حديث الطريق
اَلأَصْحَاحُ الْخَامِسُ عَشَرَ
ص 15 و16
فاه المسيح بالكلمات التي بها اختتم الأصحاح السابق, وقام مع تلاميذه من العلية حيث أكل عشاء الفصح الأخير مع تلاميذه. وتحدث إليهم أحاديث أعذب وأحلى من لذيذ الأطايب, وشهي الطعام. فانطلق وإياهم قاصداً جبل الزيتون, فاجتازوا شوارع أورشليم الضيقة في سكون الليل الرهيب, وبدر العيد في تمامه يحيي "شمس البر" قبيل وقت غروبه, وغالباً عرجوا في طريقهم على الهيكل الذي كانت أبوبه مفتوحة طوال ليالي العيد فلمحوا لآخر مرة, تلك الكرمة الذهبية التي كانت تزين باب الهيكل وترمز إلى مجد إسرائيل (تاريخ يوسيفوس). ومن هناك ساروا في الطريق المؤدي إلى وادي قدرون وكانت لأرضه يومئذ منزرعة بكثير من الكروم, فانتحى وإياهم بقعة هادئة في ذلك المكان. وهنالك استأنف حديثه الوداعي الذي مررنا بالقسم الأول منه في 13: 31 – 14: 31, وكان تلاميذه ي هذا القسم الثاني من الحديث, مستمعين في صمت رهيب, من غير أن يجرأ أحدهم على مقاطعته بسؤال أو استفهام, إلا مرة واحدة أرادوا فيها أن يسألوه فملكتهم الرهبة, واكتفوا بأن يهمسوا إلى بعضهم البعض بما كانوا يضمرون (16: 17), فتساءلوا من غير أن يسألوا (16: 19). أما المسيح فقد استهل هذا الجزء من الحديث باستعارة مستمدة من البيئة المحيطة بالتلاميذ – سواء أكانت الكرمة التي على باب الهيكل, أم كروم وادي قدرون, فقال: "أنا الكرمة الحقيقية"..
1«أَنَا الْكَرْمَةُ
يتضمن هذا الجزء ثلاثة أفكار رئيسية: أولاً. مقام التلاميذ في المسيح (15: 1 – 17). ثانياً. موقف العالم تجاه التلاميذ (15: 18 – 16: 4). ثالثاً. النصرة التي سيظفر بها الروح القدس على العالم بواسطة التلاميذ (16: 5 – 15). كلمات ختامية (16: 16 – 33).
ويجوز أن ننظر إلى هذا الجزء نظرتنا إلى جعبة فيها سبعة سهام نورانية: (1) التلاميذ ولمسيح (15: 1 – 11). (2) التلاميذ وبعضهم البعض (15: 12 – 17). (3) التلاميذ والعالم (15: 18 – 16: 4). (4) العالم والمعزي (16: 5 – 11). (5) المعزي والتلاميذ (16: 12 – 15). (6) حزن يستحيل إلى فرح (16: 16 – 24). (7) نصرة بعد كسر (16: 25 – 33).
السهم الأول – التلاميذ والمسيح (15: 1 – 11). هذا سهم سباعي:
عدد 1 – 3. (1) الاتحاد الحي الذي بين التلاميذ والمسيح – التلاميذ في المسيح, والمسيح فيهم, كالأغصان في الكرمة والكرمة في الأغصان: "أنا الكرمة الحقيقية". هذا هو الإعلان السابع في هذه البشارة, وبه تختتم سباعية التصريحات المجيدة التي أفضى بها المسيح إلى تلاميذه عن ذاته: "أنا الكرمة الحقيقية". لقد تباينت أراء المفسرين في تعيين الكرمة الغير الحقيقية التي اتخذ منها المسيح مناسبة خارجية لقوله: "أنا الكرمة الحقيقية". فجمهور المفسرين الذين يعتقدون بأن المسيح لم ينتقل من العلية بعد قوله: "قوموا ننطلق من هاهنا", يظنون أن الفادي, حين قال "أنا الكرمة الحقيقية",
الْحَقِيقِيَّةُ
كان ناظراً إلى كرمة طبيعية كانت أغصانها وثمارها متدلية على جوانب العلية. أو أن المسيح استعار هذا المجاز من نتاج الكرمة الذي استعمل في العشاء الأخير. ويعتقد هنجستنبرغ أن المسيح قصد أن يقابل بين نفسه وكنيسته, وبين إسرائيل الذي كان يرمز إليه بالكرمة في العهد القديم (أشعياء 5: 1 ومزمور 80: 9). ونميل نحن إلى الاعتقاد بأن المسيح كان يشير ضمناً إلى الكرمة الذهبية التي كانت تزين باب الهيكل, أو إلى كرمة كانت منزرعة في وادي قدرون (انظر مقدمة هذا الأصحاح). إن قوله: "الكرمة الحقيقية" معناه الكرمة الروحية, الحاملة في ذاتها نموذج الكمال.
وقد اختار المسيح الكرمة([1]) – دون غيرها من الأشجار – لأنها تضل سواها في تأدية المعنى الذي أراده. فالكرمة غنية بعصارتها, سخية بثمارها التي هي خير غذاء, وبهجة, وعزاء. وفي الكرمة لا تجد حداً فاصلاً بين جذعها وأغصانها. ولا قيمة لأغصان الكرمة إلا في ثمارها. بخلاف أغصان سائر الأشجار. وقد قال باسيلوس في عظته الشهيرة بـ"عظة المستشفى": "إن الكرمة وهي تمد أذرعها على خشب "كربال" العنب, تحمل صورة معنوية للمسيح وهو ممدود الذراعين على خشبة العار والهوان".
الكلمة: "الكرمة" تعني الجذع والأغصان معاً. مثل كلمة "الجسد" في 1 كو 12: 12 حيث تعني المسيح والكنيسة معاً. ووجه الشبه الرئيسي
وَأَبِي الْكَرَّامُ. 2كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ وَكُلُّ مَا يَأْتِي
بين المسيح والكرمة هو النظام الحيوي الذي به تصير حياة الجذع, حياة للأغصان أيضاً.
