الأصحاح الرابع
وصعد بوعز إلى الباب، وجلس هناك، وإذا بالولي الذي تكلم عنه بوعز عابر. فقال مل واجلس هنا يا فلان الفلاني. فمال وجلس. ثم أخذ عشرة من شيوخ المدينة وقال لهم اجلسوا هنا. فجلسوا ( ع 1 و2)
إن مدينة الله (مز 3:87) هي المكان الذي يسكن فيه الله، وهي ليست هيكل الله، وإنما يسكن الله في الهيكل، والهيكل يقع في مدينة الله. وفيها أيضاً يقيم كل هؤلاء الذين يساكنون الله، الذين يجتمعون حول بيت ومسكن الله. هناك لك أن تجد الحياة بكل ما تعنيه في كل ما يعمله هؤلاء الذين يسكنون معاً في حضرة الله نفسه.
وفي المدينة «استوت الكراسي للقضاء» (مز 5:122) «قضاة وعرفاء تجعل لك في جميع أبوابك التي يعطيك الرب إلهك حسب أسباطك. فيقضون للشعب قضاءً عادلاً» (تث 18:16). وإني أعتبر أنه حيثما ذكرت "المدينة" في كلمة الله ففيها نرى الكنيسة في صورتها التدبيرية والقضائية على الأرض. هذا مصور لنا في صورته الكاملة عندما نرى «المدينة (العظيمة) أورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله» (رؤ 10:21). هذه هي الكنيسة الممجدة في الملك الألفي، ونجد في وصفها ما يؤكد صفتها التدبيرية والقضائية. فعلى سبيل المثال يتكرر رقم (12) في وصفها.
ذهب بوعز إلى هذا المكان إلى المدينة ليحل قضية راعوث. فهو الآن يمكنه أن يفعل ذلك، إذ قد خضعت راعوث له، وقد جلست وهدأت. وهاهو الآن في باب المدينة، على مشهد من شيوخ المدينة ليتمم هذا الأمر. ولنلاحظ أنه صعد إلى الباب إذاً فهو مكان عالٍ، وليس كالبيدر الذي يلزم للإنسان أن ينزل إليه.
ولنا أن نتعلم من ذلك الكثير. فبوعز لم يصعد بالأمر إلى الباب فور لقائه مع راعوث لأول مرة، بل انتظر حتى جاءت إليه في الموضع الذي يستطيع فيه أن يعطيها الستة من الشعير، إذ كانت قد مكثت طويلاً عند قدميه في مركز الموت. كم يكون الضرر والتشويش، والنتائج المؤلمة التي تنتج عن عرض حالة شخص على الإخوة وهم مجتمعون وذلك قبل أن تنضج حالة هذا الشخص. فبلغة سفر راعوث يكون مثل هذا الشخص قد حصل على مكيال واحد من الشعير، أي أنه مازال عند الخطوة الأولى. ولكن علينا من الوجهة الأخرى أن نتذكر - مع رغبتنا في أن نساعد هذا الشخص بنعمة الرب - أن الخطوة الأخيرة نحو البركة الكاملة هي التي يجب أن تأتي به إلى المدينة، لعرض أمره على الشهادة المحلية. فالكنيسة بحسب ترتيب الله هي الكيان المنوط به تدبير الأمور الروحية على هذه الأرض.
ومع أن بوعز صعد بالمسألة إلى الباب، وتناولها في حضور الشيوخ، إلا أنه كان يتكلم بسلطان. فقد أدار هو الحوار. ومع أن الرب هو الذي وضع «الكراسي للقضاء» عند اجتماع اثنين أو ثلاثة إلى اسمه (مت 17:18-20، 1كو 4:5 و13)، إلا أنه هو وحده الذي له السلطان في وسطها. فالسلطان هو للرب الذي في وسط الاثنين أو الثلاثة ونحن ما علينا سوى أن نفعل ما فعله الشيوخ العشرة، نسمعه هو وحده، ونصادق على قراراته، وأن نشهد لها (ع11).
كان الولي الأقرب الذي تكلم عنه بوعز عابراً. ولم يكن هذا الولي قد أبدى قبلاً، وحتى هذه اللحظة، أي اهتمام تجاه نعمي أو راعوث. لذلك كان على بوعز أن يعرض عليه أن يتحمل مسئوليته في هذه القضية. هل معنى ذلك أن هناك فادياً آخر؟ أو هل يمكن أن يخلص إنسان بدون نعمة الله وعمل الرب يسوع على الصليب؟ نظرياً نعم. لذلك نقرأ في رومية 6:2،7 أن الله يعطي حياة أبدية لأولئك الذين «بصبر في العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة والبقاء». كذلك حزقيال 20:18-28 يقول لنا أن هذا صحيح، حتى بالنسبة للذين سبق وعاشوا مرة في بعد تام عن الله.
