Skip to main content

الملائكة والإنجيل

كان الله دائماً يرسل ملائكته للقيام بمهمات يكلفهم إياها، فيعلنون مشيئته للناس، لكنه لم يعط الملائكة امتياز تبليغ رسالة الإنجيل. والكتاب المقدس لم يذكر لنا سبب ذلك.

قد يكون السبب أن الأرواح التي لم تختبر معنى الانفصال عن الشركة مع الله نتيجة للخطية، لن تتمكن من تبشير الخطاة. من هذه الأرواح الملائكة الذين لم يسقطوا ولا يفهمون معنى الخطية والحاجة إلى الخلاص. وقد صدق المرنم إذ قال:

أصبـو إلى ترنّـم          الأملاك في السما

إذ ينشـدون للعلي           بالحمـد والثنـا

لكـن بترنيماتهـم               لا يرتوي القلب

إذ لا يقال، قد قضى         من أجلنـا الرب

  مرت قرون عديدة على الإنسان لم يتغير فيها قلبه على الرغم من انتشار العلم وازدياد الرقي. فالإنسان هو هو، وما زال في حاجة إلى إنجيل المسيح ونعمته المخّصة – لا فرق في ذلك بين إنسان وآخر ولو اختلفا في لون البشرة أو الخلفية الثقافية أو العنصرية. ومن يرسل الله في مهمة تبليغ الإنجيل للبشر الساقطين في الخطية؟ هذا أمر لا يستطيعه الملائكة الساقطون، بل إنهم هم أنفسهم محرومون فرصة الخلاص من خطيتهم. والملائكة الأطهار أيضاً لا يستطيعون أن يبشروا بالإنجيل، لأنهم لا يتلقون البشارة كما نتلقاها نحن. فإذ لم يخطئوا لم يذوقوا مرارة الخطية ونتائجها ولا يدركون معنى الانفصال عن الله وحقيقة الهلاك.

  لذلك عهد الله إلى الكنيسة بأمر القيام بالتبشير، واضعاً أعباء هذه المهمة الثقيلة على كواهل المؤمنين. ليس لدى الله طريقة أخرى، إذ أن الإنسان هو المؤهل للشهادة عن اختبار الخلاص لأخيه الإنسان.

  أما الملائكة فيجيء دورهم عندما يكلفهم الله مساعدة المؤمنين الذين يبشرون. ومساعدتهم تتضمن استخدام الآيات المعجزية التي تثبت الإيمان. وقد شهد كثير من المرسلين الذين خدموا الرب في أقطار مختلفة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بأن حوادث حدثت معهم تدخل فيها ملائكة. بدا لهم أن ملائكة ساعدتهم وهم يقومون بنشر البشارة. تتذكر زوجتي حوادث عديدة حدثت عندما كانت مع والديها المرسلين في الصين، حيث بدا أن ملائكة كانت تتدخل في تلك الحوادث لتساعد والدها وزملاءه المرسلين الآخرين في خدمتهم.

  ومهما يكن من أمر ذلك، فإن لنا، نحن المؤمنين المسيحيين، امتيازاً بأن ننقل من الله في السماء إلى الناس رسالة تعجز حتى الملائكة عن النطق بما فيها. تأملوا قيمة رسالة الإنجيل. تصوّر أحدهم أنه يسأل الله هذا السؤال الخطير: "ماذا كنت تفعل لو أن البشر تقاعسوا جميعاً وأخفقوا في التبشير بالإنجيل؟ أما كانت لديك خطة أخرى؟" فيجيب الله: "ليست لديّ أية خطة أخرى".

  لا يستطيع أيّ ملاك أن يكون مبشراً أو راعياً في كنيسة مع أن الملائكة قد يكلفون مهمة السهر على كنائس معينة. لا يقدر ملاك أن ينصح المؤمنين ويجد الحلول لمشكلهم. ولا يتمتع أي ملاك بالبنوة في المسيح، كما لا يمكن لأي ملاك أن يكون شريكاً للطبيعة الإلهية ولا وارثاً مع المسيح في ملكوته. أنتم وأنا كهنوت ملوكي فريد في هذا الكون، ولنا امتيازات نتمتع بها لا يمكن أن تختبرها حتى الملائكة.

