Skip to main content

الفصل السادس: لم يكن موت المسيح مجرد موت شهيد (1)

الكثيرون ينكرون بأن موت السيد المسيح له قيمة كفّارية وعندما نجابه هذا الموضوع لابد لنا من اختيار أحد الرأيين: فإن لم يكن المسيح قد مات للتكفير عن الخطايا فإنه يكون قد مات كمجرد شهيد! ولكن إذا رجعنا إلى النصوص الكتابية التي تتكلم عن موت السيد المسيح فإننا نجدها تصف موت السيد له المجد كأكثر بكثير من موت شهيد عن الحق. يمكننا مثلاً مقابلة شعور المسيح تجاه الموت الذي كان ينتظره بشعور بولس الرسول. قال هذا الأخير قُبيل استشهاده في سبيل الإنجيل: "فإني الآن أنسكب سكيباً ووقت انحلالي قد حضر. قد جاهدت الجهاد الحسن, أكملت السعي, حفظتُ الإيمان, وأخيراً قد وُضع لي اكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً" (الرسالة الثانية إلى تيموثاوس 4: 6 – 8).

أما السيد المسيح فإنه كان يواجه الآلام من كل جانب. قال له المجد: "الآن نفسي قد اضطربت وماذا أقول؟ أيها الآب نجّني من هذه الساعة!" (الإنجيل حسب يوحنا 12: 27). ويصف لنا الطبيب لوقا حالة المسيح في بستان الجثسيماني قائلاً: "وإذ كان في جهادٍ كان يًصلي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض." (الإنجيل حسب لوقا 22: 44) وعندما كان المسيح معلّقاً على الصليب صرخ قائلاً: "إلهي, إلهي, لماذا تركتني؟" (الإنجيل حسب متى 27: 46).

وكتب أحد علماء اللاهوت المؤمنين قائلاً عن موضوعنا هذا: "لو كان موت السيد المسيح مجرد موت شهيد فإنه إذ ذاك لم يكن قد أعطانا مثالاً كاملاً لكيفية الاستشهاد. فكثيرون من الشهداء أظهروا شجاعة أعظم في وجه الموت وكثيرون كانوا قادرين بأن يقولوا والنار تلتهمهم بأنها كانت فراشاً من الورد! وسجلات الرسل البشيرين المُلهمين عن آلام السيد المسيح الروحية في بستان الجثسيماني تُظهر بأن آلام المسيح لم تكن مجرد آلام جسدية قاساها وهو معلّق على الصليب. لابد لنا إذن ونحن نتأمل في هذا الموضوع الهام من أن نقبل التفسير الكتابي لآلام السيد المسيح, أي أنه له المجد كان يتألم نيابياً وكفّارياً ولذلك كان موقفه من هذه الآلام موقفاً فريداً لا مثيل له في تاريخ البشرية بأسرها.

وعندما كان السيد المسيح معلّقاً على الصليب كان – في طبيعته الجسدية البشرية – الذبيحة الحقيقية للتكفير عن خطية شعبه, ولذلك كان من الضروري له أن يتألم وحده. لم يكن من الممكن لله أن يكون له أية علاقة بالخطية, إذ أنها في نظره فظيعة لدرجة لا تقاس. هذا وقد علّمنا الله هذا الدرس في طقوس العهد القديم إذ أن ذبيحة الخطية كانت تُحرق خارج المحلّة. وكان مقدّم الذبيحة ينظر إليها كأمر مكروه ونجس لأنها كانت تُمثّل خطيته وترمُز إليها. وهكذا عندما ننظر إلى المخلّص المسيح نرى أنه حمل في جسده عبء الخطية التام. وقد اختبر على الصليب انفصالاً لحظياً مؤقتاً عن حضرة اله الآب وعن الشركة المقدسة معه, وبذلك دفع الثمن التام للفداء بدون مساعدة أو معونة من أي كان. فقد كان السيد المسيح يشعر ليس بشدة آلام المسامير التي اخترقت جسده المعذب فحسب بل أيضاً بفظاعة انقطاعه عن شركة المودّة والمحبة التي كان يتمتع بها دائماً مع الله الآب.

ونظراً لأن المسيح يسوع كان يتمتع بطبيعة بشرية حقيقية كاملة فإنه خضع لحدود هذه الطبيعة وكان من الممكن له اختبار شعور الانفصال عن الله الآب وأن يتحمل الألم والجوع. ولكن أثناء حادثة الصليب حمل السيد المسيح حمل الخطية بشكل لم يتحمله أحد قط ولم يكن من الممكن لأي إنسان أن يتحمله. ولذلك فإن اختباره كان فوق طاقة اختبار أي شهيد! والفرق بين آلام السيد المسيح وآلام الشهداء المسيحيين هو أنهم كانوا يشعرون بوجود الله معهم عندما كانوا يلفظون أنفاسهم الأخيرة, بينما احتمل المسيح آلام الموت بمفرده عندما حجب الله وجهه عنه! ولو كان موت السيد له المجد مجرد موت شهيد نضطر إلى القول بأن أقدس رجل عاش قد خذله الله في أشد ساعة من ساعات حياته وإبان محنته القصوى. ولكن موت المسيح لم يكن موت شهيد بل موت حمل الله الذي جاء للتكفير عن خطايانا.

فعلينا إذن أن نتذكر بأن الموت هو في أساسه انفصال روح الإنسان عن الله, والموت الجسدي – أي انفصال الجسد عن الروح – هو شيء ثانوي ونسبي بالنسبة للفاجعة العظمى: أي انفصال الإنسان عن الله. ولم يختبر السيد المسيح آلام نظير أولئك الذين يختبرون آلام الجحيم, ولكنه اختبر الموت حسب معناه الأولي, أي الانفصال عن الله وبذلك دفع الجزاء عن أولئك الذين كان يُمثّلهم – أي عن سائر الذين يؤمنون به عبر العصور والأجيال.

وهنا علينا أن نتذكر دائماً عندما نتكلم عن موت المسيح وآلامه بأن طبيعته البشرية – لا طبيعته الإلهية – هي التي كانت خاضعة للتألم والموت, كما أن طبيعته البشرية فقط كانت معرّضة للتجربة والجوع والعطش والنوم وغير ذلك. ومع أننا لا نفهم تماماً العلاقة الكائنة بين طبيعتيه فهناك بعض الشبه لما يتم ضمن شخصياتنا التي فيها الطبيعة الروحية والطبيعة الجسدية المتحدتان في شخصية بشرية واحدة. فعلى أساس اختباراتنا نعل أننا ما نختبره في أية طبيعة من الطبيعتين فإننا نختبره كأشخاص لكل شخصيته الواحدة أي أن كل ما أختبره أنا في طبيعتّي (أي الروحية والجسدية) إنما أختبره كشخص واحد.

وهكذا نقول بأن السيد المسيح الذي تألم ومات عنّا على الصليب قام بعمل فدائي قيمته غير محدودة وكافية تماماً لتُخلّص سائر الذين يتّكلون عليه. تمجّد اسمه.

  • عدد الزيارات: 4850