Skip to main content

مقدِّمـة

لا بدَّ أن يُلاحظ القارئُ الكريم خيطاً مشتركاً يمتدُّ عبرَ اختبارات هؤلاء الرجال الخمسين من الكهنة السابقين، ألا وهو أنَّه كان لدينا جميعاً شوقٌ جَمٌّ لأن نكونَ مختلفين عمَّن حولَنا. فقد كُنَّا نريد أن نكون أكثر نقاوةً وقُرباً من الله. كُنَّا نريد أن نكون أحرارَ الضمير أمام الله. وقد سعَينا إلى الكهنوت إعتقاداً منّا أنَّه يُتيح لنا أن نقدِّم الخلاص شيئاً فشيئاً لإخوتنا البشر. كما أنَّ شرف الكهنوت وسحره قدِ اجتذبانا أيضاً، إذ كان الكهنةُ حوالَينا يَحظَون بإكرامٍ فائق وامتيازاتٍ خاصَّة. ثمَّ إنَّ سماع الاعترافات، ومنحَ غفران الخطايا، واستنـزال المسيح على المذبح، وجلالَ كون المرء "مسيحاً آخر"، هذه كُلَّها خلَبْت ألبابنا وجذبَتْنا. وعلى حدِّ ما قاله "اغْراهم اغْرين" في روايةٍ ذاتِ صلةٍ بهذا الموضوع، جذبَنا ما في الأمر من "سُلطانٍ وبهاء". فلئن اختلفتِ اختباراتُنا، يبقى الخيطُ المشترك هو عينَه، كما يقول "خوسيه فِرنانْدِز" مثلاً:

"إنَّ بهاءَ الحياةِ الكهنوتيَّة، وضُروبَ السحِّر المنوطة بالدَّير، وخلاصَ نفسي، مرتسمةً على آفاق ذهني، دحرَتِ الحُزنَ الطبيعيَّ الذي غمرني لمَّا غادرتُ أُسرتي ومرابعَ طفولتي".

وكما يقول" سَلسُو مونيز" أيضاً:

"منذ ولوديَّتي فما بعد، بحثتُ عن الحقيقة واليقين بلا هوادة. وفي رأىي الشبابيِّ كان الكهنوت هو الطريق الفُضلى لاختبار الحقّ وحيازةِ خلاصِ النفس. وقد قال لي أحدُ معلِّمي المدرسة مرّةً: إنَّ هلاك الكاهن أصعبُ من طُفُوِّ حجرٍ على سطح الماء!"".

وبرغبة المرء في أن يصير كاهناً اقترن أيضاً الطموحُ إلى ما يستدعيه مركز الكهنوت في الكاثوليكيَّة الرومانيَّة خصوصاً: "السلطان والبهاء" المنوطين بنظام الأسرار المقدَّسة كلِّها، والعنصرُ المرئيُّ أكثر من سواه فيها هو الكاهن في المدينة أو الأبرشيَّة المحليَّة.

أمّا ما لم نَرَهُ في الكهنوت، صغاراً وأحداثاً وشبّاناً، فكان الأفكار الثابتة التي لم تكن تُفسَّر قطُّ ولكنَّها كانت تُعتبَر من المسلَّمات دائماً. وما كان مفروضاً على البديهة بغير تساؤل هو ما يلي:

1 - أنَّ العهد الجديد يشتمل على وظيفة كهنوتيَّة قربانيَّة؛

2 - أنَّ حياة الكاهن تتمحور حول الأسرار المقدَّسة؛

3 - أنَّنا كُنّا أوانيَ مؤهَّلة لتولِّي هذا الشرف. وكُنّا جميعُنا قد بذلنا كلّ جهد لنكون "أطهاراً" حتّى بِتنا نعتقد على البديهة أنَّ موقفنا السليم أمام الله كان أمراً في وسعنا أن نستحقَّه.

