Skip to main content

أسئلة أساسيَّة

الصفحة 1 من 5

ما إن وصلت حنة ذات يوم من المدرسة إلى البيت حتى اندفعت تقول:

أين العدل والإنصاف؟

أجل، فالأمر لا يخلو من الظلم، إذ كان الغش مستشرياً كل حين. فما أكثر ما يتناقل التلاميذ وريقات كُتبت عليها الإجابات الصحيحة. وغالباً ما يتهامسون في أثناء الامتحانات وينسخون واجباتهم المدرسية بعضهم عن بعض. والبنات اللواتي اعتدن فعل ذلك كن ينجحن نجاحاً باهراً.

ولكن لم تنزل الصواعق من السماء، ولم يُبْدِ المعلمون والمعلمات أي اعتراض. وقد بدا أن التلاميذ الغشاشين يفعلون فعلتهم دائماً ويفرون من العقاب.

كان جيداً أن يُقال لحنة إن عدم الأمانة لابد يوماً أن يطبق فخه على أولئك الغشاشين. غير أن الحال ليست دائماً على هذا المنوال. فمن الناس من يتمكنون من شق طريقهم في الحياة بالكذب والغش والخداع، والفخ لا يطبق عليهم البتة. بل إننا نجدهم، على عكس ما نتوقع، ينجحون ويزدهرون. فالأمر ليس حسناً ولا عادلاً.

وماذا نقول في ما يعانيه بعض الناس من آلام تقطع نياط القلب؟ فمنذ عهدٍ قريب علمت بولادة طفلٍ كنت أعرف والديه منذ ولادتهما، بل إنني سهرت ليلةً على راحة أحدهما إذ كان أبواه خارج المنزل. كان الزوجان ينتظران وليدهما بفارغ الصبر، ولكن الطفل ولد مسخاً مشوهاً،وما لبث أن مات بعد أشهر. ولكن لماذا؟ لماذا حدث هذا؟

ثم إن هنالك ذلك الظلم الفادح الظاهر في الغنى الفاحش إلى جنب الفقر المدقع.

فبينما كنت أقوم بكتابة هذا الكتاب، علمت أن خزانةً (دولاباً) بيعت في لندن، وقد استنتجت أنها كانت تحفةً نادرة إذ بيعت بأكثر من تسع مئة ألف جنيه إسترليني، أي بما يقارب المليون. وقد كتبت الصحف أن الشاري غنم غنيمة. ولكن... مليون جنيه تقريباً ثمناً لصندوقٍ خشبيٍّ ضخم مزخرف! أما كان يمكن أن نشتري بهذا المبلغ ثلاثة ملايين وجبة طعام لأُناسٍ عضهم الجوع؟ حقاً إن شراء خزانة بمبلغ خياليّ في عالمٍ يخور فيه كثيرون جوعاً لأمرٌ عديم المعنى.

عند حدٍّ ما في حياتنا، يجد معظمنا الحياة مربكةً فعلاً، إذ يبدو أنها عديمة المعنى. حقاً، إنه لأمرٌ غير حسن. هذه العبارة الأخيرة نقولها عندما نواجه اختبارات كثيرة محيرة، من أمراضٍ وحوادث وميتات ومجاعات وحروب وزلازل...

كثيرون منا يتجاوبون إزاء كوارث كهذه بسخطٍ يائس، وتصدر من أعماقهم عبارات تدل على استيائهم من انعدام معنى الحياة كما يبدو.

من هنا يمكن النظر إلى الدين باعتباره محاولةً لإضفاء معنًى على الحياة. وفي الواقع أن البوذية تعبِّر بكلمة تقنية عن انعدام معنى الحياة في ذاتها، والكلمة هي "دُكْها"، وهي واحدة من ثلاث خصائص تتميز بها الحياة:

- أنيكّا، أي غير دائمة

- دُكْها، عديمة المعنى

- أناتّا، غير شخصية

من ثم تمضي البوذية فتقدم تفسيراً يبين الأسباب التي تجعل الحياة بهذه الخصائص والكيفية التي نستطيع بها أن نضفي على الحياة معناها.

وبينما تختلف أديان العالم حول طبيعة الحياة والطريقة التي بها قد نرجو إضفاء معنى عليها، فإنَّها تتفق جميعاً على أمرٍ واحد، وهو أن الحياة ينبغي أن يكون لها معنى. وبالحقيقة أن مهمة أيّ دين يُمكن أن تُعتبر أنَّها إيجاد المعنى لما هو عديم المعنى، أعني أنها مهمة تفسير "الدُكها"، أي انعدام معنى الحياة عموماً.

