Skip to main content

الباب الرابع: على حدود المسيحية - الفصل الأول: المنطقة الوسطى

انتهت رحلتي – شكراً لله. ودّعت ملاخي الذي دعا لي بالتوفيق. قال انه يرى نور المملكة يبزغ خلف الجبال التي أمامك. وقال سترى سفير الملك. وسترى الملك بعده حالاً في بهائه. قال انه لا يستطيع أن يقدم لي الكثير من التفاصيل عن الملك، فان الإعلانات فيها الكثير من الغموض، وهي ليست واضحة بالكفاية... بينما نراه أعظم الملوك يسود كل العالم... إذ بنا ( في هذه الإعلانات ) نراه عبداً يخضع كأذل العبيد. نراه من الجهة الواحدة يمسك سيفه ويقضي على جميع أعدائه ويضعهم تحت قدميه، ونراه من الجهة الأخرى محكوماً عليه يدوسه أحقر الناس. في الحق إن الإعلانات عنه غامضة. سيأتي مخلصاً من ماذا... لا تبين الإعلانات بالوضوح الكافي نوع الخلاص. كانت كلمات ملاخي لي تحمل هذه البلبلة. عندما سألته: "من أي شيء يخلصنا هذا المخلص المنتظر؟". أجاب: "لا أعلم بالتمام، هل يخلصنا من أعدائنا، أم يخلصنا من الفقر والجوع، أم يخلصنا من المظالم، أم يخلصنا من أشياء لا أعرف بعد ماذا أدعوها. على كل حال أؤكد لك أنك عندما تراه ستعرف. أرجو أنك تعرف أكثر مما عرفنا نحن. سِر على بركة الله. سر فان الوقت قريب".

وسرت وظللت أسير. لكني على قدر ما سرت اكتشفت أن المسافة مترامية ووصلت أخيراً إلى باب المدينة. كنت قد بلغت منتهى التعب فسقطت عند عتبة الباب وأنا أقول: "شكراً لله فقد وصلت أخيراً".

دخلت المدينة، ولكني أحسست أنها لا تبدو في صورة المدينة التي أنتظر أن أراها. النور خافت، والطرقات غير ممهدة تماماً. صحيح أني رأيت عُمالاً يعملون في تمهيد الطريق، لكن أكثر الطرقات كانت غير ممهدة. كان التراب يملأ المكان. سألت فعرفت أنها ليست المدينة... إنها تدعى المدينة الوسطى. وبعضهم يدعوها "بين العهدين". علمت أن هذا الاسم أُطلق عليها فيما بعد. لكن عدداً كبيراً من سكان اليهودية حلّوا فيها ودعوها "مدينة المنتظرين". وكان هؤلاء المنتظرين يصعدون إلى قمة الجبل. ومع أن العدد الأكبر منهم كان من كبار السن، إلا أن ذلك لم يمنعهم من تسلق الجبل وقضاء الأيام والليالي يتطلعون إلى الأعلى. نعم إن بعضهم كان يتطلع إلى ناحية المدينة المقدسة، والبعض كان يتطلع على الخصوص نحو الباب الجميل. لكن عدداً يُذكر كان يوجّه نظره إلى فوق.

وقد رأيتُ عدداً يُذكر من هؤلاء، وسُررت من رؤيتهم، وفكرت أن أجلس إلى أحدهم. ليتني أتمكن من الجلوس إلى كبيرهم.

وفيما أنا سائر في بكور أحد الأيام التقيت بشيخٍ على عصا. وكانت لحيته البيضاء تكاد تصل إلىٍ منتصف جسمه. كان يتمتم بكلمات، علمتُ فيما بعد أنها صلاة يلتمس فيها السماء أن ترسل الآتي. فقد طال زمن الانتظار!

بدأتهُ السلام، فردَّ رداً مليحاً. وسألني في أين المجيء، فأخبرته بقصتي. أخبرته أني لم أجد الله في مصر بين آلهة مصر. وبالطبع لم أجده بين آلهة فلسطين وأشور وبابل وفارس واليونان. قلت له إني خرجت أطلب إلهاً حقيقياً طاهراً قدوساً. وكان الرجل يهزّ رأسه هزات متتابعة وهو يقول: "طبعاً طبعاً، إن آلهة الأمم أصنام". ثم قال: "ولكنك رأيتَه بدون شك في اليهودية التي مررتَ بها في طريقك إلى هنا؟".

