٦ نماذج من العهد القديم عن الإيمان
ذكرنا فيما سلف شيئا عن الإيمان وأثره في النفس ، وللفائدة نأتي فيما يلي ببعض النماذج التي وردت في الكتاب المقدس عنه ، لكي تكون منوالا ننسج عليه ، فمكتوب " انظروا الى نهاية سيرتهم فتمثلوا بايمانهم " (عبرانيين ۱۳ : ۷) .
۱ ـ تقديم هابيل ذبيحة عن نفسه لله : فقد قال الوحي عنه "بالإيمان قدم هابيل لله ذبيحة أفضل من قايين ، فيه ( أي بالإيمان ) شهد له أنه بار ، إذ شهد الله لقرابينه " (عبرانيين ١١ : ٤) - أن دليل على أنه كان يؤمن بالله ، وأنه كانت له تقديم هابيل ذبيحة لله ، معه علاقة خاصة مع أنه لم يره بعينيه وسمعه بأذنيه . ومن هذه العلاقة، عرف أن الله وإن كان شفوقًا رحومًا غير أنه قدوس وعادل أيضًا . ومن ثم أدرك هابيل بالايمان أنه لا يمكن أن ينجو من قصاص إلا إذا قدم ذبيحة عن نفسه لله . وهذه الحقيقة لم يكن لهابيل خطاياه أن يدركها بعقله وحده ، أو يتلقاها من أبيه وحده فأخوه قايين كان ، ويعتقد أن النجاة من هذا القصاص تكون بالجد يستهجنها ويحتقرها والاجتهاد ، الأمر الذي ظهر فى تقديمه قربانا لله من ثمار الأرض التي كان يفلحها بعرق جبينه ( تكوين ٤ : ٣). ولكن ارتقاء هابيل فوق الفكر البشرى وايمانه بالله ايمانا حقيقيا ، هو الذى كشف له الحقيقة المذكورة . ولذلك قدم عوضا عن نفسه ذبيحة بريئة عنوانا للفداء رسمه له إيمانه . وبهذا الإيمان شهد الله لهابيل أنه بار ، ومن ثم كان أول من أخذ هذا اللقب الكريم بين البشر ، مثالا للعتيدين أن ينالوا التبرير اسطة الايمان الحقيقى بذبيحة المسيح ، التى كانت ذبيحة هابيل من الله بو رمزا لها من بعض الوجوه (۱)
۲- سير أخنوخ مع الله : فقد قال الوحي عنه " بالايمان نقل اخنوخ لكي لا يرى الموت ، ولم يوجد لأن الله نقله اذ قبل نقله شهد له بأنه قد أرضى الله " (عبرانيين ١١ : ٥) - ان العصر الذي عاش فيه أخنوخ كان يتميز بالجنوح عن الله والركض وراء الأهواء النجسة (كما يتضح من رسالة يهوذا)، لكن اخنوخ رأى ببصيرته الروحية أن الله لا يمكن أن يرضى عن هذه الأعمال ، ولذلك انصرف عنها ، كما انصرف عن معاصريه جميعا ، غير مبال بالروابط الاجتماعية والعائلية التي تربطه بهم . ومع أنه لم ير الله بعينيه أو سمعه بأذنيه ، لكنه ارتقى اليه وأحبه ، ثم سار بالروح معه سيرا كاد يرقى بجسده أيضا إليه . ولما رأى الله أن اخنوخ يهفو اليه بهذه الدرجة التي لا نظير لها ، عز عليه أن يتركه مع البشر لقضاء الموت ، بل نقله وهو حى الى السماء ليواصل علاقته معه بحالة أفضل وأكمل ، فكان بذلك مثالا للقديسين الذين سينقلهم الله من هذا العالم دون أن يذوقوا الموت (۱كورنثوس ۱٥: ٥١ - ٥٢ ، ۱ تسالونيكي ٤ : ١)
