Skip to main content

الفصل السادس: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟"

يبتدئ مزمور الصليب بهذا الصراخ: "إلهي! إلهي! لماذا تركتني؟" وينتهي في الأصل العبري- حسب رأي بعضهم- بهذا الإقرار: "قد أكمل". يمكننا القول أنه لا شيء يشبه هذا المزمور بالنسبة لما ورد فيه من عبارات الأسى والأسف الصادرة من أعماق حزن لا يدركه الإنسان. ولا عجب فهو صورةُ أشد ساعات مخلصنا حزناً وسجلُّ كلمات موته وقارورةُ آخر دموعه وذكرى أفراحه التي كانت له وقت النزع.

قد يكون في هذا المزمور وصف لداود وأحزانه بصورة مصغرة جداً؛ ولكن كما أن نور الشمس الساطع يحجب لألاء النجم الضئيل، كذلك فإن من يرى يسوع فلا يرى ولا يهتم بأن يرى داود. نرى هنا وصفاً لظلمة الصليب ومجده كما نرى فيه الآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها. فيا الله هبنا نعمة لنقترب ونرى هذا المنظر العظيم. إنه ينبغي لنا أن نقرأ هذا الوصف بخشوع خالعين أحذيتنا من أرجلنا كما فعل موسى عندما اقترب ليرى العليقة، لأنه إذا كان في الكتاب أرض مقدسة فهي موجودة في هذا المزمور".

تشارلس سبرجن

الواعظ الشهير

كلمة نطق بها المسيح على الصليب وسجلها متى ومرقس؛ وهي بعينها واردة في بدء المزمور الثاني والعشرين ومع ذلك فلم يشر إليها أحد البشراء كإتمام للنبوة. وهكذا خرجت هذه الكلمة من شفتي المخلص بعد أن قاسى السيد- جسداً ونفساً- آلام ست ساعات كاملة. أما كلمته الأولى فهي: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" وهي صلاة شفاعة بطلب المغفرة. والثانية: "اليوم تكون معي في الفردوس" وهي كلمة عهد بالراحة والسلام. والثالثة: "يا امرأة هوذا ابنك... هوذا أمك" وهي كلمة اهتمام رقيقة إلى أمه ولأجلها. ثم كانت الظلمة، وقبلما نطق السيد بكلماته الثلاث الأخرى بتتابع سريع قائلاً: "أنا عطشان" "قد أكمل" "يا أبتاه في يديك أستودع روحي"- صرخ صرخة الألم المريعة "إلهي إلهي لماذا تركتني؟". ولماذا؟

لأنه ليس بين المفديين من عرف عمق تلك المياه التي قطعها المخلص، ليس من أدرك ظلام الليالي التي قضاها السيد قبلما وجد الخروف الضال.

إن في هذه الكلمات التي فاه بها يسوع وهو على الصليب قوة فذة وشعوراً عميقاً يسجلان نفس الكلمات التي استعملها السيد له المجد وهي: ايلي ايلي لما شبقتني. وفوق ذلك فلا نرى في جميع أسفار الكتاب المقدس تكراراً لهذه الكلمات إلا في مزمور المسيا. وإن هذه الصرخة لتعبر عن آلام مبرحة لم يرها هذا العالم إلا في هذه المرة.

هنالك رواية يشير إليها لدولف الكرثوسي منذ القرن الرابع عشر وهي أن السيد له المجد بدأ يعيد وهو على خشبة الصليب كلمات المزمور الثاني والعشرين واستمر في تأمله حتى وصل إلى العدد الخامس من المزمور الحادي والثلاثين حيث قال: "في يديك أستودع روحي". ومما لا شك فيه أن في تلك المزامير التي كانت في قلب المسيح وغالباً على فمه، شرحاً لحياته، وإدراكاً لوظائف المسيا. وقد يتعذر علينا أن نجد خارجاً عن كتاب المزامير مثل هذا الشرح.

ومع ذلك فهذه الصرخة العميقة هي للمؤمن إعلان للآلام المبرحة والحزن العميق التي احتملها المخلص وبرهان على محبته اللانهاية لها للخطاة. إنها تطلب منا مع جميع القديسين أن نكون "أقوياء حتى ندرك ما هو طول وعرض وعلو وعمق محبة الله التي تفوق كل إدراك".

