الفصل العاشر: الهلاك من الإنسان
ليس كل الناس يخلصون. أما البعض فقد قالوا بخلاص كل البشر (Univeresalism )، لكن هذا القول، على الرغم من انتشاره وتزايد عدد الآخذين به، ليس تعليم العهد الجديد. يعلّم العهد الجديد أن بعض الناس، وربما الكثير منهم، سيهلكون في النهاية. تكلم يسوع في إنجيل يوحنا عن قيامة أولئك الذين "عملوا السيّئات" ولكنه قال أنها "قيامة الدينونة" (يوحنا 5: 29). لقد علّم أنه، عند الدينونة الأخيرة، سيكون هناك الذين يمضون"إلى عذاب ابدي" (متى 25: 46). يصور لنا كاتب الرؤيا صورة حيّة للدينونة الأخيرة ويقول: "وكل من لم يوجد مكتوباً في سفر الحياة طرح في بحيرة النار" (رؤيا 20: 15). أما بولس فلا يبحث كثيراً على نحو مباشر في هذا الموضوع، لكنه مع ذلك يصرّ على أن الذين لا يؤمنون سيدانون (2 تسالونيكي 2: 12). وكاتب رسالة العبرانيين، وهو يفكر بالدينونة الأخيرة، يقول: "مخيف هو الوقوع في يديّ الله الحي" (عبرانيين 10: 31). بل لو أننا أخذنا في حسابنا وجود شيء من الخيال في اللغة عند اليهود وأعطينا لقصد الله الخلاصي المكان الكافي، فإننا لا نجد مفرّاً من الاعتراف أخيراً بأن جزءاً من الجنس البشري لن يختبر الخلاص اختباراً فعلياً.
لماذا سيهلك البعض؟ اعتقد كتّاب العهد الجديد أن علّة هذا الهلاك هي في الإنسان وفيه وحده، وأن الله غير مسؤول عن دينونة أحد أبداً. يمكننا التثبّت من هذه الحقيقة بملاحظة عدّة نقاط. أولاً، دبّر الله طريقاً للخلاص يمكن أن تكون فعّالة على نطاق كونيّ إذا ما قُبلت من جميع من في الكون. يرى الكثير من الناس أن كلمات الآية في يوحنا 3: 16 تلخّص كل تعليم العهد الجديد في موضوع الخلاص. "هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل لتكون له الحياة الأبدية. "لاحظ أن حبّ الله هو للعالم كلّه، وأن تضحيته ابنه كانت للعالم كلّه أيضاً، وأن "كل من يؤمن"، بلا استثناء، يستطيع قبول الخلاص. يصر بولس على أن الابن بذل لأجلنا أجمعين"(رومية8: 32 )، وإنه "لا فرق بين اليهودي واليوناني، لأن رباً واحداً للجميع غنيّاً لجميع اللذين يدعون به، لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص" (رومية 10: 12، 13). وقد صرّح بولس أيضاً بكل وضوح وتحديد "أنه قد ظهرت نعمة الله المخلّصة لجميع الناس" (تيطس 2: 11). ويقول يوحنا في سفر الرؤية بلسان المسيح المقام من الموت "الروح والعروس يقولان تعال، ومن يسمع فليقل تعال، ومن يعطش فليأتي ومن يرُد فليأخذ ماء حياة مجاناً" (رؤيا 22 : 17). يظهر أنه من المستحيل فهم إنجيل يسوع المسيح بأية طريقة أخرى غير هذه. الخلاص مقدّم لجميع الناس، وجميع الناس مدعوون لقبول هذا الخلاص.
