Skip to main content

مريم تدهن قدمي يسوع بالطيب

(يوحنا 21: 1 – 8)

لقد انقضى وقت قليل منذ إقامة لعازر ونجد يسوع مرة أخرى في بيت عنيا. وكثيرون من الشهود صاروا يشهدون عن هذه المعجزة الفذة التي صنعت، ومن بين هؤلاء الشهود البعض ممن كانوا يرفضون يسوع (عدد 46) مما أحدث هياجاً في أورشليم ودعت السلطات اليهودية (رؤساء الكهنة والفريسيين) إلى مجمع للنظر في ماذا يفعلون. وجدير بالقول أنه لم تكن هناك محاولة لإنكار قيامة لعازر من الأموات فهذه حقيقة صارت معترفة بها ضمناً، فقالوا ماذا نصنع؟ فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة. إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا. والله كان يعلم من وراء كل الخطط المدروسة فأخذ قيافا كما أخذ قبلاً بلعام لكي يتنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة. "ومن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه". واعتزل يسوع مع تلاميذه بعيداً عن اليهود وعداوتهم إذ أن ساعته لم تكن قد جاءت بعد فمكث في مدينة تدعى أفرايم. ولكن الوقت كان يقترب لتقديم الفصح الحقيقي للذبح إذ كان الخروف على وشك أن يقتل، وعلينا أن نتذكر دائماً بأنه لا أحد بمقدوره أن يأخذ حياه منه ولكنه وضع نفسه بإرادته الكاملة. وقبل الفصح بستة أيام جاء إلى بيت عنيا "حيث كان لعازر الميت الذي أقامه من الأموات" – وهناك في بيت سمعان الأبرص، كما يقول كل من متى ومرقس، "فصنعوا له عشاء"، وها لا يحدد يوحنا أين كان العشاء مما لاشك في أنه صمت في هذه النقطة بغرض أنه يسترع انتباهنا إلى تلك الحقيقة بأن مرثا ومريم ولعازر جميعهم كانوا حاضرين وهم يتمتعون بثمر تدريباتهم الإلهية التي اجتازوها للتعليم بالارتباط مع لعازر وفي مرضه موته وقيامته. وكم هو مبارك للنفس عندما يكون غرض تعاملات الله معها تتحقق وتصل إلى نهايتها.

وما يسجله روح الله: "وكانت مرثا تخدم" إنها كانت تخدم قبلاً ولكنه كانت مرتبكة ومضطربة في  خدمتها، إذ كانت تخدم بطريقتها الخاصة بما جعلها تشعر بالضغط والثقيل، أما الآن فقلبها مستريح وتستمتع بحرية نفسها الكاملة وهو الامتياز السعيد لانتظارها أن تخدم سيدها. أما مريم فكانت إناء مختلفاً فقد شغلت لمكان الذي يناسبها وهو المكان الذي تجد نفسها مؤهلة له ويمكنها أن تملأه أيضاً لأجل مسرة الرب. "وأما لعازر فكان أحد المتكئين معه". لقد اجتاز الكون وأقيم، مع أنه بقي على حالته الأولى بواسطة ذاك الذي كان وسيبقى هو القيامة والحياة وقد أجلس مع الرب للتمتع بالعشاء معه. وهكذا بنفس الطريقة نحن إذ أحيانا معاً بالمسيح وأقامنا معاً وأجلسنا معاً في السماويات في المسيح يسوع. أما لعازر هنا فهو بالحري صورة لأولئك الذين سيشرب معهم الرب في يوم قادم الخمر الجديد في ملكوت أبيه. وقبل أن نتجاوز هذه النقطة يجب ملاحظة أن العشاء صنع لأجل يسوع إذ أرادوا أن يبهجوا قلبه، كما صنع له لاوي قبلاً ضيافة كبيرة في بيته بطريقة مختلفة ن هذه إذ اجتمع حوله جمهور كبير من العشارين والخطأة – أولئك الذين دعاهم الرب للتوبة.

