Skip to main content

٧ نماذج من العهد الجديد عن الإيمان

١ - سلوك المسيح بالإيمان : عندما نتحدث عن سلوك المسيح بالإيمان ، لا نقصد المسيح من ناحية كونه " ابن الله" (١) ، لأنه من هذه الناحية لا يحتاج الى السلوك بالإيمان بالمعنى الذي نفهمه ، فكان شيء مكشوف وعريان أمامه (عبرانيين ٤ : ١٢) ، بل نتحدث عن سلوك المسيح بالإيمان من ناحية كونه ابن الإنسان ، لأنه من هذه الناحية كان ينتصر على الجوع والعطش والتعب والألم وغير ذلك (عبرانيين ١٥:٤) هذا السلوك الذي عندما تطلع إليه الرسول ، قال عن المسيح أنه رئيس الإيمان ومكمله (عبرانيين ۱۲ : ۳) ، أي الذي شق طريق الإيمان الحقيقي وأكمله إلى التمام فى حياته ، ويكمله الى الان في حياة المؤمنين به . ولا يتسع المجال أمامنا للكتابة بالتفصيل عن حياة الإيمان التي عاشها المسيح على الأرض، لأن كل خطوة من خطواته كانت بالإيمان ولذلك نكتفي بما يأتي على سبيل المثال :

(ا) علاقته الفريدة بالله : فبالايمان كان يرى الله أمامه في كل حين (أعمال ۲ : ۲٥)، ولذلك كان يحيا باستمرار معه . كما كان يقضى الليل كله فى الصلاة إليه (لوقا ٦ : ۱۲) ، الأمر الذي لم يستطع أحد من رجال الإيمان أن يشاركه فيه . وقد شهد له المجد عن علاقته الفريدة بالله فقال انه يعرف الآب (يوحنا ٧ : ۲۹) وان الآب معه (يوحنا ٨ : ۲۹) ، وأنه فى الآب والآب فيه وأن الآب الحال فيه هو الذي يعمل الأعمال (يوحنا ١٤ : ١٠) وانه والآب واحد ( يوحنا ١٠ :۳۰) ولذلك أعلن عندما كان على الأرض أنه كان في الوقت نفسه في السماء (يوحنا ٧ : ١٣) ، بل وفى ذات حضن الآب في السماء (يوحنا ۱ : ۱۸) ، هذا المكان السرى الذى لا يعرف شيئا عنه شخص سواه .

(ب) عدم اعتماده على البشر وقيامه بعمل المعجزات الباهرة : أن لسان حال المسيح عندما كان على الأرض (كما أعلن النبي بالوحي) ، كان " وأنا أكون متوكلًا عليه " (عبرانيين ۲ : ۱۳) ٠ لذلك كان المسيح يعيش دائما أبدا عالي الرأس ، فلم يتودد مرة واحدة الى أحد و يستميل أحدًا الى جانبه ، بل كان يوبخ رجال الدين والساسة كبيرهم وصغيرهم على السواء، من أجل شرورهم و آثامهم (متى ۲۳ : ۱۳ - ٣٦) . ولما أراد أن يتخذ لنفسه جماعة تنشر رسالته لم يعمد الى الفلاسفة والعلماء أو الأغنياء وذوي الشأن (الذين يمكن أن يكون لهم نفوذ أو تأثير على غيرهم من الناس ، أو يكونوا عونا له فى الشدائد والضيقات) ، بل عمد إلى صيادي السمك الذين يحتقرهم الناس ويزدروهم . المسيح على شيء من موارد الدنيا ، كان يتعرض أحيانا للجوع ، ومع ذلك لم يطلب مرة من أحد طعامًا ، أو استخدم قوته الذاتية في تحويل الحجر الي خبز لكي يأكل ، لأنه كان يعلم أنه ليس بالخبز وحده يحيا الانسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله (متى ٤ : ٤) . وفضلًا عن ذلك كان يثق كل الثقة أن الله يسمع له فى كل حين (يوحنا ١١ : ٤٢)، ولذلك كان يقول للأعمى أبصر فيبصر و للمفلوج قم فيقوم ، وللميت قم فيقوم ، والبحر الهائج اهدأ فيهدأ ، ومن ثم كان ذا سلطان لم تشهد العين مثله على الإطلاق. (لوقا ۱۸ : ٤۲ ومرقس ٤ : ۳۹ و ۲ : ۱۲) .