هناك، علاوة على ما تقدّم، المزيد من الأدلّة على أن الله بالفعل يريد الخلاص لجميع الناس، وإنه لا يُسَرّ بهلاك من يهلك. يقول حزقيال إن الله قال له : "قل لهم: حيّ أنا يقول السيد الرب، إني لا أُسَرّ بموت الشرير بل بأن يرجع الشرير عن طريقه فيحيا"( حزقيال 33 : 11). يفسّر بطرس تأخّر انتهاء العالم ومجيء المسيح ثانيةً على أنه ليس تباطؤاً من الله عن وعده بل هو بالأحرى دليل على رغبة الله في أن جميع الناس يخلصون. يقول بطرس: "لا يتباطأ الرب عن وعده، كما يحسب قوم التباطؤ، لكنه يتأنى علينا وهو لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة" (2 بطرس 3 : 9). إن الكتاب المقدس، باستمرار، يصوّر لنا الله ساعياً لخلاص الناس ولا يصوّره ساعياً للحكم على الإنسان وإهلاكه. إن كنا نبغي الإجابة عن السؤال "لماذا يهلك الإنسان؟" على أن يكون ذلك متّفقاً مع تعاليم العهد الجديد، فالإجابة هي أن سبب هلاك الإنسان هو عصيانه وتمرّده وليس أن الله يريد له الهلاك.
يبيّن العهد الجديد أن دينونة الإنسان عالمياً تعود إلى أن هذا الإنسان يسيء الاختيار عندما يواجه بحقيقة الله، سواء وجد تلك الحقيقة في ضميره أو في الطبيعة أو في الشريعة أو في الإنجيل . إن البحث المستفيض في موضوع خطية الإنسان في العهد الجديد هو في رسالة بولس إلى رومية من 1 : 18 إلى 3 : 19. ويفتتح بولس بحثه هذا بالقول بأن "غضب" الله معلن (رومية 1 : 18). ويقول أيضاً إن هذا الغضب هو على الجميع، يهوداً أم أمماً. أما سبب افتقاد الله العالم بهذا الغضب فهو لأنهم "يحجزون الحق بالإثم" (رومية 1: 18). هل يستطيع إنسان أن يقف أمام الله مبرّراً في عصيانه؟ الجواب: لا. أما السبب فهو أن جميع الناس قد واجهوا حقيقة الله بشكل أو بآخر. فإن الأمم واجهوا الله في الطبيعة. ويعتقد بولس أن العالم الطبيعي كافٍ ليعلن الله للناس حتى أنهم يستطيعون بذلك أن يروا "قدرته السرمدية ولاهوته" (رومية 1: 20). لكن العالم الوثني، على الرغم من معرفته الله، لم يمجّده كإله، بل صنع لنفسه تماثيل وراح يسجد لها ويعبدها عوضاً عن الله. لذلك فالوثنيون الذين يعبدون التماثيل على الرغم من انتشار النور الروحي هم "بلا عذر" (رومية 1: 20). ويمكن أن يقال هذا الشيء ذاته عن اليهود. عن ما لدى هؤلاء من نور يختلف عما لدى الوثنيين، لكن المبدأ واحد. كان لليهودي امتياز على الأممي في أنه "استؤمن على أقوال الله" (رومية 3: 2). لكنه فعل كما فعل الأممي عندما رفض نور كلمة الله وعصى وتمرّد على الله. لذلك فهو كالأممي واقع تحت دينونة الله، وليس له عذر.
نجد هذا المبدأ ذاته قائماً عندما ننظر إلى إنجيل يسوع المسيح، وإنما ذنب المذنب أصبح أعظم من ذي قبل. "الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد. وهذه هي الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم وأحبّ الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة" (يوحنا 3: 18، 19). أعلن يسوع أن إحدى نتائج وجوده في العالم ستكون "الدينونة". وعندما سأله الفريسيون ألعلّنا نحن أيضاً عميان؟" أجابهم "لو كنتم عمياناً لما كانت لكم الخطية. لكن الآن تقولون أننا نبصر فخطيتكم باقية" (يوحنا 9: 39- 41).
