المسيح يُقيم لعازر من الموت
"وَكَانَ إِنْسَانٌ مَرِيضاً وَهُوَ لِعَازَرُ، مِنْ بَيْتِ عَنْيَا مِنْ قَرْيَةِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا أُخْتِهَا. وَكَانَتْ مَرْيَمُ، الَّتِي كَانَ لِعَازَرُ أَخُوهَا مَرِيضاً، هِيَ الَّتِي دَهَنَتِ الرَّبَّ بِطِيبٍ، وَمَسَحَتْ رِجْلَيْهِ بِشَعْرِهَا. فَأَرْسَلَتِ الْأُخْتَانِ إِلَيْهِ قَائِلَتَيْنِ: "يَا سَيِّدُ، هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ". فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ، قَالَ: "هذَا الْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لِأَجْلِ مَجْدِ اللّهِ، لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللّهِ بِهِ". وَكَانَ يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ. فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمَيْنِ" (يوحنا 11:1-6).
جاء إلى المسيح رسول من بيت عنيا، من عند مرثا ومريم، ليبلغه أن لعازر أخاهم الذي يحبه مريض. لم تكن محبة أخيهما للمسيح هي الدافع على هذا الطلب، بل محبة المسيح لأخيهما، وهذه على الدوام لغة التقوى الحقيقية التي تعترف أن أساس السرور والرجاء والخلاص ليس في محبة الخاطئ للمخلِّص، بل في محبة المخلِّص للخاطئ. كانت مرثا ومريم تعلمان الخطر الذي يهدّد حياة المسيح وحياة تابعيه إن اقترب من أورشليم بعد سفره منها، فلم تدعواه ليأتي إليهما. ولربما تذكَّرا أنه كان أحياناً يشفي من بعيد، فيكفي أن يعرف خبر مرض أخيهما ليأمر من حيث هو لأخيهما بالشفاء.
كان جواب المسيح على هذه الرسالة وجيزاً، دون تقديم عذر لعدم ذهابه مع الرسول. قال: "هذا المرض ليس للموت، بل لأجل الله، ليتمجد ابن الله به".
وعاد الرسول إلى بيت عنيا ليجد أن لعازر قد مات. ماذا كانت أفكار ذلك الرسول؟ لعله قال إن المسيح كاذب لأنه قال إن هذا المرض ليس للموت؟
تُرى ماذا قالت مريم ومرثا عن تأخير المسيح عنهما؟ هل أصابهما الشك في محبته لهما؟
وفي اليوم الثالث طالب المسيح تلاميذه أن يستعدوا للذهاب إلى اليهودية، فعارضوه أولاً بقولهم: "يا معلم، الآن كان اليهود يطلبون أن يرجموك، وتذهب أيضاً إلى هناك؟". احتاروا في هذا الأمر الجديد، لأنه لو كان ذهابه ضرورياً لشفاء لعازر، فلماذا لم يذهب حالاً؟ وإن كان غير ضروري فلماذا يخاطر بنفسه وبهم؟
واستخدم المسيح اعتراض التلاميذ ليعلّمهم أن لا خوف على الذي يسير بإرشاد إلهي، لأن هذا هو النور، وعدمه الظلام. وقال لهم إنه يقصد بالذهاب إلى اليهودية أن يوقظ لعازر من النوم. ومن تسمية لعازر "حبيبنا" عرفنا لعازر شاباً ممتازاً في صفاته، يليق أن يكون صديقاً خصوصياً للمسيح وتلاميذه.
فكان جواب التلاميذ أن نوم لعازر علامة جيدة تدلّ على أنه يشرف على الشفاء. فلما رأى المسيح أنهم لم يفهموا كلامه أوضح الأمر بقوله: "لعازر مات". لقد أطلق المسيح على الموت "نوماً" لأن موت المؤمن وقتي، تعقبه يقظة القيامة والسعادة الأبدية.