(ح) حياة التغرب في العالم : وبسبب حياة الإيمان السامية التي عاشها المسيح ، فاق إبراهيم أبا المؤمنين في التغرب عن العالم بدرجة لا حد لها . فابراهيم سكن في خيام، أما المسيح فلم يكن له أين يسند رأسه (متى ۸ : ۲۰ ) ٠ كما أنه لم يتخذ زوجة ولا ولدا ، أو شيئا من الأثاث أو المتاع . فضلا عن ذلك لم يقتن فى جيبه فضة أو ذهبًا ( متى ۲۷:۱۷) أو يحتفظ لنفسه بأكثر من الثوب الذى كان يرتديه ، مع أن غناه لا يستقصى (أفسس ۳ : ۸ ( وملكه لا نهاية له ) مزمور ۲ : ۸) - حقًا عاش فى العالم مثلنا ، ولكنه لم يكن من العالم على الاطلاق ( يوحنا ۱۷: ١٤)

( د ) قبول الصليب لأجل مجد الله : كانت الآلام المعدة للمسيح على الصليب أقسى الآلام في الوجود ، لأنها لم تكن مقصورة على الآلام الجسدية التى كان عتيدا أن يتحملها من اليهود والرومان ، بل كانت تشمل أيضًا آلامًا نفسية لا يعرف قدرها سوى الله وإياه ، لأنها كانت الآلام التي نستحقها نحن في جهنم الى الأبد بسبب خطايانا ومع ذلك تقدم المسيح الى الصليب بخطوات راسخة لا تعرف وهنا أو ترددا (لوقا ۹ : ٥١) ، ذلك لأنه استطاع بعين الإيمان أن يخترق آلام الصليب ويرى من ورائها الخلاص الكامل الذي سيتحقق بموته للبشرية، ويرى أيضا السرور العظيم الذى سيملأ السماء لأجل خلاصهم . كما أيقن بالايمان أن نفسه لن تظل فى الهاوية وأن جسده لن يرى فسادا مثل الذين يموتون

(أعمال ۲ : ۲۷) ، بل أنه سيقوم في اليوم الثالث من الأموات ، وفعلا قام ، وبقيامته انتصر على قوات الشر المنظور منها وغير المنظور . لذلك كافأ الله المسيح (من جهة كونه ابن الانسان) بأجمل مكافأة مكتوب " لذلك رفعه الله وأعطاه اسما فوق كل اسم ، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع هو رب لمجد الله الآب " ( فیلیبی ۲ : ۹ - ۱۱) (۱) - حقا كان المسيح (بوصفه ابن الإنسان) يؤمن بالله ايمانا لا نظير له ، بل كان فى ذاته مثالا كاملا للايمان . إن جميع القديسين الذين عاشوا بالإيمان تحولوا مرة ومرات عن الحياة التي يتطلبها الايمان (۲) لكنه لم يتحول مرة على الإطلاق بل اجتاز دوائر الإيمان كلها وصعد درجاته من أولها الى آخرها، حتى أن بولس الرسول أخذ بهذا الإيمان تماما فأراد أن يقتدى به وينسج على منواله ، ولذلك صاح مرة قائلا " فما أحياه الآن في الجسد ، فإنما أحياه في الإيمان ، إيمان ابن الله ، الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي " (غلاطية ٢ : ٢٠) - ونظرا لأن إيمان المسيح يتضاءل أمامه كل إيمان في الوجود، لم يكن هناك داع للتحدث عن إيمان غيره . لكن لأننا نميل بطبيعتنا للتأمل في إيمان البشر المولودين بالخطية نظيرنا ، نتحدث فيما يلى عن إيمان بعض الذين ذكر الوحي شيئا عنهم في العهد الجديد.

٢ - قبول العذراء الحبل بالمسيح : فقالت اليصابات لها بالروح القدس " فطوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب " (لوقا ۱ : ٤) - كانت مريم فتاة لم تعرف رجلًا ، ولم يسمع في التاريخ أن فتاة مثلها تحبل وتلد على الاطلاق . لذلك كان لمريم أن تشك في قول الملاك لها انها ستلد المسيح دون أن تقترن برجل (لوقا ۱ : ٣٤ و ٣٥) . لكن هذه الفتاة الطاهرة النقية وجد الإيمان إلى قلبها طريقًا رحبـًا فارتفعت فوق نواميس الطبيعة جميعًا ، واعتقدت أن الله الذي كان يقول للشيء كن فيكون ، ويدعو الأشياء الغير الموجودة كأنها موجودة ، حتى أنه لم يتكون ما يرى مما هو ظاهر أو موجود (رومية ٤ : ١٧) ، لا يمكن أن يعسر عليه أمر من الأمور. كما آمنت أن المسيح الذي أخبرها الملاك أنه سيولد منها هو رب الحياة ، ورب الحياة لا يحتاج في اتخاذه جسدا إلى بذرة حياة من رجل ما . لذلك استراح قلبها لوعد الله على الرغم من غرابته ، وآمنت به كل الایمان ، فحققه الله بحذافيره وولد المسيح منها ، وبذلك فإن كل الأجيال تطوبها (لوقا ١ : ٤٨) . 