يظهر، إذن، أن جميع الناس يواجهون الله ويلتقونه في الحياة بشكل ما. إن لديهم بعض النور الروحي. يغتمّ كثير من الناس بسبب ظنّهم أن الله قد يدين الناس ويلقي بهم في عقاب أبدي دون أن تتاح لهم أية فرصة ليعرفوا الله. إن لجميع الناس، باعتقاد العهد الجديد، وسائل ووسائط يعرفون الله بها. لديهم نور، وهم مسؤولون عن كيفية تصرّفهم في ذلك النور. إنهم يدانون على عصيانهم الله وتمرّدهم على نوره. لا يعني هذا أن جميع الناس العائشين في الخطية حاصلون على النور الكافي الذي يمكّنهم من أن يخلصوا، بل يعني أن لجميع الناس النور الذي يكفي لجعلهم بلا عذر في خطيتهم ولوضعهم بعدل تحت دينونة الله. وأنهم يهلكون، لا لأنهم يجهلون الله بل لأنهم رفضوا النور. صحيح أن على الناس مقادير مختلفة من الذنب، وكلما ازداد النور الذي لدى الإنسان كلما كانت خطيته أعظم إذا رفضها. لكن القضية التي نحن بصددها الآن هي لكل إنسان نوراً وأنه مسؤول تجاه الله بقدر ذلك النور. فالبعض يرى وجه الله في الطبيعة، والبعض الآخر يراه في الضمير البشري، أو في الشريعة اليهودية أو في الإنجيل المسيحي – لا يهمّ اختلاف الأسلوب الذي يرى الإنسان فيه الله. جميع البشر هالكون، وجميعهم تحت الحكم، وجميعهم أخطأوا. كلهم ملومون على حالتهم الروحية ولا عذر لهم. إن سبب هلاك الإنسان هو الإنسان نفسه لا سواه.
كان من الممكن التوقّف عند هذا الحد، لكننا نصرّ على أن الله يقوم بتنفيذ قصد خلاصي وخطة فدائية في العالم. لكن، عندما نقول أن الله كليّ القدرة، ويُسَرّ بالخلاص، ويسعى ليخلّص جميع الناس نواجه مشكلة فكرية صعبة. فنسأل: لماذا، إذن، لا يخلّص جميع الناس؟ إن كان الله قادراً على كل شيء وراغباً في خلاص جميع الناس، فلماذا لا يخلّصهم جميعاً؟ يبدو أننا في حاجة لأن نجد جواباً عن هذا السؤال كي نتمكّن من المحافظة على إيماننا بجودة الله السائدة. إن القول بأن وجود الشر في العالم هو الجواب لا يمكن أن يكفينا. لا نستطيع بحال أن نقول أن هلاك البشر بشكل أبدي نهائي يمكن أن يسهم في خير البشر. إنه لا بد من التوصّل إلى الحق وإلا يعسر علينا أن نحافظ على إيماننا.
لقد أُعطي بشكل عام جوابان أو حلاّن لهذه المشكلة. إن أحد هذين الجوابين هو هذا الذي يظن الناس، خطأً، أنه يرتبط بالاعتقاد بالاختيار الإلهي المُسبق للخلاص. إنه الجواب الذي يقول بما يسمى"الاختيار المزدوج." يقول أصحاب هذا الجواب إن الله، بموجب اختيار سيادته المطلقة، عيّن إن بعض الناس يخلصون والبعض الآخر يهلكون هلاكاً أبدياً. أن العامل المتسبّب في خلاص المفديّين وإدانة الهالكين، حسب هذا الجواب، هو اختيار الله حسب قصده وسيادته. لا يمكن أن يكون هذا جوابنا إن كنا نؤمن أن التعليم الذي سبق البحث فيه هو من صميم تعليم العهد الجديد. أن ذلك الجواب يجعل الله مسؤولاً عن هلاك الإنسان. لأنه، إن كان الله يقدر أن يخلّص جميع الناس ولكنه يُحجم عن ذلك، فكيف يكون الإنسان مذنباً إذا هو هلك؟ صحيح أن قسوة هذا الموقف تخفّ كثيراً بالقول أن لدى الله أسباباً تجعله يختار الهلاك لبعض الناس- أسباباً تخفى علينا- لكن ذلك لا يكفي لإزالة ما نراه متناقضاً في الفكرة الكتابية المتعلقة بمحبة الله الفادية. أن هذا الموقف، الذي نعتقد أنه مغلوط، مؤسّس على ثلاثة أخطاء أساسية هي: الخطأ في تفسير الكتاب المقدس، والخطأ في تطبيق المنطق، وعدم فهم الطبيعة الصحيحة لعلاقة الله بالناس.