أظهر المسيح لتلاميذه أن عدم وجوده في بيت عنيا ليشفي لعازر كان خيراً لهم، لأنه سيقوي إيمانهم تقوية عظيمة. لقد امتنع عن تقديم بركة الشفاء ليهب بركة أعظم جداً هي إقامة المريض بعد موته. وكثيراً ما يتعامل الله على هذا المنوال مع خائفيه. ويظهر أن التلاميذ تردَّدوا في أمر الطاعة، لكن توما تحمَّس أخيراً وقال: "لنذهب نحن أيضاً لكي نموت معه". فأظهر شدة حبه للمسيح واستعداده لأن يموت لأجله. هكذا بدأ سفر المسيح وتلاميذه إلى بيت عنيا.
"فَلَمَّا أَتَى يَسُوعُ وَجَدَ أَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ فِي الْقَبْرِ. وَكَانَتْ بَيْتُ عَنْيَا قَرِيبَةً مِنْ أُورُشَلِيمَ نَحْوَ خَمْسَ عَشْرَةَ غَلْوَةً. وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ قَدْ جَاءُوا إِلَى مَرْثَا وَمَرْيَمَ لِيُعَزُّوهُمَا عَنْ أَخِيهِمَا. فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرْثَا أَنَّ يَسُوعَ آتٍ لَاقَتْهُ، وَأَمَّا مَرْيَمُ فَاسْتَمَرَّتْ جَالِسَةً فِي الْبَيْتِ. فَقَالَتْ مَرْثَا لِيَسُوعَ: "يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ ههُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي. لكِنِّي الْآنَ أَيْضاً أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَطْلُبُ مِنَ اللّهِ يُعْطِيكَ اللّهُ إِيَّاهُ". قَالَ لَهَا يَسُوعُ: "سَيَقُومُ أَخُوكِ". قَالَتْ لَهُ مَرْثَا: "أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي الْقِيَامَةِ، فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ". قَالَ لَهَا يَسُوعُ: "أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الْأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهذَا؟" قَالَتْ لَهُ: "نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ، الْآتِي إِلَى الْعَالَمِ" (يوحنا 11:17-27).
قبل أن يصل المسيح وتلاميذه بيت عنيا سمعت مرثا بقدومهم، فأسرعت لملاقاة المسيح، تاركة أختها مريم تقوم بواجب المعزين الجالسين في البيت. ونستنتج من هذا أن بيت لعازر كان بيت غنى وسخاء.
وما أن وصلت مرثا للمسيح حتى قالت له: "يا سيد، لو كنت ههنا لم يمت أخي. لكني الآن أيضاً أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه". كان إيمانها بالمسيح قوياً، لكن غير كامل، لأنه لما قال لها: "سيقوم أخوك" لم تتوقع أنه سيُقيمه فوراً، بل أنه سيقوم مع سائر المؤمنين في اليوم الأخير. فأكرم المسيح إيمانها رغم ضعفه كما يفعل على الدوام، وذلك بإعلانٍ فائق إذ قال لها: "أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا. وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد".
لكن من غير الله ينسب إلى نفسه صدقاً أن الموت والحياة يتوقّفان على الإيمان به، وأنه هو الحياة وهو القيامة؟ ومن يستطيع أن يصف أو يدرك مقدار التعزية التي حصلت للمؤمنين من هذا الكلام منذ قاله المسيح إلى هذا اليوم؟ وستحصل التعزية نفسها في المستقبل إلى أن يجيء بمجيئه الثاني العتيد المجيد، ويقيم بصوته جميع الذين في القبور. لما سأل مرثا: "أتؤمنين بهذا؟" أجابت: "نعم يا سيد، أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم". فكان كلامها الأول زهر الإيمان، وهذا الثاني ثمره الذي نضج سريعاً.