٣- قبول بولس الرسول للآلام في سبيل المسيح : نظرا لأن هذا الرسول كان قد آمن بالمسيح وأخلص له ، استطاع أن يدرك محبته ومجده بدرجة لم يشاركه فيها معظم الناس ، لذلك طرح عنه كل امتيازاته اليهودية والرومانية الثمينة (فيلبي ٣ : ٤ - ٨) ، وأخذ ينادى باسم المسيح فى كل مكان متحملا في سبيل عمله هذا الكثير من الآلام والاضطهاد.

فمرة قبل أربعين جلدة إلا واحدة ، وثلاث مرات ضُرب بالعصي،  مرة رُجم ،  وثلاث مرات انكسرت به السفينة،  قضى ليلا ونهارًا في العمق، وكثيرا ما لاقى الأخطار من بنى جنسه ، ومن الوثنيين على السواء (۲ كورنثوس ۱۱ : ۲۳ - ۲۷)  ومع ذلك ظل مجاهدا في سبيل إتمام رسالته بفرح وسرور (أعمال ۲۰ : ٢٤) .

التف حوله المؤمنون مرة ليمنعوه من السفر الى أورشليم خشة أن يصيبه أذى أو ضرر فصاح بهم قائلا " ماذا تفعلون ؟ انكم تبكون وتكسرون قلبي ، لأني مستعد ليس أن أربط فقط ، بل أن أموت في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع " (أعمال ۲۱ : ۱۳) . ولذلك انفلت من أيديهم لكى يتمم رسالته مستهينا بكل ما يصادفه من آلام ، إذ كان شعاره لأعرفه (أي لأعرف المسيح) وقوة قيامته وشركة آلامه متشبها بموته" (فیلبی ۳ : ۱۰) ، فضرب بذلك مثلا رائعًا في التضحية والوفاء وإنكار الذات.

والآن لنتساءل : ما القوة التي كانت تساعد بولس الرسول على مواجهة الاضطهادات دون تردد أو وجل ؟ (الجواب) كلمة واحدة ، هي " الإيمان " - هذا الإيمان الذي لم يدركه كثير من معاصريه ، ولذلك قالوا عن بولس أنه " مختل " ، وما كان بمختل أو مجنون ، بل كان في غاية الصحو والتعقل (أعمال ۲٦ : ۲۵) لأن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد (رومية ٨ : ۱۸) ، وان كان الانسان الخارج يفنى فالداخل يتجدد يوما فيوما حسب صورة خالقه (٢ كورنثوس ٤ : ١٦)، وسوف ترينا الأبدية الأكاليل الثمينة التي يستحقها رجل الإيمان هذا وغيره من رجال الإيمان الأفاضل . - شفاء الرجال المرضى بالبرص : كان البرص رمزا للخطية في نجاستها وتأثيرها القتال على النفس ولذلك كان الأبرص يطرد من وسط شعب الله ، ويترك ليعيش مع أمثاله فى جهات مقفرة (العدد ٢:٥) . ولكن لما سمع الرجال المذكورون عن المسيح ، تراءوا له عن بعد في ملابسهم المشقوقة ، وشواربهم المستورة (۱) (لاويين ١٣ : ٤٤ - ٤٦)

و استغاثوا به قائلين " يا معلم ارحمنا . فنظر وقال لهم : اذهبوا وأروا أنفسكم للكهنة. وفيما هم منطلقون طهروا " (لوقا ۱۲ : ۱۱ - ١٥) - اذهبوا وأروا أنفسكم للكهنة . فهؤلاء الرجال عندما قال لهم المسيح " لكي يحكموا بطهارتكم 

(لاويين  ١٤: ۱- ۲) ، لم يلحظوا تغييرًا في أجسادهم يدل على أنهم طهروا من برصهم . ومع ذلك آمنوا أنهم لا يد أن يتطهروا منه ، طالما أن المسيح أمرهم بالذهاب الى الكهنة .. ولذلك انطلقوا إليهم والبرص لا يزال فى أجسادهم، لكن بينما هم يسيرون في طريقهم التفتوا الى أنفسهم فوجدوا أنهم قد طهروا . وهكذا حقق المسيح أمنيتهم وأكرم إيمانهم.