قلت: "كلا يا سيدي، لم أجده هناك "!

ولم ينتظر الرجل حتى أكمل كلامي، بل نظر إليَّ نظرة زاجرة وقال: "ماذا تقول؟ لم تره هناك؟". قلت: "كلا. لم أجده هناك، ولكنهم طلبوا مني أن أسير فسأجده في نهاية الطريق". قال الرجل: "شدّ ما أخطأت. وهم كذلك أخطأوا. لا شك أنك رأيت الله في اليهودية!".

قلت "أخشى يا سيدي أنك تسيء إلى الله بقولك هذا. هو إله ضيق، إله محدود، إله قاسٍ، إله سطحي. لقد سألتُ الصفح ممَّن كلموني عنه، وسألتُ من هذا الإله أن يصفح عني إذا كنت قد أخطأت!".

وقال هليل. وكان اسم الرجل: "طبعاً أخطأت. إن الله واحد هو الإله الحقيقي، الإله الذي ظهر لأبينا ابراهيم واسحق ويعقوب. هو الإله الذي تكلم على جبل سيناء، وهو الذي سار مع الشعب في البرية، هو الإله الذي تكلم عنه الأنبياء"....

قلت: "ولكنهم أخبروني أنه إله إسرائيل فقط. كلهم يقولون إله إسرائيل، إله إسرائيل".

قال هليل: "نعم هو إله إسرائيل، ولكنه هو إله كل العالم. إن اليهود... دعني أقول إننا لم نكن مستعدين لقبول الحقائق الكاملة. وها هو اشعياء يحدّثنا عنه، فهل فهمناه على حقيقته؟ كان الأمر يتطلب إعداداً، ولذلك اختار شعب إسرائيل ليُعَّده حتى يجيء الزمان. إنهم لم يستطيعوا أن يقبلوا الأرضيات التي أعلنها، فهل كان من الممكن أن يقبلوا السماويات؟ لقد ابتدأ الله يعلن ذاته منذ كان الإنسان الأول في جنة عدن. ثم اختار الشعب الذي سيأتي منه. وفي ملء الزمان سيتم الإعلان الكامل. أنا لا أندهش كثيراً أنك لم تر الله في اليهودية، مع أني اندهشت بعض الشيء. لا أندهش أنك لم تره، لا لأنه هو الله، لكن لأنك أنت هنا لم تكن تستطيع أن تراه!!

على أن ملء الزمان قد اقترب، وسنراه نحن وستراه أنت. بقيت مسافة عليك أن تقطعها. سر إلى الأمام. سر ترافقك بركة الله".

سرت مسافة قصيرة، ومسافة قصيرة أخرى. ومسافة ثالثة. كلهم يقول لي: مسافة قصيرة. أقبل الليل. لم تغمض لي عين. أني أسمع كلمات مطمئنة بين حين وآخر. ولكنها لا تتحقق. كلها تقول مسافة قصيرة. القصيرة لا تنتهي. بدأت أحس بيأس قاتل. ها أنا أبحث عن الله هذه السنين الطويلة دون جدوى. كنت أظن في أوقات أني أقترب منه. لكني ما أن أمدّ يد لأمسك به حتى أعود ويداي فارغتان!!

مضت الليلة طويلة مظلمة حزينة. بل قد ساورني الفكر أن ذلك الشيطان الذي وقعت في أسره ونجوت بمعجزة.... ساورني الفكر أن ما وسوس به صحيح! لا يوجد إله. فإذا كان هناك إله، فانه إله مات... انتهى. لا يوجد إله. لكن هل يمكن أن يكون هذا الكون دون أن تكون هناك القوة الخالقة؟

أم لعل ذلك الإله – إن كان لا يزال على قيد الحياة – يعيش بعيداً عن الخليقة، لا يرتبط بها بسبب. كل ما يربطه بها تلك النواميس التي وضعها لهم، والتي يحتّم أن يسيروا في فلكها. لكن، لا، هل كذب أولئك العظماء عليّ. هل كذب ابراهيم وموسى وصموئيل وداود؟ هل كذب اشعياء وملاخي... إن الله الذي أطلبه موجود ولا بد "!!