لكن ليس هذا هو إنجيل النعمة. فنحن نجد هنا خلاصاً مقدماً على مبدأ الإيمان، الذي هو بشارة المسيحية، وإنما نجد هنا خلاصاً مؤسساً على الأعمال. فهو الناموس ممزوجاً بالنعمة، وهذا ما نجده في معاملات الله مع إسرائيل بعد أن صنعوا العجل الذهبي، بعد أن كسر موسى لوحي الناموس الأولين. كان الناموس ممتزجاً برحمة، ومع ذلك فقد كان هذا خلاصاً على مبدأ الأعمال. وهو بذلك في تناقض تام مع الإنجيل. «فإن كان بالنعمة فليس بعد بالأعمال، وإلا فليست النعمة بعد نعمة» (رو 6:11). صحيح أن الله أعطى الناموس لإسرائيل فقط، فلم يضع الله إنساناً واحداً من خارج إسرائيل تحت الناموس. ولكن يبقى مبدأ المسؤولية سائداً على كل الجنس البشري. وأين نجد مقياساً لمسئولية الإنسان مثل ما نجده في الناموس؟ وهانحن نرى رحمة الله تجاه الإنسان المذنب وهو تحت المسؤولية تتعاظم، حتى أن الخاطئ الذي يتوب ويعود ويستمر في صنع الوصايا المقدسة بعمل الخير، فإن الله لا يذكر آثامه فيما بعد. فلو أن للإنسان أقل قوة لصنع الخير لكان الناموس قادراً حقاً على أن يخلصه من دينونة الله (خر 22:18). هذا ما نراه رمزياً في الولي الآخر الذي كان أقرب إلى راعوث من بوعز.
ولكن - بكل أسف - فإن الإنسان ليس لديه أي قوة لصنع الخير. لذلك فهو لا يستطيع أن يخلص سوى بالنعمة. فحاجته ليست إلى الناموس، بل إلى المسيح. وليس هناك ما هو أشق على كبرياء قلب الإنسان من أن يقبل هذه الحقيقة. لهذا السبب كان لابد أن يعطي الله الناموس أولاً، ليظهر لنا أنه «بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه» (رو 20:3). وبعد أن أظهر الناموس أنه بلا قوة للخلاص جاءت النعمة متجسدة ومعلنة في شخص ابن الله «أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا» (يو 17:1).
هذا أيضاً هو تاريخ كل مؤمن. فعندما شعرنا بخطايانا تمسكنا على الفور بالناموس، إذ كنا نريد أن نخلص أنفسنا من سلطان الخطية. ويشرح لنا رومية 7 صورة من هذا الصراع الرهيب. والله يسمح بهذا، بل إنه في الحقيقة يقودنا لأن ندخل في هذا الصراع الذي لا رجاء منه، حتى ندرك عجزنا التام، فنصرخ «ويحي أن الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت». ولنلاحظ أننا حينئذ لم نعد نسأل «ماذا ينقذني» بل «من ينقذني». فقد أدركنا أننا نحتاج إلى شخص لكي يخلصنا، عندئذ يرينا الله الفادي الوحيد، فنقول «أشكر الله بيسوع المسيح ربنا» (رو 24:7،25).
أخذ بوعز على عاتقه قضية راعوث، فدعا الولي الآخر الأقرب منه، حتى ما يظهر كيف أن هذا الولي غير قادر على فداء راعوث. أما بوعز فكان عنده من اهتمام المحبة الثابت العميق نحو راعوث ونعمي ما لم يكن عند ذلك الولي الآخر، الذي لم يزعج نفسه من أجلهما، بل لم يبدِ أي اهتمام بقضيتهما حتى اعترضه بوعز وواجهه بالأمر. هكذا أيضاً بذل الرب يسوع نفسه عنا بدافع المحبة لنا، محبته نحو كنيسته، إذ كان يريد أن يتحدنا معه. أما الناموس فليس فيه محبة ولا يستطيع أن يعلن ذاك الذي هو محبة (1يو 8:4،16).
والحق أيضاً قد صار بيسوع المسيح، فالنعمة لا تعمل أيضاً في تعارض مع الحق، وكلاهما لا يناقض الآخر. وهذا هو السبب الذي لأجله أخذ بوعز عشرة رجال من شيوخ المدينة ليكونوا شهوداً.
إن الوصايا العشر هي جوهر الناموس، وهي لابد لها أن تشهد لحقيقة أن الناموس لا يستطيع أن يخلص. إن سؤال رومية 7 يكون سهلاً وسريع الإجابة لو أننا أخذنا بشهادة الوصايا العشر، وبها فقط. فلو اعتبرناها المقياس الوحيد لنا لعرفنا سريعاً أنه لا رجاء لنا في الجسد الواقع تحت سلطان الخطية. ولكننا نظن خطأ أن الله ليس مصراً على كل وصايا الناموس العادلة، ونتصور أنه سيقنع بمقياس أقل. صحيح أن نعمة الله ورحمته هي بلا حدود، فهو طويل الروح وكثير الرحمة. ولكنه لابد أن يطالب بوصاياه المقدسة العادلة، فهو لا يستطيع أن ينكر نفسه.
- عدد الزيارات: 20386