ه - صيد السمك : لما فرغ المسيح مرة من حديث له مع الناس قال لسمعان ورفاقه أن يبعدوا إلى العمق ويلقوا شباكهم للصيد . فأجاب سمعان وقال له : يا معلم قد تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئا . ولكن على كلمتك ألقي الشبكة . ولما فعلوا ذلك، امسكوا سمكا كثيرا جدا " (لوقا ٥ : ١ - ٦) - كان سمعان ورفقاؤه صيادين مهرة ، إذ كانوا يمارسون مهنة الصيد منذ صغرهم مع آبائهم وأجدادهم، ولذلك كانوا يعرفون كل المعرفة في أى مكان يوجد السمك ، وفى أى وقت يوجد ، ومع ذلك قضوا ليلة بأسرها يجوبون أنحاء البحر دون أن يمسكوا شيئا . ولكن لما أمرهم المسيح أن يبعدوا إلى العمق ويلقوا شباكهم، لم يعترضوا عليه أو يحاولوا اقناعه بعدم وجود أى سمك فى العمق ، بل تخلوا عن خبرتهم الطويلة ومعرفتهم الدقيقة، وكأطفال صغار أطاعوا المسيح دون جدال أو مناقشة إذ آمنوا إنه ما دام المسيح هو الذى قال لهم ان السمك في العمق ، فلا بد أن يكون هناك . ولذلك ألقوا شباكهم كما قال لهم ، فوجدوا سمكا كثيرا لم يدر بخلدهم أن يعثروا على شيء منه ، وهكذا كافأ المسيح إيمانهم حسب غنى نعمته .

٦ - شفاء الأعميين : " وفيما يسوع مجتاز ، تبعه أعميان يصرخان قائلين : ارحمنا يا ابن داود . ولما جاء الى البيت تقدم إليه الأعميان فقال لهما يسوع أتؤمنان أنى أقدر أن أفعل هذا ، قالا له نعم يا سيد حينئذ لمس أعينهما قائلا بحسب ايمانكما ليكن لكما ، فانفتحت أعينهما" (متی ۹ : ٢٧ - ٣٠) - ظل هذان الأعميان يصرخان وراء المسيح ومع أنه لم يلتفت اليهما ، غير أن اليأس لم يجد له مكانا في نفسيهما ، بل ظلا يصرخان طالبين الأبصار من المسيح ، لأنهما عرفا أنه وحده هوالذي يستطيع أن يهبهما إياه . ولما دخل المسيح بيتا تبعاه إليه دون أن يعبأوا بحرمة البيوت، أن كانت حاجتهم إلى البصر تفوق كل اعتبار وفي البيت أراد المسيح أن يختبر ايمانهما ، فقال لهما " أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا ؟ - وهذا السؤال كما نرى يتطلب اجابة دقيقة حاسمة ، إذ عليها كان يتوقف مصيرهما . لكن الأعميان دون تردد أو تلعثم قالا له " نعم يا سيد " ، وحينئذ لمس المسيح أعينهما فانفتحت في الحال وهكذا حقق أمنيتهما وأكرم ما فيهما من ثقة وإيمان.

۷ - شفاء غلام قائد المئة : التجأ هذا الرجل الى المسيح لكي يشفى غلامه من المرض الذي أصيب به ، فوعده المسيح بأنه سيذهب معه ويشفيه . غير أن الرجل المذكور أجابه على الفور " يا سيد لست مستحقا أن تدخل تحت سقفي ، لكن قل كلمة فقط فيبرأ غلامي . لأني أنا أيضا إنسان تحت سلطان ، لي جند تحت يدي ، أقول لهذا : اذهب فيذهب ولآخر ائت فيأتي ، ولعبدي افعل هذا فيفعل " فلما سمع يسوع قال للذين يتبعونه " الحق أقول لكم لم أجد ولا فى اسرائيل ايمانا بمقدار هذا ، ثم قال لقائد المائة " اذهب وكما آمنت ليكن لك " ، فبرأ غلامه في تلك الساعة"