كنت أكلم نفسي همساً. ثم ارتفع صوتي. رأيتني وإذا بي أخاطب نفسي كما لو كنتُ أخاطب جمهوراً غفيراً من الناس... لابد أن يكون هناك إله. لابد أن يوجد. هو موجود موجود. لكن أين هو؟

وفيما أنا أتكلم اقترب مني شخص ظهر كما لو كان قد خرج من الضباب، وهتف: "ماذا تطلب أيها الغريب؟". قلت: "إني أبحث عن كائن". وقال الشيخ: "عن أي كائن تبحث؟". قلت: "إني أبحث عن الله". فقال: "أنت تبحث عن الله! أنت؟ لابد أن تكون أعمى! انه أمامك. هو يبحث عنك. هو يحيط بك. اطلب منه أن يفتح عينيك حتى تراه!". قلت: "إن عينيَّ حادتا البصر. إني أبصر إلى أميال بعيدة. أين هو؟ قل لي أين هو. من يعطيني أن أجده حتى آتي إلى كرسيه. هأنذا أذهب شرقاً فليس هو هناك، وغرباً فلا أشعر به. شمالاً حيث عمله فلا أنظره. يتعطف الجنوب فلا أراه"....

انطرحت على الأرض باكياً. يبدو أني أعمى حقاً. يقولون انه أمامي وخلفي. عن يميني وعن يساري. لقد سمعت من زمن بعيد وأنا في مدينة اليهود، سمعت داود ينشد:

أين من روحك أمضي أين لي منك الهروب؟

أنت في كل مكان حاضرٌ أيا مهوب

إن صعدت للأعالي أو فرشتُ في القبور

أو أخذتُ لي جناحاً أو سكنتُ في البحور

فيداك تمسكاني حيثما أنا أسير

وظننتُ أنه قريب مني جداً. وقد أخبرني ملاخي أنه قريب. وجماعة المنتظرين حدّثوني عن قُرب مجيئه. لكن أين هو. أين هو؟

ظللت أبكي. كنت أبكي صامتاً. كانت أنفاسي تخرج متلاحقة. أحسستُ بدوار. رأسي تكاد تنفجر. وظللتُ مدة طويلة في شيء من غيبوبة، أو لعلها غيبوبة كاملة.... لكن استيقظت. هل استيقظت حقاً؟

إني أرى المكان غريباً عليّ. إني في مدينة أورشليم. مدينة إله اليهود.

سرت أتسكع فيها. سرت بلا هدف. إني لا أعرف أحداً في المدينة. ماذا عساني أجد فيها؟ لكني أذكر أني مررت بهذه المدينة. ترى هل رأيت هيكلها المشهور؟ لقد نسيت كل شيء. لقد أُعجبت في أول الأمر باله اليهود. ولكني اكتشفت أنه لا يمكن أن يكون هو الله الذي أبحث عنه. لا يمكن أن يكون الهي!

وفيما أنا أسير رأيت على مسافة قصيرة مني شيخاً بلغ على ما ظهر لي من مشيته ما ينوف عن القرن من الزمان – علمتُ فيما بعد أنه بلغ المائة والعشرين. كان يسير متوكئاً على عصاه، وكانت تسير إلى جانبه امرأة لا تقل عنه في العمر إلا قليلاً. ولكنها كانت برغم شيخوختها تحمل آثار الجمال. عرفت فيما بعد أنها أرملة من زمن بعيد. وأنها تنحدر من سبط أشير المشهور بعذراه الحسان اللواتي كُنَّ مطلب الملوك، يختارون زوجاتهم منهن... واسم الأرملة حنة!

لا أعلم إن كانت تأوُّهاتي قد وصلت إليها والى زميلها، لكن ما حدث كان ترتيباً إلهياً عجيباً....

التفت الرجل إليَّ وحدق النظر في وجهي، ثم قال: "سلام أيها الغريب". فقلت: "سلام "قال: "كأنك تبحث عن شيء". قلت: "إني أبحث عن الله