الملاك وزكريا:

  كانت لولادة يوحنا المعمدان علاقة كبرى وقوية بالإنجيل، (أي البشارة بخلاص الله في يسوع المسيح). كان زكريا وأليصابات، والدا يوحنا، شيخين. وقد تجاوزت أمه السن فلم يعد معقولاً أن تحبل وتلد. وكانت هي وزوجها من سلالة هارون، ولذلك كانت لهما علاقة بالكهنوت. وقد اشتهر كلاهما بالسيرة النقية التقية وحفظ وصايا الله. وبذا كانت تلك العائلة نموذجاً لفاعلية الوالدين، وكيفية عمل الله من خلالهما. فنحن نعرف أن أعظم خدام الإنجيل انتفعوا كثيراً بعيشهم في ظل والدين تقيين. فمثلاً، تربّى كلا الأخوين تشارلز وجان وسلي (Charles and John Wessley)، وهما مؤسسا الطائفة المثودية (Methodist Churgh) في بيت تشيع فيه التقوى، وقد تأثرا كثيراً بوالدتهما. وأدونيرام جدسون (Adoniram Judson)، المرسل العظيم الذي عمل في بورما، كان والده واعظاً. ويوناثان إدواردز (Jonathan Edwards)، الراعي والمبشر والمربي الذي لمع نجمه في أمريكا الناشئة، تربّى أيضاً في بيت عرف بالتقوى.

  عندما ظهر الملاك لزكريا ليبشره بأن امرأته أليصابات، مع تقدمها في السن، ستلد ابناً، ترددت في كلماته أصداء الإنجيل. وقد تنبأ الملاك عن الخدمة التي سيقوم بها يوحنا، فقال في لوقا 1: 16، "يرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم". نفهم من هذا أننا لا نستطيع الاطمئنان إلى ن كل معترف بالمسيح حاصل على الخلاص، حتى لو ولد في عائلة مؤمنة أفرادها يؤمنون، أو تربى في كنيسة مؤمنين. فقد كانت مهمة وحنا أن يدعو أناساً تربوا في أمة مؤمنة لكي يرجعوا إلى الرب لإلههم. ويضيف الملاك في الآية17: "لكي يهيئ للرب شعباً مستعداً".

  أما أهمية رسالة الملاك وجديّة اهتمام زكريا بها، فأمران يعرفان من الأحداث التي وقعت بعد ذلك ببضعة أشهر. كان زكريا قد أضحى عاجزاً عن النطق منذ زيارة الملاك له، ولم تنحلّ عقدة لسانه إلا بعد ولادة ابنه يوحنا. ومع استعادته القدرة على النطق، امتلأ من الروح القدس. وكان قد ظل صامتاً طوال الأشهر التي كانت أليصابات تنتظر في أئنائها ولادة مولودها. وتفكيره طوال تلك المدة انفجر بالكلمات الأولى التي أشارت إلى زيارة الملاك واهتمامه بالإنجيل العتيد أن ينادى به. نطق زكريا قائلاً: "مبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد وصنع فداءً لشعبه، وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه" (لوقا1: 68 و 69). ثم عاد فأضاف: "وأنت أيها الصبي، (أي يوحنا ابنه)، نبي العلي تدع لأنك تتقدم ... لتعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المشرق من إعلاء، ليضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت لكي يهدي أقدامنا في طريق السلام (لوقا1: 76 – 79).

  حقاً كانت تلك رسالة نبوية تعود جذورها إلى زيارة الملاك الذي أعلن لزكريا قصد الله في يوحنا. لكن لنلاحظ بشكل خاص، أن الملاك جاء لا ليعلن ولادة يوحنا وحسب، بل ليوضح أيضاً أن يوحنا سيحيا حياته بوصفه سابق المسيح ومبلغ بني قومه الإسرائيليين معرفة الخلاص وغفران الخطايا.

الملاك والإنجيل في ولادة يسوع:

  إن الملاك الذي حمل البشارة إلى مريم العذراء وقال إنها ستصبح أماً ليسوع لم يكن ملاكاً عادياً، بل كان هو جبرائيل، أحد الملائكة الثلاثة الذين ذكرت أسماؤهم في الكتاب المقدس. وللملاك جبرائيل والبشارة التي جملها صلة وثيقة بالإنجيل. هذا واضح من كلمات البشارة التي نطق بها الملاك، ومن الكلام الذي نطقت به مريم نفسها وهي حبلى وتتطلع إلى اليوم الذي ستلد ابنها فيه. كان الملاك قد قال لمريم إن يسوع المولود منها هو ابن العلي، وإنه سيرث عرش داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية. كان هذا مختلفاً كل الاختلاف عن كل وعد جاء في الكتاب لأي شخص آخر. فلم يعط الله مثل هذا الوعد لإبراهيم أو داود أو سليمان، إذ إن تلك الوعود المميزة مرتبطة باسم يسوع دون سواه، وهي أيضاً مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالخلاص، سواء للفرد أو للأمة.

