إعلان النعمة والحق في المسيح
والعهد الجديد واضح جداً في هذا الموضوع: فنرى فيه أن ربنا له المجد قد أعلن أول كل شيء التعليم عن الروح القدس وذلك لضرورة هذا الأقنوم الإلهي لتسديد حاجة الإنسان لكي يولد من الروح وأن يحصل عليه حتى يستطيع أن يسجد للآب بالروح والحق وأكثر من ذلك فإن الروح القدس هو الذي كان سيعد التلاميذ للعمل العظيم وهو نشر الحق ونعمة الله. وإزاء شدة الحاجة إليه في هذه النواحي فقد ذكر لنا الرب التعليم الخاص به في إصحاح لا مفر منه وهو (يو 7) وقد وضع الرب ذلك التعليم في قالب الرمز. فقوله أن من يؤمن به تجري من بطنه أنهار ماء حي كان هذا "عن الروح (الذي لم يكن يعطى لشخص حتى يجعله يؤمن بالمسيح بل بالحري هو الذي) كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه. لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد. لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد" ولاشك أن كثرة الأخذ والرد في آيات صريحة كهذه يعد إهانة لكلمة الله. نعم إننا إذا وجدنا غموضاً في دراستنا فنجتهد في التوضيح، أما إذا وجدنا أن عبارات الوحي أسهل من أية لغة تقوم مقامها فاعتقد أنه يليق بأقوال الكتاب الجزلة السلسة أن تنطبع في ذهن القارئ.
وفي الإصحاحات الأخيرة من إنجيل يوحنا نرى أن ربنا له المجد يخبرنا بطريقة وافية ومحددة ليس فقط عن أن الروح القدس سيعطى بعد تمجيده بكيفية لم تكن قبلاً بل أننا أيضاً سنفوز بعمله الشخصي حينما يرسل إلينا ويأتي إلى أرضنا ولذلك نرى أن شخص ربنا المعبود يتكلم في (يو 14) عن الروح القدس كالمعزي. وأرجو أن يلاحظ القارئ أهمية هذا: فقد نتجادل في كون الروح القدس قد أعطي كمجرد قوة روحية لا أكثر، ولكننا لا نقدر أن نخفض من قيمة المعزي الذي قد أرسل – لأنه من هو المعزي إلا الروح القدس نفسه؟ كما أنه لا يقدر واحد أن يقول أن "المعزي" يقصد به معجزة لسان أو أي عمل من الأعمال. لاشك أنه يعمل في هذه الطرق المتنوعة ولكن يجب أن نتذكر أن الذي حل محل المسيا بعد تركه الأرض هو شخص حقيقي. ومجرد قراءة بعض أعداد من (يو 14) تجعل القضية سهلة. وما أسهل القول "وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد" فليس الكلام عن المعجزات أو غيرها فالمعجزات كان لا بد أن تحدث وتنتهي كما انتهت الألسنة. والنبوات تبطل، والعلم أيضاً يبطل، بل بالأحرى الكلام هنا عن شخص إلهي يمكث مع القديس إلى الأبد "روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم" لقد كان العالم تحت التزام أن يقبل شخص ربنا يسوع لأنه رآه بصورة بارزة، أما الروح القدس فلأنه لم يتجسد لذلك لم يمكن لعين العالم أن تراه. إنني أسلم بالطبع أن العالم لا يقبل فعلاً شخص ربنا يسوع بطريقة روحية أكثر من قبوله للروح القدس، ومع ذلك توجد إشارات واضحة إلى كيفية حضور الروح القدس هنا على الأرض، كيفية لا تترك مجالاً للعالم ليفكر في إدراكه بواسطة العين أو المعرفة.
وقيل أيضاً في (يو 14: 26) "وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم" ون هذا نفهم أن الروح القدس ليس موهبة أو قوة أو مجرد تأثير بل بالأحرى هو ذات فعلية قد أرسلت، وشخص يعلم كل شيء ويذكرنا بكل أقوال الرب. ومن ثم نقرأ في (يو 15: 26) "ومتى جاء المعزي" وهنا لا يقول سيدنا "ومتى أرسل المعزي" (لأنه قد يقول البعض بإرسال تأثيره) بل "متى جاء" نعم – "ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق (وما أشد حرص الرب على هذا الموضوع وما أعظم صيانته له) الذي من عند الرب ينبثق فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء" وما أكثر خطورة ووضوح قضية مجيء الروح القدس كما نراه في هذه الفصول. فقد رأينا في (يو 14) أن الآب يرسل الروح القدس باسم المسيح وفي (يو 15) رأينا أن المسيح يرسله من عند الآب. وفي المرة الأولى يقال عنه أنه ذكر التلاميذ بكل ما قاله لهم المسيح وفي المرة الثانية يقال أنه مرسل من الابن ويشهد له. لقد كان التلاميذ معاشرين للمسيح وهو على الأرض لذلك كان عليهم أن يشهدوا لما رأوا. وها هو الروح القدس عتيد أن ينزل من الآب الذي في السماء لكي يكون لربنا يسوع المسيح شهود متحدون.