أولاً، إن هذه الفكرة القائلة بأن الله يعيّن أناساً للهلاك قد بنيت على التفسير المغلوط لبعض المقاطع في العهد الجديد. ربما كان المقطع الرئيسي الذي يتّخذه البعض دعامة لعقيدة "الاختيار المزدوج" هو رومية 9: 6 -24. في هذا المقطع ترد آيات مثل: "فإذن، هو يرحم من يشاء ويقسّي من يشاء " (9: 18)، "أم ليس للخراف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان؟" (9: 21)، "أنية غضب مهيّأة للهلاك" (9: 22). حسب الظاهر، تعلّم عبارات كهذه أن مصائر جميع الناس قد سبق فتقرّرت بأمر إلهيّ، وإن الله يتعامل مع الناس كما لو كانوا كتلاً من الطين يصنع بهم ما يريد ويختار. لكن، إذا فحصنا هذا المقطع في ضوء قرينته في الفصل الذي ورد فيه، لا نجد أن له هذا المعنى. إن استخدام الآية من رسالة رومية، لإثبات العقيدة القائلة بأن البعض مختارون للهلاك، لهو مثال لخطر اتخاذ آية من الآيات حجة دون الرجوع إلى قرينتها (1). إن هذا المقطع، كما سبق أن ذكرنا في الفصل الرابع من هذا الكتاب، يعالج قصد الله التاريخي. الاختيار السابق الذي تتكلم عنه الآية هو اختيار لدور في التاريخ. وعلاوة على هذا تصبح الآية ألطف معنى إذا اعتبرنا الإصحاحات التي تجيء بعدها. فإن الإصحاحات 9 و10 و11 من الرسالة إلى رومية تشكّل وحدة فكرية. يريد بولس في الإصحاح 9 من الرسالة أن يبيّن بشكل عام أنه ليس لإسرائيل كشعب أي حق يطالب الله به، وأن الله سيّد التاريخ ويستخدم أدوات مختلفة ليتمّم إرادته بها ثم يلقي بها ويطرحها جانباً. إن النقطة المركزية في الإصحاح هي أن كون الإنسان من نسل إبراهيم حسب الجسد لا يخوّله حق المطالبة بنعمة الله. نرى هذا موضحاً لنا في تدخّل الله بسيادته واختياره اسحق ويعقوب كأداتين لإتمام الوعد المعطى لإبراهيم. عندما يختار الله فهو يمارس حقه في أن يفعل ما يشاء وليس لإنسان أي حق في الاعتراض على ما يقرّره الله ويختاره (الآيات 19و20).
مع كل هذا يشير بولس في رومية 10 إلى أن الله لم يعامل إسرائيل بتقلّب أو بطغيان. سعى الله عبر العصور ليجعل بني إسرائيل يخضعون له، لكنهم عصوا ورفضوا نعمة الله المعروضة عليهم. إذن، فالسبب الحقيقي لرفض الله لإسرائيل هو عصيانهم وليس لأن الله اختار أن يرفضهم. أما رومية 11 فيجيء بعد ذلك ملطّفاً للفكرة إذ يبين أن الله لم يعتبر قول إسرائيل "لا" قولاً نهائياً. إنه لا يزال يعمل ليخلّصهم، وسوف يفعل ذلك عن طريق الخلاص الذي في يسوع المسيح. ليس في هذه الإصحاحات من الرسالة إلى أهل رومية ما يؤيد الاعتقاد بان الله فعلاً يقرّر سلفاً هلاك أي إنسان كفرد. بل، على النقيض من ذلك، في هذه الإصحاحات الكثير مما يدلّ على اهتمام الله بخلاص الإنسان وأنه يعمل بكل طريقة ممكنة ليوصل الخلاص إلى جميع الناس.
