Skip to main content

البروتستانتية الوجودية

لا شيء يخدعنا كالكلمة، فإن لفظة (Protest) التي منها بروتستانت والبروتستانتية تعني في يومنا هذا الاحتجاج والاعتراض وإبداء الشكوى. ولكن عندما ظهرت هذه اللفظة وشاعت في انكلترا في عصر الملكة اليزابث كانت تعني شيئاً آخر يختلف عن معناها المألوف. فان الجزء الأول منها Pro حرف جر ويعني مع، أو لصالح كذا وكذا كقولنا -Arab Pro أي أنه يقف مع العرب أو ينحاز إليهم. وأما الجزء الثاني test فجذر يعني الشهادة إذن معنى Pro-test الشهادة والإعلان أي أن يجازف المرء أن يكون شاهداً معلناً الإيمان القويم.

إذن، ومن هذه الناحية، تكون البروتستانتية مغامرة وتحدياً وجودياً. فإن الرجل البروتستانتي لم يكن رجلاً يسلم، بموجب العرف والعادة، بالأفكار الدينية والتقاليد الدينية التي كانت تنحدر إليه، بل كان يتحمل مسؤولية إعلانه إيمانه الخاص الذي يؤمن به. ولم تكن مسيحيته مجموعة تعاليم تقليدية موضوعية، بل كانت حياة وثقة جريئة بالله. فإن البروتستانتية تفرض على كل امرئ أن يدرس الكتب المقدسة ليجد أخيراً الله بواسطة يسوع المسيح، وليحتل مكانه في المجتمع المؤمن. ولقد كانت حركة الإصلاح البروتستانتية وجودية في طبيعتها بحيث يصبح القول بان "البروتستانتية الوجودية" مرادفاً لقولنا "البروتستانتية بذاتها".

ولكن على مر الزمن كانت البروتستانتية تميل إلى أن تصبح سنناً مطروقاً ممهداً، وأصبحت لدى الكثيرين ديناً تقليدياً مصطلحاً عليه، أو نوعاً من الدين الجاهز الذي لم يمكن على المرء سوى قبوله أو الأخذ به، أي أنه كان ديناً يتطلب قدراً من الشجاعة والإقدام أقل مما يحتاج إليها المرء في إقدامه على أمور بسيطة كاللعب والعبث. وكانت الحركات العديدة التي تستهدف القضاء على الشخصية الإنسانية (كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الثالث من هذا الكتاب )، قد أصابت مقتلاً من الكنائس والمجتمعات على السواء إلى أن ظهرت ثورة الوجودية.

في أثناء القرن التاسع عشر، القرن الذي تميز بالاستقرار والثقة عند الناس، لم يشعر معظم الناس بوجود شيء اسمه الفلسفة الوجودية. أما القرن العشرين، القرن الذي جرت فيه حروب مفجعة، ووقعت فيه مظالم مؤلمة فقد كان قرناً هز أركان الحضارة من أسسها. فلم يكن أمام الناس سوى طريقين فإما الثبات في وسط الأحداث التاريخية العنيفة (كما يفعل عدد كبير من الناس) وإما الأخذ الشديد بالفلسفة الوجودية التي كان الناس يتكلمون عنها.

وأقل ما يقال أن في هذه الفترة أعادت الوجودية المسيحية إلى البروتستانتية شيئاً من الحيوية الوجودية التي يتميز بها الكتاب المقدس والتي تميزت بها حركة الإصلاح. وفي أحيان أخرى أدخلت الوجودية إلى الكنيسة أسلوب الثورة العصرية المميز في التعبير وفي المفردات. وهكذا إذا راح أحدنا يتفحص البروتستانتية عن كثب في عصرنا هذا فانه سيعثر على كثير من أثر الوجودية وفلسفتها سواء أكان ذلك في الوعظ أم في المنشورات التي تتعهدها المدارس الكنسية، أم في المواضيع الدينية الروحية، أم في أسلوب التعبير عن الإيمان المسيحي لغير المسيحيين.

مثال على ذلك أسلوب الكنيسة في مخاطبة الرجل غير المسيحي، فإنها اليوم، أقل من ذي قبل، تميل إلى المنطق في الإقناع حيث كانت تقول: "إليك، أيها الرجل، الأسباب الموضوعية التي من شأنها أن تجعلك مؤمن بالله". بل أصبحت تميل إلى القول :"إن جماعة المؤمنين تدعوك للاشتراك معهم في ثقتهم بالله التي تتحدى كل شك وريب، وفي تكريس ذواتهم لخدمته." ومن غير المرجح كثيراً أن تعلن على الملأ قائلة: "في مسيحيتنا نظام أخلاقي سالم واعتقاد كريم لا عهد للناس به من قبل" .بل أصبح من المرجح أن نقول :"هذه بشارة مفرحة لكم أيها الناس، بشارة فيها شفاء لكم من همومكم وأحزانكم وأمراضكم".

ويظهر هذا التغيير في لهجة الكنيسة البروتستانتية وأسلوبها، في اللاهوت أفضل مما يظهر في نواح أخرى من حياة الكنيسة. ولست أشك في أن أبعد اللاهوتيين البروتستانتيين أثرا في القرن العشرين، هو، كارل بارت. فإن الناس الذين يتفقون معه في آرائه اللاهوتية، أو الذين يختلفون معه في الرأي، مجمعون على أنه الرجل الذي أثار الشرارة الأولى في التفكير البروتستانتي الأكثر حيوية بعد حركة الإصلاح.

