِبُونَ إِثْماً, فِي طُرُقِهِ يَسْلُكُونَ" (مز 119: 1, 2).
- هو الحافظ لأجسادنا وكل مالنا "أما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة" (مت 10: 28). وعندما تسمح حكمته السامية لأي أمر يحدث لأجسادنا أو مقتنياتنا فهو بترتيب العناية الإلهية وبحدود مرسومة (أي 1, 2) ولا بد لها مقاصد مجيدة فينا لمجده. والمؤمن الملتصق بالرب في شركة عميقة يستطيع أن يلاحظ يد الرب الحافظة وعينه الساهرة على كل ما للمؤمن "للصيانة وقت" ولكن عندما يسمح الرب بطرح أي شيء مما يملكه المؤمن "وللطرح وقت" حينئذ تنفتح بصيرته ويفهم قصد الرب.
الثنائي الحادي عشر
للتمزيق وقت وللتخييط وقت.
المعنى الحرفي ينطبق على الملابس لكنه ينطبق أيضاً على العائلة والمملكة والصداقة.
أول مشهد لتمزيق الملابس في تك 37 حيث مزق رأوبين ملابسه عندما علم ببيع يوسف, ويعقوب عندما علم بفقده وواضح أنه صورة خارجية لِما فعلته الخطية إذ مزقت العائلة.
المشهد الثاني في لا 13- الأبرص ثيابه مشقوقة- صورة أخرى لِما فعلته الخطية, إذ جعلت الإنسان نجساً ممزق الصورة أمام الله.
المشهد الثالث في سفر العدد ص 14 عندما تذمر الشعب وقالوا نقيم لنا رئيساً ونرجع على مصر بسبب أخبار الجواسيس العشرة الذين أرعبوهم. فمزق يشوع وكالب ثيابهما فهو مشهد الحزن بإزاء تمرد القلب على الرب, فالخطية مزقت العائلة ومزقت صورة الإنسان امام الله وجعلت قلبه متمرداً على الله فليس وقت في الخطية إلا وينطبق عليه القول "وللتمزيق وقت", لقد مزقت الخطية العلاقة بين الشعب وإلهه, لكن شكراً لله نرى في مشهد سقوط الإنسان الملامح الجميلة لِما أعدته محبة الله ونعمته من جهة ستر الإنسان أمام الله إذ نسمع القول: وصنع الرب الإله أقمصة من جلد وألبس أبوينا الأولين, هذا هو أول تخييط على الأرض. وما أروعه! إنه من صنع الرب الإله مباشرة فلا نسمع عن تكاليف ملاك ليقوم به, شكراً له من كل القلب لأنه صورة لِما هو في قصده الأزلي أن يكون ابن محبته هو بذاته الحُلة الأولى للخاطئ الراجع إليه.
لكن لا ننسى أن قبل تخييط الأقمصة من جلد كان هناك ذبح للحمل, هكذا ربنا يسوع المسيح لكي يكون الحُلة الأولى لنا كان ينبغي أن يُذبح على الصليب لأجلنا, لذلك للتمزيق وقت- هو وقت الخطية- وقت البعد عن الله, وبالنسبة للمؤمن هو وقت انقطاع الشركة. كم تكون الأفكار ممزقة والعواطف ممزقة, كم تكون الكلمات قاسية وممزقة لأقرب وأقدس العلاقات (للتمزيق وقت) لكن إذ توجد النفس عند قدمي راعي الخراف العظيم, راعي نفوسنا وأسقفها, وفي شركة عميقة معه كم تكون القلوب موّحدة والكلمات رقيقة وكل ثغرة حدثت من كلمات ممزقة, هكذا تأتي أحشاء الرأفات. كالبلسان ويتم تخييط كل الثغرات بتفاح من ذهب في مصوغ من فضة- كلمات نابعة من قلب مملوء بالمسيح (وللتخييط وقت).
ليتنا نفهم ونعي جيداً أن كل لحظة فيها الشركة مقطوعة, ليس لدينا إلا للتمزيق وقت, ليتنا نحرص على إدانة الذات تماماً واسترداد شركتنا معه حينئذ تكون حياتنا للتخييط وقت.
ولا ننسى أيضاً أن كل نفس لبست الحُلة الأولى أمام الله تبدأ في الحال تتعلم كيف تخيط أعمال البر العملي أمام الناس لمجد فاديها "بزاً نقياً بهياً لأن البز هو تبررات القديسين" (رؤ 19) كما هو مكتوب عن المرأة الفاضلة في أم 31 التي هي صورة حلوة للكنيسة أنها "تطلب صوفاً وكتاناً وتشتغل بيدين راضيتين"- الصوف للدفء وقت الشتاء والكتان الناعم وقت الحر. فهناك مَنْ هو محروم من أحشاء الرأفات كمن يعيش بمفرده, هذا يحتاج إلى دفء المحبة. وهناك من يتعرّض للتجارب والضيقات- هذا يحتاج إلى الكتان الناعم- الكلمات المشجعة المعزية.
ولا ننسى أيضاً أن قبل التخييط لا بد من التفصيل وهذا بالضبط ما يعمله الروح القدس, والخادم الأمين المملوء بالروح القدس يعرف جيداً كيف يفصل كلمة الحق بالاستقامة لكي تناسب الخطأة فيقتنعون في الداخل بأنهم لا ملاذ لهم من الأبدية الرهيبة إلا عمل ربنا يسوع المسيح, وتناسب المؤمن المتعثر فيستفيق ويحكم على نفسه وهكذا تُرّد شركته (2 تي 2: 15, 2 كو 5: 9).