1 – الوظيفة الكهنوتيَّة

هل يمكنك أن تتصوَّر صدمتنَا، نحن المُتباهين بكوننا كهنة، إذ نجد واحداً من أفضل علماء الكتاب المقدَّس عند الكاثوليك، "ريمون إ. براون"، في أوائل السبعينيّات، قائلاً لنا:

"حتى إذا انتقلنا من العهد القديم إلى العهد الجديد، يصعقنا أن نرى أنَّه ما من مسيحيٍّ فَردٍ يوصف بأنَّه كاهن، على الرغم من وجود كهنة كثيرين،ٍ وثنيِّين وآخرين يهود. فالرسالة إلى العبرانيين تتحدَّث عن كهنوت المسيح الأعلى بمقارنة موته ودخوله السماءَ بما كان رئيس الكهنة اليهوديُّ يفعلُه إذ يدخل قُدسَ الأقداس في خيمة الاجتماع مرَّةً في السنة بدم ذبيحةٍ يُقرِّبها عن نفسه وعن خطايا شعبه (عبرانيين 6:9و7). ولكنَّ الجدير بالملاحظة أنَّ كاتب الرسالة إلى العبرانيين لا يربط كهنوت المسيح بالأفخارستيا أو العشاء الأخير، ولا هو يوحي أنَّ مسيحيِّين آخرين هم كهنةٌ على مثال يسوع.

"وبالحقيقة أن جوَّ المرّة الواحدة الحاسمة إلى الأبد، ذاكَ المحيطَ بالمسيح في العبرانيين (12:10-14)، قد قُدِّم تفسيراً لعدم وجود كهنةٍ مسيحيِّين في فترة العهد الجديد".

إنمّا في الفصل عينه لاحقاً، يحتجُّ "براون" لكهنوتٍ مثلِ الرُّتبة اللاويَّة في العهد الجديد. وهو يُبرِّر نشوء هذا التعليم مستنداً إلى التقليد. ولكنْ حتَّى قليلو المعرفة بالكتاب المقدَّس بينَنا يعلمون أنَّ الفريِّسيين وضعوا التقليد في مرتبةٍ اسمى من مرتبة كلمة الله النقيَّة. وقد كان "براون" يهدف إلى إراحة ضمائرنا المضطربة، غير أنَّه أسهم إلى حدٍّ أبعد في زعزعة قناعتنا بأنَّنا كهنةٌ حقاً. وما نصَّ عليه "براون" صحيحٌ وحقٌّ مُطلَق من الوجهة الكتابيَّة. فعدا الكهنوت الملوكيّ الذي يصحُّ على جميع المؤمنين الحقيقيين، ليس في العهد الجديد وظيفةٌ كهنوتيَّة خاصَّة؛ بل بالحريّ، كما تصرِّح رسالة العبرانيين بشأن كهنة العهد القديم، بمنتهي الوضوح: "وأولئك قد صاروا كهنة كثيرين من أجل منعهم بالموت عن البقاء. وأمّا هذا، فمن أجل أنَّه يبقى إلى الأبد، له كهنوتٌ لا يزول. فمن ثَمّ يقدر أن يخلِّص أيضاً إلى التمام الذين يتقدّمون به إلى الله، إذ هو حيٌّ في كلِّ حين ليشفع فيهم" (عبرانيين 23:7-25).

فما يوصف هنا بأنَّه "كهنوت لا يزول" يَعني في الأصل اليوناني "لا يحول ولا يؤول" (لا يتغيَّر ولا ينتقل). أمّا سبب كونه غير قابل للانتقال إلى الناس فهو أنَّ جوهره خاصٌّ بالمسيح، يُقيِّده ما جاء في الآية التالية: "... قدوس، بلا شرٍّ ولا دنس، قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات" (ع26).