 (متى ٨ : ٥ - ١٠) - فهذا الرجل وثق في المسيح ثقة لم يبلغها أحد من معاصريه، لأنه لم يطلب منه أن يأتى الى المريض ويضع يده عليه ، كما كانوا يطلبون عند رغبتهم فى شفاء مرضاهم ، بل ذهب في إيمانه أبعد مما ذهبوا جميعا ، ان ببصيرته الروحية وجد أن من يشفى بكلمة عن قرب ، يستطيع أن يشفى بها أيضا عن بعد ، الأمر الذي يدل على أن هذا الرجل مع كونه أمميًا ، لم يعرف شيئا عن نبوات التوراة التي قيلت عن شخص المسيح ، قد فاق معظم اليهود في الإدراك الروحي ، إذ آمن قبلهم أن المسيح لم يكن فقط ابن الإنسان ، بل وكان أيضا ابن الله . لذلك كان لهذا الرجل ما أراد ، بل وكان له أيضا من المسيح المدح والثناء .

٨- شفاء نازفة الدم : كانت هذه المرأة تنزف دما زهاء اثنتى عشرة سنة ، وقد أنفقت كل معيشتها على الأطباء ، ولكن لم يستطع واحد منهم أن يشفيها . ولذلك جاءت من وراء المسيح ولمست هدب ثوبه ، ففي الحال وقف نزف دمها . فقال المسيح : " من الذي لمسني ؟ " .. فلما رأت المرأة أنها لم تختف جاءت مرتعدة ، وسجدت له وأخبرته قدام جميع الشعب لأي سبب لمسته ، وكيف برئت في الحال . فقال لها : ثقي يا ابنة ايمانك قد شفاك ، اذهبي بسلام (متى ٨ : ٤٣ - ٤٨) - عرفت هـذه المرأة أنه لا شفاء لها إلا عند المسيح ، ولكن منعها حياؤها من أن تعرض عليه أمرها جهرًا . فهداها تفكيرها الى وسيلة تتناسب مع ظروفها وقامت في الحال بتنفيذها ، مؤمنة بكل قلبها أن المسيح لا يمكن أن يخيب رجاءها ، و موقنة أيضا أن قوته لا يمكن أن تنحصر في كلمة يقولها أو لمسة يقوم بها ، بل انها ان أمسكت حتى هدب ثوبه لا بد أن تشفى ، فحقق المسيح ثقتها فيه وشفاها . ولكن إذا أراد أن يعلن لها شيئا عن ذاته كعلّام الغيب وفاحص القلب ، وأن يمنحها أيضا شيئا أفضل من الشفاء الذي كانت تسعى إليه ، استدرجها للاعتراف بحالتها ، فاعترفت أمامه بكل شيء ، ولذلك منحها سلامه الذي يفوق كل عقل.

۹- شفاء ابنة الكنعانية : خرجت هذه الكنعانية من تخومها تهرول نحو المسيح قائلة له " ارحمنی یا سید ، يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدا . فلم يجبها بكلمة . فأتت وسجدت له قائلة يا سيد أعني . فأجابها بالقول : ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب . فقالت نعم يا سيد ، والكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها حينئذ أجاب يسوع وقال لها : يا امرأة عظيم ايمانك . ليكن لك كما تريدين فشفيت ابنتها في تلك الساعة " (متى ۱٥ : ۲۱ - ۲۸) - لقد جاءت هذه المرأة الى المسيح ليس بوصفه ابن الله الذي أتى إلى العالم قاطبة ، والذى لها تبعا لذلك نصيب فى عطاياه ، باعتبارها أحدى سكان العالم ، بل جاءت إليه بوصفه ابن داود الذي لم يكن قد أتى في أول وبوصف المسيح ابن داود فحسب ، فلم يكن من الجائز أن يمنح هذه المرأة شيئا من عطاياه وقتئذ ، لأنها كانت الأمر إلا لليهود فحسب (۱) تعتبر في نظر اليهود مثل " الكلاب " (۲) بسبب انقيادها وراء الأوثان، ولذلك لم يجبها المسيح الى طلبها . غير أن عدم إجابته هذه كانت نارًا أحرقت ما في إيمانها من زغل، فلمع وتوهج إذ آمنت على الرغم من الموانع التي وضعها المسيح أمامها ، أن لها على أى حال نصيبًا في نعمته لذلك كان لها ما أرادت ، وكان لها أيضا المدح والثناء من فمه.