وإذا كان الصليب هو الحقيقة الأساسية للعهد الجديد فإن هذه الصرخة هي قلب هذه الحقيقة وأعمق تصريحاتها، بل هي قدس الأقداس لمن يدرس بخشوع قصة الآلام.

حق لسبرجن أن يقول: "أنه يجدر بنا أن نؤكد كل كلمة في هذه الصرخة التي هي أشد الصرخات حزناً وألماً "لماذا". ما هو السبب الجلل لترك الله ابنه في مثل ذلك الوقت وفي مثل تلك الورطة؟ لم يكن ذلك لأي سبب فيه. فلماذا تُرك: "ترك" نعم لقد ترك، وأن السيد- له المجد- يشعر بنتيجة ذلك الترك فيسأل هذا السؤال. فحقيقة هو ترك ومع ذلك- فيا للعجب- لم يكن تهديد الترك الذي جعل ذلك الكفيل العظيم أن يصرخ بشدة بل لقد احتمل نتائج الترك عملياً. أنا أفهم لماذا تعين على يهوذا الخائن وبطرس الرعديد أن يهربا، ولكن أنت يا إلهي يا صديقي المخلص كيف يمكنك أن تتركني؟ أن هذا شر الكل، أجل شر كل هذه معاً. إن جهنم نفسها لتدلع أفظع لهبها لدى انفصال الروح عن الله. "تركتَني" لو كنت ألقيت علي عصا تأديبك لكنتُ احتملت لأن وجهك يضيء؛ أما أن تتركني كلية: آه يا إلهي لماذا هذا. أنا ابنك البريء المطيع المتألم لماذا تركتني أهلك.

إن رؤية النفس بدموع التوبة ورؤية يسوع- وهو يتألم على الصليب- بعين الإيمان لأحسن حل لهذه المعضلة. فقد تُرك يسوع لأن خطايانا قد جعلت حاجزاً بيننا وبين إلهنا".

ولكي نفهم ما هي آلام الجسد والنفس والروح التي تضمنتها صرخة الألم هذه يجدر بنا أن نذكر الظروف التي أحاطت بها. فالصلب كان أفظع عذاب في العالم القديم بل وأقصى عقوبة في قانون العقوبات الروماني. أولاً بالنسبة لوقفة الجسم غير الطبيعية والألم النابض من الأيدي والأرجل المثقوبة بالمسامير والعطش المحموم والضعف التدريجي ثم الموت. إن الصليب كان مظهر فظاعة ورمزاً للعنة الله (غل3: 13وتث21: 23). أضف إلى هذا كله التباين البعيد بين قداسة المسيح وبراءته ومهابته الإلهية وبين الاستهزاء المر والتجديف المريع والازدراء المزري التي كان يقذفها على هذا القتيل العاجز لا الواقفون فقط تحت الصليب بل أيضاً اللصان المعلقان على جانبيه (مت27: 24، لو23: 39). وكان رؤساء الكهنة يقودون الناس في هذا الاستهزاء قائلين: "خلّص آخرين أما نفسه فما يقدر أن يخلصها... قد اتكل على الله فلينقذه الآن". وجواباً على ذلك وقعت ظلمة- ظلمة علوية- على كل هذا المنظر من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة؛ وبعد ظلمة الثلاث ساعات هذه صرخ يسوع بصوت عظيم من أعماق ظلمة ألمه الفرد قائلاً: إلهي، إلهي لماذا....؟

أما ملانكثون وغيره من المصلحين يقولون عن هذه الصرخة إنها برهان على أن المسيح قد اختبر في نفسه البشرية غضب الله ضد الخطية. وغيرهم ومنهم شليرماخر يقولون أنها افتتاح مزمور الرثاء العظيم مع خاتمته السامية التي فاه لها المسيح كبرهان على أنه المسيا. أما ماير فيقول أن ألم المسيح من رفض الناس له- "قد تغلب لحظة على شعوره العميق بشركة اتحاده مع الله"-. أما أولهوسن فيتكلم عن "ترك واقعي مجسم ومؤقت من الله". ويرى الدكتور فيليب شكاف في هذه الصرخة استعادة آلام جشيماني وبلوغ آلام المسيح الكهنوتية أقصى درجاتها "أنه كان اختباراً بشرياً إلهياً عن الخطية والموت في اتصالهما المباشر ومظهرهما العام للناس بواسطة من هو كامل القداسة تام النقاوة، وكان ألماً خفياً لا يوصف للنفس والجسد في انتظارهما الموت العاجل ومصارعتهما الواقعية مع الموت كأجرة الخطية ونهاية كل شقاء الجنس البشري- الأمور التي كان المخلص بريئاً منها ولكنه اتخذها على نفسه طوعاً، بسبب محبته المتناهية لبني آدم.