٣ - بناء نوح للفلك : فقد قال الوحي " بالايمان نوح ، لما أوحى إليه عن أمور لم تر بعد ، خاف فبنى فلكا لخلاص بيته ، فبه دان العالم وصار وارثا للبر الذي حسب الايمان " (عبرانيين ۱۱ : ۷) - كان نوح يعيش أيضا في عصر مثل الذي عاش فيه اخنوخ ، ولذلك انصرف عنه ( كما فعل اخنوخ من قبل) و أطاع الله واتقاه . فأحبه الله وقربه إليه وأعلن له أنه سيرسل طوفانا على الأشرار حتى يفنيهم ، إذ أن سر الله لخائفيه وعهده لتعليمهم (مزمور ۲٥ : ١٤) . ومع أن نوحًا لم يكن قد سمع بعد عن طوفان يغطى الأرض كما قال له الله ، أو رأى أية بادرة تدل على جواز حدوثه ، إلا أنه آمن باعلان الله وخاف (وكلمة خاف لنا ، كما يقول علماء اللغات ، ترد في الأصل ليس بمعنى ارتعب من ذكر الطوفان ، بل بمعنى خشع أمام الله وتأثر بإعلانه) ، ولذلك شرع في بناء الفلك الذى أمره الله ببنائه . ومن المحتمل جدا أن معاصريه كانوا يسخرون منه ، لأنهم رأوه يبنى فلكا لم يشهدوا مثله في الضخامة من قبل ، ويبنيه داخل المدينة بعيدا عن شواطئ الأنهار والبحار بعدًا عظيمًا . ولكن نوحا لم يعبأ بسخريتهم وظل يعمل في فلكه حوالي مائة عام دون ملل أو كلل ، ودون أن يعتريه في أقوال الله شك أو ريب ، ذلك لأنه كان يؤمن بالله ايمانا حقيقيا ويصدق اعلانه على الرغم من غرابته بالنسبة إلى العقل . وفي الوقت المعين ، حقق الله قوله لنوح وغير نوح ، فأغرق الأشرار بالطوفان وأنقذ نوحا وأولاده منه بواسطة الفلك ، فصار بذلك وارثا للبر الذي حسب الإيمان ، ومثالا للمؤمنين العتيدين أن ينجوا بواسطة المسيح من الدينونة التي ستنصب على الأشرار في الأيام الأخيرة (۲ تسالونيكي ٢ : ٦ - ٨).
٤- (أ) انفصال إبراهيم عن عشيرته : فقد قال الوحي عنـه " بالايمان ابراهيم لما دعي ، أطاع أن يخرج الى المكان الذي كان عتيدا ان ياخذه ميراثا . فخرج وهو لا يعلم الى أين يأتي " (عبرانيين ۸:۱۱) - كان إبراهيم يعيش بين أهله وعشيرته في حاران . وبمجرد أن تلقى دعوة من الله بالخروج من هذه البلدة الى بلدة أخرى لم يعينها تعالى له، أطاع ( وكلمة أطاع هنا ، كما يقول علماء اللغات ، ترد في الأصل بمعنى الطاعة السريعة التي لا تعرف ترددا أو تريثا ) . وهنا يتجلى ايمان ابراهيم بصورة رائعة ، فقد آمن بدعوة الله وصدقها ضاربا عرض الحائط بكل احتجاجات العقل و سخرية قومه واستفهاماتهم المتعددة ، إذ كان يعلم علم اليقين أن الله لا بد أن يتمم ما وعد به . ولذلك لم يسأل الله : أين سيسير به ؟ أو متى سيأتى به الى المكان الذي قال له عنه؟ أو كيف يعلن له أن هذا هو المكان الذي يقصده تعالى (۱)؟ أو…. ؟ أو ….؟ بل سار مع الله ، بالروح ، وهو لا يعلم الى أين يقوده تعالى ، أو متى يأمره بحط الرحال أو …. أو وكان لهذا التصرف ولا شك قدر عظيم في نظر الله ، فأحب ابراهيم وأكرمه.