2 – الأسرار المقدَّسة محور حياة الكاهن

أمّا المُسلَّمة الثانية فأنَّ الأسرار المقدَّسة كانت، على ما تقول كتب التعليم المسيحيّ عندنا، "علاماتٍ خارجيَّة على نعمةٍ داخليَّة". وقد قام في أذهاننا أنَّ الأسرار المقدَّسة، بكلماتِ البند 480 من قوانينِنا العقائديَّة، "تُسهم إلى أقصى درجة في توطيد مشاركتنا الكنسيَّة وتعزيزها وإعلانها". وبالحقيقة أنَّ الأسرار بحدِّ ذاتها كانت في نظرنا لبَّ الخلاص والتقديس. فمثلاً، ينبِّه القانون 960 بخصوص الاعتراف للكاهن على أنَّه "الطريق السويُّ الوحيد الذي به يتصالح مع الله الإنسان المؤمن الذي يعي فداحة الخطيَّة". فعوضاً عن إعلان عمل المسيح الكامل باعتباره الحلَّ لمشكلة طبيعتنا الخاطئة وسجلِّ خطايانا الشخصيَّة، تقيَّدت حياتُنا كل يومٍ بهذه العَلامات المرئيَّة ودارَت في فلكها. ولمّا قرأ بعضُنا عند أفضل مؤرِّخ كاثوليكيّ "دولِّينغَر" أنَّ سرَّ فروض التوبة (الاعتراف) لم يكُن معروفاً في الغرب طيلة 1100 سنة، ولم يعرَف في الشرق قطّ، سَرَت قُشَعريرةٌ في أبداننا. فقد قال "دولِّينغر": "هكذا حال فُروض التوبة أيضاً. فما هو مُقدَّم باعتباره الشكل الأساسيَّ لهذا السِّر المقدَّس ظلَّ غير معروفٍ في الكنيسة الغربيَّة طيلة أحد عشر قرناً، ولم يُعرف قطُّ في الكنيسة اليونانية". كيف أمكن هذا؟ لقد أُعلِن أنَّ الأساقفة هم رؤساء كهنة "أولاً وقبل كل شيء" (القانون 835). أو لم يُعلَن أنَّنا نحن الكهنة أيضاً مُجرُو نظام الأسرار المقدَّسة؟ إنمَّا في ضوء كلمة الله المقدَّسة، كان ذلك ضرباً من السِّحر وليس هو رسالة الإنجيل الصافية.

في العهد الجديد "علامتان" أسَّسهما الربُّ يسوع. ومع ذلك، فأهمُّ من هاتين العلامتين، في الكتاب المقدَّس، هي الرسالة التي تؤدَّى لها الشهادة. ولكنْ عندنا، نحن الكهنة، كانتِ الأسرار المقدَّسة في حدِّ ذاتها هي بيتَ القصيد. فكلُّ يومٍ يبدأ بالقُدّاس؛ وأوهامُنا من جهة الأسرار المرئيّة، باعتبارها نقطة الدائرة في حياتنا، انطلقت من اختبارنا. فكثيرون منّا، وقد مضت على كونهم كهنةً سنواتٌ طويلة، عمّدوا أطفالاً لا يُحصى عددهم، وتلَوا على رؤوسٍ لا تُعدُّ العبارة " إِنَّي أحلُّك!" وقد مسحنا أياديَ كثيرين من الشيوخ والمرضى وضحايا الحوادث مردِّدين هذه العبارة : "الربُّ الذي يُعتِقك من الخطيَّة يُخلِّصُك ويُقيمك!" وسنةً بعد سنةٍ شهدْنا الأولاد الذين عمّدناهم أطفالاً يشبُّون على وثنيَّة لا تقلُّ عن الوثنيَّة الفعليَّة. وعشراتُ الآلافِ مِمَّن نطقْنا على رؤوسهم بحلِّهم من خطاياهم، نهضوا من جُثُّوِهم خَطأةً كما كانوا تماماً قبل سماعِهم كلماتِنا. ولمَّا لم يَنلِ المرضى والمِسنُّونَ الخلاصَ ولا "القيام" عندئذٍ تجرّأ بعضُنا في الأخير على التفتيش في الكتاب المقدَّس، حيث اكتشفْنا ما يلي:

"الروح هو الذي يُحيي. أما الجسد فلا يُفيد شيئاً؛ الكلام الذي أُكلِّمُكم به هو روحٌ وحياة" (يوحنّا 63:6).

"أجاب يسوع وقال: الحقَّ الحقَّ أقول لك: إن كان أحد لا يولد من فوق، لا يقدر أن يرى ملكوت الله" (يوحنّا 3:3).

"لأنّكم بالنعمة مخلَّصون، بالإيمان، وذلك ليس منكم، هوعطيَّة الله؛ ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد" (أفسس 8:2و9).