هناك مقطع آخر استعصى على المفسرين هو مرقس 4: 11- 12 :"فقال لهم قد أعطي لكم أن تعرفوا سرّ ملكوت الله. وأما الذين هم من خارج فبالأمثال يكون لهم كل شيء، لكي يبصروا مبصرين ولا ينظروا ويسمعوا سامعين ولا يفهموا، لئلا يرجعوا فتُغفر لهم خطاياهم." يقول ظاهر هاتين الآيتين كما لو أن يسوع يقوم بعمله ليضمن هلاك قسم من الناس. إن هاتين الآيتين، وإن كانتا لا تقولان شيئاً عن اختيار الله المسبق لهلاك بعض الناس، لكنهما، إذا أخذتا بمعناهما الحرفي، تثيران الشك في رغبة الله في خلاص جميع الناس. الحقيقة هي أنه يجب ربط هذا المقطع من الإنجيل بقرينته، سواء في قصة خدمة يسوع أم في العهد القديم. من الضروري، أولاً، أن ندرك أن القصد الأساسي من تعليم يسوع أمران مختلفان: دينونة للبعض، وفهم وإدراك للبعض الآخر. إن المقطع الذي يستشهد يسوع به هنا مأخوذ من أشعياء 6: 9- 10 ومصوغ في شكل أمر من الله إلى الشعب. من أساليب التعبير في اللغات الساميّة استخدام "صيغة الأمر" بينما يكون المقصود "إعلان نتيجة" (2). إن هذا المقطع، في الحقيقة، يعني أن تعليم يسوع الذي عرّف التلاميذ بحقيقة ملكوت الله وحكمه هو نفسه يؤدّي بغير المؤمنين إلى العمى الروحي. إن هذه النتيجة في غير المؤمنين هي عمل قضائي من جانب الله لكنها ليست في ذاتها ما يقصده الله من التعليم – إذ أن قصد الله هو في أن يسمع المؤمن التعليم ويفهمه.
ليس هذا، في الواقع، إلاّ مثلاً آخر على حقيقة ضياع الإنسان كنتيجة لرفضه النور. إن كل رفض من جانب الإنسان إنما يزيد في انحراف النفس، حتى إن من هو أعمى وفي ظلام بسبب خطيته يمسي في ظلام أشد. إن كل كارز بالإنجيل يعرف هذه الحقيقة الخطيرة. عندما يلقي أحدنا عظته على الجمهور يأمل أن بعضاً من سامعيه يستنير ويتبارك من سماعة البشارة. لكنه يعلم أيضاً أن البعض الآخر سيسمع ويرفض، ونتيجة لذلك الرفض يتحوّل ما قصد به خير وينتج منه الخير فيصبح مصدراً للدينونة في حياة أولئك الرافضين. كان يسوع يعرف صدق هذه الحقيقة فيما يختص بتعاليمه. إن هذا المقطع المأخوذ من إنجيل مرقس له المعنى ذاته والأهمية ذاتها اللذان لغيره من مقاطع العهد الجديد التي تتحدث عن الله وإخفائه الحق وتقسيته قلوب الناس. بحسب النظام الأدبي للكون يتوجّب على البشر، إذا واجهوا الله، أن ينصاعوا له ويستجيبوا دعوته. أما إذا كان ردّهم على دعوته هو العصيان والتمرّد فإنهم يهلكون، إذ أن النور الذي وجد لإنارتهم يمسي أداة لدينونتهم. لكنّ سبب دينونتهم، في النهاية، ليس النور بل رفضهم للنور. وهكذا، فالإنسان مسؤول عن وقوعه تحت الدينونة. لا بدّ لنا من قبول هذه الحقيقة إن كنا نؤمن بتعاليم العهد الجديد.