"وأبي الكرام" – أشار المسيح بهذه العبارة إلى أن الله الآب قد أرسله إلى العالم, وجعله في تدبير الفداء مصدر حياة للعالمين, وبه أسس الكنيسة التي هو ملكها, ومالكها, وحارسها, ومتعهدها بأعمال العناية, وبروح قدسه. وقد شبه الله بالكرام في مزمور 80: 9 ومتى 21: 33 ومرقس 12: 1 ولوقا 20: 9.
عدد 2. الكرام يتعهد الكرمة: "كل غصن في ....". إن الكرام ينزع الغصن الميت, الذي ليس في حقيقته غصناً. بل له صورة الغصن واسمه. فهو مثبت في الكرمة تثبيتاً آلياً صورياً, وليس ثابتاً فيها ثبوتاً حياً. وأما الغصن المثمر فإن الكرام يتعهده بالتنقية, ليحفظ عصارته من أن تتوزع عبثاً في أطرافه المترامية, فتتركز في اللمة وهي في دور التكوين, فتستحي إلى ثمر كثير. يستنتج هنجستنبرغ أن الغصن الغير المثمر هو الأمة الإسرائيلية. على أن هذا بعيد الاحتمال. وفي اعتقادنا أن الغصن الغير المثمر هو يهوذا, وأولئك "التلاميذ" الذين انصرفوا عن المسيح بعد حديثه عن الخبز الحي (6: 66).
إن العضو الأمثل, قد ينتزع من كنيسة المسيح بسبب تجربة لا يقوى عليها, أو بسبب قصاص يوقعه الله عليه في هذه الحياة, أو بفأس الموت.
وأما العضو الحي فهو موضوع تأديبات الله ي هذه الحياة. والتأديب
بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ. 3أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ. 4اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ.
غير القصاص. فالنزع قصاص. لكن التنقية تأديب. وقد يكون المؤمن موضوع تأديبات الله في وقت فتور بعد نهضة, أو تواكل بعد انتعاش, أو بسبب انصراف قواه إلى اتجاهات جسدانية. فمن فرط حب الله له, بل من علامات رضاه عنه, أنه ينقيه لتصير حياته الروحية منصرفة إلى الثمر الروحي, وأدوات التنقية, هي أعمال العناية, والكلمة.
عدد 3. المسيح يطبق الجانب المنير من هذا المبدأ على التلاميذ "أنتم ...." لئلا يتبادر إلى ذهن التلاميذ شك في ما إذا كانوا هم من الأغصان الغير المثمرة أم من الأغصان المثمرة, تداركهم المسيح بلطفه, فقال: "أنتم الآن أنقياء". هذا دليل على أنهم من الأغصان المثمرة لا الغير المثمرة. ومن فرط لطفه لم يشأ أن يتركهم تحت مرارة التخوف من ألم التنقية, بل قرر لهم مؤكداً أنهم "الآن أنقياء". فإذاً هم أغصان مثمرة منقاة. "لسبب الكلام الذي كلمهم به". لأن "كلام المسيح حي وفعال وأمضى من كل سيف ذي حدين, وخارق إلى مفرق النفس, والروح, والمفاصل, والمخاخ, مميزً أفكار القلب ونياته" (عب 4: 12). (انظر يوحنا 5: 24 و8: 31 و32 و12: 48).
عدد 4. (2) الناموس الذي يفرض هذا الاتحاد الحي – الثبوت المتبادل "أثبتوا في وأنا فيكم". إن الثبوت المتبادل بين الغصن والكرمة, هو ناموس حياة الغصن, وهو الشرط اللازم لإتيانه بثمر. وقد أفرغ المسيح هذا الناموس في صيغة واجب مفروض على التلاميذ القيام به, باعتبار كونهم أغصاناً في المسيح الكرمة الحقيقية "أثبتوا في .... كما أن الغصن لا يقدر
كَمَا أَنَّ الْغُصْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْكَرْمَةِ
أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة كذلك أنتم أيضاً إن لم تثبتوا في". يراد بثبوت المؤمن في المسيح, مثابرته على الإيمان به, وتسليم حياته له, مجردة عن كل حكمة جسدية أو إرادة نفسانية أو بر ذاتي. ويراد بثبوت المسيح في المؤمن امتلاك المسيح للمؤمن امتلاكاً تاماً, وامتلاء المؤمن منه امتلاء لا يعرف نقصاناً. فيحيا المؤمن – ولكن بحياة المسيح, ويفكر – ولكن بفكر المسيح, ويحب ويبغض – لا بقلبه هو, بل بقلب المسيح. كما قال بولس الرسول "فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في. فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان, إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غلاطية 2: 20). إن ثبوت المؤمن لازم لثبوت المسيح في المؤمن. وأن ثبوت المسيح في المؤمن, نتيجة طبيعية لثبوت المؤمن في المسيح, وشرط لازم لحياة المؤمن وإتيانه بثمر. فإذا ما وضعنا قطعة من الإسفنج في الماء, قلنا إن الإسفنجة في الماء, والماء في الإسفنجة. فوجود الإسفنجة في الماء شرط لازم لوجود الماء في الإسفنجة. وقس على ذلك.
"أثبتوا في" – عندما دعا المسيح تلاميذه في غرة خدمته الجهرية قال لهم: "هلموا ورائي". وفي قلب خدمته , دعا بعضاً منهم وأخذهم معه إلى جبل التجلي. وعند ختام خدمته, قال لهم جميعاً: "اثبتوا في" – هذه ثلاث درجات متصاعدة. فالتلاميذ كانوا أولاً سائرين وراء المسيح, ثم تقدموا درجة فصاروا في معيته, ثم ارتقوا درجة أسمى فصاروا فيه. هاتان
كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ. 5أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هَذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ
الكلمتان: "في المسيح", هما مفتاح كنوز المعلنات الإلهية الجلية في العهد الجديد, وعلى نوع خاص في رسائل بولس الرسول, التي كانت كثيرة الذيوع والانتشار قبل أن تكتب هذه البشارة الرابعة. فقد وردت هاتان الكلمتان في العهد الجديد 130 مرة, وفي رسائل بولس 60 مرة..