نظر إليَّ ليتحقق إن كنتُ في كمال عقلي، أو أنني أسخر في كلامي. ولكنه لاحظ اتزاني ولاحظ الجدية في حديثي، قال: "هل أنت من عُبَّاد الأصنام؟" قلت: "كنت!". قال: "هل سمعت عن إلهنا يهوه؟". قلت: "سمعت، ولكنه برغم ما تميَّز به من كمالات.... نعم... فهو إله واحد طاهر قدوس صالح، ولكنه لم يستطع أن يشبع قلبي. قال لي عبادُه انه إله كامل القداسة، بحيث لا يطيق أقل نجاسة... وهو إله وقف موقف العداوة لغير اليهود. اليهود شعبه والباقون أمم ملعونون. اليهود مختاروه والآخرون مرفوضوه. اليهود يعيشون والأمم ينبغي أن يموتوا ويُقتلوا ويُحرقوا. يأمر شعبه أن يهجموا على المدن ويهدموا البيوت ويتلفوا الحقول ويقتلوا الرجال ويَسبُوا النساء والأطفال. هل يمكن أن يكون إله اليهود هو الله؟ الإله المتحيز القاسي الصارم الذي يطلب العبادات في أوقاتها، وإلا انتقم من نفس عباده... كلا، لا تحدِّثني عن إله اليهود. أوه... يبدو أن الشيخوخة قد أضاعت ذاكرتي. لقد قلتُ بمثل ما أقول الآن لغيرك، وسمعت تبريرات كثيرة، ولكن لم أستطع أن أستبقيها لأكثر من لحظات، فأعود وأكرر ما سبق أن قلتُه. ليس من باب العناد، لكني إذ أحس بعمق كفاية التبرير أنساه أمام أول صدمة خفيفة، وأنا أشكر جميع الذي احتملوني. أنني أتكلم بإخلاص. أنا أبحث عن إله كبير، له بالطبع رأس كبير، لكن ما يهمُّني فيه أن يكون له قلب كبير، كبير جداً يتفق مع مركزه كاله "!! أصغى إليَّ الشيخ بطول أناة – وقد عرفتُ أن اسمه سمعان – ثم قال لي: "هلم معي إلى مجتمع جماعة المنتظرين، وهناك سأُسمِعُك إعلانات عجيبة تهديك "!!

وسرت معهما مسافة طويلة. خرجنا من باب الخليل وسرنا ناحية بيت لحم، إلى أن وصلنا إلى بقعة خارج المدينة حيث كانت بعض المباني البسيطة، وعلى مبعدة منها بعض زرابي الرعاة المتبدِّين الذين كانوا يحرسون حراسات الليل على رعيتهم!

كان الجو لطيفاً وكان المكان متّسعاً. وقد جلس عدد من الرجال والنساء عددهم مائة أو يزيدون. كانوا يرنمون بعض ترانيم المصاعد، ويتمتم بعضهم بصلوات من المزامير. ولما سكتوا وقف سمعان. كان القوم يعرفونه جيداً. كانوا يعرفون انه رجل تقي مملوء بالروح القدس. وقد ظهر أنه كبير هذه الجماعة التي سبق لي أن سمعتُ عنها "جماعة المنتظرين".

قدَّمني سمعان للحاضرين. قال: "إن أخانا غريب، وهو من جماعة الأمم، ولكنه كبعض الأمم الذين فتح الله قلوبهم، فقد خرج من مكانه يبحث عن الله". قلت: "حدث أني في أول معرفتي طلبت أن أدخل في زُمرتكم، ودخلتُ فعلاً، ولكني لم أجد راحتي. لم أجد الله الذي أبحث عنه.... وأنا... نعم أنا أبحث عن الله، فهل يمكنكم أن تدلُّوني عليه؟".

ملحوظة من ناقل المذكرات:

هنا مذكِّرات أتلفها المطر تماماً. الكلام مقطوع. حاولت أن أجمعه فجاء الكلام مُبتسراً، فمعذرة للقارئ، إن كان هناك قارئ!!

فقال سمعان الشيخ: "استيقظتُ متعَباً في هذا الصباح، ولكن صوتاً داخلياً حفزني على المجيء، لكن أوه جئت خلف شوق قلبي أن أرى الآتي... وأعتقد أني سأراه، نعم سأرى "الآتي". الآتي الذي ندعوه نحن اليهود "المسيا "والذي سيكون مخلص اليهود ومخلص العالم. وسرنا نحو الهيكل. لم يكن في الهيكل إلا عدد قليل من الفقراء، وأبصرتُ أمام الكاهن شابة في ثياب بسيطة جداً، لكنها كانت جميلة كالقمر، وهي تحمل صبياً جاءت لتقدم عنه الفداء عن كل ذكر. وإذا بصوتٍ في داخلي يزلزل كياني. انه هو. تقدمتُ إليه وتناولته فابتسم في وجهي. غاب المكان عن نظري. أبصرتُ وإذا أنا في حضرة الله والملائكة تحيط به. رفعت وجهي إلى عينيه وقلت، وعيناي غارقتان في الدموع: "شكراً شكراً يا رب. كفى كفى. لستُ أطلب شيئاً آخر. الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام".