وقد هزَّت كياننا، أكثرَ كلِّ شيء، الكلماتُ التي جاءت في رسالة أفسس، ولا سيّما لأنَّ تعريفاتنا النموذجيَّة للأسرار المقدَّسة حدَّدتها بأنَّها "أعمال"، كما ورد في القانون الثامن الشهير من قرارات مجمع "اترانت":

"إن قال أحدٌ أنَّ الأسرار المقدَّسة في الناموس الجديد لا تُنقَل [باللاَّتيني: لا تُعمَل عملاً] بل إنَّ الإيمان بالوعد الإلهيِّ هو وحده كافٍ للحصول على النعمة، فليكُن أناثيما (محروماً)!".

حتَّى إنَّ مجرَّد البدء بالشكِّ في الأسرار المقدَّسة كان صعباً جدّاً. فمعظم وقتنا كانت تشغله هذه العلاماتُ المرئيَّة وسواها. مثلاً، خلال الصَّوم الكبير أو أُسبوع الآلام، كان علينا أن نُجريَ الترتيباتِ كي ندبِّر ونُسوِّيَ الزيت المُبارَك حديثاً، وشمعة الفصح، وموقد الفصح، والسعف، ورماد سعف السنة الماضية، وصليب الزيّاح، والمبخرة بجمرها وبخورها، والأثواب الأُرجوانية والحمراء والبيضاء. فإني لأحدنا أن يجرؤ على سماع المبدإ الذي أعلنه الربُّ بكلِّ وضوح في يوحنّا 63:6؟

"الروح هو الذي يُحيي. أمّا الجسد فلا يفيد شيئاً؛ الكلام الذي أكلِّمكم به هو روحٌ وحياة".

غير أنَّنا قد سمعنا الكلام فعلاً، الأمرُ الذي تشهد لها شهادات هؤلاء الرجال الخمسين. فلقدِ اجتذبَنا الآب، مبيِّناً لنا تفاهتَنا وضآلتنا، وحقَّه الكافي الوافي في كلمة الكتاب المقدَّس القائلة:

"قدِّسهم في حقّك؛ كلامك هو حقّ" (يوحنّا 17:17).

3 – أوانٍ غير مؤهَّلة للكرامة

كانت المُسلَّمة الأخيرة هي الأدهي، لكونها الأكثرَ تجذُّراً فينا. فلمّا كنتُ ولداً، حتّى قبلَ عزمي على أن أصير كاهناً، اجتهدتُ بكلِّ جوارحي كي أصير "قدِّيساً". وخلالَ الصَّوم كنتُ أتخلَّى عن الحلوى والمشروبات المُحلاّة لأصير كاثوليكيّاً أفضل. وكنتُ أزور تسع كنائس في يومٍ واحد مصليّاً في كلٍّ منها "أبانا، ستَّ مرّات، و "السلام عليك يا مريم" ستَّ مرّات، و "المجد لك" ستَّ مرّات. وقد لعب بعضُنا لعبة "القداسة" بإعطاء أصدقائنا أقراصَ نعناعٍ بيضاء وهم راكعون أمامَنا كما لو كنَّا كهنةً نُناولهم.

ولما كُنَّا كهنة، فقد تحمَّس معظمُنا جدَّاً لمقرّرات المجمع الفاتيكاني الثاني. حتّى إذا طُبِعتِ الوثائق، وعظ بعضُنا منها. وكانت إحدى أعمِّ الوثائق "الكنيسة في العالم الحديث". ولكنْ لمّا فترت الحماسة، رأى مَن درسوها منّا أنَّها تنطوي على الرسالة عينها التي طالما عشْناها وكرزْنا بها. فقد جاء في البند 14: "على أنَّ الخطيئة جرَحتِ الإنسان. وحينما ينتهي إلى التفكير في ذاته الحقيقيَّة يتوجّه إلى قرارة كيانه، حيث ينتظره الله فاحصُ القلب، وحيث يقرِّر هو بنفسه مصيرَه الخاصّ في نظر الله".

