الفصل الأول: ما بعد الفتوحات
الوضع العام في ظل الإسلام
سيطر المسلمين على مجمل البلدان التي احتلوها، وجعلوا للمسيحيين حق الأمان في ذمة المسلمين فسُمّيوا أهل الذمة. وكان العرب المسلمون إذ "سكروا بخمرة السيادة والنصر، بارتقائهم من رعاية الإبل إلى سياسة الممالك"، يترفعون عن أصحاب البلاد المحتلة ويعدون أنفسهم فوق أهل الذمة جبلة وخلقة وفضلاً. فاعتبر العربي نفسه سيداً على غير العربي، وأنه قد خلق للسيادة بينما خلق أهل الذمة لخدمته في المهن والصناعات.[158]
لم تكن معاملة الحكام المسلمين للمسيحيين واحدة بل تفاوتت على مر العصور من تفاهم وانفتاح إلى ذروة البطش. وقد اتّسم حكم بعض الخلفاء بالتشدد مع المسيحيين، وتواجد فقهاء اشترطوا عليهم عدم التشبه بالمسلمين في ثيابهم وهيئتهم. تكون شراك نعالهم مثنيّة، ولا يحذو حذو المسلمين وتمنع نساؤهم من ركوب الرحائل، وفرض عليهم تطويل شعورهم ولبس الزنّار، ومنعوا من قرع أجراس الكنائس ورفع الصوت عند الصلاة.
في تلك الأثناء هُدمت كنائس وحُولت أخرى إلى جوامع، وفي خلافة المتوكل، إذا كان للنصارى كنيسة واسعة ولو قديمة وُجب أن يؤخذ جانب منها ويُجعل مسجداً. وقعت المضايقة بالمسيحيين منذ عهد الوليد بن عبد الملك، الذي حوّل كنيسة يوحنا المعمدان إلى المسجد الأموي في قلب دمشق. كان أبو عبيدة بن الجراح قد أخذ قبلا نصفها الشرقي وصيره مسجدا وسمح للمسيحيين الاحتفاظ بالقسم الغربي منها. إلا أن الوليد أخذ القسم الخاص بالمسيحيين قسرا وضمه إلى المسجد.
توالت الاعتداءات على الكنائس ودور العبادة، وظل المسلمون ينتزعون الكنائس من أصحابها بعد فتح سورية بنحو نصف قرن. فكانوا "يقيمون الصلاة في كنائس حولوها إلى مساجد... لم يقسموا الكنائس بالذات بينهم وبين النصارى، بل اكتفوا بقسمة الباحة المقدسة. فكان المصلون من أبناء دمشق يدخلون من باب واحد في السور، ثم يتحول النصارى إلى اليسار، وينعطف المسلمون إلى اليمين. وعندما احتل المسـلمون مدينة حماه، حولوا الكنيسة التي نعتها أبو الفداء أحد المؤرخين الأهليين بالكبرى، إلى الجامع الأكبر...كذلك المسجد الأكبر في حمص ومسجد حلب، فقد كانا من معابد النصارى".[159]
خضع المسيحيون للنظام الإسلامي، الذي أقر قيودا تحد سكان البلاد في القومية والدين. فأصبح الشرع الإسلامي يهيمن على أمور الدولة، وحظر على المسيحيين الانخراط في الجيش، أو التسلق إلى وظائف قيادية في الدولة. ولمّا لم يكن بالإمكان إرغام المسيحيين على الخضوع لأحكام الإسلام، تم الاعتراف رسميا بكيان الكنيسة ومنحت لوناً من الاستقلال الذاتي في إدارة أحوالها الشخصية، بموجب قوانينها وتحت إدارة بطاركتها. فكان المسيحيون في مناطق كثيرة يتقاضون أمام محاكم كنسية خاصة بهم.