  بعد بشارة الملاك لمريم بأشهر ذهبت إلى أليصابات وهناك رنّمت تسبحتها التي تعتبر أجمل ما عرفته الآداب. يتضح من كلمات التسبحة أن العذراء أدركت ما قاله لها الملاك، وعرفت أنه يتضمن الخلاص وغفران الخطايا: "تبتهج روحي بالله مخلصي" (لوقا1: 47). نفهم من هذا أن مريم نفسها كانت تحتاج إلى مخلص، وقد وجدته. فإن الطفل الذي حلّ في أحشائها سيقدم نفسه يوماً كفّارة عنها وعن جميع الناس. وذلك الطفل نفسه هو الله القدير الذي تنازل ليعيش بينا ظاهراً في الجسد. وحسناً قالت عن الله إن "رحمته إلى جيل الأجيال للذين يتّقونه". ليس هذا إلا الإنجيل المجيد، البشارة بأن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه. هذه كانت الرسالة التي حملها جبرائيل إلى مريم. لم يكن الملاك نفسه قادراً أن يكرز بها، بل إنما شهد للإنجيل الذي كان سيكرز به يسوع المسيح وتلاميذه من بعده على مر العصور.

الملاك والإنجيل ويوسف:

  وجد يوسف، خطيب مريم، نفسه في حيرة. لقد اكتشف أن خطيبته حبلى. وكان يعرف أنه لم يكن هو الأب وأن خطيبته عذراء. أما مريم فكان يمكن أن تعتبر زانية حسب الشرع اليهودي، إلا إذا اقتنع خطيبها بأنها لم تجتمع برجل آخر، وأنّهل حبلى من الروح القدس. وها هو يوسف، ويعتبر الطرف البريء في هذه القضية، يفكّر جدياً بترك مريم حسبما تقتضيه تقاليد ذلك الزمن. ثم يقول الكتاب عن يوسف إنه "فيما هو متفكر في هذه الأمور" (متى1: 20) ظهر له ملاك في حلم وروى له قصة التجسد ودور مريم في ولادة المخلص. فاقتنع يوسف بما قاله له الملاك. لكن ما قاله هذا الملاك تضمن أكثر من مجرد تبرئة مريم من أية تهمة قد توجه إليها، إذ تضمّن تكليف يوسف رعاية مريم والطفل وحمايتهما.

  وأخبر الملاك يوسف بأمر يعتبر شهادة مؤيدة للإنجيل. صحيح أن الملاك لم يعمل كمبشّر، لكنه أصاب كبد الحقيقة عندما قال عن يسوع إنه "يخلص شعبه من خطاياهم" (متى1: 21). هذا هو الإنجيل بكل جماله وبساطته ونقاوته. فبحسب شهادة الملاك، من الممكن غفران الخطايا. وهناك من يقدر أن يغفر الخطايا، إنه الرب يسوع المسيح. وللمخلص شعب هو مهتم بهم وكفيل بأن يغفر لهم خطاياهم. في غمرة إعجابنا بالتجسد يجب ألا ننسى أن الملاك كان هنا يشهد للإنجيل. إن يسوع لم يكن فقط الإله المتجسد عندما ولد من مريم، بل قد جاء إلى العالم ليكون هو الفادي والمخلّص، وليصالح من يؤمن به من البشر مع الآب السماوي ضامناً للمؤمنين هبة الحياة الأبدية.

جبرائيل والإنجيل ودانيال:

  شهد الملاك جبرائيل بالإنجيل للنبي دانيال قبل زمن زكريا وأليصابات ومريم ويوسف ويوحنا المعمدان. وكان ذلك عندما ذكرت نبوة السبعين أسبوعاً. كان دانيال يصلي ويعترف بخطيته وخطية شعبه فظهر له جبرائيل. وهنا نلاحظ، مرة أخرى، أن جبرائيل لم يعظ بكلمة الخلاص، بل شهد لها. فقد قال إن فترة سبعين أسبوع سنين قد حتمت "لتكميل المعصية وتتميم الخطايا ولكفارة الإثم" (دانيال9: 24). ثم ذكر أن المسيح يقطع، وهو الحادث الذي سبق النبي أشعياء فذكره وصوّره بشكل مؤثر (أشعياء53).