(ب) تغرب إبراهيم فى أرض الموعد : فقد قال الوحي عنـه " بالايمان تغرب في أرض الموعد كأنها غريبة ، ساكنا في خيام " - عندما دعا الله إبراهيم للخروج من حاران (وحاران كانت وقتئذ إحدى بلاد بابل المتحضرة) ، كان يتوقع حسب تفكيره أن الله سيقوده الى بلدة أفضل ، ولكنه وجد نفسه في صحراء قاحلة لا مجال فيها للراحة أو الاستقرار ، فأخذ يجوب فى مرتفعاتها ومنخفضاتها متنقلا بخيامه بين هذه وتلك ، حتى الجيل الثالث من أولاده (عبرانيين ۱۱ : ۹) ، دون أن يتذمر أو يفكر في العودة الى وطنه الذى خرج منه ، ذلك لأنه كان يرى الله أمامه ، وكفاه بالله رفيقًا ونصيبًا - وهكذا انتصر إيمانه مرة ثانية على أشواق الطبيعة البشرية وميولها ، وأيقن أن الله لا بد أن ينفذ وعده ويعطيه هو وأولاده في وقت ما ، الأرض الطيبة التي وعده بها فرأى فضلا عن ذلك فقد انفتحت بصيرته الروحية وهو في الصحراء السماء مدينة الله العلى ، وأدرك أن الله سيعطيها أيضا له موطنًا ، وأنه لمواصل إليها بعد حين . فرحب بها وعاش فيها بقلبه (عبرانيين ١١ : ١) ولذلك استهان بالغربة ومتاعبها . الأمر الذي لم يكن لغير الإيمان أن يفعله.
(ح) الثقة بأن الله سيعطيه ابنًا وهو في دور الشيخوخة : فقد قال الوحي عن إبراهيم " وإن لم يكن ضعيفا في الإيمان ، لم يعتبر جسده وهو قد صار مماتا (إذ كان ابن مائة سنة) ، ولا مماتية مستودع سارة (امرأته) ، ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله، بل تقوى بالإيمان معطيا مجدا لله " (رومية ٤ : ١٩) - كان الله قد وعد إبراهيم من قبل بابن ، وأخذ ابراهيم ينتظر هذا الابن بكل صبر طوال سنى القوة ، لكن مضت هذه السنون دون أن يرزق به . ثم دخل هو وزوجته في دور العقم الذي يستحيل معه على الطبيعة البشرية إنجاب البنين . وهنا كان من الجائز أن يشك إبراهيم في وعد الله ، غير أنه ارتفع فوق ناموس الطبيعة وصدق الله ، مؤمنا أنه لا يعسر عليه أمر ، فحقق الله وعده له وأعطاه اسحق الذي أدخل السرور إلى قلبه كثيرا.