ولم أستطع أنا ( نوسترداميس ) أن أحتفظ باتزاني، فصرخت: "إذن جاء! جاء، وقد رأيته. قل لي أين هو لأذهب وأراه". فأشار القوم إليَّ أن أسكت وأصغي... واستمر سمعان يقول:"... لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب، نور إعلان للأمم... نعم للأمم، ولكنه أيضاً مجد لشعبك. فالتفتُّ إليهما وباركتهما، وقلت: نعم انه ملك اليهود، ولكنه في نفس الوقت ملك كل العالم. لقد جاء إلى خاصته ولكن خاصته سترفضه... ووجَّهتُ كلامي بالأكثر إلى أم الصبي وقلت: ها إن هذا قد وُضع لسقوط وقيام كثيرين. ملوك سيهبطون إلى الهاوية، وعامة سيصعدون إلى الذروة. الأعزاء سيتَّجهون إلى التراب والمتضعون سيرتفعون إلى العرش. قياصرة سينساهم التاريخ وصيادون سيخلد اسمهم. رؤساء عظماء سيمحى ذكرهم وعشارون سيلمعون. هذا الطفل رب وسيد، ولكنه سيواجه أياماً صعبة. سيكون علامة تُصوَّب إليه السهام. ستخترق السهام جسده وسيحزُّ ذلك في نفسه، ولكنه سيخرج غالباً ولكي يغلب.

وأنت يا مريم سيكون لك مجد. ستُطوَّبين في كل مكان، والأجيال ستتحدث عنك، ولكنك ستدفعين ثمناً غالياً لهذا المجد. سيجوز في نفسك سيف. سيخترق السيف قلبك. ستجوزين في العار والنار والألم والموت. ولكنك ستخرجين جوهرة لامعة في جبين الأبدية.

وناديت حنة بنت أشير، ورنمنا معاً وتحدثنا معاً:

تجلى الإله القديمُ الأحد لهذا الورى في رداء الجسد

أنار البرايا فهذا الولد عجيبٌ كما قال وحيُ الصمد

بديعُ المزايا على منكبه رئاسة كل الذي كان به

به كان كل الورى فانتبه، فليس لسلطان ذا الطفل حدّ

حاولت أن أقف، وإذا بسمعان يشير إلى الراعي ميخائيل المعروف باسم بنيامين أن يتكلم، فروى أعجب قصة في التاريخ:

وقف ميخائيل وقال: "لا شك أنكم تحبون أن تسمعوا قصتنا: كنا نحرس أغنامنا في المراعي القريبة من مدينة داود، وفي مساء الليلة العجيبة جلسنا بعد أن تناولنا عشاءنا، وأخذنا نتحدث معاً أحاديث شتى مما يتناوله عادة الرعاة أمثالنا. وانتقلنا من حديث إلى حديث حتى وصلنا إلى حديث النبّوات. وكنا قد تعرَّفنا على بعض "المنتظرين "وقال أحدنا: "ألستم ترون أن مجيء "الآتي "قد تأخر كثيراً، وأن الحالة تزداد سوءاً؟ وقد ذكر بعضنا ما جاء في النبوات. وكانت آمالنا تتجه إلى سرعة مجيئه لينقذ الشعب مما يرزح من عبودية وجهالة وفقر. وبعد أن رفعنا صلاتنا المسائية المعتادة نمتُ وبقية الرفاق، وبقى سمعان مستيقظاً. وقبل نصف الليل بساعة أيقظني لينام هو، إذ كنا قد اتفقنا أن ينام كلٌ منا ثلاث ساعات وكنتُ أشتهي أن يتركني أنام قليلاً، ولكنه لم يتركني، فاستيقظتُ مرغماً... استيقظت، ورأيت أن أسليَّ نفسي بتلاوة المزامير، ووصلنا في تلاوتي إلى المزمور الذي يقول: "قال الرب لربي...." وهنا سرح خيالي إلى ذلك الرب الآتي، وانطلقت في تأملاتي أتخيل الملك الآتي وسلطانه وقواته. واندمجت في التأمل فلم أنتبه إلى النور الذي غمر المكان إلا بعد مدة، ورفعت عيني إلى السماء فإذا نور وهاج يُقبل كشعلة كبيرة من النار. كلا. بل شعلة كانت عبارة عن كتلة شموس مجتمعة وهي تتجه إلى ناحيتنا. تحولت المراعي كلها إلى نور بهي أشد لمعاناً من نور النهار، فانكفأتُ على وجهي، وصرخت: "رحمة يا إله المراحم". ثم لكزتُ بيدي رفاقي فاستيقظ أحدهم، وهذا أيقظ الباقين، وجلسنا مرتعبين نسأل أنفسنا: "تُرى ما عسى أن يكون هذا النور البهي؟". ولما اقتربت شعلة النور إلينا، انفصلت عنها كتلة صغيرة، وإذا هي كائن بهي في صورة ملاك. هذا جعل يقتربُ منّا، فسقطَت قلوبنا، وقال الواحد منا للآخر، هلكنا هلكنا. ولكن صوتاً كشدو البلابل اخترق السحاب ووصل إلينا، فأشاع الطمأنينة إلى نفوسنا. نعم، فقد هتف الملك بنا بصوت جاءنا رفيقاً عطوفاً: "لا تخافوا". التقطنا أنفاسنا وإذا بالملاك يقول: "لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. انه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب"... وقال الملاك: "وهذه لكم العلامة. تجدون طفلاً مقمَّطاً مضجعاً في مذود".