  كان صعباً على اليهود أن يفهموا فكرة المسيح المتألم، بل كانوا يتخيلون المسيح آتياً بقوة ومجد ليضرب أعداءهم ويخضعهم لحكمه بقوة واقتدار. لكن جبرائيل أخبر دانيال بأن الخطية حقيقية ويجب أن يوفى دينها، وأن المسيح سيقوم بهذا الإيفاء عندما يقطع، أي أنه سيموت عن خطية العالم. عندئذ يكفّر عن المعصية أو الخطية التي كانت تفصلنا عن الله، وبالكفارة يعود الناس فيتصالحون معه. نرى في هذا أن جبرائيل لم يكن يكرز لكنه تنبأ وحسب. وما أجمل نبوات العهد القديم وهي تترابط معاً لدى إتمامها في العهد الجديد. وما أعظم إحسان الله وهو يستخدم ملائكته ليوضحوا لجميع الذين يظهرون لهم في كل العصور أن مهمتهم هي أن يشهدوا للإنجيل.

الملاك والإنجيل والرعاة:

  ألا يبدو أمراً مثيراً للتساؤل أن يعلن الله البشارة الأولى بولادة يسوع لأناس بسطاء بدلاً من أن يعلنها للأمراء والملوك؟ في الحادثة التي نحن بصدد تكلم الله بواسطة ملاكه المقدس إلى الرعاة الذين كانوا يسهرون على أغنامهم في الحقول. ورعاية الغنم عمل متواضع، فالذي يرعى الغنم لا يكون عادة متعلماً. لكن مريم أشارت في تسبحتها إلى حقيقة الأمر: "أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين، أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين" (لوقا1: 52و 53). ما أحسنها كلمة لجيلنا.

  ماذا احتوت رسالة الملاك للرعاة؟ أولاً، قال لهم ألا يخافوا. كان الناس دائماً يخافون عندما يرون ملاكاً. ولكن كثيراً ما يظهر الملائكة للناس حاملين رسالة التشجيع، إلا إذا كان ظهورهم بقصد الدينونة. ونعلم أن من يرى ملاكاً يشعر بالرهبة في قلبه، وتأخذه عظمة المنظر، وقد يحس قشعريرة تخترق عظامه. فلما رأى الرعاة الملاك راعهم منظره، فهدّأ الملاك روعهم ونقل إليهم رسالة ذات علاقة أبدية بالإنجيل. إذ قال: "ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب" (لوقا2: 10 و11). وفي كلمات الملاك هذه أبعاد لاهوتية عظيمة الأهمية وعديدة حتى ليستطيع الواعظ أن يبني عليها عظات عديدة. لكن نلاحظ مرة أخرى أن الملاك في رسالته لم يكرز بالإنجيل بل كان يشهد له – وهذا يبين مرة أخرى شدة اهتمام الملائكة بالإنجيل.

  ماذا قال الملاك؟ أولاً حمل بشارة سارة لا خبراً مزعجاً. كان الرعاة يعرفون الخبر المزعج – أن البشر جميعاً قد أخطؤوا ويسيرون في طريق الهلاك. وجاء الملاك ليقول إن الله قد فعل ما ينقذ الناس من الهلاك. وبيّن أن البشارة السارة ليست لأمة واحدة بل للعالم كله. فقد قال أشعياء النبي: "إله كل الأرض يدعى" (أشعياء54: 5). ويونان النبي تعلّم هذه الحقيقة نفسها عندما أرسل إلى مدينة نينوى ليدعو شعبها إلى التوبة. كما أن الملاك قال للرعاة إن الفرح العظيم سيكون لجميع الشعب.

  أعلنت البشارة السارة أن المخلص قد جاء. فالناس في حاجة لمن يعيدهم إلى الشركة مع الله، لأن دم العجول والتويوس لا يخلّص الإنسان بشكل دائم. بل إن دم المخلص هو الذي يستطيع ذلك. وكانت رسالة الملاك أن الله قد جاء، والفداء أصبح ممكناً، والرب افتقد شعبه بالخلاص. يا لها من شهادة للإنجيل. هذه الشهادة الرائعة تأكدت أكثر عندما ظهر مع الملاك "جمهور من الجند السماوي" وكانوا يسبحون الله مرنمين "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة". أية موسيقى أجمل من هذه؟ ومن يستطيع أن يكتب أروع من هذه الكلمات؟

الملائكة والإنجيل في سفر أعمال الرسل:

  ترد في سفر الأعمال حادثتان عجيبتان تصلحان "حالتين" للدرس، في كلتيهما ذكر للملائكة ومساعدتهم لإنسانين غير مؤمنين لكي يسمعا الإنجيل، فاستجاب كلاهما للدعوة وخلص. ويتبين هنا أيضاً اهتمام الملائكة بالإنجيل والخطوات التي اتخذوها لتعزيزه وتنفيذه.