الإنسان الطبيعي المؤمن, في المسيح |
الإنسان الطبيعي المؤمن, في المسيح |
||||
كولوسي رسالة رومية |
تحت الناموس تحت غضب الله تحت الدينونة |
حر من الناموس مصالح مع الله لا دينونة عليه |
تسالونيكي أفسس |
عبد للخطية في المستنقعات يخشى المنون |
قديس بلا دنس في السماويات منتظر لقاء الحبيب |
ناقص في كل شيء ميت بالخطايا |
مملوء في المسيح مقام مع المسيح |
في ظلمة القبر بعيداً عن الله |
في نور الفردوس مع الركب كل حين |
عدد 5. (3) تطبيق هذا الناموس "أنا الكرمة وأنتم الأغصان". كرر المسيح في هذا العدد تصريحه الذي فاه به في العدد الأول: "أنا الكرمة", على سبيل التوكيد, مبيناً فيه صلة التلاميذ به كما بين في العدد الأول صلة الآب به. فقال في العدد الأول: "أنا الكرمة وأبي الكرّام" قال في هذا العدد: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان". وما قاله في العدد الرابع, عن الأغصان, خصصه ي العدد الخامس للتلاميذ. فأفهمهم أنهم ليسوا إلا أغصاناً, وحذرهم من أن يتوهموا يوماً أنهم الكرمة, فيستقلوا بأنفسهم
لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً. 6إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجاً كَالْغُصْنِ فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ فَيَحْتَرِقُ.
عنه. لأنهم "بدونه لا يقدرون أن يفعلوا شيئاً". فالمسيح هو الكل في الكل, والتلاميذ ليسوا شيئاً, إلا فيه, وبه.
عدد 6. (4) عقاب التفريط في هذا الناموس "إن كان أحد لا يثبت في يطرح خارجاً كالغصن فيجف ويجمعونه في النار فيحترق". إن الوقت الذي أفضى فيه المسيح بهذا الحديث إلى تلاميذه, يوافق وقت "تقليم" الكروم في فلسطين. وكان على مقربة من المسيح والتلاميذ وقتئذ, في زادي قدرون, كثير من الأغصان الجافة. مطروحة هناك والنيران تلتهمها. وغالباً, نطق المسيح بهذه الكلمات, وهو يوجه أنظار التلاميذ إلى هذا المشهد.
في هذه الكلمات ذكر المسيح خمس درجات للقضاء على الغصن الغير المثمر – أ – "يطرح خارجاً". هذه الدرجة, يقابلها في الروحيات طرد الخوارج والغير المستعدين (متى 8: 12 و22: 13) … - ب – "فيجف". الجفاف يكنى به عن حالة الإنسان بعد أن يفارقه روح الله (عب 6: 6). _ ج _ "ويجمعونه". هذا كناية عن عمل ملائكة الدينونة في اليوم الأخير (متى 13: 41). – د – "ويطرحونه في النار". هذا رمز إلى عذابات الضمير والذاكرة وما إليها. – هـ - "فيحترق". بهذه الدرجة الختامية يسدل الستار على أولئك الذين ادعوا الإيمان بالمسيح من غير حق.
7إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كلاَمِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ. 8بِهَذَا يَتَمَجَّدُ أَبِي أَنْ تَأْتُوا بِثَمَرٍ كَثِيرٍ
عدد 7 و8. (5) مكافأة الاحتفاظ بهذا الناموس. "إن ثبتم في". في هذين العددين ذكر المسيح مكافأتين للثبوت فيه:
(1) المكافأة الأولى: الصلاة حسب إرادة الله: "إن ثبتم قي وثبت كلامي فيكم تطلبون ....". استعاض المسيح بقوله "كلامي" عن قوله "أنا" جاعلاً في مقام شخصه. "تطلبون ما تريدون فيكون لكم". إن ثبوت كلمة المسيح في قلب المؤمن, يعرف المؤمن إرادة الله, ويجرده عن إرادته الذاتية, فلا يطلب ما لنفسه بل ما لله. وأن صلاة هذا وصفها, إلهي محققة القبول. فهي عبارة عن مواعيد الله مفرغة في قالب طلب, وهي حاملة جوابها في ثنايا طلبها. ومن المهم أن نذكر أن المسيح أبان للتلاميذ أن أول خطوة في أثمارهم هي الصلاة – فهي أساس أعمالهم, وهي خير ضمان لنجاحهم.
تعود أغسطينوس أن يقول: "اللهم هبني نعمة بها أجعل إرادتك إرادتي, فتجعل إرادتي إرادتك".
(2) المكافأة الثانية: الإتيان بثمر كثير: "بهذا يتمجد أبي أن تأتوا بثمر كثير فتكونون تلاميذي" (عدد 8). إن إتيان التلاميذ بثمر كثير له دلالته ونتيجته. أما دلالته فهي أنه حجة تلمذتهم الحقة وشعارها. "فتكونون تلاميذي" أي فتكونون أهلاً للاسم الشريف الذي تحملونه. وأما نتيجته فهي أنه يؤول إلى تمجيد الآب "بهذا يتمجد أبي". وأي شيء يعود على
فَتَكُونُونَ تلاَمِيذِي. 9كَمَا أَحَبَّنِي الآبُ كَذَلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا. اُثْبُتُوا فِي مَحَبَّتِي. 10إِنْ حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ تَثْبُتُونَ فِي مَحَبَّتِي
الكرام بالمجد أكثر من إتيان كرمه بثمر كثير؟!