هذه نماذج متنوعة من عمل الإيمان في أشخاص وثقوا كل الثقة في الله واعتمدوا كل الاعتماد عليه ، نضعها أمام نفوسنا حتى يتأملها غير المؤمنين والمؤمنون على السواء . فطريق الإيمان ليس طريقا مبهمًا غامضًا حتى يتردد أحد من جهة السير فيه ، بل هو طريق واضح معبد ارتاده كثيرون من قبلنا في ظروف متعددة متنوعة . ولذلك على راغبي الخلاص الذين نتحدث معهم الان ، أن يضعوا نصب أعينهم أنه مهما كانت خطاياهم كثيرة وشنيعة، ومهما كان الخلاص من الخطية يبدو أمامهم بعيدا ، لكن عندما يثقون فى المسيح ثقة الأطفال البريئة ، يتمتعون للتو بهذا الخلاص تمتعًا كاملًا ، كما تمتع غيرهم من قبل 

__________________________________________

(۱) الفعل " تنالوه" يرد في الأصل اليوناني في صيغة الماضي وفي العربية 

" نلتموه " وإذ كان ذلك كذلك ، فإن المسيح يطلب منا أن نؤمن أن ما نصلى لأجله قد أعطاه الله لنا فعلا . فقد قال تعالى على لسان نبيه اشعياء " ويكون أني قبلما يدعون أنا أجيب وفيما هم يتكلمون بعد ، أنا أسمع " (أشعياء ٦ : ٢٤) . وإذا كان ذلك كذلك، فعندما نرفع الصلاة لله ، علينا أن نؤمن أنه أعطانا ما صلينا لأجله فيكون لنا . وقد ضرب المسيح فى صلاته عند قبر لعازر مثلا لذلك ، فهو لم يقل : أشكرك أيها الآب لأنك ستسمع لي ، بل قال " اشكرك أيها الآب لأنك سمعت لي "

 (يوحنا ١١ : ٤١) ، مع أن لعازر لم يكن قد قام من القبر قبل هذه الصلاة أو أثناءها.

_____________________________________________

(۱) إن عدم استطاعة المسيح أن يعمل معجزة للأشخاص الذين لم يؤمنوا به، لا يرجع الى عجز فيه بل الى عدم استعدادهم القلبي لقبول فعدم الاستطاعة هنا ، معناها عدم استطاعته أن يخالف معجزاته ناموس الله من جهة توقف شفائه للناس على إيمانهم به ، ولذلك فإن الاستطاعة هذه تشبه كل الشبه عدم استطاعة الله أن يأتي بالخطاة الذين يصرون على التمسك بخطاياهم الى حضرته ، إذ أن عدم الاستطاعة هنا لا تدل على عجز فى الله ، بل على تصرفه بالكمال الذي يليق بمبادئه السامية - وبهذه المناسبة نقول أن عدم الاستطاعة التي تسند أحيانا الى الله ، كانت موضع بحث بين علماء الدين . فقال فريق ان الله لا يستطيع أن يخطىء ، وقال فريق آخر أنه يستطيع ألا يخطئ ، لأنه لا يليق أن نسند الى الله عدم الاستطاعة فى أمر من الأمور . 

ولكن فات الفريق الأخير أن عدم الاستطاعة هنا معناها التنزه عن الخطأ ، لأننا إذا قلنا " ان الله يستطيع ألا يخطئ " نكون قد افترضنا أنه معرض للخطية مثلنا (لأننا نستطيع في بعض الأحيان ألا نخطئ) ولكن إذا قلنا " انه لا يستطيع أن يخطئ " ، نكون قد أسندنا إليه العصمة المطلقة التي لا تعرف للخطأ سبيلًا.

____________________________

(۱) هناك فرق هائل بين معرفة المسيح وبين المعرفة عن المسيح .

فالمعرفة الثانية لا تجدى علينا خيرًا مهما كانت كثيرة ، بينما المعرفة الأولى هي أساس كل خير لنفوسنا ، ولا عجب في ذلك فإننا نعلم أن مجرد معرفتنا عن شخص عظيم لا تفيدنا بشيء ، إنما الذي يفيدنا هو معرفة معرفة شخصية .

ولذلك كان لسان حال بولس الرسول " لأعرفه ( أي المسيح ) وقوة قيامته وشركة الامه متشبها بموته "، ( فيلبي ۳ : ١٠ ) ، وكان الرسول بطرس يحرض المؤمنين على النمو في معرفة المسيح ، فقال لهم " انموا في النعمة وفى معرفة ربنا يسوع المسيح " ( ۲ بطرس ۳ : ۱۸) .