وبدون الإيمان بأن يسوع قد حمل خطايانا في جسده على الصليب وبدون قبول العنصر الكفاري في موته نرى أن صرخته على الصليب سر غامض لا يمكن تفسيره؛ أما إذا كان يسوع هو حمل الله والله نفسه وضع عليه اثم جميعنا فإنا نقبض بأيدينا على مفتاح سر مثل هذا الألم.

إذا كان موت المسيح هو فقط موت شهيد عظيم لأجل الحق، فإن صرخته لا محل لها البتة؛ ولكن إذا كان قد مات البار لأجل الأثمة، إذا كان قد جُعل خطية لأجلنا، إذاً تكون خطايانا وخطايا كل العالم هي التي أخرجت من صدر الفادي صرخة الألم والوحدة هذه. وما هو الفداء؟ هو الترضية المقدمة لعدل الله من أجل خطايا الناس بواسطة وقوع آلام القصاص النيابي على ابنه الحبيب.

وإذا كان هذا التعريف اللاهوتي لا يرضينا فإنا نرى نفس هذه الحقيقة العظمى واضحة في طقوس الكنيسة لدى تناول العشاء الرباني إحياء لذكرى موته. وهل أجمل من شرح الكنيسة الهولندية المصلحة "نؤمن بأنه سمح لجسده المبارك أن يُسمَّر على الصليب حتى يسمِّر عليه صك خطايانا، ونؤمن أيضاً بأنه اتخذ على نفسه اللعنة التي تستحقها حتى يملأنا ببركاته، وبأنه وضع نفسه لأعمق جزاء وألم الهاوية في كلا النفس والجسد عندما صرخ على خشبة الصليب بصوت عظيم: "إلهي إلهي لماذا تركتني حتى يقبلنا الله ولن يتركنا أبداً".

ونرى نفس هذا المعنى في خاتمة رثاء الشاعرة برواننج على قبر الشاعر كوبر إذ قالت:

مرةً هزَّت دنانا صرخة العمانوئيلْ

صرخةٌ شقت صخوراً دون صوت أو مثيل

ايلي ايلي كيف تركي يا إلهي في المسير

قالها فوق الصليب في أنين المستجير

للعَلا وسط العذابِ عند إتمام الخلاص

بعدها إذا اصطلحنا لن نرى هذا القصاص

لقد "وضع عليه اثم جميعنا" أي الخطية وعارها، الألم والتبكيت، أجل كل عجزنا ونقائصنا، سقطاتنا وذنوبنا، تجاربنا ومعاصينا، تعدياتنا وديوننا وخطايانا، غلطاتنا وجهالاتنا، وأرجاسنا وآثامنا. فينبغي لنا ألا نهرب من النتائج المروعة لهذه الحقيقة المرة إذ لا يمكننا أن نهزأ بكبرياء قلوبنا حتى نتحقق أنه يمكننا المصالحة مع الله فقط "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه".

"المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا"؛ وقد تُرك من الله ليس لأجل خطايانا فقط بل لأجل خطايا كل العالم أيضاً، إذ مرَّ عليه بنوعٍ ما كلُّ خطايا العصور وعارها مع كل أمواجها وتياراتها. وطفت فوق رأسه غِمارٌ، "غمر ينادي غمراً"، غمار الشهوات الدنيئة وظلمة الشعوب، عناد بني إسرائيل وصلابة رقبته، كبرياء نينوى وصور، قساوة مصر وبابل، ظلم المجتمع الإنساني وجرائم الأسواق، البغاء والحروب، خيانات الاسخريوطي وإنكارات بطرس وكل الذين تركوا يسوع، ثم بيلاطس وهيرودس وقيافا، بل كل خطايا البشرية في الماضي والحاضر والمستقبل ضغطت على نفسه فولدت صرخة الألم.