وكما أن الكرمة لازمة للأغصان, لأن الأغصان تستمد منها عصارتها. كذلك الأغصان لازمة للكرمة لأن الكرمة تقدم ثمارها للعالم بواسطتها وعن طريقها.
عدد 9 و10. (6) المثل الأعلى للثبوت في المحبة. "كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا ....". أمامنا في هذين العددين ست حقائق منقسمة إلى صفين متوازين. وكل حقيقة في الصف الأول, أساس للحقيقة التي تليها في صفها, ونموذج كمال للحقيقة التي تقابلها في الصف الثاني, وإليك البيان:
(1) محبة الآب للمسيح |
(1) محبة المسيح للتلاميذ |
(2) ثبوت المسيح في محبة الآب له |
(2) ثبوت التلاميذ في محبة المسيح لهم |
(3) ثبوت المسيح في محبة الآب له |
(2) ثبوت التلاميذ في محبة المسيح لهم |
يقوم بحفظهم وصاياه |
يقوم بحفظهم وصاياه |
فمحبة الآب للمسيح, مبنية على كمال الاتحاد بينهما, وهي مثال لمحبة المسيح لتلاميذه في عمقها, وسموها, وطهارتها, وأزليتها.
وثبوت المسيح في محبة الآب نتيجة لمحبة الآب له, ومثال لثبوت التلاميذ في محبته. فكما أن المسيح فتح قلبه الرحب لمحبة الآب له, وأفسح لها كل مجال لتتغلغل في كل جوانبه, وثبت فيها, كذلك على تلاميذ المسيح أن يفسحوا قلوبهم لمحبته لتدخل أنوارها وتنير كل زاوية فيها. ومتى قبل التلاميذ
كَمَا أَنِّي أَنَا قَدْ حَفِظْتُ وَصَايَا أَبِي وَأَثْبُتُ فِي مَحَبَّتِهِ. 11كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِكَيْ يَثْبُتَ
محبة المسيح لهم, وأحلوها المكان الأول في قلوبهم. فإنها تولد في قلوبهم محبة له من نوع محبته لهم, وعلى قياسها. لأن محبتنا للمسيح ليست سوى قبول أنوار محبة المسيح إلى قلوبنا.
وكما أن ثبوت المسيح في محبة الآب يقوم بحفظه وصايا الآب, باعتبار كون المسيح فادياً متجسداً, كذلك ثبوت التلاميذ في محبة المسيح ينبغي أن يقوم أيضاً بحفظهم وصايا المسيح باعتبار كونهم تلاميذه.
ومن الأهمية بمكان ألا ننسى أن المسيح تكلم في حفظه وصايا الآب باستعماله الفعل الماضي: "حفظت". لأن حياته الأرضية كانت وقتئذ في دور الانقضاء. ولكنه في تكلمه عن ثبوته في محبة الآب, استعمل الفعل الحاضر المستمر: "أثبت" فلا انقضاء لمحبة الآب له, ولا نهاية لثبوته هو في هذه المحبة.
عدد 11. (7) الثبوت في المحبة, هو سر الفرح الكامل: "كلمتكم بهذا لكي يثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم". لئلا يتبادر إلى ذهن التلاميذ. إن في ثبوتهم في محبة المسيح, إرهاقاً لهم, وتثقيلاً عليهم, قرر لهم الفادي أنه إنما تحدث إليهم عن ثبوتهم في محبته, لكي يشاطروه فرحه الذي يتمتع به هو, نتيجة ثبوته في محبة الآب: "لكي يثبت فرحي فيكم, ويكمل فرحكم". وكما أن فرح المسيح كامل بسبب كمال طاعته للآب, كذلك أراد هو أن يكون فرح التلاميذ كاملاً, بسبب طاعتهم الكاملة لوصاياه. فالمحبة أساس الطاعة,
فَرَحِي فِيكُمْ وَيُكْمَلَ فَرَحُكُمْ.12«هَذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي
والطاعة سر الفرح المستديم, الفياض. إن قول المسيح: "فرحي", يقابله قوله: "سلامي" في 14: 27. وبما أن الشيء يلد نظيره, فينتج من هذا, أن الفرح الذي يتمتع به المسيح نتيجة ثبوته في محبة الآب, متى دخل إلى قلوب التلاميذ وثبت فيها, ولد فيها فرحاً من نوعه, وإن لم يكن بمقداره. هذا مراده من قوله .... "فرحكم".
السهم الثاني – التلاميذ وبعضهم البعض (15: 12 – 17).
إن الكلام المتضمن في السهم الأول (15: 1 – 11) تقابله الكلمات المكتوبة في اللوح الأول من الشريعة الأدبية – واجبات الإنسان نحو الله. والكلام المتضمن في هذا السهم الثاني (15: 12 – 17) تقابله الكلمات المكتوبة في اللوح الثاني من الشريعة – واجبات الإنسان نحو الإنسان. إن الكلمة المركزية في هذه الأعداد, هي قوله: "هذه وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً", إذ بها تستهل هذه الأعداد, وبها تختتم (عدد 12 و17). هذه هي الحقيقة المتضمنة في عدد 12, والموضحة في الأعداد التي تليه. لأن ما قاله المسيح في عدد 13 – 16, يعتبر شرح لقوله: "كما أحببتكم" (عدد 12).
عدد 12. المحبة – لزومها ومثالها: "هذه هي وصيتي ....". يتضح لزومها من قول المسيح "هذه هي وصيتي ...". كأن لا وصية له سواها. (اطلب تفسير 13: 34). ليس بعجيب أن المسيح لم يوص تلاميذه, قبل تركه إياهم, بأنظمة وترتيبات وعقائد – مع أن هذه كلها لها قيمتها في بابها.
أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. 13لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ
ولكنه أوصاهم بالمحبة. ومن أوصى بالمحبة فقد أوصى وزاد. فهي أس الفضائل, وتاج الخصال
ورباط الكمال. أما مثال المحبة فقد بينه المسيح في قوله: "كما أحببتكم". هذا مثال المحبة في الباعث عليها, وفي ماهيتها, وقياسها, وغايتها. نعم إن محبتنا بعضنا لبعض, لا يمكن أن تكون من نوع محبة المسيح لنا في كفارتها, لكن في إمكاننا أن نحب بعضنا بعضاً حباً, يهون علينا فيه البذل لأجل الآخرين. فلئن تعذر على محبتنا أن تكون بحراً, فلا أقل من أن تكون قطراً. على أنه لا فضل لنا في محبتنا بعضنا لبعض, فهي محبة مستمدة من طبيعة نسبتنا إلى بعضنا البعض باعتبار كوننا أغصاناً حية في الكرمة الواحدة.
أما قياس هذه المحبة التي علت فوق كل قياس, فظاهر من كونها:
عدد 13. (1) محبة مضحية بنفسها: "ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" – هذا أقصى ما تصل إليه محبة البشر, ولكن محبة المسيح قد ضربت الرقم القياسي المعروف في سجل التاريخ البشري, لأن المسيح أحبنا "ونحن أعداء" (رومية 5: 10). فوا عجبي من هذه المحبة الشديدة التي سلطت أشعتها على من كانوا بالطبيعة أعداء فصيرتهم "أحباء!". إن الذين خلع عليهم المسيح لقب "أحباء", هم بعينهم الذين وصفهم بولس الرسول بقوله: "أعداء" (رومية 5: 10). وإنما المسيح وصفهم من حيث شعوره هو نحوهم – فهم أحباؤه المحبوبون منه, ولكن بولس وصفهم في شعورهم نحو الله – فهم أعداء الله في أفكارهم
أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ. 14أَنْتُمْ أَحِبَّائِي إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أُوصِيكُمْ
وتصوراتهم, وأعمالهم: "وأنتم الذين كنتم قبلا أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة قد صالحكم الآن" (كولوسي 1: 21). لم يمض على قول المسيح: "يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" سوى يوم أو بعض يوم, حتى صار هذا القول في حيز الفعل – على الصليب. ولقد أوضحنا كلمة "يضع نفسه" في شرح 10: 11 فاطلب تفسيرها هنا.
الكلمة الأصلية المترجمة "أحباء" يجوز أن تترجم إلى: "أصدقاء وأصفياء". ويقول ستراخان إن وظيفة رسمية كانت في وقت المسيح معروفة في البلاط الروماني, يتقلدها شخص ممتاز يقال له "صفي الإمبراطور". ولعل أقرب الوظائف إليها, وظيفة "كبير الأمناء" في مصر.
عدد 14. برهان المحبة الصادقة: "أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به". هذا توكيد لقول المسيح في عدد 10 "إن حفظتم وصاياي. تثبتون في محبتي". بما أن في المحبة طرفين – المحب والمحبوب, فعلى كل فريق منهما أن يقوم بما تفرضه عليه المحبة من واجبات. أما المسيح فقد قام بما أوجبته المحبة وزاد "فوضع نفسه لأجل أحبائه". وأما التلاميذ الذين هم الطرف الثاني, فعليهم أن يظهروا محبتهم لسيدهم بحفظهم وصاياه. فطاعتهم له برهان حبهم له. على أن طاعتنا للمسيح ليست علة محبته لنا, ولا هي أساسها – فقد أحبنا فضلاً إذ كنا بعد "ضعفاء" و"خطاة" (رومية5: 6 و8), لكنها برهان محبتنا له, ووسيلة تمتعنا بمحبته لنا, وشرط دوامها لنا, وثبوتها
بِهِ. 15لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ لَكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي. 16لَيْسَ
فيها. وقد لاحظ مكلارن أن كلمة "أحباء" كما وردت في عدد 13, تعني "محبوبي المسيح" ولكنها في عدد 14 تعني "محبي المسيح".
عدد 15. (2) محبة رافعة: "لا أعود أسميكم عبيداً". مع أننا عبيد المسيح شرعاً وحقاً, لأننا صنعة يديه, ولأننا قد "اشترينا بدمه الكريم" (1 كورنثوس 6: 20 و7: 23 و1 بطرس 1: 19), إلا أن محبته العالية قد رفعتنا من درجة العبيد إلى درجة الأصفياء. وبرهان ذلك, أن المسيح لم يعاملنا معاملة السيد لعبيده الذين ينتظر منهم طاعة عمياء لأوامره من غير أن يفهموا مرامها ولا اتجاهاتها, بل عاملنا معاملة الصفي لأصفيائه. "لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي". غير أن المسيح لم يفض إلى تلاميذه بكل الأسرار التي عنده بتفصيلاتها (16: 12), وإنما قدمها لهم في البذرة. لأن قابليتهم الروحية لم تقو على تحمل أكثر من ذلك. وأما ما بقي من التفصيلات الدقيقة فقد تركه للروح القدس "الذي يعلمهم كل شيء ويذكرهم بكل ما قاله لهم" (14: 26).
إن كثيرين من المسيحيين كانوا في القرون المسيحية الأولى, عبيداً لسادة وثنيين. فما كان ألذ وقع كلمة المسيح هذه على مسمع هؤلاء العبيد وأمثالهم "لا أعود أسميكم عبيداً"؟ على أن هذا لم يمنع رسل المسيح من أن يفخروا بكونهم عبيد المسيح: "بولس عبد يسوع المسيح" (رو 1: 1).
عدد 16. (3) محبة لها فضل الأسبقية: "ليس أنتم اخترتموني...".
أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ وَيَدُومَ
في هذا العدد, أبان المسيح لتلاميذه أمرين مهمين: أولهما: العامل الأصلي في صيرورتهم أحباء له "ليس أنتم .. بل أنا". وثانيهما: القصد الأساسي من جعله إياهم أحباء له: "لتذهبوا ...". أولاً: العامل الأساسي في صيرورتهم أحباء له. أشار المسيح إلى هذا العامل سلبياً: "ليس أنتم اخترتموني", وإيجابياً "بل أنا اخترتكم وأقمتكم". فقد أحبهم فضلاً – والفضل للمتقدم. أراد بقوله "اخترتكم", انتخابهم لوظيفة الرسولية (6: 7 و13: 8 ولوقا 6: 12). و قصد بقوله "وأقمتكم", تثبيتهم وتنصيبهم في هذه الوظيفة, وتزويدهم بثمين نصائحه. ثُانياً: القصد الأساسي من جعلهم أحباء له: "لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم ... لكي يعطيكم الآب". هذا قصد مزدوج. الجانب الأول منه – الإتيان بثمر مستديم: (أ) "لتذهبوا" – الإشارة في هذه الكلمة منصرفة إلى قيام الرسل بمهمة الكرازة التي وضعها المسيح على عاتقهم قبيل انطلاقه من العالم. إن كلمة "لتذهبوا", تحمل معنى من معاني الاستقلال الذاتي, يمازجه الاعتماد التام على المسيح أثناء تأديتهم وظيفتهم باسمه. (ب) "وتأتوا بثمر". إن أثمارهم المنوه عنها هنا, هي إيصال الحياة الروحية التي حصلوا عليها, للآخرين ليصيروا شركاءهم فيها, فضلاً عما تتطلبه خدمتهم من قداسة السيرة والسريرة (ج) "ويدوم ثمركم" – هذا امتياز ثمرهم على الثمر الطبيعي, لأن الثمر الطبيعي يدركه الفساد عاجلاً. بل هذا امتيازهم عن الأشجار الطبيعية التي تجود بثمر في أحد فصول السنة وتظل عقيمة جرداء فيما بقي
ثَمَرُكُمْ لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي. 17بِهَذَا أُوصِيكُمْ حَتَّى
من السنة. أما هم, والمؤمنون, فعليهم أن يجودوا بثمار تغالب عوامل الفساد وتغلبها, وعليهم أيضاً أن يكونوا دائمي الإثمار فيجودوا بثمار في "وقت مناسب وغير مناسب". لأن بستان الحياة الروحية لا يعرف وقتاً غير مناسب للإثمار.
أما الجانب الثاني من هذا القصد فهو استجابة صلواتهم: "لكي يعطيهم الآب كل ما طلبتم باسمي". لنا أن نعتبر هذه العبارة من الجهة الواحدة, مرتبطة بالعبارة السابقة, وتابعة لها – أي أن الإتيان بثمر مستديم يزيد التلميذ ثبوتاً في المسيح وبالتالي تستجاب كل صلواته (عدد 7), ولنا أن نعتبرها من الجهة الأخرى مستقلة عن العبارة السابقة وسائرة معها جنباً إلى جنب – أي أن استجابة الصلاة ليست نتيجة الثمر المستديم, وإنما هي والثمر المستديم, نتيجتان متوازيتان ومتماثلتان لصيرورتنا أحباء المسيح.
عدد 17. غاية وصية المسيح لتلاميذه "بهذا أوصيتكم حتى تحبوا بعضكم بعضاً". كل شيء يلد شيئاً من جنسه. وكذلك المحبة تلد المحبة.
إلى الآن رسم أمامنا نهر المحبة بمياهه البلورية اللامعة. نبعه: محبة الآب للمسيح. ومجراه: محبة المسيح للتلاميذ. ومصبه: محبة التلاميذ لبعضهم البعض. وقد مثلت أمامنا شجرة دانية القطوف فبذرتها: محبة الآب للمسيح. وجذعها: محبة المسيح للتلاميذ. وثمرها: محبة التلاميذ لبعضهم البعض.
السهم الثالث – التلاميذ والعالم (15: 18 – 16: 4).
لكل نور ظل, وكلما كان النور باهراً, كان ظله قاتماً. إن حب المسيح
تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً.18«إِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُبْغِضُكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِي قَبْلَكُمْ. 19لَوْ كُنْتُمْ
لتلاميذه, وحب تلاميذه له, وحبهم لبعضهم البعض, تنشأ عنها نتيجة عكسية – بغضاء العالم لهم. ومما يجمل بنا ذكره, أن المسيح,في كلامه عن محبته لتلاميذه, ومحبة تلاميذه له, ومحبتهم لبعضهم البعض, كرر كلمة "أحب" ومشتقاتها 12 مرة (15: 9 – 17), وفي كلامه عن بغضاء العالم لتلاميذه وله كرر كلمة "أبغض" ومشتقاتها 7 مرات (15: 18 – 25) وكلا العددين كامل.
ينقسم هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام رئيسية: أولاً: بغض العالم للتلاميذ (15: 18 – 25). ثانياً: شهادة المعزي والتلاميذ في وجه العالم (15: 26 و27). ثالثاً: تطور وبغض العالم لهم إلى بغضاء واضطهاد (16: 1 – 4).
أولاً: بغض العالم للتلاميذ (15: 18 – 25). لم يقصد المسيح بكلامه في هذه الأعداد, مجرد إحاطة التلاميذ علماً ببغض العالم لهم, وإنما أراد أن يحصنهم ضد هذه البغضة لتكون نيرانها عليهم برداً وسلاماً, فحدثهم عن:
عدد 18. (1) طبيعة بغضة العالم لهم – إنها على مثال بغضة العالم للمسيح: "إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم". لقد أوضحنا المراد من كلمة "العالم" في شرح 14: 22. إن علم التلميذ بأن الآلام الواقعة عليه, قد وقعت على سيده من قبل, يملأ قلبه عزاء كاملاً, ويحمله على أن يفتخر بالآلام التي ترفعه إلى مستوى الشركة مع سيده.