ثانياً، هناك خطأ في تطبيق المنطق لدى أولئك المتمسكين بعقيدة "الاختيار المزدوج، " الذين يستندون في عقيدتهم تلك إلى المنطق. لا بدّ من القول أنه من غير الممكن أن يكون المنطق أساساً للعقيدة المسيحية. في هذا خطر جسيم، وهو أن المنطقي الذي يبدأ بداية صحيحة قد يصل آخر الأمر إلى استنتاج مغلوط. بكلمة أخرى، إن عقل الإنسان محدود وعرضة للخطأ. لا، لا يمكن الاعتماد على المنطق. إن المؤمن المسيحي ليصرّ على أن تكون كل العقائد مؤسسة على إعلان الله، أي أن تجيء كلها من الكتاب المقدس. في هذه الحال وحدها يجد المؤمن المسيحي ما يبرّر المغامرة بالحياة بناء على الثقة بصدق العقيدة. على كل حال، لا ضرر من فحص الناحية المنطقية لأي موقف لكي نرى إن كان ذلك الموقف هو حقاً منطقي أم لا.
يبدأ الجدل حول الاختيار المزدوج بتلك الحقيقة المتعلقة بالاختيار للخلاص. هذه البداية صحيحة إذ أنها تأتي من الأسفار المقدسة الموحى بها، كما سنرى في الفصل التالي. من نقطة البداية هذه يقول أصحاب هذا الرأي أنه إذا كان الخلاص يجيء نتيجة لاختيار الله فالدينونة، إذن، لا بدّ لها من أن تجيء من المصدر ذاته. والواقع إن هذا الحوار مبنيّ على الاعتقاد بأن نقيض ما هو حقيقي لا بدّ من أن يكون حقيقياً أيضاً. قد يصدق أحياناً، ولكنه في الغالب لا يصدق. مثال على ذلك: الرجل المريض، إذا رفض تناول الدواء الذي له فيه الشفاء فإنه يُعدّ غبياً، لكن ذلك لا يعني إنه إذا تناول الدواء عدّ ذكياً وعبقرياً. الوالد الذي يسعى لتعليم أولاده في الجامعة يحسب أباً محبّاً لأولاده، لكن هذا لا يعني إن من لا يعلّم أولاده في الجامعة يبغض ًأولاده ويكرههم. الحاكم في أي بلد ينشئ المدارس لأنه يريد لأهل بلده العلم والتقدّم، لكنه إذا بنى سجناً فذلك ليس لأنه يريد أن يصير الناس مجرمين. عندما نقول أن الله يخلّص الناس لأنه يحبهم ويعمل عن قصد لكي يأتي بهم إلى الخلاص فقولنا هذا ليس من الحق في شيء. إن فكرة كهذه مبنية على المنطق، وهو منطق زائف لا يحظى بتأييد الكتاب المقدس.
ثالثاً، هناك سبب، قد يكون رئيسياً، لرواج عقيدة الاختيار المُزدَوِج في بعض الأوساط، وهو عائد لعدم فهم طبيعة علاقة الله بالناس. يشهد العهد الجديد بشكل عام بأن هذه العلاقة شخصيّة وليست ميكانيكية ولا نصف شخصية. حالما يدرك الإنسان هذه الحقيقة تتغيّر لديه صورة محبة الله الفادية وكيفية عمله. مثال ذلك إن علاقة الإنسان بأولاده تختلف كثيراً عن علاقته بسيارته. إن علاقته بسيارته علاقة آلية محضة. فهو يستطيع أن يتصرّف بسيارته كما يريد إن استطاع ذلك، والآلة تطيعه لأن لا خيار لها وليست لها إرادة في ذاتها. الإنسان في هذه الحال هو الذي يختار ويقرر ماذا يفعل، وينفّذ بالسيارة ما يريده. لكن هذا الإنسان لا يتصرّف مع أولاده بهذا الأسلوب. يشعر الأب أن ابنه شخص، ويستطيع أن يختار، وإن ما يمكن عمله بالقوة محدود. يجد الإنسان أن الولد يحتاج إلى أن يتعلّم وأن يبذل الجهد في إقناعه وتوجيهه وتدريبه وتربيته لينمو ضمن حدود شخصيّته. في التعامل مع الطفل، المحبة أعمق أثراً من القوة، والإقناع أقوى من القصاص. ربّما تستخدم القوة في التعامل مع الأشخاص وتستخدم القصاص، لكنّ لذلك حدوداً لا يمكن تجاوزها. قد ينجح الوالدان في إرغام ولدهما على تكنيس الأرض، ولكن لا يستطيعان إرغامه على احترامهما.