-----------------------------
158- تاريخ التمدن الإسلامي، جرجي زيدان، ج 4 ص 70 – 71
159 - تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين، فيليب حتي، ج 2، ص 128 – 129
بعد الفتح أقام مدبرو الكنائس في القسطنطينية إلى أن سمح الأمويّون للبطاركة أن يقيموا على كراسيهم في القدس والإسكندريّة وأنطاكية. وما أن هدأت عاصفة الفتوحات حتى تابع المسيحيّون على العموم ممارسة طقوسهم، واحتفظوا بكنائسهم وأعيادهم وعملت الكنائس على تثبيت من تبقى من المؤمنين. وكان المسيحيون يمارسون العبادة تارة بحرية، وتارة أخرى تحت الاضطهاد الصريح. وإن كانوا غالبا قد تمكنوا من إقامة الشعائر الدينية، إلا أنهم منعوا من التبشير وحُظر عليهم بناء كنائس جديدة. بيد أن هذه القوانين لم تكن دوما تطبق في تمامها خلال فترة الخلافة الأموية والراشدة.
تعريب البلدان وشعوبها
في الوقت الذي كانت فيه المسيحية العربية تسير نحو الاضمحلال صب العرب جهودهم في تعريب سكان البلاد الأصليين. وبعد أن كانت مصر قبطية والشام آرامية والعراق آشورية أصبحت هذه البلاد بتوالي الأجيال عربية النزعة، وزالت لغاتها الأصلية مع مرور الزمن.
سبقت بلاد الشام والعراق مصر إلى العروبة، ومع نهاية القرن العاشر ميلادي أخذت الثقافة القبطية تتلاشى تدريجيا وأصبحت الكنيسة تتمثل اللغة العربية. فصار علمائها يعبرون بلغة عربية فصيحة عن العقيدة المسيحية وتعاليمها. لم تعرف مصر هجرة عربية كبيرة إليها، إلى أن دخلتها جيوش الإسلام لتختم مصيرها وتعّربها مع بلاد الشام والعراق. فخضع الأقباط تحت الحكم العربي بين تعايش مريح أحياناً، واضطهادات مريرة أحياناً أخرى، تبعا لميول و أهواء الحكام. لكن الخيارات بقت هي ذاتها لا تتغير، إما اعتناق الإسلام أو الاستسلام للجزية والسيف.
لم يأتي التعريب فقط نتيجة للفتح والأسلمة، فهنالك بلدان دخلها الإسلام ودخل أهلها بجملتهم فيه ولم يستعربوا. لكن هنالك عوامل أخرى ساهمت في التعريب، أهمها:
أ - هجرة العرب المسلمين من شبه الجزيرة وتوطنهم الدائم في مصر والشام والعراق. يقول جرجي زيدان: "لم ينتشر العرب بالفتح فقط، ولكنهم هاجروا أيضا بأهلهم وخيامهم وأنعامهم التماسا لسعة العيش في البلاد العامرة من مملكتهم الجديدة. فقد جلت بطون خزاعة إلى مصر والشام في صدر الإسلام، لأن أرضهم أجذبت فمشوا يطلبون الغيث والمرعى".[160]
ب - الولادة والتكاثر. لقد شكل المسيحيون الغالبية الساحقة من سكان مصر وبلاد الشام والعراق حتى نهاية القرن الثاني عشر، ثم تكاثر المسلمون وفاقوهم عددا. "فالمسلمون لمّا رأوا قلة عددهم، وما وقع في أيديهم من السبايا الروميات والفارسيات والقبطيات، استكثروا من أمهات الأولاد، فضلا عن الزوجات، فكثر نسلهم – والترف يزيد الدولة قوة بكثرة النسل- وتسابقوا على إحراز الجواري، حتى أن بعضهم أحصن ثمانين امرأة معا".[161]
نشاط المستعربين
تعربت البلدان شيئاً فشيئاً، وحلت اللغة العربية مكان اليونانية والقبطية والسريانية وأصبحت هي حلقة الاتصال بين جميع المسيحيين في الشرق. بدأ المسيحيون المستعربون يشعرون بتحديات كبيرة فرضها الواقع الجديد، مما دفعهم إلى صياغة إيمانهم بتعبيرات لغوية ومفردات جديدة. لقد أدركوا أنه احتلالا استيطانيا تتخذ فيه كل المحاولات لطمس ومحو الثقافات غير المسلمة، فبادروا إلى تعلم اللغة العربية ونقل تراثهم الأدبي والديني إليها منعا في زواله.