عدد 9. (2) العلة الثانوية لبغضة العالم لهم – إنهم يختلفون عن العالم طبعاً:
مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلَكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ لِذَلِكَ يُبْغِضُكُمُ الْعَالَمُ. 20اُذْكُرُوا الْكلاَمَ الَّذِي قُلْتُهُ لَكُمْ: لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدِ اضْطَهَدُونِي فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ حَفِظُوا كلاَمِي فَسَيَحْفَظُونَ
"لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته. ولكن لأنكم لستم من العالم, بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم" – وهذا أمر طبيعي لأن شبيه الشيء منجذب إليه. وبالعكس. في هذا العدد وضع المسيح اختباره إياهم مقابل بغض العالم لهم. فوضع العزاء مقابل العذاب.
إن في قول المسيح عن العالم: "يحب خاصته", دليلاً على أن حب العالم مطبوع بطابع حب الذات. علة خلاف محبة المسيح المضحية.
وأن "الاختيار" المقصود بقوله "اخترتكم من العالم". هو اختيارهم للإيمان, لا للرسولية. وهو يشير إلى انتخاب المسيح إياهم. وإفرازهم من العالم, عند دعوته إياهم في بدء خدمته. وهو لا يحمل شيئاً من معاني "الاختيار السابق".
لقد كرر المسيح كلمة "العالم" 5 مرات في هذا العدد الواحد للتوكيد.
عدد 20. (3) تذكير مشجع على الاحتمال: "اذكروا الكلام الذي قلته لكم", غالباً يشير المسيح إلى كلام سابق لما قاله في 13: 16. ولعله يشير إلى المناسبة التي سجلها متى البشير (متى 10: 24). إن كلامه المذكور في يوحنا 13: 16 يعتبر تشجيعاً لهم على التواضع. وأما ما جاء في متى
كلاَمَكُمْ. 21لَكِنَّهُمْ إِنَّمَا يَفْعَلُونَ بِكُمْ هَذَا كُلَّهُ مِنْ أَجْلِ اسْمِي لأَنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ الَّذِي أَرْسَلَنِي. 22لَوْ لَمْ أَكُنْ
10: 24, فهو تشجيع على الصبر والاحتمال. إن ما صادفه السيد من أغضاء موجه إليه من الجماهير, وإصغاء مقدم له من الأفراد, سيكون مثالاً لما سيلقاه التلاميذ.
عدد 21. (4) العلة الأساسية لبغض العالم لهم: "لكنهم إنما يفعلون ....". إن العالم يبغض التلاميذ المرسلين باسم المسيح. لأنه يبغضه المسيح. وإن العالم أبغض المسيح الذي جاءه مرسلاً من الآب, لأنه لا يعرف الآب الذي أرسله. فالعلة الدفينة لبغضة العالم للتلاميذ, راجعة إلى عدم معرفة العالم بالله, معرفة روحية, قلبية, خلاصية (إش 1: 3). يراد بـ"اسم المسيح", خلاصة ما أعلنه المسيح عن ذاته لتلاميذه, وما سيعلنه التلاميذ للعالم عن سيدهم. ومن المحزن أن جهل اليهود بالآب, جعلهم ينظرون إلى المسيح كأنه جاءهم من تلقاء نفسه, مع أنهم رأوه. أنها لا تعمي الأبصار ولكنها تعمي القلوب التي في الصدور.
عدد 22 – 25. (5) مسؤولية العالم في بغضته للمسيح وتلاميذه. ما أشد خطورة مسؤولية العالم في بغضته للمسيح وللتلاميذ أيضاً: (أ) لأن العالم أبغض المسيح على رغم شهادة كلامه الذي أتى به من الآب (عدد 22 و23). (ب) لأنه أبغض المسيح على رغم شهادة أعماله الفريدة (عدد 24).
إن الحقائق الرباعية المتضمنة في عدد 22 و23 تتمشى جنباً على جنب مع نظيرتها في عدد 24. وإليك البيان:
قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ وَأَمَّا الآنَ فَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي خَطِيَّتِهِمْ.
عدد 22 و23 |
عدد 24 |
(1) حالة فرضية "لو لم أكن قد" |
"لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً" |
"جئت وكلمتهم" |
"لم يعملها أحد غيري" |
(2) النتيجة المترتبة عليها "لم تكن" |
"لم تكن" |
"لهم خطية" |
"لهم خطية" |
(3) حالة واقعية "وأما الآن" |
"وأما الآن" |
(4) المسؤولية المترتبة عليها "فليس" |
"فقد" |
"لهم عذر في خطيتهم" |
"رأوا" |
"الذي يبغضني يبغض أبي أيضاً" |
"وأبغضوني أنا وأبي" |
عدد 22. (أ) رفضهم المسيح على رغم شهادة أقواله: إن كل امتياز يحمل معه مسؤولية مكافئة له, ومترتبة عليه. فالمسيح بمجيئه إلى العالم, أدخل معه مسؤولية جديدة. وحمل العالم وزراً لم يكن في حيز الوجود, لو لم يكن قد جاء المسيح. وإن هذا الوزر هو عدم الإيمان به مسيحاً وفادياً. هذه هي خطيئة العالم. التي سيبكته الروح عليها: "أما على خطيئة فلأنهم لا يؤمنون بي" (16: 9) على أن اليهود. بعدم إيمانهم بالمسيح. قد ملأوا مكيال خطاياهم السالفة حتى الفيضان, فحسب عليهم ما تقدم من خطاياهم وما تأخر, مع أنهم لو كانوا قد قبلوا المسيح, لأذهبت هذه "الحسنة" كل سيئاتهم.