ولا ننسى أن هناك محاولتين من جانب الإنسان لكي يخيّط لنفسه رداء أمام الله الأولى مصّورة بالمآزر من اوراق التين التي لا تثبت لحظة أمام أشعة الشمس, صورة للتدين والتعبد الصوري الأجوف بدون توبة عن الخطية والاحتماء في دم الحمل. هذا التعبد الفارغ لا يثبت لحظة أمام قداسة الله ونور محضره لذلك صرخ آدم " سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت" (تك 3).
الثانية في اش 59 نسمع القول "فَقَسُوا بَيْضَ أَفْعَى وَنَسَجُوا خُيُوطَ الْعَنْكَبُوتِ. الآكِلُ مِنْ بَيْضِهِمْ يَمُوتُ وَالَّتِي تُكْسَرُ تُخْرِجُ أَفْعَى خُيُوطُهُمْ لاَ تَصِيرُ ثَوْباً وَلاَ يَكْتَسُونَ بِأَعْمَالِهِمْ" إشارة إلى الحياة الفاسدة في الداخل مع التشدق بأعمال البر.
الثنائي الثاني عشر
للسكوت وقت وللتكلم وقت.
لا نجد كتاباً آخر يوضح اهمية ضبط اللسان سوى كتاب الله, وقد تكلم الحكيم كثيراً في سفر الأمثال عن هذا الموضوع, وفي العهد الجديد رسالة يعقوب بجملتها لا نجد فصلاً منها غلا وينير على ضبط اللسان بل يربط الكمال في حياة الإيمان بهذه الفضيلة الهامة "إن كان أحد لا يعثر في الكلام فذاك رجل كامل قادر أن يلجم كل الجسد أيضاً" (يع 3: 2) وهذا له معناه الخطير وهو التدريب السري على قمع الطبيعة الساقطة في شهواتها واندفاعاتها, له هذه العلامة الخارجية وهي عدم خروج كلمة واحدة غير لائقة. ويصل الرسول في التعبير إلى حد القول بأن التأني والتعقل في الكلام هو علامة الولادة الثانية "شاء فولدنا بكلمة الحق.. إذاً يا إخوتي الأحباء ليكن كل إنسان مسرعاً في الاستماع مبطئاً في الغضب" (يع 1: 18, 19) لذلك نرى من كلمة الله أن هناك خطورة كبيرة جداً إذا اندفعنا بالكلام في وقت ينبغي أن نصمت فيه وإذا سكتنا بينما ينبغي أن نتكلم.
وقت الإهانة إلى حد الشتائم "غير مجازين عن شر بشر ولا عن شتيمة بشتيمة.. الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضاً.. ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها" (رو 12, بط 2, اش 53) بل يصل بنا الرسول إلى مستوى الرب فيقول "نُشتم فنبارك" وهذا ما فعله السيد إذ طلب المغفرة والبركة لشاتميه وصالبيه.
- وقت سماع كلمة الله في الاجتماع.
- سكوت النساء طوال فترة الاجتماع.
أما السكوت فهو محزن جداً في حالات:
- الزلل (مز 32) "لما سكت بليت عظامي"
- في دائرة الصلاة الفردية والعائلية والجماعية "يا ذاكري الرب لا تسكتوا ولا تدعوه يسكت حتى يثبت ويجعل أورشليم تسبحة في الأرض" (أش 62: 7), "ينبغي أن يُصلي كل حين ولا يُمل" (لو 18: 1)
- محزن جداً في دائرة الكرازة "هذا اليوم يوم بشارة ونحن ساكتون إن انتظرنا إلى ضوء الصباح يصادفنا شر" (2 مل 7: 9).
الثنائي الثالث عشر
للحب وقت وللبغضة وقت
المعنى الحرفي قائم على مشاهدات الحكيم تحت الشمس. هناك وقت تجري فيه المحبة بينهم والطابع والدافع لها هو المنفعة المتبادلة (للحب وقت) ولكن إذ تظهر الذات بأنانيتها ذات الرائحة الكريهة أو تصدر كلمات جارحة, هنا يتغير الموقف وتتولد البغضة القاتلة (وللبغضة وقت).
لكن تعالوا بنا إلى جو أفضل ورائحة عطرة تأتي من فوق الشمس, فالمحبة هي طبيعته تبارك اسمه. وكلمة محبة ومشتقاتها تأتي 500 مرة في الكتاب المقدس منها 300 مرة جاءت بصيغة الفعل أي الله يحب أو أحب, وكل مشورات الله من جهة الإنسان قائمة على اتجاه هذه المحبة الكائنة بين أقانيم اللاهوت إلى الجنس البشري. وفي المخطط الإلهي الأزلي أن يكون التجسد والفداء هو التعبير العملي المجيد الرائع عن هذه المحبة كما أعلن بفمه الكريم عندما جاء إلى أرضنا "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يو 3: 16) ولهذا يتغنى الرسول يوحنا "بِهَذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا" (1 يو 4: 9, 10).
ولأن هذا النوع من المحبة الباذلة المضحية المعبّرة عن ذات الله في طبيعته لا توجد إلا في قلب الله, لذلك لكي يراها في أولاده أي المؤمنين بالمسيح لم يكن هناك وسيلة إلا أن يسكبها في قلوبهم بواسطة الأقنوم الإلهي الروح القدس "لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا" (رو 5: 5).