(د) تقديم ابنه ذبيحة مع الثقة بأنه سيعود الى الحياة بعد ذبحه:
فقد قال الوحي " بالايمان قدم ابراهيم اسحق وهو مجرب · قدم الذي قبل المواعيد وحيده ، الذي قيل له انه باسحق يدعى لك نسل . اذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات أيضا " (عبرانيين ۱۱ : ۱۷ - ۱۹) كان الله قد وعد إبراهيم بأنه باسحق سيكون له نسل ، وأن في هذا النسل (۱) ستتبارك كل أمم الأرض (تكوين ٢٦ : ٤) . فعلق ابراهيم كل آماله على اسحق منذ ولادته، وعاش على هذا الأمل طوال حياته ولذلك عندما طلب الله من ابراهيم أن يقدم اسحق ذبيحة ، دخل ابراهيم في مأزق حرج . وهنا كان لإبراهيم أن يتساءل ، لماذا يطلب الله منى أن أقدم له اسحق : هل الله يسر بالذبائح البشرية كآلهة الوثنيين؟ ولماذا يطلب منى اسحق بالذات ، وهو يعلم أنه أغلى لدى من كل شيء في الوجود ؟ أو لماذا يطلب منى أن أذبح اسحق بيدى، وهو يعلم أنه أهون على أن أذبح نفسي من أن أذبحه ؟ ثم إن ذبحت اسحق وهو لا يزال فتى صغيرا ، فكيف يتمم الله وعده بالبركة للعالم كما قال ؟ وأخيرا ان كان الله يريد أن أقدم له اسحق ذبيحة ، أما كان من الأفضل ألا يعطيني إياه من أول الأمر ؟ لكن ايمان ابراهيم انتصر على احتجاجات العقل ، وتخطى الموت وما وراء الموت ، ووثق أن الله قادر أن يقيم اسحق بعد ذبحه ولذلك تغاضى ابراهيم عن عواطفه الأبوية والانسانية ، كما تغاضى عن عقائده وحججه المنطقية ، ووضع ابنه على المذبح وأمسك بالسكين ليذبحه طاعة لأمر الله . وهنا لمع ايمان ابراهيم لمعانا باهرا (ان جاز التعبير) أخذ بقلب الله نفسه ، فبارك ابراهيم بركة لم يعطها لأحد من قبل
(تكوين ۲۲ : ۱۷) .
ه ـ ترفع موسى مع فقره عن أن يكون ابن ابنة فرعون :
فقد قال الوحي بالإيمان موسى لما كبر ، أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون ، مفضلا بالأحرى أن يذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر ، لأنه كان ينظر الى المجازاة " (عبرانيين ۱۱ : ۲٦ - ۲۸) - كانت ابنة فرعون قد تبنت موسى وهذبته بكل حكمة قدماء المصريين لكي يكون أهلا لعرش مصر يوما من الأيام . لكن هذا العرش لم يكن ليستهوى موسى أو يحوله عن السير في ركاب الله ، الذى كان قد آمن به منذ صباه، لذلك هجر قصر فرعون وعاش بين اخوته كفقراء الأذلاء . ومع أنه لم تكن هناك خطية بالمعنى المعروف لدينا فى بقاء موسى فى هذا القصر وقتئذ ، لكنه رأى أن تمتعه بالعز والرفاهية مع وجود اخوته فى حالة التعاسة والشقاء ، هو خطية وخطية شنيعة ، لذلك ترك القصر غير آسف ولا نادم ، وترك فرعون غير هياب ولا وجل.
والآن لنتساءل : هل ترك موسى فرعون وقصره وارتضى العيش بين اخوته في حالة الفقر والذل ، بدافع من العقل أو العاطفة ؟ الجواب : طبعا كلا . لأن هذين كانا يوحيان الى موسى بالبقاء في القصر ليمدهم بما يحتاجون إليه من طعام وكساء أو حماية ورعاية ، إنما الإيمان والإيمان وحده هو الذي قاده إلى هذا التصرف . إذ بالإيمان أشرق أمامه وعد الله لإبراهيم ، وأيقن أن الله لا بد أن يحققه بحذافيره .. لذلك اختار طريق الاتضاع والآلام طاعة لارادة الله ، هذا الطريق الذي يعبر عن في الكتاب المقدس بـ "عار المسيح " (عبرانيين ۱۱ : ۲۷) . وكيف عرف موسى عار المسيح أو صلبه ، وقد عاش على الأرض قبل مجيء المسيح إليها بآلاف السنين ؟ طبعا عرف ذلك بروح النبوة والإيمان ، إذ سبق ورأى ببصيرته الروحية ما سيتحمله المسيح من آلام في سبيل تنفيذ مشيئة الله ، ومن ثم ارتضى موسى عن طيب خاطر أن يسلك هذا السبيل بعينه ، وكانت النتيجة المباشرة لذلك أن الله أكرم موسى إكرامًا عظيمًا.