ولما كنت سأتحدث كثيراً عن الدين، فعليَّ أن أقدّم تعريفاً ما. وفيما تعريفات الدين المقترحة تعدّ بالعشرات، اخترتُ استعمال التعريف المشار إليه أعلاه.

إنّ ما ترجوه أديان العالم هو التمكُّن من تفسير "الدُكها" (انعدام المعنى عموماً في الحياة)، وذلك بالتوصُّل إلى أجوبة شافية عن الأسئلة الأساسية المتعلقة بالحياة.

هنالك بالطبع طرائق شتّى لتعريف "الدِّين". وليس التعريف الذي اعتمدته بالتعريف الوحيد، كما أنَّه لا ينطوي في خليفتّه على أية سلطة باتّة. لكن باستعمالنا لهذا التعريف نستطيع أن نضع تحت عنوان "الدين" جميع الأنظمة الدينية، أي المسيحية والإسلام واليهودية (الديانات التوحيدية الثلاث) والهندوسية والبوذية والتاوية والكونفوشيوسية والديانة الأفريقية التقليدية والسيخية، وغيرها من الأديان القائلة بآلهةٍ متعددة، أو المذاهب اللا أدرية.

هذا، وتختلف الماركسية قليلاً عن سواها من الأنظمة لكونها في الأساس إلحاديَّة. غير أنها، بمقتضى تعريفي، ما تزال ديناً، لأنها تقدِّم بالفعل أجوبةً عن الأسئلة الأساسية، ولأنَّها تتوقَّع من معتنقيها أن يؤمنوا بتلك الأجوبة. إنها تصوِّر انهيار نظام الطبقات في العالم كلّيّاً وانتصار البروليتاريا (طبقة العمال والكادحين). والماركسية مقترنة بنظرية التطوّر، مما يحدِّد جوابها عن السؤال"من أنا؟". وهي لا تعتقد أنَّ الحياة عديمة المعنى، بل ترى أنَّ للحياة ناموساً قائماً في عملية التفاعل بين النظام الحالي ونقيضه لأجل إنتاج مجتمع جديد. فهنالك الفرضية المطروحة (الطريحة) وما يعاكسها (النقيضة) وما ينتج من تفاعلهما (الجميعة) وهذه كلُّها تؤدّي إلى مجتمع صالحٍ وعادل.. ذلك هو الجواب عن السؤال "إلى أين نحن ذاهبون؟" بحسبما تذهب إليه الماركسيَّة.

وفي هذا ما يعيننا على إيضاح السبب الذي يجعل الماركسية عموماً في نزاعٍ مع الديانات، ولا سيمّا المسيحية. فالماركسية بحدّ ذاتها دين يطمح لأن يحلّ محل دينٍ آخر. وكما يصحُّ في اللغات استبدالُ فعلٍ بفعل لأنهما ينتميان إلى صنفٍ واحدٍ من الكلام، ففي الإمكان (وعند الماركسيين: من الواجب) أن تحلّ الماركسية محلّ المسيحية وسواها من الأديان، لكونها هي أيضاً ديناً من الأديان، والمفترض عند معتنقيها أنها أفضل الأديان.

أما وقد حددنا "الدين" وسردنا الأسئلة الأساسية، نستطيع الآن أن نسوق هذه الملاحظة: إنَّ أمانة البحث ودقّته لا تسمحان لنل بالقول إنَّ جميع الأديان سواسيةٌ فعلاً وإنّها تقول في جوهرها قولاً واحداً؟ وقد كتب جان كاين (John Kane) أن "البحث التفضيلي الدقيق في تاريخ الديانات قد أثبت أن التوكيدات السطحيَّة لوحدة الأديان هي بلا أساس صحيح".

وإنها لحقيقةٌ ثابتة أنَّ أديان العالم لا تختلف فقط حول القضايا الثانوية، بل أيضاً حول القضايا الجوهريّة ذلك أنّها تختلف في أجوبتها عن الأسئلة الأساسية.

لا يتّسع كتابٌ بهذا الحجم لمعالجة كلِّ من الأسئلة الأساسية بالتفصيل. ولكن حتى إلقاءُ نظرة سطحيَّة على الأسئلة وعلى الأجوبة التي تقدِّمها أديان العالم من شأنها أن تبيِّن لنا أن ما أشار إليه جان كاين هو أمرٌ غنيٌّ عن البيان.

من أنا؟
الصفحة
  • عدد الزيارات: 13770