لكن من المهم جداً أن نلتفت إلى الإعلان الإلهي التالي المرتبط بهذه المحبة التي في قلب الله لنا كبشر وهي أن الله نور وليس فيه ظلمة البتة، وعينيه أطهر من تنظرا الشر ويبغض الاثم في كل صوره وشبه الشر لا يُحتمل أمامه (1 تس 5: 21) فكيف إذاً لم يمكن للإنسان الشارب الاثم كالماء، أن يتمتع بهذا الحب الذي في قلب الله؟ ليس إلا أن يرجع إلى الله تائباً ونادماً وباكياً على حياة الشر التي عاشها متجنباً عن خالقه الذي بيده نسمة حياته. وهكذا يُفتح الباب أمامه فيحتمى تحت ستر ذبيحة المسيح التي وجدت فيها قداسة الله على كفايتها لتغطية كل إثم الإنسان وشره. وما أكثر الاعلانات في كلمة الله عن هذه الحماية للإنسان أمام عدالة الله وقداسته "ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها فأرى الدم وأعبر عنكم" (خر 12)، "اجمعوا إليّ أتقيائي القاطعين عهدي على ذبيحة" (مز 50)، وهكذا تبدأ النفس في التمتع بهذه المحبة الإلهية، ولكن لا ننسى الاعلان الخطير "للحب وقت" أي أن وقت بدء تمتع النفس بهذا الحب الإلهي له زمنه اللعين المحدود، الذي هو زمن هذه الحياة المحدودة بحيث إذا انتهت حياة الإنسان وهو مهما دعوة هذا الحب الذي من جانب الله، فلن يتذوق الإنسان هذا الحب إلى الأبد وستظل البغضة مالئة قلبه إلى الأبد- البغضة لأخيه الإنسان والبغضة لله طوال الأبدية بلا نهاية (للبغضة وقت). ونيران الجحيم الأبدي لن تقلل منها ذرة واحدة، وستمتزج تلك البغضة بالحسرة المرّة على تجاهل كل فرص المحبة التي قدمها الله للإنسان في فرصة حياته هنا على الأرض.
ولا ننسى أن القانون الذي رآه سليمان بين البشر للحب وقت وللبغضة وقت, ولكن ما أظهره رب سليمان عندما جاء إلينا من فوق الشمس "للحب كل الوقت وليس للبغضة وقت" ما أروع كلماته الغالية "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَضطْهدُونَكُمْ" (مت 5: 44). وواضح انه هو الأول باستمرار وهو الذي سلك هذا الطريق وترك مثال المحبة المطلقة فأحب أعداءه وقدم نفسه فدية لأجلهم وعلى الصليب صلى طالباً المغفرة لهم من الآب المبارك "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لو 23: 34).
الثنائي الرابع عشر
للحرب وقت وللصلح وقت.
منذ بداءة التاريخ مبكراً جداً أي بعد الطوفان مباشرة نسمع عن نمرود المتمرد, وكان جباراً في الصيد, وكون مملكة من 4 مدن بالقوة والجبروت أي الحرب ثم في تك 14 نسمع عن أول حرب إذ قام كدرلعومر ملك عيلام بالاتفاق مع 3 ملوك ونظموا حرباً ضد ملكي سدوم وعمورة وانتصر كدرلعومر وسبى سكان سدوم ومنهم لوط فقام رجل الله ابراهيم ومعه 318 من ولدان بيته وحارب كدرلعومر وكسره واسترد السبي وذلك لأجل لوط ابن أخيه. وهكذا إلى يومنا هذا الحروب قائمة وإن كان يتخللها وقت للصلح. ولا ننسى الحرب العالمية الأولى سنة 1914- 1918 والثانية 1939- 1945 وكم من المآسي المرّة نتجت عنهما. والكتاب يكشف الدوافع المحركة لهذه الحروب "من أين الحروب والخصومات أليست من هنا من لذاتكم المحاربة في أعضائكم" (يع 4: 1) فالحرب بين أفراد العائلة الواحدة وبين العائلات وبين الدول كلها نابعة من اللذات المحاربة داخل نفس الإنسان والرغبة في تعظيم ذاته على الآخرين أو تمتع نفس الإنسان بكل ما هو منظور هذه هي الراية الرهيبة تحت الشمس "للحرب وقت".
وواضح ان الأمر المّر جداً في هذه الراية أن نفس الإنسان قبل كل شيء في حرب مُرّة مع الخالق القدير المحب "حماقة الرجل تعوّج طريقه وعلى الرب يحنق قلبه" (أم 19: 3) وهذا هو السر الدفين الكامن تحت هذه الراية وداخل هذه الدائرة (للحرب وقت).
ولكن إذ تتجاوب النفس مع عمل الروح القدس وتقتنع بحاجتها إلى مُصالح مع الله, تنفتح البصيرة ليرى في شخص المسيح المعلّق على الصليب, المُصالح الوحيد الذي فيه الكفاءة في ذاته أن يُصالح النسان مع الله لأنه هو الذي اشتهاه أيوب قبل التجسد بألفي عام حين قال "ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا" (أي 9: 30) وهذا هو تقرير الروح القدس "اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ" (2 كو 5: 19), "لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ" (1 تي 2: 5) وهكذا إذ تقبل النفس ربنا يسوع المسيح مخلصاً شخصياً لها وتحتمي تماماً في عمله الكريم على الصليب, فإن الله في نعمته الغنية ينقلها إلى الراية المجيدة "وللصلح وقت" وتحت هذه الراية العظيمة تتمتع النفس بالسلام من كل وجه:
أولاً- مع الله "فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي بِهِ أَيْضاً قَدْ صَارَ لَنَا الدُّخُولُ بِالإِيمَانِ إِلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُقِيمُونَ" (رو 5: 1)
ثانياً من جهة نفسه إذ تنتهي الصراعات المريرة للإنسان مع نفسه "وَلْيَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ اللهِ الَّذِي إلَيْهِ دُعِيتُمْ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ وَكُونُوا شَاكِرِينَ" (كو 3: 15), "سلاماً أترك لكم سلامي أعطيكم" (يو 14: 27)
ثالثاً- من جهة الآخرين "حاذرين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام" (أف 6: 15), "ورب السلام نفسه يعطيكم السلام دائماً من كل وجه" (2 تس 3: 16) ولكي يوضح الروح القدس أن السلام الممنوح للمفديين مرتبط ومؤسس على أقنوم الأبن متجسداً وعلى عمله الكفاري على الصليب وحده, لذلك نجد:
أولاً: في النبوات عن شخصه الكريم أنه هو "رئيس السلام" بمعنى مُبدئ السلام ومنشئه وذلك في اش 9. وذات السفر يُعلن عن الكلفة والثمن فيقرر في اش 53 "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا".