لم أستطع أنا ( نوسترداميس ) أن أحتفظ بهدوئي، فقلت: "أين أين؟ خبِّروني أين؟"... لكن الراعي تجاهل السؤال وقال: "واجتمعت الشموس، وإذا هي مجموعات من الملائكة ألوف منها وجعلت تنشد أروع نشيد سمعته الأرض:

لله مجد في العلا كل الملا تحية

في الأرض قد ساد السلام لما أتى فاديّ

وهنا صرختُ بأعلى صوت: "لماذا لا تجيبني أيها الراعي؟ أين هو؟ أين هو؟". وقال الراعي: "صبراً يا سيدي. لقد كنا في حالة لا أستطيع أن أصفها. على أنه بعد أن انصرفت الملائكة عاد إلينا الهدوء شيئاً فشيئاً. وقال أحدنا: "انه لخبر عظيم بل أعظم خبر. هل رأينا ما رأينا حقيقة، أم أننا كنا نحلم؟ هل رأينا ملائكة؟ هل سمعنا بشارة المسيا؟ هل آن أوان مجيئه؟". وقال الراعي ميخائيل: "هلموا بنا إلى بيت لحم لنرى". قال ميخائيل أنهم قاموا كلهم وساروا في الليل البهيم في رمال الصحراء ووصلوا إلى بيت لحم مدينة داود. كانت المدينة كلها غارقة في النوم. وأنهم ساروا في طرقاتها لا يسمعون إلا صوت أقدامهم على الأرض الحجرية... ساروا إلى أن وصلوا إلى الخان، ولم يجدوا أحداً عند الباب الكبير، فداروا إلى الباب الخلفي، وهناك سمعوا أصواتاً فدخلوا وساروا في الطريق الضيق إلى أن وصلوا إلى الحوش الكبير، وأبصروا النور ورأوا العائلة المقدسة، وأبصروا الطفل. وحالما أبصروه رأوا فيه لا طفلاً عادياً بل كائناً إلهياً، فانبطحوا على وجوههم وقدموا السجود للرب المخلص....

لم يكن حديث الرعاة غريباً على الوالدين، لقد كانت الأم تعرف شيئاً. وقد قصَّ زوجها قصة ظهور الملاك والبشارة العليا. وقد ذكرت أعجب خبر أنها لم تكن زوجة حقيقية ليوسف. إنها لا تزال عذراء... وهتف سمعان: "نعم نعم، ألم يتنبأ اشعياء عن ذلك: هوذا السيد نفسه يعطيكم آية: "هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً، يدعون اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا".

هتفتُ: "إذن تحققت النبوة، فأين أجد هذا الآتي؟".

قال الراعي: "لقد رأيناه في بيت لحم".

وقال سمعان: "أما أنا فرأيتُه في المدينة المقدسة، في الهيكل في أورشليم"- وقال ثالث: "لقد علمتُ أنهم جاءوا من الناصرة".

قلت: "لقد حيرتموني- إلى أين اذهب؟ إلى أين؟".

  • عدد الزيارات: 3261