وفي البند 17: "إنمَّا بالحريَّة وحدَها يستطيع الإنسان أن يتحوَّل نحو ما هو صالح. فالإنسان يكسب كثيراً من الكرامة بعد أن يتخلَّص من كلِّ عبوديَّةٍ للأهواء، ثمّ يسعى قُدماً نحو غايته باختياره الحُرِّ لمِا هو صالح، وباجتهاده وبراعته يضمن لنفسه على نحوٍ فعّالٍ الوسيلةَ المُفضية إلى هذه الغاية. وبما أنَّ الحريَّة الإنسانيَّة قد أوهنتها الخطيَّة، فبعون نعمة الله وحدها يُتاح للإنسان أن يُضفي على أفعاله علاقتها الكاملة والمناسِبة بالله".

فهذا النوع من التعليم الحديث بدا شبيهاً إلى أبعد حدٍّ بالرسالة القديمة. وقد تضمنَّت وثائق المجمع الفاتيكانيّ الثاني الرسالة القديمة أيضاً. فالبندُ السادس من الوثيقةِ السادسة، الأقلِّ تدأولاً، وهي تتناول "عقيدة الغفران"، يقول:

"منذ أقدم الأزمنة في الكنيسة والأعمال الصالحةُ أيضاً تُقدَّم إلى الله لأجل خلاص الخَطأة، ولا سيمَّا الأعمال التي يستصعبها الضعفُ البشريّ. وبالحقيقة أنَّ صلوات القدِّيسين وأعمالهم الصالحة عُدَّت ذاتَ قيمة كبيرة بحيث أمكن التأكيد أنَّ المُعترِف التائب قد غُسِّل وطُهِّر وافتُدي بمعونة الشعب المسيحيِّ كلِّه".

هذه التعاليمُ كلُّها عزَّزتها رسالات أُعطيَت في "لُورد" وفي "فاطِمَه". وقد كان جزءًا مهمّاً من المسلَّمة الثالثة والرئيسة لدينا أنَّ نفوساً عديدة تذهب إلى الجحيم لأنَّها تُعدَم مَن يُصلِّي لأجلها ويُكفِّر عنها. طبعاً، كانت النعمة من المسلَّمات. ولكنَّ الرسالة كانت واضحة: أنك أنت، بفضل آلامك وأعمالك الصالحة، مَن تستحقُّ الخلاص لنفسك ولسواك. هذا، أيُّها القارئ العزيز، هو الأُحبولة التي كان كلٌّ منّا عالقاً بها. فنحن الذين عِشْنا بمقتضى إنجيل الأعمال بكلِّ دقَّة كُنَّا متورِّطين أكثر من سوانا بأحابيلِ روما.

وقد كان قوامَ المسلَّمةِ الثالثة عنصران: (1) أنَّنا كُنَّا، على نحوٍ ما، قدِّيسين وصِحاحَ الموقف أمام الله القدُّوس لأنَّنا قد صلَّينا وعانَينا؛ (2) أنَّنا سنظلُّ نمارس ديانتنا بوصفنا أُناساً أبراراً وقدِّيسين. ومن ثَمَّ غدا هذان العنصران سببَ خرابنا الأعظم. فعندما تعتبر نفسك بارّاً وصالحاً لكن "جريحاً"، ثُمَّ تقرأ في الكتاب المقدَّس مرقس 20:7-23: " إنَّ الذي يخرج من الإنسان ذلكَ ينجِّس الإنسان. لأنَّه من الداخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة، زنى، فسق، قتل، سرقة، طمع، خبث، مكر، عهارة، عين شرِّيرة، تجديف، كبريا، جهل. جميع هذه الشرور تخرج من الداخل، وتنجِّس الإنسان،" يصعب عليك التوفيق بين هذا وذاك. ثُمَّ حيث تقرأ أيضاً في إرميا 9:17 أنِ "القلب أخدع من كلِّ شيء، وهو نجيس، من يعرفه؟" يواجهك مفهومٌ للطبيعة البشريَّة مختلفٌ جوهريّاً وكُليّاً.

وعندما تكون قدِ اعتدتَ النظر إلى نفسك باعتبارك مُجاهِداً على الصعيد الروحيّ، ثمَّ تقرأ تكوين 17:2: "وأمّا شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها، لأنّك يوم تأكل منها موتاً تموت". لا يمكنك إلاَّ أن ترى أنَّ خطيَّة آدم جلبت الموتَ على جميع البشر، ولم تجعلهم "مجروحين" فقط. عندئذٍ يتولَّد لديك مفهومٌ مختلفٌ كُليّاً بخصوص ما أنت عليه أمام الله.