إن التحول اللاهوتي الذي طرأ على تفكير بارت لم يحدث وهو بعد في الجامعة بل في المجتمع الكنسي الذي عايشه فيما بعد. عندما كان قسيساً يخدم في أثناء الحرب العالمية الأولى قرية سويسرية تدعى سافنفيل لم يكن له أن يسترسل بعيداً في الخيال ليسمع قصف المدفع إلى الشمال. كان يشعر أن التعاميم المبتذلة، والأخلاقية العامة التي كانت تصدر عن الكنيسة، كلها أمور فارغة لا معنى لها في مثل هذه الظروف القاسية، ظروف الحرب. كان يصغي إلى ما يقوله له العهد الجديد بشأن رسالة الخلاص. وهكذا، وفي سنة 1918 نشر كتاباً تعليقاً على رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، فكان الكتاب الذي هز أركان العالم اللاهوتي. لم يكن كتاباً ينطوي على أسلوب البحث العلمي الأدبي الصارم، ولا كتاباً يحوي على الأدلة والبراهين الموضوعية على صحة المسيحية وعقيدتها، بل كان إعلاناً وجودياً في نزعته يعلن للناس قداسة الله، وهبة المسيح في الفداء. والتبرير بواسطة الإيمان.

وبعد ثلاث سنوات راح بارت يخبرنا في الطبعة الثانية المنقحة لهذا الكتاب عن الأثر العميق الذي خلفه في نفسه كل من كير كغارد ودوستيفسكي. هنا نرى وقع الوجودية الخاص على رجل كان يفكر تفكيراً وجودياً. غير أن بارت أعلن انسحابه من الوجودية فيما بعد، لأنه كان يرغب في ألا تكون رسالة الكتاب المقدس رهناً بفلسفة خاصة، فضلاً عن هذا فإن بارت كان يخشى انغماس كير كغارد في الانطواء على الذات، وفي تركيز الاهتمام على القنوط واليأس، وعوضاً عن هذا كان يؤثر التوكيد على الناحية الإيجابية في الإنجيل مفسراً إياها حسب التقليد الذي درج عليه المصلحون البروتستانت. (ومن الإنصاف أن نذكر أن كير كغارد انتقد الوجودية مشيراً إلى هذه الناحية بالذات).

وبالرغم من أن بارت أنكر على الوجودية فلسفتها هذه فإنه في كتاباته حافظ على الطابع الوجودي. في الوقت ذاته كان هنالك لاهوتيين آخرون يحاولون توطيد نواح معينة خاصة من الوجودية، وأشهرهم، على وجه الترجيح، كان رودلف بولتمان (Rudolf Bultman) الذي كان يقترح إعادة النظر في تفسير العهد الجديد تفسيراً جذرياً شاملاً يقوم على فلسفة هيديجر. وليس لنا، إذا أردنا أن نأمن العثار، أن نتكهن عن نتائج هذه المحاولات، فإنها قد تكون محاولات ناجحة كما أنها قد تكون مدعاة إلى الخيبة فتزول. إنما الشيء الواضح هو أن اللاهوت البروتستانتي قد استعاد نشاطه وحيويته وأنه لن يتنازل في القريب العاجل عن الطابع الوجودي الذي يتميز به العهد الجديد كما تميزت به حركة الإصلاح الإنجيلي.

أما في أمريكا فان الرجلين اللذين أثرا تأثيراً ظاهراً في اللاهوت المسيحي المعاصر، هما، بإجماع الرأي، رينهولت نيبور وبول تلش. واللاهوت الذي يأخذ به نيبور كاللاهوت الذي يأخذ به بارت نشأ في المجتمع الكنسي لا على مقاعد الدرس والتفكير. فإن أثر الحياة الصناعية دفع بنيبور إلى التركيز في التفكير بالكتاب المقدس وبالقديس أوغسطين. وفي سياق تأملاته التي انتهت به إلى وضع نظريته الشهيرة عن الإنسان، وقع تحت تأثير كير كغارد الذي كان قد اكتشف كتابه. وأقواله في الإنجيل موجهة إلى المجتمع العصري الذي يصطرع في مشكلات السياسية والاقتصاد والنزاع الدولي، وموجهة كذلك إلى الرجل العصري الذي يقف في وسط الاصطراع الفكري وقفة الرجل الذاهل المتحير.

أما فكر تلش فيرتكز من بعض النواحي على أسس أكاديمية، لأنه تتلمذ على أيدي عدد من عظماء الفلاسفة بمن فيهم من الوجوديين. ولكن عمله كقسيس ملتحق بالجيش، وصراعه ضد هتلر، ونزوحه إلى بلد غريب وشغفه بالتحليل النفساني، جميع هذه العوامل طبعت فلسفته بطابع عملي خاص. فإنه قد أصبح الرجل القوي الذي يتكلم عن الفراغ الذي يشعر به القرن العشرون وعن التيه في مهامه.

  • عدد الزيارات: 4078