كل هذا مجرد مقدمة لموضوعنا الخاص وهو – مريم تدهن قدمي الرب الطيب – إن أهمية هذا الأمر وتقدير قيمة الله له نراه في هذه الحقيقة بأن متى ومرقس كليهما يسجلانها بتفاصيل تختلف حسب غرض كل منهما عن التفاصيل التي يوردها يوحنا. فإذا كانت هذه النفوس الثلاثة المكرسة للرب والتي ارتبطت به بروابط المحبة الإلهية التي لا تنفك والتي أوجدها الرب نفسه في قلوبهم في زمان رفضه فإنهم يمثلون، وهم فعلاً كذلك، البقية التي أعدها الله لتقبل ابنه المحبوب (انظر ص 1: 12 و 13)، أما مريم فبإيمانها الذي ربطها بالمسيح نفسه كالغرض الوحيد الذي استحوذ عليها فإنه تجاوز هذا المركز – مركز البقية اليهودية – لتصبح نموذجاً لكل المسيحيين عبر جميع الأزمنة. وكذلك مثل مريم المجدلية التي كانت قد ماتت عن العالم والعالم مات لها والمسيح وحده هو الذي ملأ قلبها. إن محبتها الأولى قد وجدت مثالها الكامل ولذلك قبلت من شفتي الرب مديحاً فائقاً وعجيباً.لم يكن هناك مقدمة لعملها ولكن إذ يسجل "فصنعوا له عشاء" نجد على الفور التي تلحقها "فأخذت مريم مَنَاً من طيب ناردين خالص كثير الثمن الخ........" والحقيقة أن هذه مقدمة للإصحاحات التالية لها. والنفوس لا تصل إلى هذا الارتفاع الروحي في لحظة، ولا مريم كانت هكذا، ولكن تقواها كان نتيجة جلوسها عند قدمي يسوع وسماعها لكلامه واختبارها المبارك المرتبط بموت أخيها. وفي تدريبها العميق وجدت في حزنها مشاركة الرب لها ويده القوية الممسكة بها لتسندها بل وتجتذبها ناحيته. لقد وصلت إليه (ونحن نتكلم هنا عن معنى حالتها) وعبرت عن الجانب الآخر من موته. إذ عرفته كالقيامة والحياة ومجده في تلك الدائرة أي مجد شخصه كابن الله الذي فاض في نفسها. وبمعنى آخر صار المسيح كل شيء لها وفضلاً عن ذلك فقد جلبت السرور إلى قلب المسيح.

وبهذه الطريقة فقد يمكننا أن نقدر العمل الذي سنتأمل فيه الآن، وشيئاً واحداً فبي البداية نريد أن نضيفه، وهو ليس العمل فحسب ولكن أيضاً الشعور الذي قاد إلى العمل والذي يتضمن التعليم المبارك. وكما قال واحد بحق "إنه الحس المفعم بالعواطف والذي شعر بأن الموت يلقي بظله على ذاك الذي كان هو الحياة – وكما شعر يسوع كذلك – وهي الحالة الوحيدة التي وجد فيها يسوع المشاركة على الأرض". هنا نجد سر دهن مريم لقدمي يسوع. إنه قلب مفعم بالمحبة الذي اخترق وتطابق مع هذا المركز، بل ومع مشاعر يسوع والتي وجدت امتلاكها الثمين في هذا الغرض. وبالتأكيد فإنها المحبة فقط التي عرفت المحبة، وهي المحبة فقط التي يمكنها أن تخترق أسرار القلب ذاك المحب. وقد دعينا لكي ننتبه إلى الحقيقة بأن الطيب الناردين كان كثير الثمن. وهذا يعلمنا بالتأكيد أن تقدير المحبة لا يجد شيئاً غالياً لذاك الذي امتلك قلب مريم. ولقد عبرت أيضاً كما يبدو لنا بأمرين في هذا العمل أولاً إحساسها باستحقاق المسيح وثانياً تعبدها. هذان الأمران مرتبطان معاً في (رؤيا 5)، ونجدهما دائماً في القلوب التي تتمتع بمحبة المسيح.