  أولاً حالة الوزير الحبشي فقد كان يقرأ في سفر أشعياء مقاطع لم يفهمها، فاحتاج إلى من يفسرها له. وأطلع ملاك على حاجة الوزير. ومع أن الملاك لا يقدر أن يبشر فهو يستطيع أن يرسل إلى الحبشي من يتمكن من مساعدته.

  وهكذا نقرأ في سفر الأعمال أن ملاك الرب ظهر لفيلبس وقال له: "قم واذهب نحو الجنوب على الطريق المنحدرة من أورشليم إلى غزة التي هي بريّة" (أعمال8: 26). فعمل فيلبس بما قاله له الملاك. والتقى الوزير الحبشي وهو يستقل مركبته، فتحدّث إليه وفسّر ما يقوله أشعياء عن المسيح، فآمن الرجل وحصل على الخلاص. وبعد أن عمّد فيلبس ذلك الحبشي، خطف روح الرب فيلبس ونقله من هناك، ومضى الأثيوبي في طريقه فرحاً. لو كان الملاك لا يبالي بالإنجيل لما أرسل فيلبس ليكرز به لإنسان متعطش للحصول على الخلاص.

  والحالة الثانية هي ما جرى عندما اهتدى الضابط الروماني، كرنيليوس إلى الإيمان بالمسيح على يد بطرس. في هذه الحالة انعكس الوضع. فبالنسبة إلى الوزير الحبشي، ظهر الملاك لفيلبس ودعاه ليلتقي ذلك الوزير وبشّره. أما بالنسبة إلى كرنيليوس، فلم يظهر الملاك لبطرس الذي متى حضر يبشره بالإنجيل فيخلص. ألم يكن أسهل على الملاك أن يبشّر هو كرنيليوس بدل أن يستدعي بطرس ليقوم بذلك؟ وبطرس كما تبيّن، لم يكن يرغب في القيام بمثل تلك المهمة. كان يظن أن من الخطأ الذهاب إلى شخص من الأمم والنزول في بيته، ولو بقصد تبشيره بالخلاص. ولكن كرنيليوس أطاع أمر الملاك وأرسل في طلب بطرس. وبعدما أرى الله بطرس رؤيا أقنعه بأن لا مانع من الذهاب إلى الأمم وتبشيرهم، ذهب أخيراً وكلّم كرنيليوس ببشارة الخلاص، فآمن وخلص على نحو عجيب. وقد جرى هذا كله برعاية الملاك الذي كان مهتماً بالإنجيل وبخلاص ذلك الضابط الروماني.

  وفي أعمال الرسل حادثة ثالثة تختلف قليلاً عن الحادثتين المذكورتين آنفاً، لكنها لا تقل أهمية عنهما، أعني بها ما جرى لبولس وهو مسافر إلى روما بحراً. فقد انكسرت السفينة التي كانت تقلّه. وبينما كان الركاب الآخرون خائفين، ولا رجاء لهم في الوصول إلى البر سالمين، ظهر ملاك الرب لبولس في الليل. فقال بولس في صباح اليوم التالي للركاب الذين كانوا معه على ظهر السفينة إنهم جميعهم سينجون. وذكر في الوقت ذاته شيئاً يبين عظم اهتمام الملائكة بخلاص الناس ومساعدة المؤمنين لكي يشهدوا للذين لم يحصلوا بعد على الخلاص: "لا تخف يا بولس ينبغي لك أن تقف أمام قيصر" (أعمال27: 24). نرى هنا المبدأ ذاته. لم يكن الملاك قادراً على الشهادة للقيصر، لكن بولس كان يستطيع ذلك، والله رتّب بعنايته أن يذهب بولس إلى روما لتلك الغاية بالضبط. ربما لم يكن بولس في بداية سفرته يعرف ما هي مشيئة الرب، ولكنه بعدما رأى تلك الرؤيا تأكدت له تلك المشيئة. فقد شاء الله أن يسمع قيصر كلمة الإنجيل. والملاك بحمله الرسالة إلى بولس، أظهر اهتمامه العظيم بالإنجيل.