23اَلَّذِي يُبْغِضُنِي يُبْغِضُ أَبِي أَيْضاً. 24لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلْتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَالاً لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ غَيْرِي لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ رَأَوْا وَأَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي. 25لَكِنْ لِكَيْ تَتِمَّ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ فِي
عدد 23. شناعة خطية رفضهم المسيح. تظهر شناعة هذه الخطية في نور هذه الحقيقة الخطيرة: "الذي يبغضني يبغض أبي أيضاً" يتميز الجهل (عدد 21) عن البغض (عدد 23), في أن أولهما خطية سلبية. والثاني خطية إيجابية. أولهما هو الخطية في البذرة. والثاني هو الخطية في النضوج.
عدد 24. (ب) رفضهم المسيح على رغم شهادة أعماله الفريدة. "لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري". يشير المسيح بهذه الأعمال الفذة إلى معجزاته التي لم يقو ولن يقوى سواه على أن يأتي بمثلها. فهي ممتازة في مرماها الروحي الخيري. وفي كونها صدرت عنه وهو على بعد, وفي توقفها على محض إرادته هو وإذنه الخاص, بخلاف موسى وسائر الأنبياء الذين صنعوا معجزاتهم بإذن الله, وقدرته.
عدد 25. خطيتهم لا تدعو إلى العجب, فقد سبق ناموسهم وأنبأ بها: "لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة". ليس المراد بهذا القول. إن الباعث لهم على خطيتهم هو إتمام المكتوب – وإلا أصبحوا خالين من المسؤولية, وإنما يقصد بهذا القول أن ارتكابهم هذه الخطية – خطية بغضهم المسيح – جاء مصداقاً لنبوة قديمة. جرت بالوحي على لسان داود, وغايتها ترمي إلى المسيح عن بعد. وكذلك سائر النبوات المتضمنة في المزامير المصطبغة بصبغة
نَامُوسِهِمْ: إِنَّهُمْ أَبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ.26«وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ
مسيحية. وقد نسب المسيح الناموس إلى اليهود, لأنهم افتخروا به مدعين أنهم قيمون عليه, حال كونه شاهداً عليهم. ومع أن هذه النبوة وردت في سفر المزامير (مز 35: 19 و69: 4). إلا أن المسيح أطلق على هذا الجزء أيضاً كلمة "ناموس" (اطلب شرح 10: 44). أما قوله "بلا سبب" فمعناه "بلا مسوغ". فالمسيح لم يرتكب ذنباً ولا جريرة, ولم يعمل سوى الإحسان والرحمة. وأما ذنبه الوحيد نحوهم, فهو أنه نور, وأنهم هم ظلام. والظلام يبغض النور. وكفى. هكذا أحب الله العالم – "بلا سبب", وهكذا أبغض العالم الله – "بلا سبب".
ثانياً: شهادة المعزي وشهادة التلاميذ في وجه العالم (15: 26 و27).
عدد 26. (1) شهادة المعزي: "ومتى جاء المعزي ...". في هذا العدد تحدث المسيح عن الروح القدس في: (ا) وظيفته: "المعزي". اطلب شرح 14: 16. (ب) مرسله: " الذي سأرسله من الآب". أراد المسيح بهذا, إرساله الروح القدس, يوم الخمسين, حين أكمل عمله الفدائي, وجلس عن يمين العظمة في الأعالي (14: 16). إن قوله "من الآب" معناه من حضرة الآب. (ج) اسمه: "روح الحق". اطلب شرح 14: 17. (د) مصدره: "الذي من عند الآب ينبثق" الإشارة هنا إلى انبثاق الروح القدس منذ الأزل من عند الآب. إن قوله "أرسله من عند الآب" يختلف عن قوله "من عند الآب ينبثق". فأولهما يشير إلى عمل تاريخي تم يوم الخمسين. وثانيهما يشير إلى عمل أزلي تم قبل كون العالم. وقوله "من الآب"
رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. 27وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً لأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الاِبْتِدَاءِ».
يختلف عن قوله "من عند الآب", في أن أولهما يشير إلى خروج الرسول من حضرة مرسله. وثانيهما يشير إلى خروج النهر من منبعه, أو صدور أشعة الشمس من جرمها. ومن المحزن أن هذه الحقائق المعزية جعلها الناس علة لشطر الكنيسة شطرين – غربية وشرقية! (هـ) المرسل إليهم: "إليكم" إن ضمير الجماعة في الكلمة "إليكم" يشمل الرسل, وجميع المؤمنين. (و) عمله الخاص: " فهو يشهد لي" في قلب هذا العالم الممتلئ بالبغضاء من نحوي, ليعلن لهم حقيقة أمري. هذه هي الشهادة التي أداها الروح القدس بقوة, يوم الخمسين, ولا يزال يؤديها بلسان خدامه إلى يومنا.
عدد 27. ب) شهادة التلاميذ: "وتشهدون أنتم أيضاً .... إن أساس شهادة التلاميذ للمسيح هو معرفتهم التاريخية بالمسيح مذ عرفوه عند "ابتداء" خدمته الجهرية. فالتلاميذ يشهدون بما رأوا وسمعوا إلا أن هذا وحده لا يكفي. لأن معرفتهم التاريخية بالمسيح, معرفة جافة جامدة لا حياة فيها ولا نور. لذلك أرسل المسيح روحه ليبعث في معرفتهم حياة, وينير لهم ما كمن فيها. بذلك تصبح المعرفة التاريخية معرفة نورانية روحية, تصير هذه المعرفة النورانية الروحية, شهادة حية. فشهادة التلاميذ تسير جنباً إلى جنب مع شهادة الروح: "ونحن شهود له بهذه الأمور والروح القدس أيضاً (أعمال 5: 32).
إن شهادة الروح هي روح الشهادة. وشهادة التلاميذ, جسمها.
(1) يقول ملر إنه رأى على زجاج إحدى نوافذ كنيسة أرباخ من أعمال ألمانيا, صورة صليب منغرس في تربة فنبت وترعرع واستحال إلى كرمة, فأضحى ذراعاه غصنين تتدلى منهما عناقيد فيها حياة وغذاء.
- عدد الزيارات: 4088