كانت مريم على الأرض والمسيح كان سيقدم كخروف الفصح الحقيقي ولكن قلب مريم كانت تجيش فيه عواطف متحركة فليس من مكان على الأرض أو في السماء سيعلو على من جلس على المائدة مع خاصته في المساء في بيت عنيا. ولهذا كانت مريم التي عبرت عن هذا الشعور إذ دهنت قدمي يسوع ومسحت قدميه بشعرها. وإذا فعلت ذلك كانت بكل نفسها تنحي له عرفاناً وتعبداً. ترى هل كان الحق كله المختص بمجد شخصه قد تسرب إليها؟ لا نعرف هذا على وجه اليقين، ولكنه غمر العواطف إذ انقادت إلى موته القريب وبها اتسع إدراكها لذاك الذي يجلس على المائدة أمام عينيها. كانت فعلاً ساجدة حقيقية، وقلبها فائض لتسكب إجلال تعبدها بما يتفق مع هذه الفرصة، إذ يجب أن نؤمن بأنها كانت منقادة يروح الله. وإذ كانت مغمورة بمنظر نعمته وجماله فقد ابتلع قلبها في التكريس له وفي الشركة مع أفكاره تجاه رفضه وموته. لقد وجدت مخرجاً لعواطفها التي ملأت قلبها في كسر قارورة الطيب الكثيرة الثمن (مرقس 14) وسكبت على رأسه كما يقول مرقس وعند قدميه كما سجل يوحنا. وبهذا العمل أعلنت أن المسيح هو كل شيء لها وأنه هو المستحق لأغلى وأثمن شي يمكن لقلب مفدي أن يقدمه.

وتأتي هذه الاعتبارات كإعداد لهذه الجملة "فامتلأ البيت من رائحة الطيب". لقد حدث هذا فعلاً ولكن يمكن وراء هذه الحقيقة التعليم بأنه ليس من طيب لقلب الله ولقلوب القديسين هندما نكون الشركة معه مثلما نُغمر في التكريس للمسيح. فعطره ينشر خارجاً مثل نور الصباح الباكر حتى يصل إلى جميع من في البيت حيث مسكن الله في الروح. ومن ذا الذي بحق لا يشعر بذلك العطر – ولو بقدر ضئيل – عندما يجتمع القديسون حول الرب؟ وقد يخرج التسبيح من نفس هائمة بالرب فيصبح وكأنه بخور تشكرات صاعدة إلى الآب، فيملأ في ذات الوقت كل قلب في هذا الاجتماع بها العطر المبارك. ولذلك تصدق هذه الحقيقة دائماً وفي كل عصر فطالما وجدت "مريم" التي تدهن قدمي الرب بطيب خالص كثير الثمن فإن البيت يمتلئ من رائحة الطيب.

إن خميرة صغيرة تخمر العجين كله، وهذا ما يخبرنا به يوحنا عن يهوذا الذي وجد خطأ في ما عملته مريم. قال مرقس أنهم "قوم" ومتى قال أنهم تلاميذ الرب الذين اغتاظوا قائلين "لماذا هذا الإتلاف؟" ويتغلغل يوحنا إلى أصل الداء وهو قلب يهوذا الطماع والمحب للمال مع أن قوله الذي أثر على بقية التلاميذ يحمل فقي ظاهره عطفاً واهتماماً بالفقراء. ويا لها من مضادة! فرائحة الطيب الذي سكبته مريم ملأ البيت ومن الجانب الآخر فكر يهوذا الشرير اكتسح في تأثيره قلوب كل التلاميذ. من جهة نرى التشجيع ومن جهة أخرى نرى اللوم.وعلى كل حال فإن خبث يهوذا استحضر لنا تقدير الرب لما فعلته مريم. أما يهوذا فلكي ما يصل إلى غاياته مع أنه قد فشل لبس قناع محبة الناس مدعياً بأن تكون مشغولية القلب الأولى لتلاميذ الرب في الاهتمام بالفقراء. هذا ببساطة هو الرياء كما يخبرنا يوحنا "قال هذا ليس لأنه كان يبالي بالفقراء بل لأنه كان سارقاً. وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يلقى فيه". قيا له من تحذير خطير! إن ميل الشر يظهر حتى يسود علينا تماماً ويقود إلى ارتكاب أعظم الخطايا كما في حالة يهوذا. إن الطمع أو محبة المال التي هي أصل كل الشرور قادت يهوذا في الانحدار من خطوة إلى خطوة حتى أعمت نفسه وانتهى بها إلى تلك الخطية الرهيبة عندما أسلم سيده بثلاثين من الفضة، وسقط بتعديه ليذهب إلى مكانه.

