Skip to main content

المحاكم الثلاث

كلمة ملخصة بتصرف عن عظة بنفس الموضوع للقس جرجس هابیل .

آية الموضوع "ولكن الذي يحكم في هو الرب" ١ ك ٤:٤ 

يدخل المحاكم ثلاثة أصناف من الناس - المتهمون والشهود والمتفرجون .

فالمتهمون يقفون أمام منصة القضاء ينتظرون الحكم إما معهم أو عليهم ، فان اقتربت الى أحدهم وقت المحاكمة لسمعت دقات قلبه ولرأيته يرتجف كريشة في مهب الريح طائرة لا تستقر على حال من القلق ولرأيت الحيرة على وجهه ، والذعر يكتنفه ، والحزن يسود عليه ، والكآبة تحصره ، وكأن كابوساً على صدره، لا يمكن زحزحته حتى تعلن نتيجة المحاكمة ، وعندئذ إما أن يخرج بريئاً ، فتبتهج أساريره ، ويزول حزنه ، ويفرح قلبه ، ويسر أصدقاؤه ، أو يدان فينال ما يستحق من قصاص. هذا بخصوص المتهمين ، أما الشهود ، وان كانوا ليسوا تحت المحاكمة فموقفهم لا يخلو من صعوبة ، فكلمة في غير محلها ، قد تؤدي إلى تذنيبهم أو أذية غيرهم ، فتؤنبهم ضمائرهم الى الابد ، والويل لهم إن هم تلعثموا أو غيروا شهاداتهم ، فان السجن يضمهم ولو الى حين.

أما المتفرجون وهم الصنف الثالث من زوار المحاكم : فتأخذهم الرهبة من القضاء ، فيراجعون ماضيهم ، ويفحصون حاضرهم ، على خطأ ارتكبوه ، يمكن اصلاحه ، او اعوجاجاً يمكن تقويمه . وقد يكون لبعضهم علاقة ولو غير مباشرة بالدعوى أو بالشهود أو بالمتهمين، فيراقبون المحاكمة إلى نهايتها باهتمام شديد. كل منا يود الابتعاد عن المحاكم، فيطيع قوانين البلاد ، ويبتعد عن أذية العباد ، ويعمل جهده لمساعدتهم و يا ليتنا نفعل ذلك عن محبة ، اذاً لكانت تلغي المحاكم وتبطل القصاصات ، وتحول السجون إلى نواد يستأنس فيها البشر وكأنهم أخوة وأحباب، يحكمهم الآب السماوي الأرحم كما قال الرسول " ولكن الذي يحكم في هو الرب "

أحب أن أتحدث معكم اليوم عن محاكم من نوع آخر ، وهذه المحاكم لا نذهب اليها نحن ، بل هي التي تأتي الينا ، وتلاحقنا أينما ذهبنا ، في بيوتنا ، وفي مراكز أعمالنا ، داخلاً ونحن نقوم بواجباتنا ، وخارجاً ونحن في طريقنا.

والأمر الغريب في هذه المحاكم هو أنها تحكم في كل كلمة تصدر منا ، وفي كل حركة نأتيها ، وبعضها تحكم في أفكارنا ، وفي تصورات قلوبنا. 

وهذه المحاكم ثلاث - محكمة الرأي العام ومحكمة الضمير -ومحكمة الله.

أما محكمة الرأي العام فتتألف من البشر على اختلاف طبقاتهم وأعمارهم وأجناسهم.

والغريب في أمر هذه المحكمة هو أنها تصدر حكمها على جميع الناس ، دون تمييز بين كبير أو صغير ، غني أو فقير.

وأغرب من ذلك أن قضاة هذه المحكمة يعينون ذواتهم بل يفرضون أنفسهم فرضاً حتى على أبعد الناس عنهم، ويوسعون دائرة نفوذهم ، فلا يسلم من ألسنتهم أحد.

 اسمعوا ما يقوله بولس بخصوص هذه المحكمة "أما أنا فأقل شيء عندي هو أن يحكم في منكم أو من يوم بشر " أو كأنه يقول بانه لا يخاف مما يقوله الناس الذين ندعوهم الرأى العام . 

نعم ، فنحن لا يجب أن نخاف ألسنة الناس الحادة ، فالبشر ثرثارون من طبعهم ، وكثيراً ما يلقون الكلام على عواهنه دون تفكير أو تبصر. 

لكن ليس الجميع ، هكذا ، فبعضهم مملوءون محبة، ويقصدون لنا الخير ، فيقدمون لنا النصائح والإرشادات ، ويعملون جهدهم لاصلاحنا وجبر كسرنا وتشجيعنا وتقويتنا.

هؤلاء هم اولاد الله اي المؤمنون باسمه ، الذين وان قل عددهم ، فلولاهم لحرق الله الأرض بما فيها .

والحقيقة الاكيدة هو انه لو ساوت نسبتهم الى سكان الارض نسبة افراد عائلة لوط الى سكان سدوم وعمورة ، لاختطفهم الله إليه تعالى ، وثم لحرق الأرض بالنار والكبريت وحل العناصر الى الذرات التي عملت منها ، كما سيحدث تماماً يوم الاختطاف العظيم.

 أما القسم الثاني من هذه المحكمة ، فهم الذين يملأ الشر ولا يتلذذون الا بعمل الشر وإصدار الأحكام المجحفة الناس ، ناسين القول الإلهي " من قال لأخيه يا أحمق يستحق نار جهنم »

 فالويل لهذه الارض اذا زادت نسبتهم فيها عما هي الآن . والقسم الثالث والأخير من أعضاء محكمة الرأي العام ، هم الأكثرية الساحقة ، وهم يشبهون دولاب الهواء ، فيميلون الريح كيفها مال ، ويمثلون دور الببغاء التي تردد الكلام الذي تسمعه خيراً كان أم شراً ، فهم يقولون ما يسمعون .