وحين تقرأ حزقيال 20:18: "النفس التي تُخطئ هي تموت،" ثم تقرأ في رومية 23:6: "لأنَّ أُجرة الخطيَّة هي موت،" تقع في مأزقٍ مُربِك. وهكذا كانت حالي: فإمّا عقيدتي الكاثوليكيَّة القديمة هي الحقّ؛ وإمّا الكتاب المقدَّس هو الحقّ. احتمالان لا يُعقَل أن يصحَّا في آنٍ واحد.

وحينما تقرأ 1بطرس 18:1و19: "عالمين أنَّكم افتدُيتم، لا بأشياء تفنى بفضَّة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة التي تقلَّدتموها من الآباء، بل بدمٍ كريم، كما من حملٍ بلا عيب، دمِ المسيح".

وأيضاً حينما تقرأ إشعياء 5:53و6: "وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوقٌ لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحُبُرِه شُفينا. كلُّنا كغنم ضللنا؛ مِلنا كلُّ واحدٍ إلى طريقة، والربُّ وضع عليه ثم جميعنا،" ثُمَّ تُتبِع هذا بقراءة 1يوحنّا 2:2: "وهو كفّارةٌ لخطايانا؛ ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كلِّ العالم أيضاً"، فحينئذٍ يترسَّخ لديك الاقتناع الذي بلغتُه أنا: أنَّ الكتاب المقدَّس ينصُّ على أنَّ الخلاص هو عمل الربّ وحده من دون سواه؛ الأمرُ الذي يُلخَّص في العبرانيين 3:1: "... صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا.."..

هذه الآياتُ كشفت لي حقيقة الخلاص والفداء: عمل يسوع المسيح الكامل!

أيُّها القارئ الكريم، لا تنسَ كـون الله -كما يقـول الوحـي في رومية 26:3-"بارّاً ويبرِّر مَن هو مِن الإيمان بيسوع". فكيفيَّة خلاص الإنسان إنَّما هي من عمل الله. والخلاص هو عمل الله العظيمُ الكاملُ، على حدِّ ما تبيِّنه شهاداتُ حياة هؤلاء الخمسين. ها هُم خمسون رجُلاً يبسطون حياتهم أمام ناظرَيك. ويظهر في نسج هذه الحيوات الخمسين الخيطُ القرمزيُّ ذاتُه: نعمةُ الله المُهَيمِنة. فأمامه تعالى، كلُّ إنسان ميتٌ في خطاياه، ولا أحدَ يخلُص بِسِوى النعمة وحدها.

كُنّا، ونحن كهنةٌ كاثوليك، مُخلِصين ومكرَّسين ومتحمِّسين للكنيسة الكاثوليكيَّة. ثُمَّ -كما يقول "روبرت جوليَن"- "اعتقلَنا الله". فإنِّي، بكلِّ محبَّة، أُهيب بك أن تقرأ قصَّة نعمة الله في حياة كلٍّ منّا، لأنْ هذه هي نبضاتُ قلبِ هذا الكتاب.

إنَّ ما يقوله الكتاب المقدَّس في "الكهنوت" مقارنةً بمفهومنا نحنُ سابقاً بشأن "الكهنوت" سوف يتوضَّح لك بكلِّ جلاء فيما تُطالع هذه الشهادات الشخصيَّة التي أدلى بها رجالٌ اختبروا كلا الكهنوتَين، الزائفَ، ثُمَّ الحقيقيَّ الذي هو كهنوت جميع المؤمنين على أساس ذبيحة يسوع المسيح الحاسمة والنهائيَّة.

وخيرُ خلاصةٍ لما جرى في حياة هؤلاء الخارجين من الكهنوت التقليديّ نجدها في كلمات الربّ الواردة في 2كورنثوس 1:4و2: "من أجل ذلك، إذ لنا هذه الخدمة،كما رُحِمنا، لا نفشل؛ بل قد رفضنا خفايا الخزي، غير سالكين في مكر، ولا غاشّين كلمة الله، بل بإظهار الحقِّ، مادحين أنفسنا لدى ضمير كلِّ إنسان قدَّام الله".

  • عدد الزيارات: 2757