أفعل شيئاً واحداً
(فيلبي 13: 3)
وإذ نعود الآن إلى الإصحاح الثالث من الرسالة إلى فيلبي، فإننا نجد أن الرسول هو الوحيد بين الكثيرين الذي أمكنه أن يجيب عن الثلاثة امتحانات التي وضعها الرب أمام الشاب الغني. فقد أعطى ممتلكاته الأرضية، وحمل الصليب، وتبع المسيح.
أولاً نسأل ما هي تلك الممتلكات التي أعطاها؟ لقد تميز بولس مثل الشاب الغني، بسجايا إنسانية وإمكانيات عالمية ليست قليلة. كان له امتياز المولد، وكان متمتعاً بحقوق المواطنة الرومانية كاملة، ولم يكن من مدينة دنيئة، وكان على درجة عالية من التعليم، كما كان متوقد الحماس في عقيدته، أما من جهة الناموس فبلا لوم.
كل هذه الظروف والإمكانيات تبلورت معاً لتُعطيه مكانة شهيرة في هذا العالم. ولكن جاءه اليوم مثل الرجل الغني- ليُمتحن أمام المسيح. تُرى هل يعطي كل ما ناله من امتيازات كإنسان في العالم- وكل الأشياء التي جعلت من بولس شيئاً- لكي يجعل من المسيح كل شيء في حياته؟ ولنتذكر جيداً أنه لا الشاب الغني ولا بولس طُلب منهما ترك الأشياء المُخزية. وبالتأكيد فإننا لا نقدر أن نتبع المسيح ونستمر في الأمور المخجلة التي عملناها خفية. إن الأشياء التي تُسرنا جداً ونفتخر بها هي التي نتركها خلفنا. فالامتحان أمامنا هو هل يمكن أن نطرح خلفنا الامتيازات العالمية والغيرة الإنسانية وصفة عدم الملامة، وامتيازات المحتد (أو المولد)، والشهرة الدينية، ليصبح المسيح- بدلاً من الذات- هو الغرض الوحيد للحياة؟
فبدلاً من رجوع بولس حزيناً- كما فعل الشاب الغني لأنه كان ذا أموال كثيرة- فإنه نسي "ما هو وراء لكي يربح المسيح. إنه رأى مجد المسيح كما رأى المسيح في المجد. عندما التقى الشاب الغني بالمسيح، فبدلاً من أن يرى معجزاته العجيبة، فإنه رأى فيه مجرد مُعلّم صالح، فلم يرَ مجد المسيح. وهذا هو الاختلاف الكبير بين هذين الشابين. إن بولس رأى مجد المسيح ووصل إلى نتيجة فورية أن كل مجد العالم- وكل الأشياء التي تحصّل عليها واكتسبها كإنسان في الجسد- هي خسارة لأجل المسيح. إنه لم يستخف بالامتيازات الطبيعية، بل كان بالعكس يُقدّرها، وبالمقارنة بمجد المسيح حسب أنها نفاية، ووجد أنها خُسفت أمام فضل امتياز معرفة المسيح ربه.
وثانياً إنه لم يكتف بأن أعطى، ولكنه حمل الصليب، وهذه هي الحقيقة التي نجدها عنه. كان جل رغبته الوحيدة، وهو أن يكون "مُتشبّهاً بموته"- أي بموت المسيح. وحيث أن المسيح مات عن العالم كذلك يستطيع بولس أن يموت عن العالم. فالصليب بالنسبة لبولس لم يضع فقط نهايته كإنسان في الجسد، ولكنه أنهى إلى الأبد مركزه في هذا العالم الحاضر الشرير.
وثالثاً: فبعد أن أعطى كل امتيازاته الأرضية كغرض لحياته، وحمله الصليب الذي أنهى ارتباطه بالعالم، فإنه تبع المسيح كالغرض الوحيد لحياته. لقد أدار كتفه لكل ديانة أرضية وخرج إلى المسيح خارج المحلة حاملاً عاره. ولذلك كان المسيح غرضه الوحيد، فأمكنه أن يقول في رسالة فيلبي "لي الحياة هي المسيح" (1: 21)، "لكي أربح المسيح"( 3: 8)، و"أوجَد فيه" (3: 9)، ولأعرفه (3: 10).
هنا وجدنا إنساناً استطاع أن يقول بكل حق، الشيء الواحد الذي أعوز الشاب الغني، "والشيء الواحد" الذي احتاجت مرثا أن تتعلّمه، هو بعينه الشيء الواحد الذي كان يعمله.
ولذلك كانت حياته هي حياة قلب متفرد مكرّس للمسيح- كان المسيح بالنسبة له هو الغرض الأسمى الوحيد- فلا الخطاة، ولا القديسين، ولا الخدمة- بل المسيح. ونحن لم نجد شخصاً أكثر غيرة للكرازة بإنجيل نعمة الله كخطاة كبولس، ولم نجد من كان له الاهتمام بجميع الكنائس مثل الرسول. ولم نرَ من كان أكثر تعباً في الخدمة، ولكن فوق الكل، وقبل الكل، كان المسيح هو غرضه الوحيد. إنه لم يعوزه الشيء الواحد مثل الشاب الغني، ولم يرتبك بأمور كثيرة مثل مرثا. كان أمامه شيء واحد- أن يتبع المسيح. ولذلك نسي "ما هو وراء" لكي يصل إلى "الأشياء التي كانت من قبل تأسيس العالم".
بل وأكثر من ذلك وضع أمامنا معرفة هذه الأشياء. وأرانا بكل وضوح أن كل الأشياء تتركز في المسيح.
أولاً- المسيح في المجد 2: 9و10
ثانياً- دعوة الله العليا في المسيح يسوع 3: 14
ثالثاً- مجيء المخلص، الرب يسوع 3: 20
رابعاً- سنكون على صورة جسد مجده 3: 21
إنه شيء مبارك أن نجعل المسيح غرضنا الوحيد- فإذا جعلنا الخدمة هي غرضنا فإننا سننتهي إلى تمجيد أنفسنا. وإذا جعلنا الخطاة غرضنا فالأكثر احتمالاً أننا سننسحب إلى العالم. وإذا جعلنا القديسين غرضنا فإن قلوبنا ستنكسر. ولكن إذا جعلنا المسيح غرضنا الوحيد والأسمى، فإننا، مثل الرسول، سنحارب المحاربة الحسنة، وسنُكمل السعي، وسنحفظ الإيمان، لأن المسيح وحده سيُمسك أقدامنا في الطريق الضيق، ويقودنا في المصاعب، ويشددنا في مواجهة الأزمات. ولعلنا- بقدر قليل- يمكننا أن نقول مع الرسول "أفعل شيئاً واحداً.. لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع "3: 13و14".
- عدد الزيارات: 3720