ثانياً: عند تجسده نزل فريق عظيم من الملائكة من السماء وهتف "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام بالناس المسرة" (لو 2: 14)
ثالثاً: في حياته الكريمة بين الناس أعطى فعلاً السلام لكل من ارتمى عند قدميه مؤمناً به محتمياً فيه, وكانت تخرج من فمه العبارة الغالية "اذهب بسلام إيمانك قد خلصك" (مر 5: 34, لو 7: 50, لو 8: 48).
رابعاً: عطيته أو هديته الشخصية لرسله الأمناء بعد خروج يهوذا في ليلة الصليب "سلاماً أترك لكم سلاماً اعطيكم" (يو 14: 27).
خامساً: تقرير الرسل سواء في كرازتهم أو في كل رسائل العهد الجديد إنه لا سلام إلا فيه وفي عمله الغالي على الصليب "لأنه هو سلامنا" (أف 2: 14).
لذلك في لحظة التوبة والحصول على الحياة الجديدة من ربنا يسوع المسيح يبدا في الحال في البحث عن السلام مع كل الأطراف التي كان له معها نزاع أو خصام لأنه بالاتحاد والارتباط بربنا يسوع المسيح أصبح ابن السلام ويتم فيه القول "مجد الرجل أن يبتعد عن الخصام وكل أحمق ينازع" (أم 20: 3, تك 13: 8).
"فَأَيُّ مَنْفَعَةٍ لِمَنْ يَتْعَبُ مِمَّا يَتْعَبُ بِهِ" (جا 3: 9).
هذه هي الخلاصة التي يصل إليها الحكيم بعد البحث الدقيق العميق لكل الظروف والأحوال والعمال التي يجتاز فيها الإنسان مبتدئاً من ولادة الإنسان إلى موته حيث تنتهي كل أفكاره وأنشطته هنا على الأرض. والنتيجة النهائية أنه لا ثبات ولا استقرار, لا شبع اكتفاء, وهنا يفتح الروح القدس بصيرتنا فنرى الثبات في من هو فوق الشمس "كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار الذي ليس عنده تغيير ولا ظل ولا دوران" (يع 1: 7). ونرى الشبع فيه وحده له كل المجد "من يُقبل إليّ فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً" (يو 4: 35, اش 55: 2) ونرى الاكتفاء والقناعة (مز 73: 25,حب 3: 18, في 4: 11)
"قَدْ رَأَيْتُ الشُّغْلَ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ بَنِي الْبَشَرِ لِيَشْتَغِلُوا بِهِ" (ع 10)
العمل الزمني الذي به يقوت الإنسان نفسه وعائلته, هو في الحقيقة عطية من الله. وهنا ينبغي أن نتأمل في العطايا التي أعطاها الله للإنسان كابن آدم:
أولاً- الحياة العاقلة المفكرة التي بها يمكن أن يفكر في الخالق ويلمس تماماً وجوده الحي العظيم وكمالاته الفائقة الطاهرة تماماً في كل جوانب الخليقة, وهذا ما يقصده بقوله المبارك "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك 1: 26) وهذا ما أشار إليه الرسول في رو 1: 20, 21 " لأن أموره غير النظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولا هوته حتى أنهم بلا عذر لأنهم لمّا عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله" وقد أشار إليه في خطابه إلى أثينا "وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْاكَنِهِمْ لِكَيْ يَطْلُبُوا اللهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ" (أع 17: 26- 28).
ثانياً: الخير الذي يلزم هذه الحياة هنا على الأرض "وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْراً يُعْطِينَا مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَاراً وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَاماً وَسُرُوراً" (أع 14: 17)- وهذا ما قرره ربنا يسوع المسيح في قوله المبارك "لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون أو بما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس" (مت 7: 25).
أي ان الله في محبته أعطانا هذه الحياة العظيمة هنا على الأرض وميزّنا بها عن كل المخلوقات, هل سيبخل علينا بطعام هذه الحياة, والذي أعطانا هذا الجسد بأجهزته الرائعة المذهلة هل سيبخل علينا بلباس هذا الجسد؟
ثالثاً: العمل الذي به يحصل الإنسان على هذا الخير بطريقة كريمة تتوافق مع الإنسان كمخلوق مبارك من الله وهذا ما ينير عليه سليمان هنا.
رابعاً: صوت الضمير الذي يثور عندما يعمل الإنسان أي شيء لا يتوافق مع الاستقامة الموجودة في خالقه وهو ما أشار إليه الرسول في رو 2: 14"لأَنَّهُ الأُمَمُ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ النَّامُوسُ مَتَى فَعَلُوا بِالطَّبِيعَةِ مَا هُوَ فِي النَّامُوسِ فَهَؤُلاَءِ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ النَّامُوسُ هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ عَمَلَ النَّامُوسِ مَكْتُوباً فِي قُلُوبِهِمْ شَاهِداً أَيْضاً ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يَدِينُ اللهُ سَرَائِرَ النَّاسِ حَسَبَ إِنْجِيلِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ". وقد أشار الحكيم إلى هذا الصوت في ع 11
خامساً: فرصة التوبة في هذه الحياة حتى يمكن أن يرجع الله فيتحقق القصد الذي من أجله أوجده الله على الأرض.