مات المسيح الخالق الـ أسمى عن الإنسان

فحسناً تحتجب الـشمس عن العيان

قال فورسيث: إن موت المسيح لأعمق من الموت، وآلامه أكثر كثيراً من مجرد الآلام: إنه عمل كفاري. نرى في أطوار عديدة من تاريخ الكنيسة أن أهمية كبرى قد علقت على آلام المسيح؛ ولكن المسألة لا ما تألم به المسيح بل ما أتمه. إن ألم المسيح كان أمراً سامياً لأن المسيح شاء فحوله إلى عمل جليل فكان ذلك الألم الذي قُبل بواسطة الطاعة المقدسة تحت اللعنة القاسية والضربة المميتة التي جلبتها الخطية على رأس الإنسان بموجب قداسة الله وعدله. وهكذا كان الألم ذبيحة لقداسة الله فضلاً عن كونه عقاباً. ولكن العمل الكفاري لم يكن في مقدار الآلام أو شدته بل في طاعة المسيح وقداسته.

ومع ذلك فإن الإنسان ليحجم عن تحليل تلك الصرخة التي فاه بها المسيح فوق الصليب. وهكذا بعد سرد كل ما كان في استطاعة الناس أن يقولوه لفحص مغزى هذه الصرخة فإنها تبقى سراً غامضاً بل سر الكفارة.كيف يستطيع الآب المحب القدير أن يترك ابنه الوحيد. وحيداً في الظلمة العميقة والحاجة المتناهية؟ نعم هناك كثيرون يميلون إلى القول، دون أي تحفظ، أن المسيح كان عرضة لغضب الله، والحقيقة أنه لا يمكن أن يكون ذلك المتألم الإلهي ولو لحظة أو طرفة عين موضوع عدم مسرة الآب، فإنه هو الذي نزل من السماء ليفعل مشيئة الآب ويتمم قصد المحبة الإلهية بفداء عالم ساقط مهما كلفه ذلك شخصياً. بل على النقيض من ذلك لم يكن فكر الآب قط مركَّزاً في الابن برضىً ومحبة مثلما هو مركَّز في هذه اللحظة حتى قال المسيح: "لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً". ولم يكن المسيح قط أكثر شعوراً بإتمامه مشيئة الآب وكسب رضائه وعدم إمكان التخلي عنه أو تركه كلية منه في هذه الدقيقة.

ومع ذلك فقد تجمع في صرخة الألم هذه كل وحدة المسيح في أيام تجسده تلك الوحدة التي بلغت أوج علاها على خشبة الصليب حتى يتم القول: "لقد دست المعصرة وحدي".

كان المسيح وحيداً في مهده، وحيداً في سني صمته في مدينة الناصرة، وحيداً في البرية، وحيداً على قمة جبل الصلاة، وحيداً وسط الجماهير، وحيداً على جبل التجلي، وحيداً في حزنه وبكائه على أورشليم، وأكثر الكل وحيداً ومنفرداً في جشيماني والجباثة وعلى جبل الجلجثة. "تركه الجميع وهربوا"، "كرهوني بلا سبب" "على أنه لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش أما الرب فسرَّ بأن يسحقه بالحزن".

وهكذا اختبر المسيح ألزم وأعظم عقاب للخطية ألا وهو حجب وجه الله عن البشر.

قال روبرت كيبل لدى كلامه عن وحدة المسيح فوق الصليب: "إني أعتقد أن المسيح قد أعلن بمعنى حقيقي اختبار حياته، ذلك الاختبار الذي احتمله رجل الأوجاع ومختبر الحزن في صمت قلبه. لا شك أن هذا الاختبار قد تجسم على الصليب، ولكن الإنسان الوحيد الذي رفضته الأرض لأنه بلا خطية قد تركه الله إذ جُعِلَ خطية. فيا لعمق سر المحبة التي لا يعبر عنها! ويا لانتصار أعجوبة وحدة المسيح! إن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح كان في الساعة التاسعة في وحدة لا يعبَّر عنها وانفصال كلي عن كل الموجودات".

لله مجد في العلا ومجدُه في العمقْ

في قوله كلي العجبْ في فعله محقْ

ما أعجب الحبَّ الذي منه لأجل الناسْ

أردى العدى في شخصه بطاعة وباسْ

حتى لقد قاس لنا آثار مرّ الصلبْ

محتملاً قصاصنا مضاعفاً بقلبْ

  • عدد الزيارات: 6493