_____________________________________________

(۱) لأن الذي يظن فى نفسه أنه حكيم لا يكون في الواقع إلا جاهلا لأن شيمة الحكيم هى الشعور بالنقص والحاجة الى الكمال . وحتى إذا نال هذا الإنسان قسطًا وافرًا من الحكمة ، يشعر أنه لا يزال في حاجة الى المزيد منها ، إذ أن مجال الحكمة لا حد له . ولذلك قال الوحي " إن كان أحد يظن أنه يعرف شيئا . فإنه لا يعرف شيئا بعد كما ينبغي أن يعرف " ( ۱ كورنثوس ۸: ۲ ) . وقال " إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر ، فليصر جاهلا لكي يكون حكيما " (۱ كورنثوس : ۱۸) ، أى عليه أن يتواضع لكى يصير أهلا للحكمة ، لأن التواضع والوداعة يؤهلان المرء لها بعكس الكبرياء والاعتداد بالذات ، فإنهما يبعدان المرء عنها.

(۲) ولا غرابة في ذلك فكثيرون يتحدثون عن الله ، وقلوبهم بعيدة عنه ، وكثيرون يتحدثون عن مضار الخمر وهم أسراها وعبيدها وهلم جرا.

____________________________________________

 (۱) عن مقالة للدكتور ر.سبير وردت في كتاب :

Faitr in The Gospej

(۲) عن مقالة بقلم همرشولد السكرتير السابق لهيئة الأمم المتحدة بمجلة

(British Weekly, 1963)

_____________________________________________

(۱) إن تبرير الله لهابيل وقتئذ ، لم يكن راجعا طبعا الى ذبيحته في حد ذاتها (لأن هذه أقل قدرا منه ، ومن ثم لا تستطيع أن تكفر عنه) ، بل إلى ذبيحة المسيح التى كان فى قصد الله منذ الأزل أن يقدمها كفارة عن البشر عامة، إذ أن هذه الذبيحة هي وحدها التي تكفر حقا عنهم للأسباب التي ذكرناها في الفصل الأول . وما الذبائح التى كانت تقدم في العهد القديم طاعة لأمر الله ، الا رمز واشارة إلى ذبيحة المسيح هذه ( عبرانيين ۹ : ۷- ١٤)  

_____________________________________________

(۱) وحقا ما أصدق ما قاله لوثر في هذه المناسبة " ان كنت تؤمن يجب ألا يخطر ببالك أن تقول  كيف يفعل الله هذا الأمر ، أو متى يفعله"، لأنه ليس هناك مجال للإيمان إذا كان العقل يقول " انه من الممكن أن يفعل الله الأمر بهذه الطريقة أو تلك، وفى هذا الوقت أو ذاك ".

_____________________________________________

(۱) يراد بهذا النسل " المسيح نفسه " ، فقد قال الرسول " وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله ، ولا يقول وفى الأنسال كأنه عن كثيرين ، بل كأنه عن واحد ، وفي نسلك الذي هو المسيح " (غلاطية ٣ : ۱٦)

_____________________________________________

 (۱) فالحيّة النحاسية ، كما يتضح من الكتاب المقدس ، كانت رمزا للمسيح الذي به وحده يكون الخلاص . فقد قال المسيح " وكما رفع موسى الحية في البرية ، هكذا ينبغى أن يرفع ابن الانسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا ۳ : ١٥) . أما أوجه الشبه بين الحية النحاسية وبين المسيح فهى : (أ) الحية النحاسية لم يكن بها سم مثل الحيات المحرقة التي لدغت اليهود ، والمسيح لم تكن به خطية (يوحنا ٨ : ٤٦) مثل آدم الذي جلب الموت الى الناس جميعا (ب) الحية النحاسية لم تكن حية فى ذاتها بل كانت شبه حية ، والمسيح لم يكن في حقيقة أمره انسانًا عاديًا مثلنا في كل شيء ، لأنه ولد من عذراء وكان في حقيقة ذاته هو الرب من السماء (١ كورنثوس ١٥ : ٤٧) (ح) الحية النحاسية علقت على سارية لكي يشفى كل من ينظر إليها والمسيح علق على الصليب لكي يخلص كل من يؤمن به إيمانًا حقيقيًا ( يوحنا ۳ : ١٥ ) .