وكل هذه العطايا العجيبة لكي تقود القلب البشري ليطلب الله "لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً" (أع 17: 26) وفي الحظة التي يشتاق قلبه أن يوجد في سلام مع الله ويعرف الله تنفتح البصيرة إلى العطية العظمى
- العطية الأبدية التي قال عنها بفمه الكريم " لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللَّهِ وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَياً" (يو 4: 10). وبها يهتف الرسول المغبوط "شكراً لله على عطيته التي لا يعبّر عنها" (2 كو 9: 14), وبها يهتف أشعياء النبي (700 ق. م)
"يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْناً وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً مُشِيراً إِلَهاً قَدِيراً أَباً أَبَدِيّاً رَئِيسَ السَّلاَمِ" (أش 9: 6).
"صَنَعَ الْكُلَّ حَسَناً فِي وَقْتِهِ وَأَيْضاً جَعَلَ الأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ الَّتِي بِلاَهَا لاَ يُدْرِكُ الإِنْسَانُ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُهُ اللَّهُ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ" (ع 11)
الأبدية المقصودة هنا هي الخلود للنفس البشرية في وعي كامل وإدراك حقيقي وواضح من أسفار كثيرة في الكتاب أنها إما في المجد والنعيم وإما في العذاب والجحيم. ولكي تصل النفس إلى المصير المبارك الأبدي أي المجد والنعيم لا بد من حصولها هنا في وقت الحياة الحاضرة على طبيعة مقدسة سماوية تعيش بها هنا على الأرض, وهكذا إذ تصل إلى مسكن الله يمكنها أن تسكن معه في فرح وانسجام كامل إلى الأبد. الأبدية في القلب, بدون هذا الحق المجيد:
أولاً: لا يستطيع الإنسان أن يفهم قصد الله من خلقه لكي يكون ممثلاً لله هنا على الأرض, ثم يساكن الله إلى الأبد هذا هو القصد في هذا التعبير الجميل "العمل الذي يعمله الله من البداية إلى النهاية" نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك 1: 26) وظهر هذا عملياً بالعقل المفكر الواعي الذي به يستطيع الإنسان أن يدرك ويفهم أنه مخلوق عاقل أمام خالقٍ عظيم كليّ الحكمة والمحبة. كما أنه يستطيع أن يسْمع صوت الله سواء في عظمة الخليقة الفائقة أو في المعاملات وكلها تقوده لكي يصغي إلى الصوت الكريم في الوحي المقدس أي كلمة الله الحية الباقية إلى الأبد.
وبإطاعة هذا الصوت المحب والاحتماء في دم الحمل الكريم، يحصل الإنسان على طبيعة مقدسة من الله أي يصبح الإنسان "خليقة جديدة" في المسيح (2 كو 5: 17) و "شريكاً في الطبيعة الإلهية" (2 بط 1: 5. وهكذا يصبح مؤهلاً تأهيلاً إلهياً لكي يساكن الله إلى الأبد, وبدون عمل اعتبار لهذا الحق العظيم "الأبدية في القلب" فهذه هي الخسارة الأولى والعظمى.
ثانياً: ينزل بمستوى حياته إلى البهائم التي ليس لها قصد في حياتها إلا إشباع رغباتها "الإِنْسَانُ فِي كَرَامَةٍ لاَ يَبِيتُ يُشْبِهُ الْبَهَائِمَ الَّتِي تُبَادُ" (مز 49: 12)
ثالثاً: ينزل بمستوى اعترافه بالفضل والمعروف إلى أقل من البهائم "اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيهِ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ أَمَّا شَعْبِي فَلاَ يَعْرِفُ ولاَ يَفْهَمُ" (أش 1: 3)
رابعاً: يحرم نفسه من كل البركات التي في قلب الله من نحوه وأهمها الخلاص الأبدي والرعاية الحكيمة والحفظ من كل جهة والفرح الحقيقي والسلام الحقيقي.
"عَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ خَيْرٌ إِلاَّ أَنْ يَفْرَحُوا وَيَفْعَلُوا خَيْراً فِي حَيَاتِهِمْ" (ع 12)
الفرح وفعل الخير توأم جميل لكن بالسقوط أصبح الإنسان كتلة شريرة مضادة لله "ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد" (مز 14, 53, رو3) وحتى القدرة على فعل الخير معدومة "هَلْ يُغَيِّرُ الْكُوشِيُّ جِلْدَهُ أَوِ النَّمِرُ رُقَطَهُ فَأَنْتُمْ أَيْضاً تَقْدِرُونَ أَنْ تَصْنَعُوا خَيْراً أَيُّهَا الْمُتَعَلِّمُونَ الشَّرَّ" (إر 13: 23) فأين نجد المفتاح لأمنية سليمان هذه؟ ليس إلا في خلاص الله "بالنعمة أنتم مخلصون" "لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا" (أف 2: 8, 10)
"وَأَيْضاً أَنْ يَأْكُلَ كُلُّ إِنْسَانٍ وَيَشْرَبَ وَيَرَى خَيْراً مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ فَهُوَ عَطِيَّةُ اللَّهِ" (ع 13)
هذه إحدى عطايا الله أنه في نعمته يبارك في تعب الإنسان فيفرح بثمار تعبه "طُوبَى لِكُلِّ مَنْ يَتَّقِي الرَّبَّ وَيَسْلُكُ فِي طُرُقِهِ لأَنَّكَ تَأْكُلُ تَعَبَ يَدَيْكَ طُوبَاكَ وَخَيْرٌ لَكَ" (مز 128: 1, 2) لكن بكل أسف نتيجة تجاهل الرب يتم هذا التوبيخ "اجْعَلُوا قَلْبَكُمْ عَلَى طُرُقِكُمْ زَرَعْتُمْ كَثِيراً وَدَخَّلْتُمْ قَلِيلاً وَالآخِذُ أُجْرَةً يَأْخُذُ أُجْرَةً لِكِيسٍ مَنْقُوبٍ" (حجي 1: 5, 6).
"قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ إِلَى الأَبَدِ لاَ شَيْءَ يُزَادُ عَلَيْهِ وَلاَ شَيْءَ يُنْقَصُ مِنْهُ وَأَنَّ اللَّهَ عَمِلَهُ حَتَّى يَخَافُوا أَمَامَهُ. مَا كَانَ فَمِنَ الْقِدَمِ هُوَ, وَمَا يَكُونُ فَمِنَ الْقِدَمِ قَدْ كَانَ وَاللَّهُ يَطْلُبُ مَا قَدْ مَضَى" (ع 14, 15)
ما هو هذا العمل الكامل الذي يعمله الله, الثابت ثبات الله؟ هناك عمل الله في الخليقة وهو رائع وكتاب جميل وإذاعة قوية "اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ" (مز 19: 1) ولكن الوحي نفسه يُعلن أن هذا العمل سوف ينتهي "كلها تبيد ولكن أنت تبقى" (مز 102).
وهناك عمل الله في التاريخ فقد أقام الله دولاً وممالك تحكم العالم كما أوضح دانيال النبي للملك نبوخذنصر رأس الدولة البابلية, وحدث تماماً كما تنبأ إذ قامت بعد ذلك الدولة الفارسية ثم اليونانية ثم الرومانية حتى أن التاريخ يسمّى تاريخ القدير. لكن هذه الممالك كلها قد انتهت كما الممالك القائمة الآن. إذاً ما هو العمل الذي يعمله الله وله هذه الراية المثلثة.
أولاً: الثابت ثبات الله.
ثانياً: الكامل كمال الله لا شيء يُزاد عليه ولا شيء ينقص منه.
ثالثاً: المنشئ الحقيقي لمخافة الله.
الإجابة نراها واضحة تماماً في تجسد أقنوم الكلمة الأزلي ليصنع الفداء:
أولاً: الفداء ثابت ثبات الله فهو مقرر في الأزل "دَمِ الْمَسِيحِ مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ" (1 بط 1: 19) "المسيح بروح أزلي قدم نفسه لله" (عب 1- بدرج الكتاب- أي الأزل "مَكْتُوبٌ عَنِّي أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلَهِي سُرِرْتُ" (مز 40) ثم في أول مشهد لرد الإنسان إلى الله "وَصَنَعَ الرَّبُّ الإِلَهُ لآدَمَ وَامْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا" (تك 3) في اقتراب الاباء من هابيل فنازلاً لم يكن إلا ذلك الأساس الواحد وهو الفداء بدم الحمل إلى أن تجسد الأبن فتصاعد الهتاف من أعظم الأنبياء "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ" (يو 1: 29) إلى أن نصل إلى الأبدية التي لا نهاية لها ونترنم الترنيمة الجديدة "لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ" (رؤ 5: 9).
ثانياً: الكامل كمال الله لا شيء يُزاد عليه ولا شيء ينقص منه، فمن ذا الذي له الكفاءة أن يقف امام عدل الله بكل مطاليبه، ليس إلا أقنوم الابن متجسداً "فِي طَرِيقِ الْعَدْلِ أَتَمَشَّى فِي وَسَطِ سُبُلِ الْحَقِّ" (أم 8: 20) لذلك باستمرار التنبير على الكفاية المطلقة لدم الحمل سواء في الرموز في العهد القديم أم في الدم الحقيقي دم المسيح في العهد الجديد.
ما كان اروع المشهد في تلك الليلة، ليلة فداء إسرائيل في أرض مصر "ويكون لكم الدمت دم الحمل- علامة على البيوت فأرى الدم وأعبر عنكم" لا شيء يُزاد عليه ولا شيء ينقص منه. ثم جاء مشهد الفداء من ضربة الوباء القاتل، فكان نصف شاقل الفضة (فضة الفداء) هو الأمر الوحيد المعيَّن من الله للفداء "الغني لا يكثر والفقير لا يقلل" (خر 30: 15، عد 3: 51).
وهكذا يأتي العهد الجديد بالفيض الغمر من الاعلان الإلهي عن خطورة إضافة شيء إلى عمل المسيح وفدائه العظيم "لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا" (أف 1: 7). "سِمْعَانُ بُطْرُسُ عَبْدُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَرَسُولُهُ إِلَى الَّذِينَ نَالُوا مَعَنَا إِيمَاناً ثَمِيناً مُسَاوِياً لَنَا بِبِرِّ إِلَهِنَا وَالْمُخَلِّصِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (1 بط 1: 1) فالإيمان ثمين لأنه مؤسس على الفداء العظيم ويتساوى فيه الرسل مع كل المفديين. ولهذا السبب ينبّر الرسول بولس في رسالة العبرانيين على قيمة الذبيحة الواحدة وتقديم المسيح جسده الكريم مرة واحدة، فتتكرر في هذه الرسالة كلمة "مرة واحدة" برهان كفاية ذبيحته وإذ هو ابن الله لا يمكن أن يُضاف إلى عمله أي شيء. وقد وردت كلمة "مرة" في هذه الرسالة 8 مرات (عب 7: 27، 9: 12، 26، 28، 10: 10) كما يؤكده الرسول بطرس 1 بط 3: 18.
ثالثاً: المنشئ الحقيقي الوحيد لمخافة الله، وهنا نرى الرسول المغبوط بولي ينبّر على هذه الحقيقة المجيدة في 1 تي 3: 16 وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد.