وعلى أننا لا نزال نجد أن (يو 16) يستمر معلناً الحق ذاته بأكثر قوة إذ نه في الحقيقة موضوع خطير وهام جداً. رأينا في الإصحاح الرابع عشر أن الرب أخبر التلاميذ بأنه ينبغي لهم أن يفرحوا لأنه كان ماضياً إلى الآب وكان عازماً أن يترك مشهد الاتضاع والآلام لكي يكون في بيت محبة الآب ومجد الآب. ولو كانت محبتهم بسيطة، وكانوا يفكرون في سيدهم لا في أنفسهم، لكانوا يفرحون لأنه كان مزمعاً أن يمضي إلى الآب. أما في الإصحاح السادس عشر فإنه يضع هذا الحق بصورة أخرى. فيقول له المجد "خير لكم (وليس لي فقط) أن أنطلق" يا للعجب!! هل هذا خير لأولئك التلاميذ المساكين الضعاف الكثيري الخوف والرعب، الذين كان يعتني بهم شخص الرب أمام وجه كل إسرائيل الذي رذله ولم يرض أن يجتمع إليه؟ لا شك أنه كان يجمع أولئك الأصاغر ويظللهم تحت جناحيه، وحتى في ساعة رفضه بسط يديه إليهم. أما الآن فينبغي أن يتركهم وقد كان خيراً لهم أن يمضي إلى الآب. وقائل يقول: كيف يكون ذهاب السيد إلى الآب خيراً للتلاميذ؟ لنا من فم ربنا يسوع جواب لا نملك سواه: فقد كان ذهابه للآب خيراً بالنسبة إلى ما كان في فكره. نعم إن حضوره كمسيا كان سبب غبطة ولكن نظراً لأنه كان على الأرض إنساناً محاطاً بجمع من التلاميذ لذلك كان حضوره محدوداً بالضرورة – إذ لم يكن مستطاعاً أنه يحضر في كل مكان كإنسان. أما الروح القدس فلم تتحد الطبيعة الإنسانية بشخصه الإلهي مثل الابن المبارك. وفضلاً عن ذلك فقد استطاع الروح القدس بعد إتمام الفداء أن يوصل إلى قلوب التلاميذ بكيفية دقيقة قيمة شخص المسيح وعمله – المسيح المرتفع للسماء والمكرم من الله الآب.
وهكذا قد وضعت أسس الحق. فالرب يسوع لم يكن ليترك العالم أو يمضي إلى الآب إلا بعد أن يسوي إلى الأبد كل المسائل التي كانت بين الله وبين الإنسان الخاطئ. ولما أبطلت الخطية بذبيحة نفسه فوق الصليب، وتثبت البر في المسيح المقام من بين الأموات والمرتفع إلى الأعالي، لم تصبح المسألة مجرد نعمة خالصة كذب قبل بل بالأحرى أصبحت مسألة بر الله بعمل المخلص. فقد رجحت كفة الميزان لخير الإنسان الخاطئ بحق فاعلية دم الحبيب – لأن الإنسان يسوع المسيح هو الذي مجد الله من جهة الخطية بواسطة سفك دمه. لاشك أنه كان ابنه الحبيب وعطية نعمته التي لا يعبر عنها – وهنا لا يستطيع الإنسان أن يفخر بشيء لأنه هو الذي رذل الابن وأبغضه بلا سبب! ومع كل لا ننسى أن الله تطلع إلى الأرض، ولاسيما الصليب، ليرى ذلك فبدت مسألة جديدة وهي: ماذا يفعل الله لهذا الإنسان المبارك؟ ولكن هل لأنه كان ابنه العزيز لذلك أحبه ورفعه أقل من كونه الإنسان الذي مجده فوق الصليب؟ لقد أقام الله الإنسان يسوع من القبر وأجلسه عن يمينه. ولم يكن هذا العمل تكريماً لشخص المسيح وحده ب هو مقياس قبول المؤمنين بفضل المسيح في فرط نعمة الله. وما كان أكثر دهشة السموات وأعلى مديحها وتسبيحها عندما رأت الإنسان الذي وضع قليلاً عن الملائكة قد ارتفع في شخص المسيح فوق كل رياسة وسلطان ليلجلس على عرش الله؟ لا بل ومن تلك اللحظة قد أصبحت مشغولية الله نفسه، ومسرته تعالى، أن يظهر تقديره لذلك الإنسان الذي بالرغم من الخطية والموت والشيطان والدينونة الإلهية قد استرجع لله حقوقه وحصّل مجداً لاسمه الكريم بواسطة إنقاذ الخاطئ إلى النهاية إذ قد احتمل الآلام لأجله. وقبل هذا كان الإنسان هو الآلة الفعالة على الدوام في إهانة الله. وما كان تعالى ليلحقه أي استخفاف أو إهانة أو افتراء من كل الخليقة مثل الذي لحقه من الإنسان! إن الشيطان لما ترك حالته الأولى أضاع إلى الأبد مركزه وفوق ذلك فالدينونة المروعة تنتظره، إذ لا توجد ذرة من الرحمة أو أشعة من الأمل تتخلل تلك الظلمة الحالكة التي أغرقت الخطية فيها ذلك الملاك الساقط. أما الآن فبعد أن أحب الإنسان الظلمة أكثر من النور، وبعد أن جرى شوطاً بعيداً في طريقه العدائي ضد الله! فقد تحولت الدفة في موت المسيح الرب وبواسطة عمله.
- عدد الزيارات: 2957