رأينا في عدد 6 نزع الغطاء عن قلب يهوذا لكي نرى الأعمال الداخلية الشريرة. وفي العدد التالي يجيب الرب على سؤال يهوذا كما في عدد 5 "اتركوها إنها ليوم تكفيني قد حفظته لأن الفقراء معكم في كل حين وأما أنا فلست معكم في كل حين". ولذلك فإن الرب يتدخل بلطفه لحمايتها من التعبير معلناً لكل من له أذن للسمع أنها متعلمة ولديها معرفة من الله لسر موته وهي إذ تشاركه في أفكاره من جهة هذا الأمر فإنها توحد نفسها بهذا الموت. ولذلك وجدتها لحظة ممتازة فأمسكت بهذه الفرصة لأنها لن تكرر دهن جده المقدس للتكفين.لسنا نعلم إن كانت قد أدركت كل هذه المعاني ولكن الرب ينسب هذه المعاني للعمل الذي قامته به. فهي لن تجد الرب على هذه الصورة دائماً. ولذلك بشغف شديد أرادت أن تسكب وتقدم عواطفها العميقة عند قدميه وهو جالس على المائدة قبيل ستة أيام من الفصح. ثم يضيف الرب شيئاً آخر يسجله متى ومرقس "الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضاً بما فعلته هذه تذكاراً لها". ونتعلم من هذا كم كان مستحباً لقلب الرب ما فعلته مريم وأي مجازاة تفوق الوصف يمنحها لها. فطالما بقي الإنجيل فإن عمل مريم يظل محتفي به ومدخراً في قلوب شعب الله. وبهذا المعنى أيضاً يبقى بيت الله متعطراً برائحة الطيب.

ثم يتوقف بعد ذلك أي ذكر لمريم. ويلفت انتباهنا هذه الحقيقة وغالباً ما نلاحظها، فهي لم تظهر عند القبر مثل مريم المجدلية وبقية النسوة. وإذا كان التفسير صحيحاً ونحن لا نشك في ذلك أنها كما قادها الروح لتكون في شيء من الشركة بموته فقد تعلمت أيضاً عدم جدوى أن تطلب الحي من بين الأموات. إذ أشرق في نفسها رجاء في ربها المحبوب من خلال موته. رجاء ما وراء الموت إذ يفصلها من الأرض ويربط قلبها به في هذا المشهد الجديد والمكان الذي سيدخله.

فلنتذكر أنه كان من امتيازها أن تجلس عند قدميه تسمع كلامه وأن تقبل مشاركته لها ومؤازرته وعونه لها في حادثة لعازر، إنها رأت مجد الله في إقامته لعازر كما رأت يسوع في مجده كابن الله. ولذلك كان من الصعب عليها أن تظن أنه يبقى ممسوكاً بالموت أو أ، قدوس الله يرى فساداً ولذلك لم تكذب إيمانها بزيارة القبر.

إنه بالتأكيد شيء حسن أن نتأمل في هذه الصفة الجميلة – تلك الصفة التي شكلها التعليم الإلهي والقوة لإنعاش قلب المسيح في مشهد رفضه وأيضاً لتشجيعنا في ارتياد ذات الطريق من العواطف المعمورة والتكريس الكامل. ونحن لا نرى نموذجاً أكثر جمالاً لتلك الروحانية المرتفعة في كل الكتاب أكثر من مريم التي من بيت عنيا أخت مرثا ولعازر.

  • عدد الزيارات: 9436