وهنا يأتي السؤال: لماذا انحصرت التقوى أي مخافة الله في القلب، في ظهور المسيح إلهنا في صورة إنسانية حقيقية؟
- لأنه في حياته أعلن ذات الله في طبيعته المجيدة وصفاته وكمالاته واستقاماته الأزلية، العصمة، الحكمة، الطهارة، القداسة، الصراحة، المحبة، الرحمة والعدل والقوة التي لا يقف أمامها شيء حتى الموت كما وصفه الوحي أنه "صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِة" (كو 1: 15)
- أعلن ما هو الإنسان في حقيقته أمام هذا المقياس المطلق وأنه ليس إلا كتلة من الشر والأنانية والقسوة والنجاسة والاعوجاج.
- أعلن في موته الفدائي كيف يمكن أن يغفر الله كل خطايا الإنسان ويضع يده عليه ويخلقه من جديد إنساناً مقدساً يحب الله ويخافه مخافة المحبة.
وما اروع إيضاحه للقاعدة والأساس في أول الرسالة للتقوى الحقيقية التي ميّز الله بها كنيسته الحقيقية التي هي بيته هنا على الأرض والراية العظيمة التي ترفرف على هذا البيت هي مخافة الله في القلب فنقرأ في 1 تي 1: 15 " صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أنا"- أي أنه لا تقوى بدون هذا المخلص الإلهي العظيم الذي أتى من السماء. ونفرأ في 1 تي 2: 5 "لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ"- أي أنه لا توجد تقوى حقيقية بدون مصالحة إلهية بهذا الوسيط والمصالح الإلهي الوحيد الذي بذل حياته لأجل الجميع.
"مَا كَانَ فَمِنَ الْقِدَمِ هُوَ وَمَا يَكُونُ فَمِنَ الْقِدَمِ قَدْ كَانَ وَاللَّهُ يَطْلُبُ مَا قَدْ مَضَى" (ع 15)
ما هو كائن الآن وما سوف يكون فمن القدم موجود كما هو, هذا هو تقرير الوح القدس عن الإنسان في ذاته, في الماضي والحاضر والمستقبل- من بدء التاريخ إلى نهاية البشرية, ليس هناك تحسين أقل ذرة في طبيعته الساقطة لا التقدم العلمي ولا الرقي الاجتماعي ولا الفلسفة ولا الاكتشافات المذهلة التي كان لها التأثير الفعال على الحياة العملية للإنسان وحتى ما يمكن أن يستحدثه ذهن الإنسان, لا يغير الحقيقة الراسخة في كل الوحي المقدس, إن الإنسان من جهة مصير نفسه الخالدة ومن جهة موقفه من الإعلانات الإلهية- الآن كما هو في القديم "أَمَّا الرَّجُلُ فَفَارِغٌ عَدِيمُ الْفَهْمِ وَكَجَحْشِ الْفَرَا يُولَدُ الإِنْسَانُ" (أي 11: 12) "َمْ تَسْمَعْ وَلَمْ تَعْرِفْ وَمُنْذُ زَمَانٍ لَمْ تَنْفَتِحْ أُذُنُكَ فَإِنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ تَغْدُرُ غَدْراً وَمِنَ الْبَطْنِ سُمِّيتَ عَاصِياً" (أش 48: 4).
وبدون الاتضاع أمام الفداء الإلهي واستحضار الإنسان نفسه أمام الله المحب في رغبة صادقة للمصالحة معه على حساب الدم الكريم, يظل الإنسان في الجهل والعمى الروحي ويتم فيه قول الرب "وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَائِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ" (رؤ 3: 17).
والله يطلب ما قد مضى! هنا الخطورة الرهيبة إذ في الذهن البشري محاولة مستمرة لكي يزيح بعيداً الأمور المحزنة التي سقط فيها في الماضي, وبكل الوسائل الخادعة يحاول تبرير نفسه بعلل واهية, وانتقال الإنسان في مراحل حياته من شباب إلى رجولة إلى شيخوخة لا يمحو صفحة واحدة أو سطراً واحداً مما كتبه الإنسان في حياته وتبقى الكلمة الرهيبة: الله يطلب ما قد مضى!!
لكن شكراً لإلهنا المحب الذي على أساس تجسده وعمله الكفاري استطاع أن يقرر "أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكرها" (أش 43: 25, 44: 22, مز 51: 1, أع 3: 19).
"وَأَيْضاً رَأَيْتُ تَحْتَ الشَّمْسِ مَوْضِعَ الْحَقِّ هُنَاكَ الظُّلْمُ وَمَوْضِعَ الْعَدْلِ هُنَاكَ الْجَوْرُ" (ع 16)
في ع 15الإنسان كما هو منذ السقوط يعبد ذاته ويعبد الشيطان لأنه منفصل عن الله, وهنا في ع 16 النتيجة الحتمية وهي استبدال حق الله بالكذب وعدل الموازين الإلهية بظلم وجور أنانية نفس الإنسان لذلك في لحظة الاحتماء في دم الفادي الرب يسوع تحدث المعجزة "إن كنت قد وشيت بأحد أرد أربعة أضعاف" (لو 19: 8). "إِنْ رَجَعْتَ إِلَى الْقَدِيرِ تُبْنَى. إِنْ أَبْعَدْتَ ظُلْماً مِنْ خَيْمَتِكَ وَأَلْقَيْتَ التِّبْرَ عَلَى التُّرَابِ وَذَهَبَ أُوفِيرَ بَيْنَ حَصَا الأَوْدِيَةِ يَكُونُ الْقَدِيرُ تِبْرَكَ وَفِضَّةَ أَتْعَابٍ لَكَ" (22: 23)
"فَقُلْتُ فِي قَلْبِي اللَّهُ يَدِينُ الصِّدِّيقَ وَالشِّرِّيرَ لأَنَّ لِكُلِّ أَمْرٍ وَلِكُلِّ عَمَلٍ وَقْتاً هُنَاكَ" (ع 17)
الله هو القاضي للصديق والشرير: في مشهد الغش والظلم لا بد أن الله يُظهر ذاته الكريمة ويقضي بالعدل فينصف الأول ويدين الثاني ولكن لكل أمر وقت معين من الله "أَفَلاَ يُنْصِفُ اللهُ مُخْتَارِيهِ الصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَاراً وَلَيْلاً وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ" (لو 18: 7), "تَوَاضَعُوا تَحْتَ يَدِ اللهِ الْقَوِيَّةِ لِكَيْ يَرْفَعَكُمْ فِي حِينِهِ" (1 بط 5: 6) "انْتَظِرِ الرَّبَّ وَاصْبِرْ لَهُ مِثْلَ النُّورِ بِرَّكَ وَحَقَّكَ مِثْلَ الظَّهِيرَةِ" (مز 37: 6).