أصوات الملائكة:

  إذا تأملنا كلمات الملاك التي بها أعلن للرعاة ولادة المخلص نجد نغمة التبشير كامنة فيها: "أنه ولد لكم اليوم ... مخلّص هو المسيح الرب". إن مهمة تبشير العالم يتممها الرجال والنساء الذين يملأهم الروح القدس ويستخدمهم لتلك الغاية. ولكن حيثما نجد الإنجيل يعمل كل مرة بقوة على تغيير حياة البشر وتحويلهم عن الشر إلى البر، نستطيع أن نلاحظ أن للملائكة دوراً يقومون به في ذلك. إن في هذا لسراً لن نفهمه حق الفهم قبل أن ننتقل إلى السماء.

  من المعقول أن يسأل المرء: "كيف هي أصوات الملائكة؟" ثم "ماذا يقولون عندما يتكلمون؟" يبدو أم الملائكة ينطقون عادة بأوامر موجزة محكمة. وكثيراً ما يدعون إلى السرعة في إتمام ما يطلبون، وهذا واضح لأنهم إنما يبلغون الناس توجيهات الله. فكأنهم، كما يرى الدكتور (Miller)، يستخدمون دائماً فعل الأمر "أسرع". وقد استخدم الملائكة حرفياً كلمة "قم". قال الملاك لبطرس: "قم عاجلاً" (أعمال12: 7). وقال لجدعون: "اذهب بقوّتك هذه ..." وقال الملاك ليوسف: "قم وخذ الصبي وأمه ..." وقال لفيلبس: "قم وآذه ...".

على الأساس ذاته نجد أن كل خدمة تبشيرية تتّسم بالخطورة والسرعة في تقديم الإنجيل، البشارة بالحياة الأبدية. ليس لنا وقت زائد فنضيّعه، بل كل لحظة تمر لا نستطيع استرجاعها. فمتى سنحت لنا فرصة للشهادة فلنشهد ولا نؤجل، لأنه ليس من يضمن سنوح فرصة ثانية.

لديّ مثل على هذا من حادثة غرق السفينة "تيتانك" (Titanic) . كانت أعظم سفينة في زمنها إذ بلغ وزنها 46 ألف طن، وظن الناس أنها لا يمكن أن تغرق. لكنها، إذ كانت تبحر غرباً في المحيط الأطلسي بسرعة 22 عقدة، اصطدمت بجبل من الجليد العائم. غرقت بعد ذلك بقليل مع 1513 نفساً من ركابها، لأن صُدَر النجاة فيها كانت تكفي نصف عدد الركاب.ومع مرور أكثر من سبعين سنة على هذه الكارثة، مازال هولها ماثلاً في الأذهان، وقد أثار ذكراها المروّعة اكتشاف هيكلها الثاوي في قعر المحيط، وذلك منذ عهد قريب. ولكن الله ينتصر حتى في الكوارث. وإليك برهان ذلك:

كان من ركاب تلك السفينة جان هاربر (John Harper)، وكان على موعد ليعظ في كنيسة مودي في شيكاغو. حاول أن يبقى عائماً فوق سطح الماء بعد غرق السفينة، وفي أثناء ذلك حمله الموج قريباً من شاب كان يمسك بلوح خشب فوق الماء. سأل هاربر الشاب: "هل أنت مخلّص؟" أجاب الشاب: "لا". وجاءت موجة فصلت بين الاثنين. بعد بضع دقائق عاد الموج فقرّب هاربر من الشاب وأصبح على مسافة قريبة منه، فعاد وسأله: "هل تبت وحصلت على السلام مع الله؟" فأجاب الشاب: "لم أتب بعد". ثم جاءت موجة كبيرة غطّت جان هاربر فلم يظهر له أثر بعد ذلك، إلا أن كلماته "هل أنت مخلّص؟" ظلّت تدوّي في أذني ذلك الشاب.

نجا بعض السابحين إذ جاءت سفينة والتقطتهم، وغرق كثيرون. وبعد أسبوعين من تلك الفاجعة وقف شاب في اجتماع لمؤسسة "المسعى المسيحي" (Christian Endeavor) في نيويورك وشهد أنه آمن بالمسيح وسلّم حياته له، ثم ختم كلامه بالقول "أنا آخر شخص اهتدى إلى الإيمان بالمسيح على يد جان هاربر".

  • عدد الزيارات: 6127