هذا تماماً ما يجري بالنسبة لله وعلاقته بالإنسان. إن الإنسان شخص خلقه الله ومنحه مقوّمات خاصة تجعله شخصاً مميّزاً، والله أيضاً شخص ، والعلاقة التي يسعى لتوطيدها بينه وبين الإنسان علاقة شخصية. إن الله، بناء على ما يرشدنا إليه العهد الجديد، يعمل على جعل الناس يسلّمون حياتهم له ويحبونه ويتبعونه لكي يباركهم بالشركة معه. لا يسعى الله ليقيم علاقة قسرية بالإنسان، فهو يعرف أن القوة المجرّدة لا تأثير لها في هذه العلاقة. إن الحاجة هي لتعليم الإنسان، وإقناعه، وتدريبه، واجتذابه، وتنميته في اتجاه قصد الله في ما يختص بذلك الإنسان. يرغب الله بفضل محبته أن يفعل كل هذا لإنسان، لكنه لا يفعله لإنسان هو غير راغب في الحصول على العون والمساعدة.
يتبيّن هنا الخطأ في العقيدة المسماة عقيدة "النعمة التي لا تقاوم." قد يسأل البعض عن المقصود بهذه العبارة. إنها توحي للعلماني أو للشخص العادي بالفكرة بأن الله يستطيع أن يفعل بأي إنسان كل ما يريد، ولا حول لذلك الإنسان ولا طول على مقاومة نعمة الله، وهكذا لا يستطيع أن يُحبط إنجاز قصد الله. إن كان هذا هو المقصود بالنعمة التي لا تُقاوم فهذا لا ينطبق بحق على اختيار الخلاص. إن كان الله يخلق الإنسان فيعطيه القدرة على قبول الخلاص، فإن ذلك يوجب أن يعطيه أيضاً القدرة على رفض الخلاص. إننا عندما نفترض أن الإنسان يرغم على اتخاذ قرار ضد رغبته فإننا بذلك نسلب هذا الإنسان إنسانيته. إن القدرة على الاختيار اختياراً حرّاً تفترض أن يكون للإنسان أيضاً حرية اختيار ما هو معاكس لإرادة الله. إن هذا لأمر ضروري لا مفر منه. إذا كان الإنسان مُجبراً على الدخول في أية شركة فتلك لن تكون شركة بل عبودية. ليس من سبيل لإرغام الإنسان على حب الله لأن الحب لا يكون بالإرغام.
إن الإجابة الصحيحة عن السؤال المطروح أمامنا هو أن الله "لا يستطيع" أن يخلّص كل إنسان، من أجل هذا هو لا يخلّص كل إنسان. إنه يريد ويرغب في أن يفدي كل إنسان، لكنه لا يستطيع أن يخلّص من يرفض أن يَخلُص. قد يقول البعض إن هذا القول يجعل قوة الله محدودة. هذا صحيح، ولكن هذه المحدودية لا تتناول ذات الله بل تتناول القوة فقط. القوة ليست الحقيقة النهائية في عالم شخصي. قوة الله غير محدودة، لكن، للقوة ذاتها حدودها. إن الذي نقوله هو أن العمل الذي يقوم به الله محدود، إذ أن هناك أشياء لا يستطيع أن يفعلها. يتفق هذا مع ما يعلّم به الكتاب المقدس. مثلاً، جاء في رسالة العبرانيين أن الله لا يستطيع أن يكذب (عبرانيين 6: 18). إن ما يجعل الله غير قادر على الكذب ليس أنه لا قوة له على ذلك بل لأنه الله. إن مجال العمل الذي يقوم به أي إنسان مجال محدود. وما ينطبق على الإنسان في هذا الأمر ينطبق أيضاً على الله. في أمر الخلاص، الله محدود بطبيعة الأشياء التي يريد أن يعملها. عندما تقول إن حالة الخلاص هي التي يكون فيها الإنسان في شركة حرة وطوعية مع الله، فإنك بهذا التعريف تحدّد عمل الله وتقيّده. إن تحقيق شركة كهذه يتطلب ممارسة وسائط ووسائل غير استخدام القوة.