"قُلْتُ فِي قَلْبِي: «مِنْ جِهَةِ أُمُورِ بَنِي الْبَشَرِ إِنَّ اللَّهَ يَمْتَحِنُهُمْ لِيُرِيَهُمْ أَنَّهُ كَمَا الْبَهِيمَةِ هَكَذَا هُمْ». لأَنَّ مَا يَحْدُثُ لِبَنِي الْبَشَرِ يَحْدُثُ لِلْبَهِيمَةِ وَحَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ لَهُمْ. مَوْتُ هَذَا كَمَوْتِ ذَاكَ وَنَسَمَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْكُلِّ. فَلَيْسَ لِلإِنْسَانِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْبَهِيمَةِ لأَنَّ كِلَيْهِمَا بَاطِلٌ. يَذْهَبُ كِلاَهُمَا إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ. كَانَ كِلاَهُمَا مِنَ التُّرَابِ وَإِلَى التُّرَابِ يَعُودُ كِلاَهُمَا. مَنْ يَعْلَمُ رُوحَ بَنِي الْبَشَرِ هَلْ هِيَ تَصْعَدُ إِلَى فَوْقٍ وَرُوحَ الْبَهِيمَةِ هَلْ هِيَ تَنْزِلُ إِلَى أَسْفَلَ إِلَى الأَرْضِ؟ فَرَأَيْتُ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَفْرَحَ الإِنْسَانُ بِأَعْمَالِهِ لأَنَّ ذَلِكَ نَصِيبَهُ. لأَنَّهُ مَنْ يَأْتِي بِهِ لِيَرَى مَا سَيَكُونُ بَعْدَهُ؟"
طالما كانت هذه الأقوال مثار جدل كثير إذ وجد فيها الفنائيون مجالاً متسعاً لتبرير نظريتهم بفناء الإنسان واتخذها المدعوون شهود يهوه والستيون- حجة لتبرير مبادئهم الخبيثة بأن هذه الأقوال تنطبق على من لا يتبعون تعاليمهم المدمرة للنفوس. لكن مفتاح الفصل كما يخبرنا سليمان نفسه "ما قاله هو في قلبه" فليس إذاً إعلاناً إلهياً لكن تساؤل عقل الإنسان بالاستقلال عن كلمة الله.
فإن كان هذا الحل أحكم إنسان بدون الكلمة, فقصد الروح القدس واضح لكي يوضح أهمية قياس كل شيء على الكلمة وفي نورها. ورجوع مخلص إلى أول صفحة في الوحي يوضح ضلال فكر سليمان في هذه اللحظة, إذ نسمع عن خلق البهائم "لتخرج الأرض ذوات أنفس حية"- هذه هي البهائم وكيف خُلقت. لكن عندما خُلق الإنسان نسمع القول "قَالَ اللهُ نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ" (تك 1: 24, 26, 27). ثم التفصيل والتوضيح المبارك ص 2: 7 "وجبل الرب الإله الإنسان ترابا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار الإنسان نفساً حية".
وهنا نفهم قصد الروح القدس من سفر الجامعة ليرينا أن حكمة أعظم الحكماء تعجز عن معرفة حقيقة غير النظور إن لم يحكّمه الله بالكلمة. كما أن الغرض من سفر أيوب ليرينا أن بر أعظم الأبرار يعجز عن تبريره أمام الله ما لم يبرره الله ببر إلهي في الكلمة, وكان على كل منهما أن يعترف في سفره بما يخصه. فأيوب الكامل والمستقيم الذي ليس مثله في الأرض كان عليه أن يرفض نفسه وبره ويندم في التراب والرماد (أي 9, 42) كما أن أحكم الحكماء سليمان كان عليه أن يعترف بقصور حكمته البشرية وعجزها عن إدراك سرائر الله وهكذا تُرّد نفسه بالإعلان الإلهي الحاسم "فَيَرْجِعُ التُّرَابُ إِلَى الأَرْضِ كَمَا كَانَ وَتَرْجِعُ الرُّوحُ إِلَى اللَّهِ الَّذِي أَعْطَاهَا" (جا 12: 7)
كم نشكر الله لأنه هوذا أعظم من سليمان في كل شيء, ففي هذا الأمر يوضح الرب يسوع "فَمَاتَ لعازر الْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ الْغَنِيُّ ورَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الْعَذَابِ" (لو 16). أي أن الموت لن يعطل فرح المفديين بمخلصهم لحظة واحدة ولن يسكت أغانيهم له دقيقة واحدة "مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضَيْقٌ أَمْ سَيْفٌ ؟ َلَكِنَّنَا فِي هَذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا" (رو 8).
- عدد الزيارات: 4034