"وَلَمَّا قَالَتْ هذَا مَضَتْ وَدَعَتْ مَرْيَمَ أُخْتَهَا سِرّاً، قَائِلَةً: "الْمُعَلِّمُ قَدْ حَضَرَ، وَهُوَ يَدْعُوكِ". أَمَّا تِلْكَ فَلَمَّا سَمِعَتْ قَامَتْ سَرِيعاً وَجَاءَتْ إِلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ جَاءَ إِلَى الْقَرْيَةِ، بَلْ كَانَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي لَاقَتْهُ فِيهِ مَرْثَا. ثُمَّ إِنَّ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهَا فِي الْبَيْتِ يُعَزُّونَهَا، لَمَّا رَأَوْا مَرْيَمَ قَامَتْ عَاجِلاً وَخَرَجَتْ، تَبِعُوهَا قَائِلِينَ: "إِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى الْقَبْرِ لِتَبْكِيَ هُنَاكَ". فَمَرْيَمُ لَمَّا أَتَتْ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَسُوعُ وَرَأَتْهُ، خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً لَهُ: "يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ ههُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي". فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ تَبْكِي، وَالْيَهُودُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ، انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ، وَقَالَ: "أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟" قَالُوا لَهُ: "يَا سَيِّدُ، تَعَالَ وَانْظُرْ". بَكَى يَسُوعُ. فَقَالَ الْيَهُودُ: "انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهُ". وَقَالَ بَعْضٌ مِنْهُمْ: "أَلَمْ يَقْدِرْ هذَا الَّذِي فَتَحَ عَيْنَيِ الْأَعْمَى أَنْ يَجْعَلَ هذَا أَيْضاً لَا يَمُوتُ؟" (يوحنا 11:28-37).
عند ذلك طلب المسيح من مرثا أن يرى أختها أيضاً. وانتظر حيث كان، بينما أسرعت مرثا إلى البيت وأخبرت مريم سراً بطلب المسيح. فلما قامت حالاً وخرجت، تبعها المعزون لأنهم ظنوا أنها تحتاج إلى من يلطِّف حزنها ويوقف بكاءها عند قبر أخيها. فكان لعملهم هذا فائدة عظمى، إذ رأى خصوم المسيح على غير قصدٍ منهم أعجب معجزاته كافة. وبعد أن رأوا إقامة لعازر من قبره يستحيل عليهم الشك أو الإنكار.
نتخيل هذا الموكب الوقور سائراً بسرعة من البيت إلى المقبرة تتقدمه الأختان الحزينتان. ثم ارتباك هؤلاء اليهود، لما فوجئوا برؤية المسيح الذي يبغضونه ويطلبون موته، ورأوا المرأة التي يتبعونها تسجد عند قدميه، وتصرخ كما صرخت أختها قبلها: "يا سيد، لو كنت ههنا لم يمت أخي". هو كلامٌ كانتا بلا شك تردّدانه كثيراً في الأربعة الأيام الأخيرة. ليس في كلامهما تلويم للمسيح على تأخيره في المجيء، لأن أخاهما مات يوم ذهاب رسولهما، فلم تقولا: "لو جئت" بل "لو كنت ههنا". تكلمت مريم ثم انفجرت ومعها الجميع بكاءً وعويلاً.
تحركت عواطف المسيح الرقيقة "وانزعج بالروح واضطرب". والمعنى الأصلي للكلمة اليونانية "انزعج" هو "اغتاظ". اغتاظ المسيح وهو يرى أمامه عدوَّه إبليس في هذه الساعة، كما كان يفعل كثيراً، لأنه يعلم أن إبليس هو السبب الأعظم للشقاء والبكاء والموت في العالم. ثم سأل عن مكان الدفن. فأجابوه: "يا سيد، تعال وانظر" فمشى معهم ودموعه تتساقط بهدوء حتى قال اليهود: "انظروا كيف كان يحبه".