_____________________________________________

(۱) إن النزول فى نهر الأردن (كما يتضح من الكتاب المقدس) رمز لتطبيق موت المسيح على طبيعتنا العتيقة (كولوسي ۳ : ٥) لكي تخلص من سلطة الخطية ومتاعبها (رومية ٦ : ١٤) . والعدد سبعة ومضاعفاته رمز للكمال (متى ۱۸ : ۲۱) . ولذلك فالاغتسال سبع مرات في نهر الأردن ، رمز لتطبيق موت المسيح على الطبيعة المذكورة ، للخلاص من سلطة الخطية التي كان يرمز لها بالبرص قديمًا (لاويين ١٣ : ٤٤)

_____________________________________________

(۱) تحدثنا عن شخصية المسيح بشيء من التفصيل في كتاب " الله وطرق إعلانه عن ذاته " ، فليرجع إليه القارئ إذا أراد.

_____________________________________________

(۱) مما تجدر ملاحظته فى هذه المناسبة أن المسيح بوصفه ابن له . أما بوصفه ابن الانسان الله مجدا ذاتيا يلازمه من الأزل الذي لا بدء له ، الى الأبد الذي لا نهاية ، فقد اكتسب مجدا آخر بسبب الكمال المطلق الذي بدا منه على الأرض ، سواء أكان فى حياته أم في موته - ونظرا لأن هذا الكمال لا يقل عن الكمال الذى كان يعيش فيه منذ الأزل كان مجده المكتسب لا يقل عن مجده الذاتي ، ولذلك قال مرة للآب والآن مجدني أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذى كان لي عندك قبل كون العالم ( يوحنا ۱۷ : ٥ ) ، ولا عجب في ذلك فإن المسيح هو " ابن الله " وفي الوقت نفسه هو " ابن الانسان ، ايضًا".

(۲) فنوح سكر مرة (تكوين ٩ : ۲۱) ، وإبراهيم كذب وخاف (تكوين ۲۰ : ۱ - ۱۱) ، وموسى طلب معونة من ذي قربي ، كما شك مرة في وعد من وعود الله (عدد ۱۰ : ۲۹ - ۳۱ و ۲۰ : ٦ - ١٢) ، وداود عندما جاع طلب طعامًا من أحد الناس ، ولما رفض هذا أن يعطيه عن على قتله (۱ صموئيل ۲۵ : ١ - ١٤) ، فضلا عن ذلك فقد أهمل في العلاقة الروحية مع الله، فسقط في خطيته المعروفة لدينا (٢ صموئيل ٢٥: ١- ١٤).

_____________________________________________

(۱) كانت هذه الحالة رمزا للعار الذى كان المصابون بالبرص يعيشون فيه ، وذلك بوصف البرص رمزا الخطية التي تجلب العار على فاعليها.

_____________________________________________

(۱) إن المسيح قبل أن يأتي الى العالم، كان يعلم كل العلم أن اليهود سيرفضونه ولذلك فإنه أتى ليس لليهود فقط بل وللامم أيضا . ولكنه شاء أن يظهر لليهود فى أول الأمر لسببين (الاول) لكى يتمم لهم مواعيد الله السابقة لآبائهم (الثاني) لكى لا يكون لهم عذرا اذا رفضهم واتجه الى الأمم الذين كانوا يعبدون الأوثان - وفي العهد القديم كثير من الآيات التي تنبىء عن أن المسيح سيأتي ليس لليهود فقط ، بل وللأمم كذلك (اقرأ مثلا : زكريا ۳ : ۱۱ تثنية ۲۲ : ٤۲  ، مزمور ۱۸ : ٤۹ ، ٦٧ : ١٤ ومتى ۱۲ : ۲۱) (۲) مما تجدر ملاحظته فى هذه المناسبة أن اليهود الذين رفضوا المسيح وعادوا الى الفرائض والطقوس القديمة ، يعتبرون في نظر الوحي كلابًا أيضًا (فيلبي ۲ : ۲) وكلمة " الكلاب " تستعمل في الكتاب المقدس مجازًا للتعبير عن الذين يرفضون نعمة الله ، فقد قال الوحي إن الذين سيطرحون في جهنم هم " الكلاب والسحرة والزناة والقتلة وعبدة الأوثان ، وكل من يحب ويصنع كذبًا " (رؤيا ۲۲ : ١٥)

_____________________________________________

  • عدد الزيارات: 6

شارك