٦- سير بنى اسرائيل على أقدامهم فى البحر الأحمر :
فقد قال الوحي عنهم بالإيمان اجتازوا في البحر الأحمر كما في اليابسة، ، الأمر الذي لما شرع فيه المصريون غرقوا " (عبرانيين ۱۱ : ۲۹) - رأى بنو اسرائیل مرة أن العدو وراءهم والبحر أمامهم ، وكان الأول يريد القضاء عليهم وكان الثانى يحول بينهم وبين الأرض التي دعاهم الله اليها وفي مأزق مثل هذا اذ بالله يدعوهم الى عبور البحر بأقدامهم . ولا شك أنها كانت دعوة يصعب على العقل تلبيتها ، ولكن الإيمان بأن الله هو الذي أمرهم بعبور هذا البحر ، وأنه بنفسه يسير معهم ، جعله يضعون أرجلهم على الماء طاعة لأمر الله . وما أعجب ما حدث عنده أطاعوه! فقد انفلق الماء أمامهم الى اليمين والى اليسار ، وكون على جانبيهم سورين كأنهما من صلب ليحولا بينهم وبين الغرق ، ولذلك عبره على قاع البحر حتى وصلوا إلى الشاطئ الآخر بسلام وأمان . واذ رأوا هذا الإحسان العظيم أخذ كل منهم يرنم قائلا " الرب قوتي ونشيدي وقد صار خلاصي . هذا إلهي فأمجده إله آبائي فارفعه يمينك يا رب معتزة بالقدرة ، يمينك يارب تحطم العدو . من مثلك بين الآلهة يارب من مثلك معتزا بالقداسة " ( خروج ١٥ ) .
۷- طريقة شفاء بنى إسرائيل من لدغة الحيات المحرقة : عندما تذمر بنو اسرائيل مرة فى البرية على الله وعلى عبده موسى ، أهاج عليهم تعالى ، الحيات المحرقة ، فأخذت تلدغهم حتى مات منهم قوم كثيرون فلما رأى الباقون أنهم سيموتون حتما مثل غيرهم، هرعوا الى موسى وقالوا له : قد أخطأنا ، فصل إلى الله ليرفع عنا الحيات .فصلى موسى لأجل الشعب . فقال الرب لموسى : اصنع لك حية من نحاس وضعها على راية ( أو بالحرى على سارية ) ، فكل من لدغ ونظر إليها ، يحيا. فصنع موسى الحية ووضعها على السارية فكان متى لدغت الحيات المحرقة انسانا ونظر الى حية النحاس يحيا (عدد ۲۱ : ٤ - ٩) - وأمام هذه الحادثة يسأل العقل : لماذا لم يكن الشفاء من لدغة الحيات المحرقة بواسطة الصوم أو الصلاة أو التوبة أو الصدقة ؟ وللإجابة على عن هذا السؤال نقول : ان هذه الاعمال وان كانت لها قيمتها وفائدتها في ظروف كثيرة ، غير أنها لم تكن تجدي فى الشفاء من لدغة هذه الحيات على الإطلاق وذلك لسبب واحد ، وهو أن الله أعلن لموسى أن شفاء بنى اسرائيل من اللدغة المذكورة يكون بالنظر إلى الحية النحاسية .
ومن ثم كان الإيمان باعلان الله هذا ، هو الوسيلة الوحيدة للشفاء. نعم ان هذه الوسيلة لا تتفق حسب الظاهر مع العقل ، لكن هذا ليس بأمر ذي بال أمام الأيمان ، إذ يكفي الإيمان أن يعرف أن الله هو الذي أمر بالوسيلة المذكورة ، وأنه لا يأمر بشيء جزافًا أو اعتباطًا ، بل لأسباب خاصة لديه : (۱) ولذلك كان كل من يصدق الله وينظر إلى الحيّة النحاسية يشفي من لدغة الحيات المحرقة . وكل من يتحول عن هذه الحية ويكتفى بالصوم والصلاة والتوبة والصدقة أو الاستشفاع بموسى وهارون (مثلا) كان يموت أشرّ ميتة.