جاءت طفلة بريئة طاهرة الى معلمتها وقالت لها بأن خالها خال الطفلة لعن معلمتها ووصفها بكلام بذيء سافل . فعلى شكل هذه الفتاة الصغيرة هم أعضاء القسم الثالث من محكمة الرأي العام . 

فنحن وإن كنا لا يجب أن نخاف هذه المحكمة فنقول مع بولس "أما أنا فأقل شيء عندي هو أن يحكم في الناس"  لكن من الجهل بأن نضرب بحكم الناس عرض الحائط. بالعكس يجب علينا أن نمحص كل ما نسمعه ، ونصلح المعوج فينا ، ونصفي علاقاتنا مع الجميع بالمحبة والوئام ، وهكذا نكون قدوة حسنة لغيرنا بدلاً من أن نكون عثرة لهم ومن الناحية الاخرى ، لا يجب أن نغتر بالمدح الذي نسمعه من أحبائنا أو من الببغاوات . فأحباؤنا يكبرون حسناتنا ويصغرون سيئاتنا.

ولو تأملنا بالأخبار التي تأتينا بواسطة الببغاوات وحللناها جيداً ساعدتنا على إصلاح أخطائنا.

ومختصر القول فنحن لا يجب أن تقبل لا حكم الاصدقاء و مديحهم ولا دينونة الاعداء وهجومهم كما هي ، بل علينا ان ندرس هذه وتلك مبينين لاصدقائنا بأن المديح يؤذينا وان قبو لنا الفخر يسبب سقوطنا. و ايانا ان ننسى بان البشر متقلبون ، والمثل يقول "خف عدوك مرة واحذر صديقك الف مرة "

وجميعنا نذكر ذلك الاستقبال الباهر الذي أقامته الجماهير لمخلصنا فكانت هتافاتهم تشق عنان الفضاء وهم يصرخون «أوصنا، مبارك الآتي باسم الرب" لكن تلك الجموع التي قامت بهتافات التمجيد لرب المجد ،

هي ذاتها التي صرخت بعد بضعة أيام "اصلبه ، اصلبه"

وبالاختصار ، لا يجب أن نتملق الناس ولا، أن ننتفخ إن هم مدحونا ، ولا يجب أن نيأس إن هم ذمونا ولا يجب أن نركن إلى حكمهم ، بل فلنذهب الى محكمة أعلى واعدل من محكمتهم ، أي محكمة الضمير.

ومحكمة الضمير هي ثاني المحاكم وهي عادلة جداً ، وعلى غاية الإنصاف ، اذ أنها لا ترتشي لا بمال ولا بعقار ، وقد رتبها القادر على كل شيء ، وقدمها هدية لكل فرد من البشر - على السواء.

وهذه المحكمة دائمة التيقظ كمهديها ، وبما انها داخلنا فـتنبهنا إلى الخطر قبل الوقوع فيه، ولا تنفك تنذرنا ليلا ونهاراً ان محكمة الضمير لا تقصر بواجباتها ابداً ، فإذا عملنا الشر فالذنب ذنبنا ، اذ اننا لا نكون قد أطعنا الأمر الصادر منها إلينا ، واشبهنا بذلك رجلا وضع منبهاً بجانب سريره ليوقظه في الوقت المناسب ، لكنه لم ينهض من فراشه عند سماعه رنين الجرس بل تكاسل واهمل الانذار ، واخذ يغط في نومه إلى أن فات الوقت.

هكذا يرن صوت الضمير في اذن كل منا ، فان سمعنا وأطعنا واحتفظنا بمصابيحنا مضاءة يأتي العريس فندخل والا فسيقفل الباب دوننا.

اخيراً وليس آخراً ، محكمة الله ، المحكمة العليا، التي لا نقض لحكمها . وهذه المحكمة مع شدة تدقيقها ، يشترك فيها ، العدل مع الرحمة.

هنا الحكم المنصف المحب ، فإنه لا يرى بعين الاعداء الذين يصدرون الأحكام الجائرة الظالمة ، ولا بعين الصديق العمياء التي  تغطي عيوب احبائها. 

ولا يأخذ علينا رئيسها العظيم مظهرنا الخارجي  بل ينظر الى داخل قلوبنا ويعرف نوايانا و ما ظهر وما خفي منا . 

 وهو لا يحسب علينا الخدوش التي تصيبنا وسط المعمعة بل يأخذ من دم ابنه بلسماً يشفي به جراحنا ويستر نقائصنا.

وكما يترأف الأب على البنين يترأف الله على خائفيه.

وكما أن مديح الشخص لا ينفع شخصاً حكمت ضده  محكمة الله ، هكذا لا يؤثر حكم الأشرار بشخص عفى عنه تعالى.

ويجلس عن يمين الحاكم الأعلى للكون بأسره ، شخص حنون لطيف يحبه الجالس على العرش محبة لا حد لها وقد وهب له كل شيء ، العالم بأسره ، والكائنات التي فيه ، ولا يرد له تعالى مطلباً.

هذا هو الحنون ، اللطيف ، المحب ، الذي ينظر من علو مجده بعين الرأفة والرحمة والمحبة والحنان الى كل فرد من هذا العالم الفسيح، وهو يصغي الى طالبي الخلاص ويخلصهم، ويسمع اصواتنا مهما خفتت ، أو تضرعاتنا وهي داخل قلوبنا.

هو يسوع - ابن الله الحي - فلنلجأ إليه.

  • عدد الزيارات: 15