ربما نتعجب كيف بكى مع أنه كان ذاهباً ليقيمه من قبره ويردَّه إلى بيته. فلماذا لم يكن مبتهجاً؟
لا يبتهج وأحباؤه مكتئبين، فهو يقدّم للعالم قدوة المواساة اللطيفة الصادقة، فبكى مع الباكين كما فرح مع الفرحين، بكى لأنه رأى في هؤلاء الباكين مثالاً لبكاء البشر جميعاً. بكى لشعوره مع البشر في مصائبهم التي لا تُحصى. فتعجب الرؤساء الحاضرون كيف لم يستعمل هذا الباكي قدرته المعهودة في شفاء شخص يحبه بهذا المقدار. وكان قد شفى أمام أعينهم من مدة قصيرة إنساناً غريباً في أورشليم ولد أعمى. فكيف لم يشْفِ حبيبه لعازر ويمنع عنه الموت؟
"فَانْزَعَجَ يَسُوعُ أَيْضاً فِي نَفْسِهِ وَجَاءَ إِلَى الْقَبْرِ، وَكَانَ مَغَارَةً وَقَدْ وُضِعَ عَلَيْهِ حَجَرٌ. قَالَ يَسُوعُ: "ارْفَعُوا الْحَجَرَ". قَالَتْ لَهُ مَرْثَا، أُخْتُ الْمَيْتِ: "يَا سَيِّدُ، قَدْ أَنْتَنَ لِأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ". قَالَ لَهَا يَسُوعُ: "أَلَمْ أَقُلْ لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ اللّهِ؟". فَرَفَعُوا الْحَجَرَ حَيْثُ كَانَ الْمَيْتُ مَوْضُوعاً، وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ، وَقَالَ: "أَيُّهَا الْآبُ، أَشْكُرُكَ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي. وَلكِنْ لِأَجْلِ هذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ قُلْتُ، لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي". وَلَمَّا قَالَ هذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: "لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجاً" فَخَرَجَ الْمَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلَاهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ، وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: "حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ" (يوحنا 11:38-44).
لما أتوا إلى القبر تجدد انفعال المسيح ثانية بانزعاج الغيظ، لأنه زاد اقتراباً عند القبر من خصمه الروحي إبليس، ومن المصارعة القوية معه لخطف فريسة الموت من قبضته، لأنه يقابله الآن عند القبر الذي هو أمنع معاقله.
كان على باب المدفن حجر كبير يجب رفعه. وبما أن الواقفين يقدرون أن يرفعوه لم يرفعه المسيح بمعجزة. وفي هذا نموذج للخلاص. لا يجوز أن يتوقف الخاطئ عن العمل المطلوب منه، بحجة أنه ينتظر العمل الإلهي العجيب، بل كما يشترط المسيح لإقامة الميت أن يدحرج الناس الحجر، يشترط على الخاطئ أن يتوب ويؤمن قبل أن يخلصه من خطيته.
أما مرثا صاحبة الكلمة في أمر الفقيد، فاعترضت على رفع الحجر عن باب القبر بدافع الشك والاحترام، لأنها لم تشأ أن ترى جسد أخيها بعد أن بدأ فيه الفساد والفناء، وقالت: "يا سيد قد أنتن، لأن له أربعة ايام". فقابلها المسيح بتوبيخ لطيف في جوابه: "ألم أقُل لك إن آمنت ترين مجد الله؟".
ولما فتحوا باب القبر كان عمل المسيح الأول تحويل أفكار الحاضرين إلى أبيه الجالس على عرش الكون. الذي هو مرتبط معه ارتباطاً خوّله حقَّ القول في وقت آخر: "أَنَا وَالْآبُ وَاحِدٌ" (يوحنا 10:30) لقد أراد أن يعرِّف كل الحاضرين أنه لا يعمل عملاً مستقلاً عن الآب، ليُظهر اشتراك الآب معه في كل ما يعمله، فرفع عينيه إلى فوق وقال: "أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي". ثم لكي لا نتصور أنه يصلي كأحد الأنبياء الذين ينالون أحياناً ما يطلبونه، وأحياناً لا ينالونه، قال في صلاته: "أنا علمت أنك في كل حين تسمع لي". ولكي لا يظنوا أن صلاته كانت لاحتياج فيه، كأنه عاجز في ذاته، وقال: "ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت، ليؤمنوا أنك أرسلتني" والقاعدة لكل من يريد أن يخاطب موتى الذنوب والخطايا أن يخاطب الله أولاً في الصلاة لأجلهم، كما فعل المسيح في هذه الساعة.
ثم عند نهاية صلاته صرخ بصوت عظيم قائلاً: "لعازر، هلم خارجاً".
وقد أشعر الصوت العظيم الحاضرين بعظمة العمل وصعوبته، وذكّرهم أن النفس غير موجودة في هذا القبر، وأنه يناديها عن بُعد من وراء القبر. فعند هذا الصراخ السلطاني خرج الميت من قبره لابساً أكفانه التي قيَّدت حركته. فأمرهم المسيح: "حلُّوه ودعوه يذهب". فصحَّت الآن النبوَّة التي نطق بها: "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الْآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الْأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللّهِ، وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ" (يوحنا 5:25).
"فَكَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ جَاءُوا إِلَى مَرْيَمَ، وَنَظَرُوا مَا فَعَلَ يَسُوعُ، آمَنُوا بِهِ. وَأَمَّا قَوْمٌ مِنْهُمْ فَمَضَوْا إِلَى الْفَرِّيسِيِّينَ وَقَالُوا لَهُمْ عَمَّا فَعَلَ يَسُوعُ. فَجَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ مَجْمَعاً وَقَالُوا: "مَاذَا نَصْنَعُ؟ فَإِنَّ هذَا الْإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً. إِنْ تَرَكْنَاهُ هكَذَا يُؤْمِنُ الْجَمِيعُ بِهِ، فَيَأْتِي الرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا". فَقَالَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَيَافَا، كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ: "أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئاً، وَلَا تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلَا تَهْلِكَ الْأُمَّةُ كُلُّهَا". وَلَمْ يَقُلْ هذَا مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ إِذْ كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ عَنِ الْأُمَّةِ فَقَطْ، بَلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللّهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ. فَمِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوهُ" (يوحنا 11:45-52).
كانت هذه المعجزة برهان صحة إرسالية المسيح السماوية وصدق تعليمه، وأقنعت كل من عنده قابلية ليقتنع بالحق. ومع ذلك لم يؤمن أغلب الموجودين بل ازدادوا قساوة وبغضاً، بتأثير رؤيتهم هذا البرهان القاطع. وقصدوا أن يكذّبوا قول المسيح إنه القيامة ومانح الحياة، بقضائهم عليه بالإعدام. فعقدوا جلسة خصوصية لمجمعهم الكبير للنظر في الظروف الجديدة التي أوجدتها إقامة لعازر من قبره، فاعترفوا أنه كان يعمل آيات كثيرة. فإن تركوه، يؤمن به الجميع بتأثير شخصه وتعليمه وآياته، فتحدث فتنة سياسية ضد الحكم الروماني، تحرِّك غضب الحكام وتجعلهم يُهلكون الأمة أو يبدّدونها بالسبي. وكانت هذه الجلسة توفيقاً عظيماً للدعوة المسيحية، لأنها أتت بشهادة جلية من خصوم المسيح.
في غضون الجلسة تكلم رئيسها قيافا (رئيس الكهنة) كلاماً نبوياً، أنطقه به الروح الإلهي على غير فهم منه. قال: "أنتم لستم تعرفون شيئاً، ولا تفكرون أنه خيرٌ لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها". قصد قيافا في كلامه نصيحة أن يقتلوا المسيح لئلا تهلك الأمة بسببه، وقصد الروح القدس الذي تكلم بواسطته أن يبيّن أن موت المسيح كان كفارة عن الأمة، وليس عن الأمة فقط بل "ليجمع أبناء الله المتفرِّقين إلى واحد".
كان قيافا، وأكثر رؤساء الكهنة، من طائفة الصدوقيين الذين ينكرون القيامة وعالم الأرواح، لذلك كانت إقامة لعازر من الموت ضربة مؤلمة عليهم، لأنها أعلنت للجميع فساد تعليمهم، الأمر الذي جعلهم يتّحدون مع خصومهم الفريسيين ليُهلكوا المسيح. ولا غرابة أن هذه القيامة مهدت الطريق كثيراً لتصديق قيامة المسيح الذي أقام لعازر، والتي حدثت بعد شهرين. ولا سيما أن المسيح لم يرقد في قبره المدة التي رقدها لعازر في قبره.
لم يصبر مجمع السنهدريم إلى جلسة أخرى، بل أصدر قراراً رسمياً بقتل المسيح، وهو أمر حاولوه مراراً من قبل لكن على غير جدوى، ولكنهم أخذوا يسعون من الآن أن ينفذوه بموجب مستند رسمي مصدَّق من مجمع السنهدريم، الذي لا يُستأنَف حكمه.
- عدد الزيارات: 17426