۸ - سقوط أسوار أريحا : فقد قال الوحي " بالايمان سقطت أسوار أريحا بعدما طيف حولها سبعة أيام " (عبرانيين ۱۱ : ۳۹) - كان الله قد أعلن ليشوع أنه دفع مدينة أريحا الى يده ، وأنه لن يفتحها برمح أو سيف ، بل بعد أن يطوف حولها هو ورجاله سبعة أيام . ولا شك أن الطريقة التي أمر الله يشوع باتباعها يسخر منها العقل ويهزأ بها العدو . ولكن ايمان يشوع بالله هو الذى جعله يصدق أن الله أعطاه أريحا كما قال، وأنه بالطواف حولها تتساقط أسوارها أمامه . ولذلك لم يتردد فى تنفيذ أمر الله ، على الرغم من غرابته واستهزاء الأعداء به . فطاف هو ورجاله حول هذه المدينة يوما بعد آخر ، وهم يتفرسون في أسوارها عسى أن يلاحظوا حدوث أى تشقق فيها ، ينبيء عن احتمال سقوطها ، ولكن هذه الأسوار ظلت كما هى فى متانتها وصلابتها . وعلى الرغم من ذلك فإن قلوبهم العامرة بالايمان بالله لم يتسرب إليها اليأس على الاطلاق ، من ثم طافوا حول أريحا الى اليوم السابع كما أمرهم الله ، فحقق الله لهم أقواله ، وسقطت أسوار أريحا امامهم ، فدخلوها و امتلكوها فى يسر وسهولة.
۹ - طريقة شفاء نعمان من برصه : كان نعمان (رئيس جيش أرام) مصابًا بالبرص ، ولما لم يجد دواء لعلته عند العرافين والأطباء ذهب الى اليشع النبي . فقال له هذا بإرشاد من الله " اذهب واغتسل سبع مرات فى نهر الأردن ، فيرجع لحمك اليك وتطهر " (٢ ملوك ٥ : ١ ١٠) - وأمام هذه الحادثة قد يسأل العقل : لماذا لم يخرج النبي الى نعمان لكى يصلى لأجله ، أو يضع يده فوق الأجزاء المصابة في جسمه ، كما كان يحدث كثيرا فى حالة الشفاء الإلهي ؟ أو لماذا لم يأمر نعمان بالصوم والصلاة والصدقة والتوبة (مثلا) لكي يشفى من مرضه ؟ أو ماذا لم يطلب منه أن يغتسل في إحدى انهار بلدته آرام، وهي بصفة عامة أفضل من نهر الأردن كثيرًا ؟ وإذا كان لا مفر من الاغتسال في نهر الأردن ، فلماذا أمره أن يغتسل فيه سبع مرات لا أكثر ولا أقل ؟
(الجواب) نظرا لأن الله هو الذى أعلن لأليشع النبي أن شفاء نعمان السريانى يكون بالاغتسال فى نهر الأردن سبع مرات ، لذلك كان الإيمان باعلان الله هذا ، هو الوسيلة الوحيدة لشفائه نعم إن هذه الوسيلة لا تتفق حسب الظاهر مع العقل ، لكن هذا ليس بأمر ذي بال أمام الايمان . إذ يكفي الإيمان أن يعرف أن الله هو الذي أمر بالوسيلة المذكورة ، وأنه (كما مر بنا) لا يأمر بشيء جزافا أو اعتباطا بل لأسباب خاصة لديه (١) . ولذلك عندما أطاع نعمان أمر الله ونزل الى الأردن ليس مرة واحدة أو مرتين بل سبع مرات متتالية ، شفى من مرضه تماما. ولو لم يفعل ذلك ، لما كان قد شفى بأي حال من الأحوال.
- عدد الزيارات: 5