------------------------------
160 - تاريخ آداب اللغة العربية، جرجي زيدان، ص 190
161 - التمدن الإسلامي، جرجي زيدان، ج4 ص 50
لم يكن هذا بالأمر السهل على المسيحيين، الذين إذ تعربوا تغربوا عن تراثهم. وفي وصف لحالهم وشعورهم تجاه المعطيات الجديدة التي وجدوا فيها، يقول الدكتور مشير باسيل عون: "فاضطر المسيحيون إلى أن يستبدلوا لغاتهم الأصلية باللغة العربية. وما لبث أن نشأ من هذا الاستبدال اللغوي الثقافي توتر شديد في الوعي المسيحي الجماعي يوازي التوتر الذي ولده انتشار حقائق الدين الإسلامي بقوة الفتوحات العسكرية. ومنذ ذلك الحين ما فتئ المسيحيون المشرقيون يتنازعهم ضربان من الأمانة، الأمانة لتراثهم اللغوي الثقافي الديني الأصلي الذي حافظوا عليه في لاهوتياتهم وعباداتهم وبعض أدبياتهم، والأمانة لمقتضيات تكييف الشهادة الإنجيلية في قرائن انتشار الدين الإسلامي".[162]
ولم تكن السرعة الغريبة في استعراب الجماعات المسيحية تعود بالدرجة الأولى إلى جهود المسلمين بقدر ما تعود إلى اندفاع المسيحيين أنفسهم، الذين من منطلق رسالتهم الإنجيلية سعوا إلى التأقلم مع الأوضاع الثقافية الجديدة والعمل على إبلاغ رسالة الإنجيل وتراثهم وحضارتهم للمحتل العربي. فلم يعش المسيحيون كأقلية دينية خطر التقوقع والانغلاق على الذات داخل المجتمع الإسلامي، بل اندمجوا فيه بشكل مميز وشبه كلي، وأغنوا الثقافة العربية بما نقلوه عن تراثهم القديم. ولفترة طويلة من الزمن كان المتصوفون المسلمون يقدمون على النساك المسيحيين يسألونهم في العقائد والحياة الروحية، حتى إن المرء يلمس المسيحية في بعض مقالات الزهد الإسلامي.[163]
ظل المسيحيون لقرون عديدة يشكلون الأكثرية، واستطاعوا، رغم أوضاعهم الخاصة، أن يكونوا الدعامة الأقوى في تكوين الحضارة العربية، اقتصادياً وعلمياً وأدبياً. وإذ انكبوا على تعلم اللغة العربية وأتقنوها خير إتقان، عرّفوا العرب بالفكر اليوناني بنقلهم إلى العربية أهم معالم التراث اليوناني في الفلسفة والطب والرياضيات والفلك والعلوم الطبيعية.
كان خالد بن يزيد، والخليفة عمر بن عبد العزيز قد أمرا علماء الإسكندرية بنقل كتب الطب والكيمياء من اليونانية والقبطية إلى العربية. وتألقت حركة الترجمة في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، الذي عني بالعلوم، ثم ازدهرت حين جاء المأمون ليتمم ما بدأ به جده المنصور فأنشأ مدرسة "بيت الحكمة" للترجمة سنة 832م.
استفادت الكنيسة النسطورية من انتقال مركز الخلافة من سوريا إلى العراق لتستعيد مكانتها وتصبح الديانة الثانية للدولة العباسية. ولعل عدم ارتباط الكنيستين النسطورية واليعقوبية بأية قوى سياسية كان من أهم العوامل التي قادت حكام المسلمين للتساهل مع الفريقين. فنالوا مكانة عليا في المجال الأدبي والاقتصادي والاجتماعي، بل أن بعضهم نعم بوظائف سياسية وإدارية مرموقة.
-------------------------------
162 - الفكر العربي الديني المسيحي، دكتور مشير باسيل عون، ص 51
163 - المسيحية والحضارة العربية، جورج شحاتة قنواتي، ص 97
- عدد الزيارات: 4207