إن القول بأن الله لا يستطيع أن يخلّص جميع الناس يتضمّن فكرتين تؤلفان معاً فكرة الكتاب المقدس كطاقين في حبل واحد. الطاق الأول هو القول، الذي يتردّد كثيراً بين الناس، بأن الله يريد الخلاص لجميع الناس. أما الطاق الثاني فهو القول، المؤيّد من الكتاب المقدس، بأن بعض الناس لن يخلصوا. لكن، يستحيل القول بأن الله يريد خلاص كل إنسان ومع ذلك فالبعض لا يخلصون إن كنت تفترض أن لله القوة ليخلّص جميع الناس. لا بد من الاستنتاج، بناء على هذا، إن السبب في أن البعض لا يخلصون هو أن الله، بالنسبة لهؤلاء، لا يستطيع أن يفعل لهم ما يحب أن يفعله. إنه لا يستطيع أن يخلّصهم قسراً وعلى الرغم منهم.
نرى، إذن، إن المسؤولية النهائية عن هلاك الإنسان تقع على هذا الإنسان بسبب تمرّده على الله ورفضه لنعمته. لا يمكن أن يُلام الله، بأي حال، على وقوع اللعنة والدينونة على الإنسان الذي يهلك نهائياً. إن هذا تصريح أساسي يقول به الكتاب المقدس مثلما هو الاستنتاج الضروري للفكر المنطقي. صحيح أن الله خلق هذا العالم الذي نعيش فيه كما هو في الواقع وخلقنا كما نحن. قام بالخلق وهو يعلم إن النتيجة النهائية ستكون إن بعض الناس يهلكون. ليس ذلك فقط بل هو أيضاً ينفّذ الدينونة في الإنسان الذي يظل مستمراً في خطيته. قد نقول إن الله، حتى هذا الحد، مسؤول إلى أبعد المدى عن هلاك الإنسان. فلو إنه لم يخلق أحداً لما كانت ضرورة لهلاك أحد. لكن هذا يعني أيضاً أنه إذا لم يخلق الله أحداً لا يكون خلاص لأحد.
وهكذا، على الرغم من التأكيد بأن الإنسان نفسه مسؤول عن هلاكه إذا هلك، يظل هناك بعض من الاضطراب في تفكيرنا في هذا الموضوع، ونظل في حيرة من أمرنا أمام لغز يصعب علينا حلّه. ربما يزول من نفوسنا هذا الاضطراب الناشئ عن مواجهتنا لحقائق علاقة الله بالناس الذين يهلكون، لكن اللغز يظل لغزاً وتصعب إزالته كلياً. إننا نحتاج، أولاً، أن نذكر أن الله يريد الخير ويعمل على إيجاده بقوته الخلاّقة. ويجب ألا نسمح لأنفسنا بالانسياق في خطأ الظن بأن الله يريد الشر، والمعاناة، والألم لأحد. يجب أن نذكر أن الوصف الذي يصف به الكتاب المقدس كلاًّ من جهنم والعقاب الأبدي وصف تصويريّ يُقصد به التعبير بلُغةٍ بشرية عن فظاعة الحياة بدون الله. ليس الله كائناً مخيفاً يحب إيقاع الأذى والألم بالمخلوقات العاصية ويلتذ بصبّ غضبه عليها. الله إله محبّ ويرغب في خلاص العاصي، ولكن رغبته تلك مُعاقة بسبب استمرار العاصي في انحرافه عن جادة الصواب. علينا أن نفكّر بجهنم على أساس أنها المكان الذي إليه يسمح الله بذهاب العاصين لكي يواصلوا إلى المنتهى ذلك النوع من الحياة الذي اختاروه لأنفسهم – أي الحياة بدون الله.
- عدد الزيارات: 5167